حــرب الأستنزاف من يونيو 1967 حتى آخر 1970 .......!!!!
مقدمة
عندما خمدت نيران حرب 67، كان هناك عديد من اللقطات، تُظْهِر كل منها صورة متباينة عن الصور الأخرى. هذه الصور تعكس أبعاد الحرب ونتائجها، التي أطلق عليها تجاوزاً "النكسة".
فاللقطة الأولى هي صورة "الجندي التائه"، وهي مجموعة صور يمكن تخيلها من مطاردة طائرة مقاتلة إسرائيلية لجندي مصري منسحب فوق رمال سيناء حتى تصرعه، ومدى ما يشعر به هذا الجندي من بؤس حتى يلاقي ربه.
واللقطة الثانية هي "بانوراما" للضفة الغربية للقناة حيث يظهر شتات الجيش، الذي عاد منسحباً من سيناء، بعد أيام قلائل من دخولها في مظاهرة عسكرية حاشدة، بمساندة ضجة إعلامية غير مسبوقة. وتعكس هذه البانوراما مدى الانكسار وحجم الخسائر، التي مني بها الجيش المصري في سيناء.
واللقطة الثالثة "بانوراما" أيضاً ولكن للضفة الشرقية للقناة حيث يقف جنود إسرائيل، في صلف وغرور وزهو لا يمكن تصوره في الوقت الذي لا يعلم إلا الله نوايا قادتهم تجاه الضفة الأخرى للقناة. ويعلن وزير الدفاع الإسرائيلي في صورة درامية أرقام تليفونات مكتبه، ليتمكن القادة العرب من الاتصال به، ليتفضل عليهم بالسلام. وتمتد هذه اللقطة إلى داخل إسرائيل نفسها، لتجسم صورة النصر، التي لم تكن إسرائيل تحلم به أو تتصور أنه سيحدث على مدى تاريخها.
واللقطة الرابعة هي صورة صـغيرة للقيادة العامة للقوات المسلحة، فارغة من قادتها، ولا يظهر فيها المسؤول عن اتخاذ القرار.
والصورة الخامسة بانوراما لجماهير مصر وقد علا وجوههم ذهول الصدمة، وامتدت أبصارهم إلى آفاق المجهول.
والصـورة السادسة بانوراما أوسع تمثل الجماهير العربية، وتتباين فيها التعبيرات ما بين الذهول والتساؤل والشماتة والاستنكار.
والصورة السابعة من أروقة الأمم المتحدة حيث بعث "يوثانت" السكرتير العام للأمم المتحدة برسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر يقول فيها: "أرى أن تتذكروا حكمة بوذية تقول أن العظمة الحقيقية هي في المقدرة على احتمال المكاره".
واللقطة الثامنة من باريس حيث رسالة الرئيس ديجول إلى الرئيس جمال عبد الناصر يقول فيها: "إن النصر والهزيمة في المعارك، عوارض عابرة في تاريخ الأمم، وما يهم هو الإرادة. إن الشجاعة الحقيقية هي في مواجهة المحن، أمّا الأوقات السعيدة فإنها لا تستدعي هذه الشجاعة".
واللقطة التاسعة كانت من موسكو وهي رسالة القادة السوفييت التي تقول: "إننا ندرك خطورة الوضع الذي نشأ في بلادكم نتيجة للعدوان الإسرائيلي ومؤامرات الدول الاستعمارية.
ونحن مستعدون لبحث كل الخطوات المشتركة لحل جميع المشاكل الاقتصـادية والعسكرية في أي وقت ترونه..". واللقطة الأخيرة من واشنطن، في مبنى وزارة الخارجية الأمريكية، حيث انتظر عدد من السفراء العرب لقاءً مع الرئيس "جونسون"، الذي حضر إليهم ممسكاً بوثاق كلبه "بيجل". "وقبل أن يوجه إليهم أي كلمة بادر كلبه بحديث من طرف واحد، إذ قال له حرفياً "اسمع يا بيجل حكاية رجل شرير تشاجر مع جاره الطيب متصوراً أن هذا الجار الطيب لا يستطيع الرد عليه، ولكن الجار الطيب يا بيجل، استجمع كل قواه، ولكم جاره الشرير لكمة قوية طرحته على الأرض. له الحق يا بيجل. أليس كذلك؟ لماذا إذاً يحق لأصـحاب هذا الرجل الشرير أن يشكو للآخرين؟ ما هو رأيك يا بيجل؟". وطبعاً ظهر السفراء العرب، في الثلث الأخير من الصورة، وقد كاد أن يغمى عليهم.
