الـتـجـسـس في عهد خير البشر

ابابيل

عضو
إنضم
17 أكتوبر 2009
المشاركات
559
التفاعل
16 0 0
بقلم: د. طارق بن محمد الخويطر
في الحلقة الأولى تناول الكاتب تعريف التجسس في اللغة والاصطلاح ثم تطرق إلى التجسس في عهد النبي صلى الله عليه وسلم على الأعداء قبل الغزوات كما كان في غزوة أحد وغزوة بدر وفي هذه الحلقة يستكمل الكاتب - وفقه الله- الحديث عن التجسس في العهد النبوي فقط سلط الضوء على غزوة الخندق وما صاحبها من أحداث غنية بالدروس والعبر.
5- وفي غزوة الخندق شاء الله تعالى أن تجتمع قريش وحلفاؤها حول المدينة ليظهر صدق المؤمنين ويحقق النصر الذي وعدهم إياه ويفضح أهل النفاق، فباءت هذه الجموع- بعد التحزب- بالفشل ورجعت تجر أذيال الهزيمة والخزي فقد أرسل الله عليهم ريحاً وجنوداً من عنده فانقشع عنهم ثوب الكبر وألبسوا ثوب الخزي والعار ليشف عما تحته من التفرق والانهزام وتحطم الروح المعنوية.
ففي هذه الغزوة أسلم نعيم بن مسعود رضي الله عنه ولم يعلم أحد بإسلامه وأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعرض خدمته فاستعمله الرسول صلى الله عليه وسلم في التفريق بين الأحزاب وقد نجح رضي الله عنه بزرع بذور الفرقة بينهم جميعاً وما لبث أن قطف الثمرة، يقول نعيم بن مسعود رضي الله عنه كانت بنو قريظة أهل شرف وأموال وكنا قوماً عرباً لا نخل لنا ولا كرم وإنما نحن أهل شاه وبعير فكنت أقدم على كعب بن أسد فأقيم عندهم الأيام أشرب من شرابهم وآكل من طعامهم ثم يحملونني تمراً على ركابي ما كانت فأرجع إلى أهلي فلما سارت الأحزاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سرت مع قومي وأنا على ديني وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عارفاً فأقامت الأحزاب ما أقامت حتى أجدب الجناب وهلك الخف والكراع وقذف الله عز وجل في قلبي الإسلام وكتمت قومي إسلامي فخرجت حتى أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء فوجدته يصلي فلما رآني جلس ثم قال: ما جاء بك يانعيم؟ قلت: إني جئت أصدقك وأشهد أن ما جئت به حق، فمرني بما شئت يا رسول الله فوالله لا تأمرني بأمر إلا مضيت له قومي لا يعلمون بإسلامي ولا غيرهم. قال: ماستطعت أن تخذِّل الناس فخذِّل. قال قلت: أفعل ولكن يا رسول الله أقول فأذن لي، قال: قل ما بدا لك فأنت في حل، قال: فذهبت حتى جئت بني قريضة، فلما رأوني رحبوا وأكرموا وحيوا وعرضوا علي الطعام والشراب، فقلت: إني لم آت لشيء من هذا إنما جئتكم نصحاً بأمركم وتخوفاً عليكم لأشير عليكم برأي وقد عرفتم ودي إياكم وخاصة ما بيني وبينكم، فقالوا: قد عرفنا ذلك وأنت عندنا على ما تحب من الصدق والبر قال: فاكتموا عني، قالوا: نفعل، قال: إن أمر هذا الرجل بلاء- يعني النبي صلى اللله عليه وسلم- صنع ما قد رأيتم ببني قينقاع وبني النضير وأجلاهم