بسم الله الرحمن الرحيم
اخوتي الاعضاء
سوف اقدم لكم انشاء الله سردا تاريخيا لاحداث الحرب الليبية الايطالية بشكل مفصل وارجو ان ينال اموضوع اعجابكم
نبدا على بركة الله
الحالة السياسية الدولية عشية الغزو الإيطالي لليبيا :
منذ أوائل القرن الحالى وإيطاليا تتطلع إلى الاستيلاء على ليبيا، آخر الولايات العثمانية في شمال أفريقيا، التي لم تكن سقطت بعد في أيدي الاستعمار الأوربي، ذلك الاستعمار الذي أخذ يجتاح ولايات الدولة العثمانية في السنوات التي أعقبت مؤتمر برلين 1878م .
وعملت إيطاليا على ممارسة نشاطاً استعمارياً واسع المدى تمثل في المدراس التي أنشأتها لترويج الثقافة الايطالية، وكذلك في الإرساليات التبشيرية، ووضع المصورات والخرائط استعداداً للغزو. ولكن الأهم من ذلك كله إنشاء فرعين لبنك روما Banco Di Roma عام 1905 في ولايتي برقة وطرابلس اللذان نجحا في الاستيلاء على أراضي الليبيين نتيجة لعدم وفائها بالقروض.
وعلى الرغم مما فطن له أهالي البلاد من أطماع إيطاليا واستنجادهم أكثر من مرة بالدولة العثمانية طالبين منها اتخاذ وسائل حاسمة لوقف هذه الأطماع، إلا أن الدولة العثمانية لم تعر الأمر التفاتاً وربما يرجع ذلك إلى أن الدولة العثمانية كانت تعتقد اعتقاداً راسخاً أن إيطاليا لن تجرؤ على غزو ليبيا حتى لا تثير سخط العالم الإسلامي، كما حدث عندما استولت فرنسا على تونس 1881م فضلاً عن أنها حاولت ذلك الدول الأوربية لن تسمح لها ولن تترك لها الفرصة التي تمكنها من تحقيق أطماعها.
ولاشك أن هذا التفكير كان خاطئاً لسببين :
السبب الأول : أن حركة الجامعة الإسلامية بدأت تتراجع مؤقتاً في أعقاب الحركات الدستورية التي أخذت تجتاح العالم الإسلامي، مع التسليم في نفس الوقت أن العدوان الإيطالي على ليبيا كان بعثاً جديداً لحركة الجامعة الإسلامية التي عادت إلى الظهور بأقوى مماكانت عليه.
والسبب الثاني : إن إيطاليا نجحت في حل الكثير من مشاكلها مع الدول الاستعمارية وقت القسمة بينها وبينهم، فهي من ناحية عملت على استغلال المحالفة الثلاثية لتتمكن من تعزيز سمعتها السياسية ومركزها الاستعماري بهدف الضغط على منافستها الأولى في شمال أفريقيا، وهي فرنسا التي كانت تقف حجرة عثرة في سبيل توسعها في شمال أفريقيا.
على أن إيطاليا كانت تدرك في نفس الوقت أن هذه المحالفة لن تساعدها - بسبب بينها وبين النمسا - على تحقيق أطماعها ولذلك كان اتجاه إيطاليا الواضح إلى إنجلترا، ولم تترد إنجلترا في مساعدة إيطاليا على تكوين إمبراطوريتها في شرق أفريقيا بهدف الحد من امتداد الاستعمار الفرنسي إلى الحبشة أو السودان.
ويتضح التقارب الانجليزي الإيطالي في عام 1885م لأن ذلك العام يسجل توثق العلاقات بين إيطاليا وإنجلترا بالدرجة التي مكنت إيطاليا من تأسيس مستعمراتها في شرق أفريقيا، ومع ذلك فإن الضربة القوية التي وجهت لإيطاليا في الحبشة (عدوة 1896) جعلت إيطاليا توجه نظرها إلى شمال أفريقيا. ولما كانت إيطاليا تدرك أن فرنسا تدخل في هذه المنطقة في مجال نفوذها الاستعماري فقد آثرت تسوية الأوضاع بينها وبين فرنسا بالطريق السلمي. ففي عام 1901 تم عقد اتفاق بين الدولتين تناول شؤون المنطقة ووضع فيه التقارب بين فرنسا وإيطاليا، وفي العام التالي عزز هذا الاتفاق باتفاق آخر وفي هذين الاتفاقين أضحت كل من برقة وطرابلس منطقة نفوذ إيطالية، وفي نظير ذلك وافقت إيطاليا علي إطلاق يد فرنسا في مراكش دون معارضة.