وبعد رفض الشعب المصري والعربي للهزيمة، وبعد ثبات الموقف على كل الجبهات، وفي صباح يوم 11 يونيه 67، لخص وزير الحربية الموقف أمام الرئيس جمال عبد الناصر، وكان يتلخص في الآتي:
"الخسائر البشرية
"الخسائر البشرية حتى صدور قرار الانسحاب كانت لا تتعدى 300 شهيد، أمّا بعد ذلك فهناك 16 ألف ضابط وجنـدي ـ على الأقل ـ لا يُعرف مصيرهم في سيناء. والخسائر الأولية في المعدات لا تقل عن 900 مدفع، 700 دبابة، وثمانية آلاف سيارة، 170 طائرة. والموجود حالياً هو 85 طائرة (بعـد الإمـداد من الاتحـاد السوفيتي بعدد 46 طائرة). أمّا القوات البحرية فإن موقفها متماسك، ولا توجد بها خسائر مؤثرة. كذلك، توجد 60 دبابة تحمي الطريق بين السويس والقاهرة. أمّا وحدات الجيش، فإنها شتات يجري تصنيفها وإعادة تنظيمها حالياً في معسكرات تجميع غرب القناة.
وقد حدد الرئيس في هذا الاجتماع إستراتيجية المرحلة، والتي تلخصت في ثلاث نقاط:
إعادة التنظيم، وإنقاذ ما تبقى من الأوضاع في سيناء.
إعادة تقييم الموقف، والتشاور مع الأطراف المعنية لتوحيد الجهود.
إعادة البناء، والتخطيط للجهد المستقبلي.
وأصدر الرئيس أمراً بضرورة تجنب "الاستفزاز" على الجبهة، بأي ثمن، "حتى لا نعطي إسرائيل فرصة، كي تقوم باختراق إيقاف النيران والتأثير في المنشآت الاقتصادية والحيوية في مصر، وبما ينعكس مباشرة على الشعب المصري بعد وقفته الرافضة للعدوان بالأمس. كذلك، لتوفير فرصة مناسبة للقوات المسلحة لإعادة التنظيم والاضطلاع بمسئوليتها في الدفاع عن مصر وكان تشديد الرئيس على هذه النقطة قاطعاً، إلى درجة أنه طلب من وزير الحربية "أن يصدر أمراً يقضي بمحاكمة أي جندي يطلق النار من دون أوامر صادرة، عن ضرورة ملحة لإطلاق النار".
وقد شهدت هذه المرحلة عديداً من المتغيرات، على المستويات المختلفة، فرضت نفسها على أرض الواقع، وأثّرت وتأثّرت بقرارات قادة العالم وقادة المنطقة. وقد وجدت القيادة المصرية نفسها أمام التزام رئيسي، يتمثل في شن حرب الاسـتنزاف، الذي كان هو الممكن الوحيد في هذه المرحلة. وتتلخص المتغيرات في الآتي:
المتغيرات الداخلية
لم تأتي الحركة الجماهيرية للشعب المصري يومي 9،10 يونيه من فراغ، ولكنها كانت ردود فعل غاضبة للعديد من التفاعلات النفسية العنيفة في مقدمتها:
أولاً: رفض الهزيمة، التي لم تُؤهِّل الجماهير نفسها في أي لحظة لتقبلها.
ثانياً: رفض منطق إدارة الأزمة، ومطالبة القيادة السياسية بالوفاء بعهودها لتحقيق آمال الجماهير التي لم تتوانى في تقديم التضحيات من أجل مصر.
