تجارب حروب ما قبل الحرب الكبرى
هناك ثمة مقولة شائعة في مجال الحديث عن الحروب ويتم التعبير عنها بالكلمات التالية: :diablo2[1]:"تبدأ كل حرب من حيث انتهت الحرب السابقة لها".:diablo2[1]: ويعني ذلك ان تاريخ فن الحرب يشكل سلسلة مترابطة العرى، وثيقة اتصال حلقات بعضها ببعض، وبالتالي فان الحروب الصغرى التي تسبق كل حرب كبرى، لا يمكن التعامل معها الا بأنها جزء اساسي في تكوين الحرب الكبرى. ولقد تميز القرن الماضي القرن العشرين بأنه قرن الحروب: التي تم فيها الانتقال من عصر الحروب المحدودة الى عصر الحروب العالمية، ومن عصر حروب الاسلحة التقليدية الى عصر النار النووية او اسلحة الدمار الشامل. وبذلك عرفت شعوب الارض جميعاً ما حملته تحولات الحربين العالميتين الأولى ١٩١٤ - ١٩١٨ والعالمية الثانية ١٩٣٩ - ١٩٤٥ وكانت نتائج الحروب المحدودة بمثابة تأكيد لحقيقة ان هذه الطائفة من الحروب ليست مجرد مختبرات للأسلحة والتقانة، وانما هي اختبار لكل مكونات الحرب: سياسياً واقتصادياً وعسكريا واجتماعياً الخ... وهذا هو ما يطرح السؤال التالي: "ما هي الابعاد المتوقعة لتجارب الحروب الحديثة والمحدودة"؟
- عالم ما بعد الثورة الصناعية
بدأت الثورة الصناعية بالتحرك خلال سنوات النصف الثاني من القرن الثامن عشر وذلك مع ظهور الآلة البخارية ذات القدرة الهائلة - في ذلك الحين - والتي كانت تقاس قوتها بالحصان البخاري - وهو ما يعادل قوة خمسة عشر رجلاً قوياً... وفي العام ١٧٦٩ تقدم الاسكتلندي جيمس وات ١٧٣٦ - ١٨١٩ بطلب لتسجيل براءة اختراع آلته البخارية المحسنة. وبدأت التطورات المتسارعة والناتجة عن هذا الاختراع لتشمل كل مجالات الحياة - فقد واكب ظهور الآلة البخارية تطور في علم الميكانيك وفي تحول المجتمعات من العمل الزراعي الى العمل الصناعي. وأصبح للفحم الحجري ومناجمه واحواضه في المانيا اكروهر وفي فرنسا ليل وفي انكلترا البلاد السوداء وفي كل البلاد التي سارعت اي دخول دائرة السباق المحموم في الثورة الصناعية. وكان الماء والهواء هما مصدر الطاقة البخارية. وفي العام ١٨٢٤ تعرض كبار رجال الساسة للنتائج الأولى للثورة الصناعية - فتحدث اللورد كوشران - الذي اصبح بعد ذلك يحمل لقب الكونت دونالد العاشر امام مجلس العموم بالقول: "لولا استخدام الآلات في الوقت المناسب لكان من المحتمل ان تتعرض انكلترا للدمار الكامل.
لقد حدثت تغيرات كبيرة جداً بين العام ١٧٨٥ و١٨٢٤. ففي خلال الألفي عام من التاريخ المسجل، لم تحدث ثورة في العادات والأفكار والمعتقدات بمثل هذه السرعة الفورية. وتوقع رجال الفكر والأدب والفن والساسة والحرب ان تنعكس هذه الثورة الصناعية ونتائجها على تطور فن الحرب والتسلح وسياسات الحروب ومن ذلك ما سجله الشاعر والرسام البريطاني ويليام بليك ١٧٥٧ - ١٨٢٧ على لوحته التي صورت الاسقف طروادة وولديه وحولهم الحيتان التي تحاول ابتلاعهم، فكتب في اسفل اللوحة نبوءته قائلاً: "حيثما تقوم الافكار والآراء على المال، لا يقوم الفن وعندما ينحط الفن، ويختفي الخيال، تسيطر الحرب على الأمم". ويظهر ذلك ما ظهر من اختلاف ومن تباين في مواقف الناس من كل تحول جديد يحدث تغييرات في العلاقات المعهودة والتي اخذت شكل علاقات سلوكية وممارسات عادية. ولكن كل الانتقادات وكل المقاومات لم تتمكن من تغيير مسارات الآلة البخارية فتسارعت التطورات.
