نظرات بيانية في بعض من آيات سورة الإسراء/د.عثمان قدري مكانسي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,779
التفاعل
17,897 114 0
نظرات بيانية في بعض من آيات سورة الإسراء


الدكتور عثمان قدري مكانسي


هذه اجتهادات بيانية قد تصيب وقد تخطئ ، وقد تدنو أو تبعد ، وأرجو الله أن يسدد قلبي وعقلي للصواب ، إنه الميسر للخير سبحانه وتعالى .
نجد في سورة الإسراء نظرات بيانية متعددة نقف عند بعضها لنرى جمال التعبير وسحر البيان ، من ذلك قوله تعالى :
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا * وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ۚ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا * وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا * وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۗ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ۖ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا * وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۚ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ۖ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا * وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا * وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا * وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَٰلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا * ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ۗ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتُلْقَىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا * (29 ـ 39 ).

1- – ابتداء من الآية 29 - يخاطب جمع الإنسان نهياً بقوله " ولا تقتلوا ، ولا تقربوا " وأمراً بقوله " وأوفوا ، وزِنوا " ويخاطب مفرد الإنسان بقوله " لا تجعل ، لا تبسطها ، لا تقْفُ ، لاتمشِ " .
فلماذا كان الخطاب هناك بالجمع ، وكان هنا بالمفرد ؟
أقول وبالله المستعان : لو نظرنا إلى من يقعون في الزنا أو يقتل بعضهم بعضاً لرأيناهم – على كثرتهم – ذوي نسبة قليلة في هذه المجتمعات . ووجودهم في الأوصياء على اليتامى أقل من سابقيهم بكثير ، فكان الحديث عنهم بصيغة الجمع لقلة نسبتهم .
لكنّ التقتير و الإسراف يكادان يُجبلان في الكثرة الكاثرة من البشر ، وقل هذا في تتبّع عورات الناس والتكبّر والخُيَلاء ، فكان الحديث إلى كل واحد منهم أولى ليشعرَ بعظم المسؤولية حين يرى نفسه معنيّاً بالأمر أو النهي .
2- وقد جاءت هاء الضمير المذكر في كلمة " سيِّئُهُ " – في الآية الثامنة والثلاثين - اختصاراً رائعاً لكلام كثير، فقد رأينا في الآيات التسع السابقة وصايا ، كان القبيح منه في المنهيات مكروهاً مبغوضاً عند الله تعالى ، فما من حَسَنٍ إلا ويقابله القبيح ، فإذا كان الحسن في هذه الآيات عدم قتل الأبناء خشية الإملاق ، فالقبيح قتلهم ، وإذا كان قرب الزنا فاحشة وسبيلاً سيئاً فالابتعاد عنه صفة صالحة وطريق مأمون للشرف والطهارة ، وإذا كان قتل النفس قبيحاً فالحفاظ عليها قمة الإنسانية ، وإذا كان أكل مال اليتيم ظلماً وعدواناً ومنقصة فالحفاظ على ماله إيجاب وأخلاق وإيمان - وقل هذا في بقية الوصايا - تجد أن لكل حَسَن مما ذكر يدعونا المليك سبحانه إليه عكساً قبيحاً ينبهنا إليه ويحذرنا منه . فما أروع وجود الضمير المذكر " الهاء " في كلمة " سيئه "؟!
3- وقد يتساءل أحدنا قائلاً : لماذا جاءت الآية الثامنة والثلاثون " كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروهاً " ولم يقل : محرّماً ؟ فقد يظن القارئ أن كلمة " مكروهاً " تفيد الحِلَّ مع الكراهة ، وهذا يوقع في إشكالات كثيرة . وهذا تساؤل جيد يدل على فهم ودراية وذوق رفيع ممن سأل . والقرآن إنما نزل بلغة العرب الذين يرون في التلميح معاني أقوى من التصريح ، مثال ذلك في القرآن قوله تعالى في تحريم الخمر والميسر في سورة المائدة " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصلاة ۖ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91)" لقد أمرنا المولى سبحانه أن نجتنب الرجس من عمل الشيطان في تزيينه الخمر والميسر والأنصاب والأزلام - في الآية الأولى - فكان الأمر صريحاً مباشراً في كلمة " فاجتنبوه " والاجتنابُ بُعدٌ عن الشيء مع وجوده ، وفي الآية الثانية نهْي ٌعن الخمر والميسر المسببين للعداوة والبغضاء بصيغة الاستفهام " فهل أنتم منتهون " وهذا أسلوب للنهي غير مباشر، كان أوقع في النفس وأبلغ ، فالانتهاء انقطاع تام لوجود المنهيّ عنه ، فقال المسلمون : انتهينا يا رب انتهينا ، ولم يقولوا : اجتنبنا . وفي القرآن أمثلة كثيرة في هذا الشأن تتبّعه أصحاب البلاغة فأحسنوا .
وعلى هذا كان لفظ " مكروها " أقوى في نفس المسلم الحرّ الملتزم من : محرماً أو حراماً . فما كرهه الله لا ينبغي أن نفعله ، وما أحبه أحببناه .
4- كما أن كلمة " لا تَقْفُ " في قوله تعالى " ولا تقفُ ما ليس لك به علم " أقوى من : لا تَتَبّعْ . فقد يكون التتبّع من قريب وبعيد . أما القفـْوُ فيكاد يؤدي إلى الالتصاق بالشيء وكأنه قفاه لشدة دنوّه منه . وكذلك تقول : لا أفعله قفا الدهر أي أبداً . والقفو : الرمي بالأمر القبيح فزاد عن التتبع بالفضح بما ليس متأكداً منه . فلا تقل سمعتُ وأنت لم تسمع ، أو علمتُ وأنت لم تعلم ،
والله أعلم .
 
رد: نظرات بيانية في بعض من آيات سورة الإسراء/د.عثمان قدري مكانسي

جزاك الله خير وبارك فيك
 
عودة
أعلى