ثالثاً: رفض تصور حجم ما تكبدته القوات المسلحة من خسائر، وهي التي كانت في نظرها صاحبة الحل والعقد في مصير الدولة، وصاحبة الانتصارات في اليمن والتي قيل عنها أنها أقوى قوات مسلحة في الشرق الأوسط، وهي التي كانت تضع الشعوب العربية الآمال عليها في تحرير فلسطين.
لقد استعادت ذاكرة الشعب في تلك اللحظات بعض كلمات من خطاب الرئيس في مناسبة عيد الوحدة في 22 فبراير 67، إذ كان يعدد إنجازات الثورة في الخمسة عشر عاماً الماضية، ويؤكد أن:
"التقدم المصري نتيجة إنجازات الثورة، أصبح واضحاً للعيان وأن ميزانية الدولة تضاعفت أكثر من خمسة مرات، والدخل القومي زاد بنسبة 250 في المائة. والناتج القومي تضاعف، وتوفر لمصر إكتفاءً ذاتياً في معظم احتياجاتها. أمّا الزيادة في السكان التي ارتفعت بنسبة 50 % في خلال خمسة عشرة سنة، فإن الدولة تعتبر مسئولة عنها، وستوفر عمل لكل شاب. ولذلك، أقدمنا على بناء السد العالي، ليزيد من الرقعة الزراعية، كما حولنا الاقتصاد إلى اقتصاد مصري مائة في المائة".
واستمرت ذاكرة الجماهير تسترجع المواقف الأخيرة في تظاهرات الجيش، وفي كلمات الرئيس جمال عبدالناصر في نهاية مايو، وهو يعلن "أن طائراتنا مستعدة لتدمير أي نوايا عدوانية لأساطيل حلفاء إسرائيل". وتتصوره وهو يعلن في مؤتمره الصحفي أنه "أقوى من إيدن". وكل هذه التصورات كانت تزيد من آلام الشعوب العربية.
بدأت الشعوب العربية تتعرف على بعض التفاصيل التي أدت إلى الهزيمة، وشعرت أنها خدعت بإعلام موجه وغير مسئول. لذلك، اتجهت إلى الإعلام الخارجي لتصدم بحقائق لم تكن تتصورها، ويضاف إليها ما توجهه وسائل إعلام إسرائيل، وبعض الدول الغربية من حملات نفسية عنيفة، وقد أدى ذلك كله، في لحظة من اللحظات، إلى انفصام بين تلاحم الشعب والجيش، لفترة قليلة.
والذاكرة التاريخية المصرية حافلة بصور الغزو الاستعماري، وصور الكفاح ضد هذا الغزو، ومن تلك التجربة الرائدة كان الشعب المصري، وإلى جانبه الشعوب العربية تشعر بيقين لا يهتز أن هذه النكسة هي هزيمة عابرة، وتجربة قاسـية لا بد من التغلب عليها وإزالتها وعدم تكرارها بأي حال من الأحوال. وكان العرف السائد لدى الجميع أن الكبرياء القومي لا بد أن يسترد بالقتال ـ وليس من خلال سلام سياسي.
ولم يتوانى الشعب المصري منذ لحظة إعلان إيقاف النيران في السعي لاسترداد الأرض، وفي الثأر من الهزيمة، واستعادة الكرامة، وفي التعرف على الأسباب الحقيقية للنكسة، ومن هو المسئول عنها حتى ينال عقابه ومن هذا المنطلق تحمل الشعب الكثير. وتحمل جميع التضحيات، وهي على سبيل المثال وليس الحصر:
تحمل الشعب الإجراءات القاسية لتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد حرب، والذي استنزف حوالي 50 % من ميزانية الدولة، تخصص لإعادة بناء القوات المسلحة. وقد اعتمد التحول إلى اقتصاد حرب على عدة أسس أهمها:
الالتزام بتحقيق مطالب المجهود الحربي، وإزالة آثار العدوان.