عن بلادهم بعد قبض الأموال وكان ابن أبي الحقيق قد سار فينا فاجتمعنا معه لنصركم وأرى الأمر قد تطاول كما ترون وإنكم والله ما أنتم وقريش وغطفان من محمد بمنزلة واحدة أما قريش وغطفان فهم قوم جاءوا سيارة حتى نزلوا حيث رأيتم فإن وجدوا فرصة انتهزوها وإن كانت الحرب أو أصابهم ما يكرهون انشمروا إلى بلادهم وأنتم لا تقدرون على ذلك البلد بلدكم فيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم وقد غلظ عليهم جانب محمد، أجلبوا عليه أمس إلى الليل، فقتل رأسهم عمر بن عبد، وهربوا منه مجرحين وهم لا غنى بهم عنكم، لما تعرفون عندكم فلا تقاتالوا مع قريش ولا غطفان حتى تأخذوا منهم رهناً من أشرافهم تستوثقون به منهم ألاً يناجزوا محمداً. قالوا: أشرت بالرأي علينا والنصح ودعوا له وتشكروا وقالوا: نحن فاعلون، قال: ولكن اكتموا عني قالوا: نعم نفعل، ثم خرج إلى أبي سفيان بن حرب في رجال من قريش فقال: يا أبا سفيان قد جئتك بنصيحة فاكتم عني قال: تعلم أن بني قريظة قد ندوموا على ما صنعوا فيما بينهم وبين محمد وأرادوا إصلاحه ومراجعته أرسلوا إليه وأنا عندهم: أنا سنأخذ من قريش وغطفان من أشرافهم سبعين رجلاً نسلمهم إليك تضرب أعناقهم وترد جناحنا الذي كسرت إلى ديارهم- يعنون بني النضير- ونكون معك على قريش حتى نردهم عنك، فإن بعثوا إليك يسألونكم رهناً فلا تدفعوا إليهم أحداً واحذروهم على أشرافكم ولكن اكتموا عني ولا تذكرون من هذا حرفاً قالوا: لا نذكره ثم خرج حتى أتى غطفان فقال: يا معشر غطفان إني رجل منكم فاكتموا عني واعلموا أن بني قريضة بعثوا إلى محمد- وقال لهم مثل ما قال لقريش- فاحذروا أن تدفعوا إليهم أحداً من رجالكم وكان رجلاً منهم فصدقوه، وأرسلت اليهود غزال بن سموأل إلى أبي سفيان بن حرب وأشراف قريش: إن ثواءكم قد طال ولم تصنعوا شيئاً وليس الذي تصنعون برأي إنكم لو وعدتمونا يوماً تزحفون فيه إلى محمد فتأتون من وجه وتأتي غطفان من وجه آخر ولم يفلت من بعضنا ولكن لا نخرج معكم حتى ترسلوا إلينا برِهان من أشرافكم يكونون عندنا فإنا نخاف إن مستكم الحرب وأصابكم ما تكرهون شمرتم وتركتمونا في عقر دارنا وقد نابذنا محمد بالعداوة.
فانصرف الرسول إلى بني قريضة ولم يرجعوا إليهم شيئاً، وقال أبو سفيان: هذا ما قال نعيم، فخرج نعيم إلى بني قريضة فقال يا معشر بني قريضة أنا عند أبي سفيان حتى جاء رسولكم إليه يطلب منه الرهان فلم يرد عليه شيئاً فلما ولى قال: لو طلبوا مني عناقاً ما رهنتها أنا أرهنهم سراة أصحابي يدفعون إلى محمد يقتلهم فارتأوا آراءكم حتى تأخذوا الرهن، فإنكم إن تقاتلوا محمداً وانصرف أبو سفيان تكونون على مواعدتكم الأولى قالوا: ترجو ذلك يا نعيم؟ قال: نعم. قال كعب بن أسد: فإنا لا نقاتله والله، لقد كنت لهذا كارهاً ولكن حيي رجل مشؤوم، قال الزبير بن باطا: إن انكشفت قريش وغطفان عن محمد لم يقبل منا إلا السيف، قال نعيم: لا تخش ذلك يا أبا عبدالرحمن، قال الزبير: بلى والتوراة ولو أصابت اليهود رأيها ولحم الأمر لتخرجن إلى محمد ولا يطلبون من قريش رهناً فإن قريشاً لا تعطينا رهناً أبداً وعلى أي وجه تعطينا قريش الرهن وعددهم أكثر من عددنا ومعهم كراع ولا كراع معنا وهم يقدرون على الهرب ونحن لا نقدر عليه، وهذه غطفان تطلب إلى محمد أن يعطيها بعض تمر الأوس وتنصرف فأبى محمد إلا السيف، فهم ينصرفون بغير شيء فلما كانت ليلة السبت كان مما صنع الله تعالى لنبيه أن قال أبو سفيان: يا معشر قريش إن الجناب قد أجدب، هلك الكراع والخف وغدرت اليهود وكذبت وليس هذا بحين مقال فانصرفوا قالت قريش: فاعلم علم اليهود واستيقن خبرهم فبعثوا عكرمة بن أبي جهل حتى جاء بني قريظة عند غروب الشمس مساء ليلة السبت فقال: يا معشر اليهود إنه قد طال المكث وجهد الخف والكراع وأجدب الجناب وإنا لسنا بدار مقامة أخرجوا إلى هذا الرجل حتى نناجزه بالغداة، قالوا غداً السبت لا نقاتل ولا نعمل فيه عملاً وإنا مع ذلك لا نقاتل معكم إذا انقضى سبتنا حتى تعطونا رهاناً من رجالكم يكونون معنا لئلا تبرحوا حتى نناجز محمداً، فإنا نخشى إن أصابتكم الحرب أن تشمروا إلى بلادكم وتدعونا وإياه في بلادنا ولا طاقة لنا به، معنا الذراري النساء والأموال فرجع عكرمة إلى أبي سفيان فقالوا: ماوراءك؟ قال: أحلف بالله أن الخبر الذي جاء به نعيم حق، لقد غدر أعداء الله، وأرسلت غطفان إليهم مسعود بن رخيلة في رجال منهم بمثل رسالة أبي سفيان، فأجابوهم بمثل جواب أبي سفيان، وقالت اليهود حيث رأوا ما رأوا منهم: نحلف بالله أن الخبر الذي قال نعيم لحق، وعرفوا أن قريشاً لا تقيم فسقط في أيديهم، فكر أبو سفيان إليهم وقال: إنا والله لا نفعل، إن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت اليهود مثل قولهم الأول، وجعلت اليهود تقول: الخبر ما قالت نعيم وجعلت قريش وغطفان تقول الخبر ما قال نعيم، ويئس كل منهم من نصر الآخر واختلف أمرهم فتصدع التحالف وانهار الحصار فكان نعيم يقول: أنا خذلت بين الأحزاب حتى تفوقوا في كل وجه، وأنا أمين رسول الله صلى الله عليه وسلم على سره، فكان صحيح الإسلام بعد (1).
وحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه القصة بالغة في الظهور فإنه لم يطلب من نعيم الانضمام لجيش المسلمين وترك الأحزاب لأن جيش المسلمين ليس بحاجة إلى زيادة رجل واحد، وأيضاً لم يطلب منه أسرار القوم فإن اتضح كل شيء له فصارت المعلومات إما مكررة أو غير مفيدة، وأقصد بعدم الفائدة أنها لا تمزق ذلك الحصار الرهيب ولم يطلب منه قتل زعيمهم أو أحداً منهم فإن بدل الرئيس رؤساء وبدل المقتول مئات وآلاف وإنما اختار صلى الله عليه وسلم الإيقاع بينهم فذلك معول الهدم الذي سيضرب هذا التحزب.