وفي سنة ١٧٨٣ تمت صناعة وتجربة اول منطاد يركبه الرجال، وفي ٧ كانون الثاني"يناير ١٧٨٤، تم عبور المانش بواسطة منطاد وتبع ذلك بتشكيل وتنظيم مدرسة للملاحة الجوية. وفي ١٦ حزيران"يونيو ١٧٩٤ في فرنسا وبدأ التفكير في استخدام هذا الانجاز في الاغراض العسكرية، فتم اطلاق اربعة مناطيد لاستطلاع المواقع النمساويية قبل معركة فاوروس الفرنسية - النمساوية. وكان ذلك هو البدايات المبكرة لاستخددام الفضاء للأغراض العسكرية.
وكذلك استخدمت المراكب البحرية البخارية منذ العام ١٧٧٥ عندما اخترع الاميركي جيمس رمسي اول مركب يعمل بقوة البخار ولم تكن اسلحة المشاة وبخاصة الاسلحة النارية وهي المدفع والرشاش والبارودة، مع تطوير ذخائر هذه الأسلحة، الى جانب تطوير الاسلحة الصاروخية. حيث استخدمت الصواريخ للمرة الأولى في الأعمال القتالية في حصار بولوني سنة ١٨٠٦ وتتحدث المصادر التاريخية عن هذه التجربة بالقول: "تم احراق المدينة في اقل من عشرة دقائق، بعد اطلاق الصلية او الرشقة الأولى منها" و"كانت سحابة من الصواريخ تسقط كالأمطار باستمرار طوال مدة الهجوم"، و"ان الصاروخ هو بحق سلاح يمكن له تعديل كل اسلوب التكتيك العسكري، وقد يصبح السلاح الرئيسي، وسيكون له اثر هائل على مصير العالم.
كذذلك اخترع الاميركي داود بوشنيل اول غواصة في سنة ١٧٧٦ وتمت تجربة اول مدفع رشاش بخاري بركينز في ٩ كانون الاول"ديسمبر ١٨٢٥ وكتبت صحيفة لندنية عن هذه التجربة ما يلي: "ان هذا المدفع - بركينز - يرمي الف رصاصة في الدقيقة، وقد اخترقت لوحة حديدية سمكها ستة ميلليمترات ان هذا النوع من العبقرية البشرية والقوة المدمرة، يعلن عن بدء عصر من السلام العالمي، لأنه ليس هناك من شعب يستطيع تعويض الخسائر التي تسببها هذه الآلات التدميرية. وكان من اهم الاختراعات وأكثرها تأثيراً في الأعمال القتالية اختراع القاطرات التي تسير على الخطوط الحديدية، وقد استخدمت في انكلترا منذ العام ١٨١٢ لنقل الفحم الحجري. وفي العام ١٨٢٥، انتشرت الخطوط الحديدية في معظم ارجاء اوروبا فرنسا وانكلترا والمانيا بخاصة.
لقد تحدث البارون الفرنسي الجنرال جوميني ١٧٧٩ - ١٨٦٩ في كتابه موجز من الحرب ما يلي: "يبدو ان الاختراعات الجديدة التي حدثت خلال عشرين عاماً ١٨٣٦ - ١٨٥٦ تهددنا بثورة كبرى في تنظيم الجيوش وتسليحها واساليبها التكتيكية، ان وسائل التدمير تتحسن وتتقدم بشكل مرعب. واذا لم يعقد الحكام مؤتمراً لتحريم هذه الاختراعات المدمرة والقاتلة، فانه لن يكون امامنا اي سبيل الا تشكيل نصف الجيوش من الخيالة المدرعة التي تستطيع القضاء على هذه الاسلحة بأقصى سرعة الخ.