وضع بدائل لخطة التنمية، على أن يُختار منها الخطط التي تتفق مع موارد واستخدام النقد المحلي والأجنبي.
استغلال الطاقات المحلية، كبديل عن الاستيراد لتوفير العملة الصعبة.
تطوير إستراتيجية استخدام العمالة والقوى البشرية، طبقا للظروف الحالية.
وقد نتج من هذه الخطة ـ كأي اقتصاد حرب ـ سلبيات عديدة تمثلت في آثار التضخم، ومن ثم الغلاء، وانخفاض جودة الإنتاج نتيجة لتفضيل الكم عن الكيف. وانتشار البطالة نتيجة لتوقف خطة التنمية، وتوقف الاستيراد وعدم توفر قطع غيار، ... إلخ.
أمدّ الشعب القوات المسلحة بخيرة الشباب المتعلم، الذي حقق طفرة علمية كبيرة نتيجة لاستيعابهم تكنولوجيا الأسلحة الحديثة، وإيمانـه بالتضحية في سبيل مصر، وإطلاق فكره في التعامل مع العدو بأساليب علمية وابتكارات حديثة تحقق تفوق المقاتل المصري على المقاتل الإسرائيلي.
أصر الشعب على تحقيق مبدأ "يد تبني. ويد تحمل السلاح"؛ فشهدت هذه المرحلة تحقيق العديد من المشـروعات القومية، في ظروف صعبة مثل استكمال بناء السد العالي، وإنشاء مصنع الألومنيوم في نجع حمادي، وإنتاج المصانع المصرية للعديد من متطلبات القوات المسلحة.
تقبل الشعب إجراءات تهجير سكان مدن القناة، وبعض المواطنين من سيناء تأميناً لهم من القصف العشوائي، الذي استخدمه الجيش الإسرائيلي، وقد ناهز عدد المهاجرين الثلاثة أرباع المليون علاوة على إحدى عشر ألف مواطن سينائي.
الشيء الوحيد الذي قاومته الجماهير بكل ما تملك، وأصرت على تحقيقه كان التمسك بموقفها في معاقبة المسئولين عن النكسة، وحقها في الاطمئنان على أن مسيرة إعادة البناء في القوات المسلحة تسير بأسس علمية سليمة. ومن خلال كل ذلك تستعجل قدوم يوم الثأر من العدو. وقد صاحب ذلك عدداً من الفورات الشـعبية. كانت بداياتها، في فبراير 1968، بعد إعلان الأحكام العسكرية الصادرة ضد بعض قـيادات الطيران، الذين بدأت محاكمتهم في 13 أكتوبر 1967، لأن الجماهير اعتبرت أن هذه الأحكام لا تتناسب مع حجم الكارثة. وطالبت بإعادة المحاكمة، واستجيب فعلا لهذا المطلب.
ثم تكررت هذه المظاهرات، واشتدت في الإسكندرية، خلال ديسمبر من العام نفسه احتجاجاً على بعض الأوضاع الداخلية. وظل الشارع المصري يضغط بضرورة الإسراع بتحرير الأرض، والثـأر من العدو، ويتابع بقلق زائد الاشتباكات المتكررة على جبهة القتال، ويفرح أشد الفرح عندما يتلقى أنباء عن تحقيق انتصارات مصرية، ويحزن أشد الحزن مع حدوث أي انتكاسة .. ويصر على تخطيها ويصمم على هدفه الرئيسي، وهو تحرير الأرض.
ولا شك أن الجماهير المصرية كانت لها ضغوطها على صانع القرار في جميع الأوقات، وأصبح للشعب رأياً عاماً يعبر عنـه بأساليبه المختلفة، إذ تتصاعد هذه الأساليب إلى قمـتها في بعض الأحيان، وتسير بمعدلات متوسطة سواء في هيئة تساؤلات أو انتقادات، وأقل هذه الأساليب كان يتمشى مع طبيعة الشعب المصري في إصدار "النكات" و "القفشات اللاذعة" التي تنتقد بعض القرارات.