منذ ذلك الوقت أخذت إيطاليا تنظر إلى برقة وطرابلس كما لو كانت هذه البلاد مقاطعات إيطالية، كما نجحت إيطاليا في الحصول على موافقة كل من إنجلترا وروسيا وألمانيا على الاحتلال الإيطالي لليبيا، كما وافقت النمسا أيضاً بشرط ألا يتعدى الاحتلال منطقة شمال أفريقيا.
الأوضاع العامة للأيالة الليبية قبيل الغزو الإيطالي :
ومهدت إيطاليا للاحتلال بايجاد مصالح لها في كل من برق وطرابلس، وساعدها على إيجاد مصالح لها في هاتين الولايتين الحالة السيئة التي بلغتها ليبيا. والجدير بالذكر أن الكثير من المصادر تلقي على الدولة العثمانية مسئولية إهمال الولاية، وأن ليبيا لم تلق أي عناية أو اهتمام من قبل السطات الحكومية بالاستانة، ومع ذلك فقد يكون من الإنصاف أن نلتمس بعض العذر للإدارة التركية، فإن إهمالها شئون الولاية كان يرجع بالدرجة الأولى إلى أن الليبيين كانوا قليلاً ما يتأثرون بالأنظمة التركية التي تفرض عليهم، خاصة في عهد الاتحاديين، وإنما كانوا يؤثرون العيش طبقاً لما درجوا عليه من نهج معين في الحياة، ولذلك اصطدمت التنظيمات العثمانية بمعارضة وطنية عنيفة. وكان الأجدى للدولة في هذه الظروف أن تشجع الوطنيين على حكم البلاد، ولكنها على العكس من ذلك أساءت معاملتهم وضيقت عليهم الخناق لخوفها مما قد يجر عليها ذلك من اشتباك مع الفرنسيين، خاصة وأن السنوسيين بزعامة السيد أحمد الشريف كانوا في ذلك الوقت في حروب مع الفرنسيين بهدف إيقاف توسعهم من أواسط أفريقيا إلى غرب أفريقيا، بعد أن نجح الفرنسيون في تأسيس ما كان يعرف سابقاً باسم السودان الفرنسي . ومن ناحية أخرى كان السلطان عبد الحميد الثاني يشك في السنوسية، ويخشى من استفحال أمرها لدرجة قد تهدد خلافته. ولذلك كان من المنتظر بعد الإنقلاب الدستوري الذي عصف بحكم السلطان عبد الحميد الثاني 1908/1909 أن تعمل الدولة في عهده الجديد على إصلاح شئون الولاية، ولكن الاتحاديين استقر رأيهم على أن ولاية طرابلس هي من الولايات التي لا تفيد الدولة فائدة مالية تذكر، وأنه لا داعي لتوجيه الاهتمام إليها.
وانتهزت إيطاليا هذه الفرصة فأخذت الصحافة الإيطالية تمهد الرأي العام للاحتلال، وظهرت في الصحف الإيطالية الكثير من المقالات التي تؤكد أن من واجب الإنسانية أن تقوم إيطاليا بإصلاح الحالة في ليبيا، بعد أن بعد فشلت الأيدي العاملة والخبرة الفنية. وكان من نتيجة ذلك أن هام الشعب الإيطالي حباً بليبيا وأخذ نشيد طرابلس الجميلة Tripolitania Bella يتردد على ألسنة الإيطاليين.
ولاشك أن إيطاليا - في تقدير الكثيرين - كانت تريد أن تمسح ما لحق بها من عار الهزيمة في موقعة عدوة بإحراز انتصار سهل على دولة متهالكة ضعيفة كالدولة العثمانية.
وتفريط الاتحاديين في كثير من الأراضي العربية قد يكون موضوعاً قابلاً للمناقشة: هل كان ذلك التفريط بقصد التنازل عن مناطق لا تمارس فيها الدولة العثمانية نفوذاً فعلياً نظير الحصول على تأييد الدول الأوربية للدولة، أو إعانتها في أزماتها المالية، أو في إصلاح شئونها الإدراية والعسكرية ؟ أم كان ذلك التفريط نتيجة لفساد رجال الدولة واستهتارهم، خاصة حينما وصلت إلى الصدارة العظمى وزارة إبراهيم حقي باشا، إذ يعتقد الكثيرون أن حقي باشا كان متواطئاً مع الإيطاليين الذين ربطته بهم روابط عديدة، أبرزها صداقته لبعض الشخصيات الإيطالية الرسمية، ثم زواجه من إحدى الإيطاليات، وظهر ذلك التواطؤ في إهمال الدولة العثمانية لشئون ليبيا، وفي سحب معظم الجيش العثماني أثناء قيام ثورة الإمام يحيى في اليمن 1911م أي وقت كان التهديد الإيطالي بالغاً أقصى درجة له. كما أهملت وزارة إبراهيم حقي تسليح الفرق المحلية الليبية، واستدعت الكثير من الموظفين العثمانيين إلى الأستانة وعلى رأسهم الوالي نفسه إبراهيم باشا إثر احتجاج الجالية الإيطالية المقيمة في ليبيا على سوء معاملته لها، ولم تهتم الدولة العثمانية بتعيين والياً غيره.