هنا لا بد من التوقف عند ظاهرتين في حملة ظواهر الثورة الصناعية وافقها العسكري. اولاهما ان احداث الثورة الصناعية لم تتوقف عند حدود بلد واحد او قارة واحدة فمن طوكيو الى موسكو وواشنطن، غير ان الأقطار الاوروبية المتنافسة اقتصادياً وصناعياً حصلت على الرصيد الاكبر في ميدان سباق التسلح والتقانة فكان من طبيعة الامور ان تحصل ايضاً على الرصيد الاكبر في مجال الحروب ومن اهمها الحروب النابوليونية ١٧٩٧ - ١٨١٥ وحرب القرم ١٨٥٠ - ١٨٥٤ والحروب البروسية النمساوية والفرنسية ١٨٥٦ - ١٨٧٠.
الظاهرة الثانية كانت بتفجر الثورة الصناعية في كل الاقطار الصناعية فكانت اختراعاتها متقاربة وشبه موحدة. وكانت تلك الخطوط المبكرة والواعدة بالنظام العالمي الجديد. القائم على سيطرة الصناعة وتعاظم دور الثروات الاقتصادية والتطورات الاجتماعية عندما تفجرت الحرب العالمية الاولى كانت الحروب الصغرى التي سبقتها هي التي اعدت للحرب عدتها الاساسية الاحلاف والتكتلات والسياسية والعسكرية، والاسلحة المتطورة، والجيوش الضخمة. ونظراً للتماثل والتقارب في التسلح والتقانة فقد تشكلت ظاهرة الممانعة في توازن القدرات النارية، وجابهت الحرب على ساحة اوروبا مأزقاً صعباً تمثل بجمود القدرة الحركية، وجاءت نهاية الحرب حاملة معها الحلول التي كان من اهمها:
١ - ربط الاعمال القتالية بمخططات هدفها تدمير القدرة المادية والمعنوية للخصم عبر تدمير وتمزيق جبهته الداخلية وهو ما ادى الى انهيار الامبراطوريات القديمة روسيا والنمسا والدولة العثمانية والأمبراطورية الالمانية.
٢ - تطور القدرات الحركية للجيوش البرية والبحرية والجوية باختراع وتطوير الطائرات والمدرعات والاساطيل البحرية، وكانت حروب ما بين الحروب العالميتين الاولى والثانية هي مختبرات هذه الاسلحة التي قدمت للحرب العالمية الثانية القدرات القتالية المتكاملة النار والحركة والصدمة. وحصلت المانيا على قصب السبق في تنظيم الحرب وادارتها، فكان من ابداعاتها التي شكلت فن الحرب الحديث استخدام الفضاء لنقل القوات ودعمها بالنيران من القوات الجوية، وكذلك استخدام الدروع لتشكيل الصدمة بكتلها الكبيرة، وتنويع مصادر النيران فأمكن للقيادة الالمانية وضع اسس المعركة الحديثة للأسلحة المشتركة. وسرعان ما عملت كل الجيوش المتحاربة على الافادة من التجربة الالمانية واستخلاص الدروس لتطوير جيوشها.