6- ولما ترعرعت بذور الفرقة بينهم وحصل التفرق وانهارت المعنويات بعث الرسول صلى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان رضي الله عنه ينظر ما فعل القوم يقول حذيفة لقد رأيتنا في الخندق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة شديدة البرد وقد اجتمع علينا البرد والجوع والخوف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من رجل ينظر لنا ما فعل القوم جعله الله رفيقي في الجنة، فقال حذيفة يشرط له رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة والرجوع فما قام منا رجل ثم عاد يقول ثلاث مرات وما قام رجل واحد من شدة الجوع والقر والخوف فلما رأى رسول الله ذلك لا يقوم أحد دعاني فقال: حذيفة، قال: فلم أجد بداً من القيام حين فوّه باسمي فجئته ولقلبي وجبان في صدري، فقال تسمع كلامي منذ الليلة ولا تقوم؟ فقال: لا والذي بعثك بالحق إن قدرت على ما بي من الجوع والبرد فقال: اذهب فانظر ما فعل القوم ولا ترمين بسهم ولا بحجر ولا تطعن برمح ولا تضربن بسيف حتى ترجع إلي. فقلت: يا رسول الله ما بي يقتلوني ولكني أخاف أن يمثلوا بي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس عليك بأس فعرفت أنه لا بأس علي من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الأول ثم قال: اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يقولون فلما ولى حذيفة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته فدخل عسكرهم فإذا هم يصطلون على نيرانهم وإن الريح تفعل بهم ما تفعل لا تقر لهم قدراً ولا بناءً فأقبلت فجلست على نار مع قوم فقام أبو سفيان فقال: احذروا الجواسيس والعيون ولينظر كل رجل جليسه قال: فالتفت إلى عمرو بن العاص فقلت: من أنت؟ وهو عن يميني فقال: عمرو بن العاص والتفت إلى معاوية بن أبي سفيان فقلت: من أنت؟ فقال معاوية بن أبي سفيان ثم قال أبو سفيان: إنكم والله لستم بدار مقام لقد هلك الخف والكراع وأجدب الجناب وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره وقد لقينا من الريح ما ترون والله ما يثبت لنا بناء ولا تطمئن لنا قدر فارتحلوا فإني مرتحل وقام أبو سفيان وجلس على بعيره وهو معقول ثم ضربه فوثب على ثلاث قوائم فما أطلق عقاله إلا بعد ما قام ولولا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي «لا تحدث شيئاً حتى تأتي» ثم شئت لقتلته فناداه عكرمة بن أبي جهل إنك رأس القوم وقائدهم تقشع وتترك الناس؟ فاستحى فأناخ جمله ونزل عنه وأخذه بزمامه وهو يقوده وقال: ارحلوا قال: فجعل الناس يرتحلون وهو قائم حتى خف المعسكر ثم قال لعمرو بن العاص يا أبا عبدالله لا بد لي ولك أن نقيم في جريدة من خيل بإزاء محمد وأصحابه فإنا لا نأمن أن نطلب حتى ينفذ المعسكر فقال عمرو: أنا أقيم وقال لخالد بن الوليد: ما ترى يا أبا سليمان؟ فقال: أنا أيضاً أقيم فأقام عمرو وخالد في مائتي فارس وسار العسكر إلا هذه الجريدة على متون الخيل وذهب حذيفة إلى غطفان فوجدهم قد ارتحلوا فرجع إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فأخبره(1).
أما حديث جابر رضي الله عنه ونصه «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا، ثم قال: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا، ثم قال: من يأتينا بخبر القوم؟ فقال الزبير: أنا، ثم قال إن لكل نبي حوارياً وإن حواري الزبير.
فقد قال ابن حجر القصة التي ذهب لكشفها الزبير غير القصة التي ذهب حذيفة لكشفها فقصة الزبير كانت لكشف خبر بني قريظة هل نقضوا العهد بينهم وبين المسلمين ووافقوا قريشاً على محاربة المسلمين وقصة حذيفة كانت لما اشتد الحصار على المسلمين بالخندق وتمالأت عليهم الطوائف انتداب الرسول صلى الله عليه وسلم من يأتيه بخبر قريش وهو حذيفة بعد تكراره طلب ذلك وقد ذكر ابن حجر رحمه الله بعض الأقوال في الجمع ثم رجح ما ذكرته آفناً(1).
وهنا تتضح حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم حين اختار رجلاً من الأنصار لا تعرفه قريش وأما المهاجرون فعاشوا بين ظهرانيهم ويعرفونهم حق المعرفة(2).
وواضح من القصة أن مهمة حذيفة رضي الله عنه هي جمع المعلومات عن الأحزاب وإخبار القائد وهو الرسول صلى الله عليه وسلم بها وهذه مهمة ما أسميناه بالجاسوس(3).