أصبح من الواضح منذ تولي الاتحاديين الحكم في عام 1909م والسياسة الإيطالية تضغط ضغطاً متزايداً على ليبيا، وساعد إيطاليا على ذلك كراهية الليبيين لجماعة الاتحاد والترقي لتدخلهم في كل ما يمس تقاليدهم ومعتقداتهم.
رقم المشاركة : 2
الإنذار الإيطالي الموجه للدولة العثمانية وإعلان الحرب :
وكان من الطبيعي أن تنتهز إيطاليا كل هذه الظروف لتقديم إنذارها إلى الدولة العثمانية في 28 سبتمبر 1911م وذكرت في هذا الإنذار أنها قررت التدخل عسكرياً في كل من برقة وطرابلس بعد استفحال حالة الفوضى التي يتعرض لها الأجانب خاصة الأيطاليون المقيمون في كلتا الولايتين. وردت الدولة العثمانية على الإنذار رداً متخاذلاً حاولت فيه أن ترجع إهمال شئون الولاية إلى الحكم الماضي، أي من قبل قيام الحكم الدستوري في الدولة العثمانية. كما حاولت الدولة العثمانية أن تجد تسوية للأزمة، وأظهرت الكثير من التساهل لحالة النزاع، ولكن الأسطول الإيطالي كان مستعداً لقطع الصلة بين الولاية والدولة العثمانية في اليوم التالي من تقديم الإنذار 29 سبتمبر 1911.
ومع التسليم بوجود فرق شاسع بين قوة إيطاليا الفتية، وبين قوة الدولة العثمانية، فإن هنالك إجماع أيضاً على إتهام وزارة حقي باشا بإهمالها شئون الدفاع، خاصة وأن حقي باشا كان سفيراً للدولة العثمانية قبل أن يعين صدراً أعظماً، أي أنه كان أكثر من غيره على علم تام بما تبيته إيطاليا لليبيا، ومع ذلك كان هذا التراخي الواضح الذي كان سبباً في إقالة وزارته، كما قدم المندوبان الليبيان في مجلس المبعوثان طلباً لمحاكمة وإتهام وزارته بالخيانة العظمى، وأنها خالفت أول وآخر مادة من القانون الأساسي في الأمور الخارجية والداخلية والمالية والحربية بتركها طرابلس وبنغازي عاجزتين عن الدفاع، ولكن حال دون هذه المحاكمة انتماء بعض أعضاء الوزارة إلى حزب الاتحاد والترقي صاحب الأغلبية في المجلس، الذي اكتفى بإقالة الوزارة وتأليف وزارة أخرى برئاسة سعيد باشا رئيس مجلس الأعيان.
وحاولت الوزارة الجديدة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فلجأت إلى الدول الأوربية طالبة مساعدتها وتوسيطها في الأزمة، كما أبرق السلطان محمد الخامس إلى ملك إنجلترا وإمبراطور ألمانيا ورئيس الجمهورية الفرنسية وبقية ملوك وقياصرة أوربا. ولكن اعتذرت جميع هذه الحكومات عن التدخل مما أثار غضب الأتراك وحماستهم وجعلهم يصممون على مقاتلة الإيطاليين والدفاع عن ليبيا. وتحقيقاً لهذه الغاية قامت الدولة العثمانية بدعاية واسعة النطاق ضد إيطاليا في العالم العربي والإسلامي، طالبة المساعدة وتوحيد الصفوف تجاه هذا العدوان الصليبي الجديد الذي سيكتسح الإسلام ويزيل معالمه، وفعلاً تألفت الجمعيات المتعددة في مختلف الأقطار الإسلامية لمساعدة الدولة العثمانية في محنتها.
استولى الإيطاليون على طرابلس ودرنة ومصراته وطبرق، واستخدموا في الغزو قوات كبيرة برية وبحرية، ولما كان الغزو الإيطالي جاء مؤقتاً توقيتاً مناسبا بالنسبة لإنشغال الدولة العثمانية بشئون أخرى، فقد تمكن الإيطاليون نتيجة لذلك من التركز بسهولة على الساحل، وكانت الخطة الإيطالية تقضي بالاستيلاء على الساحل وفصله عن الداخل، ومنع وصول أية مساعدة لفلول الحاميات التركية المتبقية في ليبيا حتى تطلب التسليم ويضطر الليبيون نتيجة لذلك الخضوع للحكم الإيطالي. وتعهدت إيطاليا وهي في مستهل عملياتها العسكرية بسلامة الأجانب المقيمين في طرابلس وبرقة، كما أبلغت حصارها للسواحل الليبية لشتى القوى الأرضية.