يحى الشاعر
مقدمة
عندما خمدت نيران حرب 67، كان هناك عديد من اللقطات، تُظْهِر كل منها صورة متباينة عن الصور الأخرى. هذه الصور تعكس أبعاد الحرب ونتائجها، التي أطلق عليها تجاوزاً "النكسة".
فاللقطة الأولى هي صورة "الجندي التائه"، وهي مجموعة صور يمكن تخيلها من مطاردة طائرة مقاتلة إسرائيلية لجندي مصري منسحب فوق رمال سيناء حتى تصرعه، ومدى ما يشعر به هذا الجندي من بؤس حتى يلاقي ربه.
واللقطة الثانية هي "بانوراما" للضفة الغربية للقناة حيث يظهر شتات الجيش، الذي عاد منسحباً من سيناء، بعد أيام قلائل من دخولها في مظاهرة عسكرية حاشدة، بمساندة ضجة إعلامية غير مسبوقة. وتعكس هذه البانوراما مدى الانكسار وحجم الخسائر، التي مني بها الجيش المصري في سيناء.
واللقطة الثالثة "بانوراما" أيضاً ولكن للضفة الشرقية للقناة حيث يقف جنود إسرائيل، في صلف وغرور وزهو لا يمكن تصوره في الوقت الذي لا يعلم إلا الله نوايا قادتهم تجاه الضفة الأخرى للقناة. ويعلن وزير الدفاع الإسرائيلي في صورة درامية أرقام تليفونات مكتبه، ليتمكن القادة العرب من الاتصال به، ليتفضل عليهم بالسلام. وتمتد هذه اللقطة إلى داخل إسرائيل نفسها، لتجسم صورة النصر، التي لم تكن إسرائيل تحلم به أو تتصور أنه سيحدث على مدى تاريخها.
واللقطة الرابعة هي صورة صـغيرة للقيادة العامة للقوات المسلحة، فارغة من قادتها، ولا يظهر فيها المسؤول عن اتخاذ القرار.
والصورة الخامسة بانوراما لجماهير مصر وقد علا وجوههم ذهول الصدمة، وامتدت أبصارهم إلى آفاق المجهول.
والصـورة السادسة بانوراما أوسع تمثل الجماهير العربية، وتتباين فيها التعبيرات ما بين الذهول والتساؤل والشماتة والاستنكار.
والصورة السابعة من أروقة الأمم المتحدة حيث بعث "يوثانت" السكرتير العام للأمم المتحدة برسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر يقول فيها: "أرى أن تتذكروا حكمة بوذية تقول أن العظمة الحقيقية هي في المقدرة على احتمال المكاره".
واللقطة الثامنة من باريس حيث رسالة الرئيس ديجول إلى الرئيس جمال عبد الناصر يقول فيها: "إن النصر والهزيمة في المعارك، عوارض عابرة في تاريخ الأمم، وما يهم هو الإرادة. إن الشجاعة الحقيقية هي في مواجهة المحن، أمّا الأوقات السعيدة فإنها لا تستدعي هذه الشجاعة".
واللقطة التاسعة كانت من موسكو وهي رسالة القادة السوفييت التي تقول: "إننا ندرك خطورة الوضع الذي نشأ في بلادكم نتيجة للعدوان الإسرائيلي ومؤامرات الدول الاستعمارية.
ونحن مستعدون لبحث كل الخطوات المشتركة لحل جميع المشاكل الاقتصـادية والعسكرية في أي وقت ترونه..". واللقطة الأخيرة من واشنطن، في مبنى وزارة الخارجية الأمريكية، حيث انتظر عدد من السفراء العرب لقاءً مع الرئيس "جونسون"، الذي حضر إليهم ممسكاً بوثاق كلبه "بيجل". "وقبل أن يوجه إليهم أي كلمة بادر كلبه بحديث من طرف واحد، إذ قال له حرفياً "اسمع يا بيجل حكاية رجل شرير تشاجر مع جاره الطيب متصوراً أن هذا الجار الطيب لا يستطيع الرد عليه، ولكن الجار الطيب يا بيجل، استجمع كل قواه، ولكم جاره الشرير لكمة قوية طرحته على الأرض. له الحق يا بيجل. أليس كذلك؟ لماذا إذاً يحق لأصـحاب هذا الرجل الشرير أن يشكو للآخرين؟ ما هو رأيك يا بيجل؟". وطبعاً ظهر السفراء العرب، في الثلث الأخير من الصورة، وقد كاد أن يغمى عليهم.