ونستطيع أن نستنبط فوائد من قصة حذيفة فنقول:
أولاً: أن القائد أو الإمام لا يفرض شخصاً من أول الأمر وإنما يجعل الأمر على الاختيار ثم بعد ذلك يكون بالتعيين ويكون الشخص المعين تتوافر فيه الشروط التي تؤهله للقيام بهذه العملية العسيرة.
ثانياً: تشجيع المرسل فإنه في حالة يحتاج مثله إلى رفع المعنويات والتشجيع وهو- أعني التشجيع- يختلف من حال إلى حال فالرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً شرط له الجنة والرفقة وهذا لا يمكن أن يشرطه إمام أو أن يذكره إمام ولكن يمكن أن يكون عن طريق نقله أو إعطائه مالا أو سلاحا وما إلى ذلك.
ثالثاً: إعطاؤه التوجيهات الأساسية التي يسير عليها أثناء قيامه بما أمر به فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر حذيفة ألا يحدث شيئاً... حتى يأتيه.
رابعاً: الدعاء للمرسل فهو في أمس الحاجة إلى الدعاء بحفظه نظراً لتعرضه للمخاطر.
خامساً: وهذا خاص بالمرسل فإنه يجب عليه طاعة الإمام في توجيهاته وإرشاداته وعدم الركون إلى اجتهاداته هو فحذيفة رضي الله عنه استطاع أن يرمي أبا سفيان بسهم فيقتله ولكن لما تذكر أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع عن ذلك.
7- وممن نقل للرسول صلى الله عليه وسلم أخباراً مهمة سليط بن النعمان وقصة خبره أن قريشاً كانت قد حذرت طريق الشام أن يسلكوها وخافوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وكانوا قوماً تجاراً فقال صفوان بن أمية إن محمداً وأصحابه قد عوروا علينا متجرنا فما ندري كيف نصنع بأصحابه لا يبرحون الساحل وأهل الساحل قد وادعهم ودخل عامتهم معه فما ندري أين نسلك وإن أقمنا نأكل أموالنا ونحن في دارنا هذه ما لنا بها نفاق إنما نزلناها على التجارة إلى الشام في الصيف وفي الشتاء إلى أرض الحبشة قال له الأسود بن المطلب: فنكب عن الساحل وخذ طريق العراق قال صفوان: لست بها عارفاً قال أبو زمعة: فأنا أدلك على أخبر دليل بها يسلكها وهو مغمض العين إن شاء الله قال: من هو؟ قال فرات فجاءه فقال: إني أريد الشام وقد عور علينا محمد متجرنا لأن طريق عيراتنا عليه فأردت طريق العراق قال فرات: فأنا أسلك بك طريق العراق ليس يطؤها أحد من أصحاب محمد إنما هي أرض نجد وفياف قال صفوان: فهذه حاجتي أما الفيافي فنحن شاتون وحاجتنا إلى الماء اليوم قليل فتجهز صفوان بن أمية وأرسل معه أبو زمعة بثلاثمائة مثقال ذهب ونقر فضة وبعث رجال من قريش ببضائع وخرج معه عبدالله بن أبي ربيعة وحويطب بن عبدالعزى في رجال من قريش وخرج صفوان بمال كثير نقر فضة وآنية فضة وزن ثلاثين ألف درهم وخرجوا على ذات عرق.
وقدم المدينة نعيم بن مسعود الأشجعي وهو على دين قومه فنزل على كنانة بن أبي الحقيق في بني النضير فشرب معه وشرب معه سليط بن النعمان بن أسلم ولم تحرم يومئذ وهو يأتي بني النضير ويصيب من شرابهم فذكر نعيم خروج صفوان في عيره وما معهم من الأموال فخرج من ساعته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة في مائة راكب فاعترضوا لها فأصابوا العير وأفلت أعيان القوم وأسروا رجلاً أو رجلين وقدموا بالعير على النبي صلى الله عليه وسلم فخمسها فكان الخمس يومئذ قيمة عشرين ألف درهم وقسم مابقى على أهل السرية وكان في الأسرى فرات بن حيان فأتى به فقيل له أسلم، إن تسلم نتركك من القتل فأسلم فتركه من القتل(1).