ومن المؤكد أن بعض الدول على الرغم من أنها أظهرت حياداً تاماً بشأن هذه الحرب، إلا أنها كانت تساعد إيطاليا في احتلالها لليبيا، ومن هذه الدول فرنسا وإنجلترا، أما ألمانيا فبالنظر إلى محالفتها لإيطاليا وصداقتها للدولة العثمانية فإنها كانت أميل إلى عرض وساطتها في هذه الأزمة باعتبارها صديقة للطرفين. وعلى الرغم من أن إيطاليا قدرت المدة اللازمة لتسليم خمسة عشر يوماً، إلا أن هذه الأيام المعدودة امتدت سنوات طويلة، إذ صادف التقدم الإيطالي من الساحل إلى الداخل عقبات شتى، وحاولت إيطاليا نتيجة لذلك إرضاء الباب العالي بتقديم ترضية مالية مقابل تنازله عن هذه الولاية، ولكن الدولة العثمانية رفضت ذلك وشجعها على الوقوف في وجه إيطاليا هياج العالم الإسلامي، وعودة حركة الجامعة الإسلامية تشق مجراها من جديد بشكل أعنف مما كانت عليه.
صدى الاعتداء الإيطالي على ليبيا في العالم العربي والإسلامي :
ذلك أن العالم العربي والإسلامي اهتز نتيجة لقيام إيطاليا بهذا العدوان، ووجدت الدولة العثمانية إلتفافاً من ولاياتها حتى الولايات المنشقة عليها فقد أرسل الإمام يحيى رغم قيامه بالثورة إلى السلطان يعلن استعداده للقيام بمائة ألف جندي تحت قيادته، كما أبرق عبد العزيز آل سعود أمير نجد في ذلك الوقت إلى الباب العالي يقول: إن مقاطعة نجد تفتخر من كل جوارحها أنها مقاطعة عثمانية، وأن حميع القبائل التي تحت إمرته مستعدة للزحف في ظل الأعلام العثمانية إلى حيث تأمرهم الدولة العلية. كما وفد الكثيرون من شتى أنحاء العالم الإسلامي للتطوع في الجهاد في طرابلس، حتى بلغ عددهم أكثر من ستة عشر ألفاً في العام التالي لنشوب الحرب، كما تألفت لجان الإعانة وأرسلت البعثات الطبية إلى ميادين القتال.
ونشطت الصحافة إلى دعوة المسلمين لمساندة الدولة، وأن الوقت ليس وقت مطالبة بإصلاح ولامؤاخذة على إفساد، وإنما هو وقت لا يتسع إلا لشيء واحد، وهو تأمين الدولة ببذل الأموال والأرواح، وأن الولايات المتطلعة إلى اللامركزية ينبغي ألا تعجل في طلبها، لأن الدولة في الطريق إلى ذلك، والوقت وقت اتحاد واعتصام. كما حفلت الصحافة بدعوة المسلمين إلى إظهار شعورهم نحو دولة الخلافة بالقول والكتابة والمظاهرات والاحتجاج ومقاطعة التجارة الإيطالية، ومساعدة الدولة العثمانية بالمال والرجال، وأن أوروبا لن تبقي على شيء ما لم يتحد المسلمون ويتماسكوا.
ولقيت هذه الدعوة صدى بعيداً في العالم الإسلامي، فحفلت المعسكرات التركية في ليبيا بمجاهدين لا من برقة أو طرابلس، وإنما من المغرب والسودان ومصر والشام وأفغانستان، كما جاءت المساعدة أيضاً من تونس والجزائر رغم خضوعهما لفرنسا، إذ استجاب سكانهما للدعوة الإسلامية مكذبين هانوتو في زعمه أن فرنسا باحتلالها الجزائر وتونس نجحت في فصلهما عن جسم الملة الإسلامية، والواقع أنه كان للحملة الإيطالية تأثير كبير على مركز الإنجليز في البلاد الإسلامية الخاضعة لهم، ويفهم ذلك مما ذكره جيوليتي في خاطراته التي نشرها عن حياته عندما كان رئيساً لوزراء إيطاليا، أن إنجلترا ألحت عليه بالاتفاق كيفما كان مع تركيا إنهاءً لهذه الحرب التي أثارت جميع العالم الإسلامي، وردت الاحتجاجات على إنجلترا بشأنها ليس من الهند فحسب، وإنما من شتى بقاع العالم الإسلامي.