وبعد رفض الشعب المصري والعربي للهزيمة، وبعد ثبات الموقف على كل الجبهات، وفي صباح يوم 11 يونيه 67، لخص وزير الحربية الموقف أمام الرئيس جمال عبد الناصر، وكان يتلخص في الآتي:
"الخسائر البشرية
"الخسائر البشرية حتى صدور قرار الانسحاب كانت لا تتعدى 300 شهيد، أمّا بعد ذلك فهناك 16 ألف ضابط وجنـدي ـ على الأقل ـ لا يُعرف مصيرهم في سيناء. والخسائر الأولية في المعدات لا تقل عن 900 مدفع، 700 دبابة، وثمانية آلاف سيارة، 170 طائرة. والموجود حالياً هو 85 طائرة (بعـد الإمـداد من الاتحـاد السوفيتي بعدد 46 طائرة). أمّا القوات البحرية فإن موقفها متماسك، ولا توجد بها خسائر مؤثرة. كذلك، توجد 60 دبابة تحمي الطريق بين السويس والقاهرة. أمّا وحدات الجيش، فإنها شتات يجري تصنيفها وإعادة تنظيمها حالياً في معسكرات تجميع غرب القناة.
وقد حدد الرئيس في هذا الاجتماع إستراتيجية المرحلة، والتي تلخصت في ثلاث نقاط:
إعادة التنظيم، وإنقاذ ما تبقى من الأوضاع في سيناء.
إعادة تقييم الموقف، والتشاور مع الأطراف المعنية لتوحيد الجهود.
إعادة البناء، والتخطيط للجهد المستقبلي.
وأصدر الرئيس أمراً بضرورة تجنب "الاستفزاز" على الجبهة، بأي ثمن، "حتى لا نعطي إسرائيل فرصة، كي تقوم باختراق إيقاف النيران والتأثير في المنشآت الاقتصادية والحيوية في مصر، وبما ينعكس مباشرة على الشعب المصري بعد وقفته الرافضة للعدوان بالأمس. كذلك، لتوفير فرصة مناسبة للقوات المسلحة لإعادة التنظيم والاضطلاع بمسئوليتها في الدفاع عن مصر وكان تشديد الرئيس على هذه النقطة قاطعاً، إلى درجة أنه طلب من وزير الحربية "أن يصدر أمراً يقضي بمحاكمة أي جندي يطلق النار من دون أوامر صادرة، عن ضرورة ملحة لإطلاق النار".
وقد شهدت هذه المرحلة عديداً من المتغيرات، على المستويات المختلفة، فرضت نفسها على أرض الواقع، وأثّرت وتأثّرت بقرارات قادة العالم وقادة المنطقة. وقد وجدت القيادة المصرية نفسها أمام التزام رئيسي، يتمثل في شن حرب الاسـتنزاف، الذي كان هو الممكن الوحيد في هذه المرحلة. وتتلخص المتغيرات في الآتي:
المتغيرات الداخلية
لم تأتي الحركة الجماهيرية للشعب المصري يومي 9،10 يونيه من فراغ، ولكنها كانت ردود فعل غاضبة للعديد من التفاعلات النفسية العنيفة في مقدمتها:
أولاً: رفض الهزيمة، التي لم تُؤهِّل الجماهير نفسها في أي لحظة لتقبلها.
ثانياً: رفض منطق إدارة الأزمة، ومطالبة القيادة السياسية بالوفاء بعهودها لتحقيق آمال الجماهير التي لم تتوانى في تقديم التضحيات من أجل مصر.