8- وخرج الرسول صلى الله عليه وسلم عام الحديبية لا يريد حرباً وبعث إلى مكة بشر بن سفيان العتكي عيناً له يخبره بما عزمت عليه قريش فلما كان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان جاء إليه بشر فقال يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بخروجك واستنفروا من أطاعهم من الأحابيش واجلبت ثقيف معهم ومعهم النساء والصبيان (2). قال ابن القيم: ومنها- أي من الفوائد المستنبطة من قصة الحديبية- الاستعانة بالمشرك المأمون في الجهاد جائزة لأن عينه كان كافراً إذ ذاك، وفيه من المصلحة أنه أقرب إلى اختلاطه بالعدو وأخذه أخبارهم (زاد المعاد3/301).
9- وفي شعبان في السنة السادسة بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن الحارث بن ضرار سيد بني المصطلق رضي الله عنه- فإنه أسلم بعد ذلك- جمع لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قدر عليه من قومه ومن العرب فأرسل صلى الله عليه وسلم بريدة بن الحصيب رضي الله عنه ليأتيه بالخبر اليقين واستأذن بريدة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما يتخلص به شرهم أي وإن كان خلاف الواقع فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرج حتى ورد عليهم ورأى جمعهم فقالوا له من الرجل؟ قال: رجل منكم قدمت لما بلغني من جمعكم لهذا الرجل فأسير في قومي ومن أطاعني فنكون يداً واحدة حتى نستأصلهم فقال له الحارث: فنحن على ذلك فعجل علينا قال بريدة: أركب الآن وآتيكم بجمع كثير من قومي فسروا بذلك منه ورجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر القوم (1).
10- وبعد فتح مكة اجتمعت القبائل العربية من هوازن وثقيف لغزو الرسول صلى الله عليه وسلم ولما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم باجتماعهم أرسل إليهم رجلاً من أصحابه وهو عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي وأمره أن يدخل فيهم ويسمع منهم ما أجمعوا عليه فدخل فيهم وطاف في عسكرهم ثم انتهى إلى ابن عوف فوجد عنده رؤساء هوازن فسمعه يقول لأصحابه إن محمداً لم يقاتل قط قبل هذه المرة وإنما كان يلقى قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فينصر عليهم فإذا كان في السحر فصفوا مواشيكم ونساءكم وأبناءكم من ورائكم ثم صفوا صفوفكم ثم تكون الحملة منكم واكسروا جفون سيوفكم فتلقونه بعشرين ألف سيف مكسور الجفن واحملوا حملة رجل واحد واعلموا أن الغلبة لمن حمل أولاً فلما وعى ذلك عبدالله بن أبي حدرد رجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بكل ما سمع(2).
11- وفي صفر سنة إحدى عشرة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الناس بالتهيؤ لغزو الروم وأمرهم بالإسراع في غزوهم وأمر على الجيش أسامة بن زيد رضي الله عنه وقال له: يا أسامة سر على اسم الله وبركاته حتى تنتهي إلى مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك على هذا الجيش فأغر صباحاً على أهل اُبْنَىَ وحرق عليهم وأسرع السير تسبق الخبر فإن أظفرك الله فاقلل اللبث فيهم وخذ معك الأدلاء وقدم العيون أمامك والطلائع(1).
12- وكانت عادته صلى الله عليه وسلم في كل غزواته أن يكثر من العيون التي تأتي له بالأخبار حتى إنه أمر زيداً بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم لغة اليهود وكتابتهم وقال له: إني لا آمن يهوداً على كتابي فلم يمر نصف شهر حتى تعلم لغتهم وكتابتهم فكان يكتب إلى اليهود وإذا كتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قرأ كتابهم وفي هذا معرفة للعدو وتعرف على لغته ليمكنه أيضاً من الاطلاع على ما يكتبونه وما ينشرونه(2).
وحوادث التجسس في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة لا تقتصر على ما ذكرته وإنما ذكرت أهمها وهي التي كانت في غزوات معروفة وإلا فهي أكثر مما ذكرت.
 
رد: الـتـجـسـس في عهد خير البشر

شكرا لك يا اخي على موضوعك ممتاز
 
عودة
أعلى