يتبع في الحلقة القادمة
اخوتي الاعضاء
سوف اقدم لكم انشاء الله سردا تاريخيا لاحداث الحرب الليبية الايطالية بشكل مفصل وارجو ان ينال اموضوع اعجابكم
نبدا على بركة الله
الحالة السياسية الدولية عشية الغزو الإيطالي لليبيا :
منذ أوائل القرن الحالى وإيطاليا تتطلع إلى الاستيلاء على ليبيا، آخر الولايات العثمانية في شمال أفريقيا، التي لم تكن سقطت بعد في أيدي الاستعمار الأوربي، ذلك الاستعمار الذي أخذ يجتاح ولايات الدولة العثمانية في السنوات التي أعقبت مؤتمر برلين 1878م .
وعملت إيطاليا على ممارسة نشاطاً استعمارياً واسع المدى تمثل في المدراس التي أنشأتها لترويج الثقافة الايطالية، وكذلك في الإرساليات التبشيرية، ووضع المصورات والخرائط استعداداً للغزو. ولكن الأهم من ذلك كله إنشاء فرعين لبنك روما Banco Di Roma عام 1905 في ولايتي برقة وطرابلس اللذان نجحا في الاستيلاء على أراضي الليبيين نتيجة لعدم وفائها بالقروض.
وعلى الرغم مما فطن له أهالي البلاد من أطماع إيطاليا واستنجادهم أكثر من مرة بالدولة العثمانية طالبين منها اتخاذ وسائل حاسمة لوقف هذه الأطماع، إلا أن الدولة العثمانية لم تعر الأمر التفاتاً وربما يرجع ذلك إلى أن الدولة العثمانية كانت تعتقد اعتقاداً راسخاً أن إيطاليا لن تجرؤ على غزو ليبيا حتى لا تثير سخط العالم الإسلامي، كما حدث عندما استولت فرنسا على تونس 1881م فضلاً عن أنها حاولت ذلك الدول الأوربية لن تسمح لها ولن تترك لها الفرصة التي تمكنها من تحقيق أطماعها.
ولاشك أن هذا التفكير كان خاطئاً لسببين :
السبب الأول : أن حركة الجامعة الإسلامية بدأت تتراجع مؤقتاً في أعقاب الحركات الدستورية التي أخذت تجتاح العالم الإسلامي، مع التسليم في نفس الوقت أن العدوان الإيطالي على ليبيا كان بعثاً جديداً لحركة الجامعة الإسلامية التي عادت إلى الظهور بأقوى مماكانت عليه.
والسبب الثاني : إن إيطاليا نجحت في حل الكثير من مشاكلها مع الدول الاستعمارية وقت القسمة بينها وبينهم، فهي من ناحية عملت على استغلال المحالفة الثلاثية لتتمكن من تعزيز سمعتها السياسية ومركزها الاستعماري بهدف الضغط على منافستها الأولى في شمال أفريقيا، وهي فرنسا التي كانت تقف حجرة عثرة في سبيل توسعها في شمال أفريقيا.
على أن إيطاليا كانت تدرك في نفس الوقت أن هذه المحالفة لن تساعدها - بسبب بينها وبين النمسا - على تحقيق أطماعها ولذلك كان اتجاه إيطاليا الواضح إلى إنجلترا، ولم تترد إنجلترا في مساعدة إيطاليا على تكوين إمبراطوريتها في شرق أفريقيا بهدف الحد من امتداد الاستعمار الفرنسي إلى الحبشة أو السودان.
ويتضح التقارب الانجليزي الإيطالي في عام 1885م لأن ذلك العام يسجل توثق العلاقات بين إيطاليا وإنجلترا بالدرجة التي مكنت إيطاليا من تأسيس مستعمراتها في شرق أفريقيا، ومع ذلك فإن الضربة القوية التي وجهت لإيطاليا في الحبشة (عدوة 1896) جعلت إيطاليا توجه نظرها إلى شمال أفريقيا. ولما كانت إيطاليا تدرك أن فرنسا تدخل في هذه المنطقة في مجال نفوذها الاستعماري فقد آثرت تسوية الأوضاع بينها وبين فرنسا بالطريق السلمي. ففي عام 1901 تم عقد اتفاق بين الدولتين تناول شؤون المنطقة ووضع فيه التقارب بين فرنسا وإيطاليا، وفي العام التالي عزز هذا الاتفاق باتفاق آخر وفي هذين الاتفاقين أضحت كل من برقة وطرابلس منطقة نفوذ إيطالية، وفي نظير ذلك وافقت إيطاليا علي إطلاق يد فرنسا في مراكش دون معارضة.