ثالثاً: رفض تصور حجم ما تكبدته القوات المسلحة من خسائر، وهي التي كانت في نظرها صاحبة الحل والعقد في مصير الدولة، وصاحبة الانتصارات في اليمن والتي قيل عنها أنها أقوى قوات مسلحة في الشرق الأوسط، وهي التي كانت تضع الشعوب العربية الآمال عليها في تحرير فلسطين.
لقد استعادت ذاكرة الشعب في تلك اللحظات بعض كلمات من خطاب الرئيس في مناسبة عيد الوحدة في 22 فبراير 67، إذ كان يعدد إنجازات الثورة في الخمسة عشر عاماً الماضية، ويؤكد أن:
"التقدم المصري نتيجة إنجازات الثورة، أصبح واضحاً للعيان وأن ميزانية الدولة تضاعفت أكثر من خمسة مرات، والدخل القومي زاد بنسبة 250 في المائة. والناتج القومي تضاعف، وتوفر لمصر إكتفاءً ذاتياً في معظم احتياجاتها. أمّا الزيادة في السكان التي ارتفعت بنسبة 50 % في خلال خمسة عشرة سنة، فإن الدولة تعتبر مسئولة عنها، وستوفر عمل لكل شاب. ولذلك، أقدمنا على بناء السد العالي، ليزيد من الرقعة الزراعية، كما حولنا الاقتصاد إلى اقتصاد مصري مائة في المائة".
واستمرت ذاكرة الجماهير تسترجع المواقف الأخيرة في تظاهرات الجيش، وفي كلمات الرئيس جمال عبدالناصر في نهاية مايو، وهو يعلن "أن طائراتنا مستعدة لتدمير أي نوايا عدوانية لأساطيل حلفاء إسرائيل". وتتصوره وهو يعلن في مؤتمره الصحفي أنه "أقوى من إيدن". وكل هذه التصورات كانت تزيد من آلام الشعوب العربية.
بدأت الشعوب العربية تتعرف على بعض التفاصيل التي أدت إلى الهزيمة، وشعرت أنها خدعت بإعلام موجه وغير مسئول. لذلك، اتجهت إلى الإعلام الخارجي لتصدم بحقائق لم تكن تتصورها، ويضاف إليها ما توجهه وسائل إعلام إسرائيل، وبعض الدول الغربية من حملات نفسية عنيفة، وقد أدى ذلك كله، في لحظة من اللحظات، إلى انفصام بين تلاحم الشعب والجيش، لفترة قليلة.
والذاكرة التاريخية المصرية حافلة بصور الغزو الاستعماري، وصور الكفاح ضد هذا الغزو، ومن تلك التجربة الرائدة كان الشعب المصري، وإلى جانبه الشعوب العربية تشعر بيقين لا يهتز أن هذه النكسة هي هزيمة عابرة، وتجربة قاسـية لا بد من التغلب عليها وإزالتها وعدم تكرارها بأي حال من الأحوال. وكان العرف السائد لدى الجميع أن الكبرياء القومي لا بد أن يسترد بالقتال ـ وليس من خلال سلام سياسي.
ولم يتوانى الشعب المصري منذ لحظة إعلان إيقاف النيران في السعي لاسترداد الأرض، وفي الثأر من الهزيمة، واستعادة الكرامة، وفي التعرف على الأسباب الحقيقية للنكسة، ومن هو المسئول عنها حتى ينال عقابه ومن هذا المنطلق تحمل الشعب الكثير. وتحمل جميع التضحيات، وهي على سبيل المثال وليس الحصر:
تحمل الشعب الإجراءات القاسية لتحويل الاقتصاد إلى اقتصاد حرب، والذي استنزف حوالي 50 % من ميزانية الدولة، تخصص لإعادة بناء القوات المسلحة. وقد اعتمد التحول إلى اقتصاد حرب على عدة أسس أهمها:
الالتزام بتحقيق مطالب المجهود الحربي، وإزالة آثار العدوان.