تجارب قبل الحرب الاولى
عرفت الاقطار الاوروبية خصوصا مجموعة كبيرة من الحروب والمعارك البرية والبحرية والتي اكتسبت شهرة عالمية بسبب اقترانها بتطور التسلح والتقانة وتطور الجيوش ذاتها في تنظيمها وفي اساليبها بخوض المعارك من الناحيتين التكتيكية والعمليات. كما عرفت معظم شعوب الارض انواع الحروب الثورية. والصراع بين الجيوش القديمة والجيوش الحديثة، وبذلك تطور فن الحرب. وقد يكون من المناسب اختيار بعض الحروب - مما سبق الحرب العالمية الاولى او الحرب الوطنية العظمى ١٩٠٤ - ١٩١٨. والتي كان من اكثرها شهرة حرب البوير في جنوب افريقيا ١٨٩٩ - ١٩٠٢ والحرب الروسية - اليابانية ١٩٤ - ١٩٠٥. ولقد وقعت حرب البوير عندما شرعت بريطانيا في تنفيذ خطتها لاحتلال جمهوريتين صغيرتين في جنوب افريقيا هما الترانسفال واورانجي وبعد ان تم فيهما اكتشاف وجود كميات كبيرة من الذهب والالماس. وكان يطلق على هاتين المنطقتين اسم البوير وهم احفاد المهاجرين من الهولنديين والفرنسيين وغيرهم من الاوروبيين الذين تملكوا مساحات واسعة من الاراضي في القرن السابع عشر، وكانوا يعيشون على زراعتها وعلى تربية المواشي فيها. وكان هؤلاء البوير قد نظموا للدفاع عن انفسهم وممتلكاتهم قوات من الشرطة والامن وصل عدد افرادها عشية الحرب الى حوالي ستين الف رجل. وهم مسلحون بالبنادق البواريد ذات الرمي السريع ولها مخزن ويصل مداها حتى ثلاثة كيلومترات، وبعض المدافع ذات الرمي السريع ولها مخزن ويصل مداها حتى ثلاثة كيلومترات، وبعض المدافع ذات الرمي السريع، وكانت هذه القوات ذات كفاءة قتالية عالية، ولديها معرفة بالطبيعة الجغرافية للبلاد. وتتقن اعمال الاخفاء والتمويه والخداع. فكانت اساليبهم القتالية تعتمد على الاغارات والكمائن والضربات السريعة وتجنب الصدام بخوض معارك جبهة كبرى. ومقابل ذلك عملت بريطانيا في العام ١٩٠٠ على زج ٢٠٠ الف جندي. وامكن لهم احتلال الترانسفال واورانجي مستفيدين من تفوقهم المادي في القوى والوسائط القتالية، فاستولوا على مساحة مليون ومائة الف كيلومتر مربع من الاراضي. ولكن الحرب بدأت عندما ظن قادة الحرب الريطانيين انهم انجزوا مهمتهم. وهو ما كان يعتقده البريطانيون. وعبرت عنه صحيفة ستاندرد - اللندنية يوم ٩ تشرين الاول - اكتوبر - ١٨٩٩ اي قبل يومين من بدء الحرب - فكتبت ما يلي: "ماذا تأمل عصابة من القوات غير النظامية، وذات التدريب الضعيف ضد مثل هذا الجيش من حملة الحراب والسيوف والمدافع"... ولكن هذه القوات غير النظامية - البوير - جابهت قوات نظامية غير مؤهلة لخوض حرب في مناطق صعبة - وهذا ما عبر عنه ماريشال فرنسا فوش بقوله "ان هذه الحرب لم تكن حربا بين الرصاصة والحربة فقط، بل كانت حرب اختبار بين الجندي المدرب على المناورة كالالة وبين المحارب المسلح ببندقية ويعمل من تلقاء بديهته. فقد اعلنت الحرب تبعا لصيغ جامدة، ضد قوات تمتلك الاحساس السليم والقوي وتخوض معاركها طوعا وبدون اكراه". وهكذا استمرت الحرب: ووقعت معارك كثيرة. وكان للاسلحة النارية دورها الحاسم في الوصول بالحرب الى نهايتها بانتصار الجيوش البريطانية.
جاءت بعد ذلك الحرب الروسية اليابانية ١٩٠٤ - ١٩٥ لتقدم النموذج الاكثر وضوحا والافضل تطورا على طريق الحرب العالمية. ذلك لانها وقعت بين جيوش دولتين اسيويتين كبيرتين، وفي اطار حروب المنافسة الاستعمارية. اذ كانت روسيا قد وسعت حدودها نحو الشرق، واخذت في الاعداد لضم كوريا ومنشوديا الى اراضيها - وشرعت في انهاء تمديد خط الحديد - واجراء الاصلاحات عند بحيرة بايكال. وقررت الحكومة اليابانية احباط هذا المشروع الذي كان يشكل ازعاجا لكل من اميركا وبريطانيا اللتين لم تكن لديهما الرغبة في افساح المجال للاساطيل الروسية وللقوات الروسية في الوصول الى الشرق الاسيوي.
اعلنت الحرب رسميا يوم ١٩ شباط - فبراير - ١٩٠٤ وتضمنت الخطة اليابانية ما يلي:
اولا - حصار خليج بورت ارثر، وتدمير الاسطول الروسي بضربة بحرية مباغتة.