منذ ذلك الوقت أخذت إيطاليا تنظر إلى برقة وطرابلس كما لو كانت هذه البلاد مقاطعات إيطالية، كما نجحت إيطاليا في الحصول على موافقة كل من إنجلترا وروسيا وألمانيا على الاحتلال الإيطالي لليبيا، كما وافقت النمسا أيضاً بشرط ألا يتعدى الاحتلال منطقة شمال أفريقيا.
الأوضاع العامة للأيالة الليبية قبيل الغزو الإيطالي :
ومهدت إيطاليا للاحتلال بايجاد مصالح لها في كل من برق وطرابلس، وساعدها على إيجاد مصالح لها في هاتين الولايتين الحالة السيئة التي بلغتها ليبيا. والجدير بالذكر أن الكثير من المصادر تلقي على الدولة العثمانية مسئولية إهمال الولاية، وأن ليبيا لم تلق أي عناية أو اهتمام من قبل السطات الحكومية بالاستانة، ومع ذلك فقد يكون من الإنصاف أن نلتمس بعض العذر للإدارة التركية، فإن إهمالها شئون الولاية كان يرجع بالدرجة الأولى إلى أن الليبيين كانوا قليلاً ما يتأثرون بالأنظمة التركية التي تفرض عليهم، خاصة في عهد الاتحاديين، وإنما كانوا يؤثرون العيش طبقاً لما درجوا عليه من نهج معين في الحياة، ولذلك اصطدمت التنظيمات العثمانية بمعارضة وطنية عنيفة. وكان الأجدى للدولة في هذه الظروف أن تشجع الوطنيين على حكم البلاد، ولكنها على العكس من ذلك أساءت معاملتهم وضيقت عليهم الخناق لخوفها مما قد يجر عليها ذلك من اشتباك مع الفرنسيين، خاصة وأن السنوسيين بزعامة السيد أحمد الشريف كانوا في ذلك الوقت في حروب مع الفرنسيين بهدف إيقاف توسعهم من أواسط أفريقيا إلى غرب أفريقيا، بعد أن نجح الفرنسيون في تأسيس ما كان يعرف سابقاً باسم السودان الفرنسي . ومن ناحية أخرى كان السلطان عبد الحميد الثاني يشك في السنوسية، ويخشى من استفحال أمرها لدرجة قد تهدد خلافته. ولذلك كان من المنتظر بعد الإنقلاب الدستوري الذي عصف بحكم السلطان عبد الحميد الثاني 1908/1909 أن تعمل الدولة في عهده الجديد على إصلاح شئون الولاية، ولكن الاتحاديين استقر رأيهم على أن ولاية طرابلس هي من الولايات التي لا تفيد الدولة فائدة مالية تذكر، وأنه لا داعي لتوجيه الاهتمام إليها.
وانتهزت إيطاليا هذه الفرصة فأخذت الصحافة الإيطالية تمهد الرأي العام للاحتلال، وظهرت في الصحف الإيطالية الكثير من المقالات التي تؤكد أن من واجب الإنسانية أن تقوم إيطاليا بإصلاح الحالة في ليبيا، بعد أن بعد فشلت الأيدي العاملة والخبرة الفنية. وكان من نتيجة ذلك أن هام الشعب الإيطالي حباً بليبيا وأخذ نشيد طرابلس الجميلة Tripolitania Bella يتردد على ألسنة الإيطاليين.
ولاشك أن إيطاليا - في تقدير الكثيرين - كانت تريد أن تمسح ما لحق بها من عار الهزيمة في موقعة عدوة بإحراز انتصار سهل على دولة متهالكة ضعيفة كالدولة العثمانية.
وتفريط الاتحاديين في كثير من الأراضي العربية قد يكون موضوعاً قابلاً للمناقشة: هل كان ذلك التفريط بقصد التنازل عن مناطق لا تمارس فيها الدولة العثمانية نفوذاً فعلياً نظير الحصول على تأييد الدول الأوربية للدولة، أو إعانتها في أزماتها المالية، أو في إصلاح شئونها الإدراية والعسكرية ؟ أم كان ذلك التفريط نتيجة لفساد رجال الدولة واستهتارهم، خاصة حينما وصلت إلى الصدارة العظمى وزارة إبراهيم حقي باشا، إذ يعتقد الكثيرون أن حقي باشا كان متواطئاً مع الإيطاليين الذين ربطته بهم روابط عديدة، أبرزها صداقته لبعض الشخصيات الإيطالية الرسمية، ثم زواجه من إحدى الإيطاليات، وظهر ذلك التواطؤ في إهمال الدولة العثمانية لشئون ليبيا، وفي سحب معظم الجيش العثماني أثناء قيام ثورة الإمام يحيى في اليمن 1911م أي وقت كان التهديد الإيطالي بالغاً أقصى درجة له. كما أهملت وزارة إبراهيم حقي تسليح الفرق المحلية الليبية، واستدعت الكثير من الموظفين العثمانيين إلى الأستانة وعلى رأسهم الوالي نفسه إبراهيم باشا إثر احتجاج الجالية الإيطالية المقيمة في ليبيا على سوء معاملته لها، ولم تهتم الدولة العثمانية بتعيين والياً غيره.