وضع بدائل لخطة التنمية، على أن يُختار منها الخطط التي تتفق مع موارد واستخدام النقد المحلي والأجنبي.
استغلال الطاقات المحلية، كبديل عن الاستيراد لتوفير العملة الصعبة.
تطوير إستراتيجية استخدام العمالة والقوى البشرية، طبقا للظروف الحالية.
وقد نتج من هذه الخطة ـ كأي اقتصاد حرب ـ سلبيات عديدة تمثلت في آثار التضخم، ومن ثم الغلاء، وانخفاض جودة الإنتاج نتيجة لتفضيل الكم عن الكيف. وانتشار البطالة نتيجة لتوقف خطة التنمية، وتوقف الاستيراد وعدم توفر قطع غيار، ... إلخ.
أمدّ الشعب القوات المسلحة بخيرة الشباب المتعلم، الذي حقق طفرة علمية كبيرة نتيجة لاستيعابهم تكنولوجيا الأسلحة الحديثة، وإيمانـه بالتضحية في سبيل مصر، وإطلاق فكره في التعامل مع العدو بأساليب علمية وابتكارات حديثة تحقق تفوق المقاتل المصري على المقاتل الإسرائيلي.
أصر الشعب على تحقيق مبدأ "يد تبني. ويد تحمل السلاح"؛ فشهدت هذه المرحلة تحقيق العديد من المشـروعات القومية، في ظروف صعبة مثل استكمال بناء السد العالي، وإنشاء مصنع الألومنيوم في نجع حمادي، وإنتاج المصانع المصرية للعديد من متطلبات القوات المسلحة.
تقبل الشعب إجراءات تهجير سكان مدن القناة، وبعض المواطنين من سيناء تأميناً لهم من القصف العشوائي، الذي استخدمه الجيش الإسرائيلي، وقد ناهز عدد المهاجرين الثلاثة أرباع المليون علاوة على إحدى عشر ألف مواطن سينائي.
الشيء الوحيد الذي قاومته الجماهير بكل ما تملك، وأصرت على تحقيقه كان التمسك بموقفها في معاقبة المسئولين عن النكسة، وحقها في الاطمئنان على أن مسيرة إعادة البناء في القوات المسلحة تسير بأسس علمية سليمة. ومن خلال كل ذلك تستعجل قدوم يوم الثأر من العدو. وقد صاحب ذلك عدداً من الفورات الشـعبية. كانت بداياتها، في فبراير 1968، بعد إعلان الأحكام العسكرية الصادرة ضد بعض قـيادات الطيران، الذين بدأت محاكمتهم في 13 أكتوبر 1967، لأن الجماهير اعتبرت أن هذه الأحكام لا تتناسب مع حجم الكارثة. وطالبت بإعادة المحاكمة، واستجيب فعلا لهذا المطلب.
ثم تكررت هذه المظاهرات، واشتدت في الإسكندرية، خلال ديسمبر من العام نفسه احتجاجاً على بعض الأوضاع الداخلية. وظل الشارع المصري يضغط بضرورة الإسراع بتحرير الأرض، والثـأر من العدو، ويتابع بقلق زائد الاشتباكات المتكررة على جبهة القتال، ويفرح أشد الفرح عندما يتلقى أنباء عن تحقيق انتصارات مصرية، ويحزن أشد الحزن مع حدوث أي انتكاسة .. ويصر على تخطيها ويصمم على هدفه الرئيسي، وهو تحرير الأرض.
ولا شك أن الجماهير المصرية كانت لها ضغوطها على صانع القرار في جميع الأوقات، وأصبح للشعب رأياً عاماً يعبر عنـه بأساليبه المختلفة، إذ تتصاعد هذه الأساليب إلى قمـتها في بعض الأحيان، وتسير بمعدلات متوسطة سواء في هيئة تساؤلات أو انتقادات، وأقل هذه الأساليب كان يتمشى مع طبيعة الشعب المصري في إصدار "النكات" و "القفشات اللاذعة" التي تنتقد بعض القرارات.
يحى الشاعر