أصبح من الواضح منذ تولي الاتحاديين الحكم في عام 1909م والسياسة الإيطالية تضغط ضغطاً متزايداً على ليبيا، وساعد إيطاليا على ذلك كراهية الليبيين لجماعة الاتحاد والترقي لتدخلهم في كل ما يمس تقاليدهم ومعتقداتهم.
رقم المشاركة : 2
الإنذار الإيطالي الموجه للدولة العثمانية وإعلان الحرب :
وكان من الطبيعي أن تنتهز إيطاليا كل هذه الظروف لتقديم إنذارها إلى الدولة العثمانية في 28 سبتمبر 1911م وذكرت في هذا الإنذار أنها قررت التدخل عسكرياً في كل من برقة وطرابلس بعد استفحال حالة الفوضى التي يتعرض لها الأجانب خاصة الأيطاليون المقيمون في كلتا الولايتين. وردت الدولة العثمانية على الإنذار رداً متخاذلاً حاولت فيه أن ترجع إهمال شئون الولاية إلى الحكم الماضي، أي من قبل قيام الحكم الدستوري في الدولة العثمانية. كما حاولت الدولة العثمانية أن تجد تسوية للأزمة، وأظهرت الكثير من التساهل لحالة النزاع، ولكن الأسطول الإيطالي كان مستعداً لقطع الصلة بين الولاية والدولة العثمانية في اليوم التالي من تقديم الإنذار 29 سبتمبر 1911.
ومع التسليم بوجود فرق شاسع بين قوة إيطاليا الفتية، وبين قوة الدولة العثمانية، فإن هنالك إجماع أيضاً على إتهام وزارة حقي باشا بإهمالها شئون الدفاع، خاصة وأن حقي باشا كان سفيراً للدولة العثمانية قبل أن يعين صدراً أعظماً، أي أنه كان أكثر من غيره على علم تام بما تبيته إيطاليا لليبيا، ومع ذلك كان هذا التراخي الواضح الذي كان سبباً في إقالة وزارته، كما قدم المندوبان الليبيان في مجلس المبعوثان طلباً لمحاكمة وإتهام وزارته بالخيانة العظمى، وأنها خالفت أول وآخر مادة من القانون الأساسي في الأمور الخارجية والداخلية والمالية والحربية بتركها طرابلس وبنغازي عاجزتين عن الدفاع، ولكن حال دون هذه المحاكمة انتماء بعض أعضاء الوزارة إلى حزب الاتحاد والترقي صاحب الأغلبية في المجلس، الذي اكتفى بإقالة الوزارة وتأليف وزارة أخرى برئاسة سعيد باشا رئيس مجلس الأعيان.
وحاولت الوزارة الجديدة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فلجأت إلى الدول الأوربية طالبة مساعدتها وتوسيطها في الأزمة، كما أبرق السلطان محمد الخامس إلى ملك إنجلترا وإمبراطور ألمانيا ورئيس الجمهورية الفرنسية وبقية ملوك وقياصرة أوربا. ولكن اعتذرت جميع هذه الحكومات عن التدخل مما أثار غضب الأتراك وحماستهم وجعلهم يصممون على مقاتلة الإيطاليين والدفاع عن ليبيا. وتحقيقاً لهذه الغاية قامت الدولة العثمانية بدعاية واسعة النطاق ضد إيطاليا في العالم العربي والإسلامي، طالبة المساعدة وتوحيد الصفوف تجاه هذا العدوان الصليبي الجديد الذي سيكتسح الإسلام ويزيل معالمه، وفعلاً تألفت الجمعيات المتعددة في مختلف الأقطار الإسلامية لمساعدة الدولة العثمانية في محنتها.
استولى الإيطاليون على طرابلس ودرنة ومصراته وطبرق، واستخدموا في الغزو قوات كبيرة برية وبحرية، ولما كان الغزو الإيطالي جاء مؤقتاً توقيتاً مناسبا بالنسبة لإنشغال الدولة العثمانية بشئون أخرى، فقد تمكن الإيطاليون نتيجة لذلك من التركز بسهولة على الساحل، وكانت الخطة الإيطالية تقضي بالاستيلاء على الساحل وفصله عن الداخل، ومنع وصول أية مساعدة لفلول الحاميات التركية المتبقية في ليبيا حتى تطلب التسليم ويضطر الليبيون نتيجة لذلك الخضوع للحكم الإيطالي. وتعهدت إيطاليا وهي في مستهل عملياتها العسكرية بسلامة الأجانب المقيمين في طرابلس وبرقة، كما أبلغت حصارها للسواحل الليبية لشتى القوى الأرضية.
ومن المؤكد أن بعض الدول على الرغم من أنها أظهرت حياداً تاماً بشأن هذه الحرب، إلا أنها كانت تساعد إيطاليا في احتلالها لليبيا، ومن هذه الدول فرنسا وإنجلترا، أما ألمانيا فبالنظر إلى محالفتها لإيطاليا وصداقتها للدولة العثمانية فإنها كانت أميل إلى عرض وساطتها في هذه الأزمة باعتبارها صديقة للطرفين. وعلى الرغم من أن إيطاليا قدرت المدة اللازمة لتسليم خمسة عشر يوماً، إلا أن هذه الأيام المعدودة امتدت سنوات طويلة، إذ صادف التقدم الإيطالي من الساحل إلى الداخل عقبات شتى، وحاولت إيطاليا نتيجة لذلك إرضاء الباب العالي بتقديم ترضية مالية مقابل تنازله عن هذه الولاية، ولكن الدولة العثمانية رفضت ذلك وشجعها على الوقوف في وجه إيطاليا هياج العالم الإسلامي، وعودة حركة الجامعة الإسلامية تشق مجراها من جديد بشكل أعنف مما كانت عليه.
صدى الاعتداء الإيطالي على ليبيا في العالم العربي والإسلامي :
ذلك أن العالم العربي والإسلامي اهتز نتيجة لقيام إيطاليا بهذا العدوان، ووجدت الدولة العثمانية إلتفافاً من ولاياتها حتى الولايات المنشقة عليها فقد أرسل الإمام يحيى رغم قيامه بالثورة إلى السلطان يعلن استعداده للقيام بمائة ألف جندي تحت قيادته، كما أبرق عبد العزيز آل سعود أمير نجد في ذلك الوقت إلى الباب العالي يقول: إن مقاطعة نجد تفتخر من كل جوارحها أنها مقاطعة عثمانية، وأن حميع القبائل التي تحت إمرته مستعدة للزحف في ظل الأعلام العثمانية إلى حيث تأمرهم الدولة العلية. كما وفد الكثيرون من شتى أنحاء العالم الإسلامي للتطوع في الجهاد في طرابلس، حتى بلغ عددهم أكثر من ستة عشر ألفاً في العام التالي لنشوب الحرب، كما تألفت لجان الإعانة وأرسلت البعثات الطبية إلى ميادين القتال.
ونشطت الصحافة إلى دعوة المسلمين لمساندة الدولة، وأن الوقت ليس وقت مطالبة بإصلاح ولامؤاخذة على إفساد، وإنما هو وقت لا يتسع إلا لشيء واحد، وهو تأمين الدولة ببذل الأموال والأرواح، وأن الولايات المتطلعة إلى اللامركزية ينبغي ألا تعجل في طلبها، لأن الدولة في الطريق إلى ذلك، والوقت وقت اتحاد واعتصام. كما حفلت الصحافة بدعوة المسلمين إلى إظهار شعورهم نحو دولة الخلافة بالقول والكتابة والمظاهرات والاحتجاج ومقاطعة التجارة الإيطالية، ومساعدة الدولة العثمانية بالمال والرجال، وأن أوروبا لن تبقي على شيء ما لم يتحد المسلمون ويتماسكوا.
ولقيت هذه الدعوة صدى بعيداً في العالم الإسلامي، فحفلت المعسكرات التركية في ليبيا بمجاهدين لا من برقة أو طرابلس، وإنما من المغرب والسودان ومصر والشام وأفغانستان، كما جاءت المساعدة أيضاً من تونس والجزائر رغم خضوعهما لفرنسا، إذ استجاب سكانهما للدعوة الإسلامية مكذبين هانوتو في زعمه أن فرنسا باحتلالها الجزائر وتونس نجحت في فصلهما عن جسم الملة الإسلامية، والواقع أنه كان للحملة الإيطالية تأثير كبير على مركز الإنجليز في البلاد الإسلامية الخاضعة لهم، ويفهم ذلك مما ذكره جيوليتي في خاطراته التي نشرها عن حياته عندما كان رئيساً لوزراء إيطاليا، أن إنجلترا ألحت عليه بالاتفاق كيفما كان مع تركيا إنهاءً لهذه الحرب التي أثارت جميع العالم الإسلامي، وردت الاحتجاجات على إنجلترا بشأنها ليس من الهند فحسب، وإنما من شتى بقاع العالم الإسلامي.
يتبع في الحلقة القادمة