ثانيا - توجيه وزج القوات البرية اليابانية لخوض معارك سريعة وحاسمة، في الفترة من ٢٣ شباط - فبراير حتى ١٠ - اذار - مارس ١٩٠٥. وامكن للقوات اليابانية في هذه المعارك تحقيق انتصارات حاسمة من اهمها معركة مولان.
ثالثا - تدمير الاسطول الروسي في البلطيق عند مضيق تسوشيما في يوم ٢٧ ايار - مايو ١٩٠٥. وامكن لليابانيين تحقيق انتصارات في كل معاركهم. وقدمت لها اميركا وانكلترا دعما بحريا. وانعكست هذه الهزائم على الجبهة الداخلية الروسية فتم اغتيال عدد من حكام روسيا مع وقوع عصيان ارغم روسيا القيصر نيكولا الثاني ١٨٩٤ - ١٩١٨ لقبول وساطة اميركا لانهاء الحرب. وتم التوقيع على اتفاقية السلام بين روسيا واليابان يوم ٢٣ آب - اغسطس - ١٩٠٥. وتضمنت اخلاء منشوريا من القوات الروسية والتنازل عن شبه جزيرة لياو - تونغ لليابانيين وعن نصف جزيرة سخالين، والاعتراف لها بالنفوذ في كوريا.
جدير بالذكر ان الجيوش الروسية الثلاثة على جبهة منشوريا قد ضمت اكثر من ٣٠٠ الف جندي و ١٢٦٦ مدفع و ٥٦ رشاش. اما الجيش الياباني وكان يضم ٢٧٠ الف جندي و ١٠٦٢ مدفع و ٣٠٠ رشاش و ١٧٠ مركب حربي و ٢٦٢ مركب نقل. وكان الدرس الاول المستخلص من هذه الحرب هو اهمية التعاون بين الاساطيل البحرية والقوات البرية. وقد تضاعف حجم القوات الروسية اثناء الحرب - غير ان القدرة الحركية العالية للقوات اليابانية كانت تساعد على حرمان القوات الروسية. التي كان يتم نقلها بقطار وحيد. من حرية العمل. كذلك كان من اهم الدروس المستخلصة من هذه الحرب:
١ - فشل الهجمات الجبهية، ونجاح اعمال الالتفاف والتطويق.
٢ - القدرة الدفاعية الهائلة لخنادق الميدان والاسلاك الشائكة.
٣ - الدور المتعاظم للمدافع الرشاشة في احباط هجمات المشاة - وتدميرها.
٤ - تعاظم دور المدفعية ذات الرمي السريع.
٥ - اهمية تنظيم الامداد بالذخائر والقوات - وتشكيل القوات الاحتياطية.
العالمية الثانية والنار النووية
انطلقت الحرب العالمية الاولى من حيث انتهت اليه الحروب المحدودة في البوير وفي الحرب اليابانية - الروسية في مجال قدرات الاسلحة النارية او المدفع والرشاش والبارودة وفي مجال القدرات الحركية للجيوش النقل بالقطارات والخطوط الحديدية. ولكن الانتاج الكثيف للاسلحة والذخائر والذي قدمته الثورة الصناعية للجيوش قد فرض نتائج جديدة ايضا على فن الحرب وادارة الاعمال القتالية. اذ ان التوسع الكبير في حجم الجيوش، والزيادة الهائلة في القدرات النارية، قد شكل حالة من الممانعة بحيث لم يتمكن قادة الاطراف المتصارعة حسم الاعمال القتالية، وماتت الحركة على جبهات القتال. واصبح تحرك الجيوش على جبهات القتال يقاس بعدد قليل من الكيلومترات. وقد حاولت قيادات الجيوش المتحاربة الخروج من مأزق حرب الخنادق وجمود القدرة الحركية والتغلب على حالة الممانعة النارية. استخدام ثلاثة اسلحة جديدة هي: الحفازات الخانقة والدبابات والطائرا.
بدأ الالمان باستخدام الغازات القاتلة الكلور يوم ٢٢ نيسان - ابريل - ١٩١٥ - ثم استخدموا غاز الفوسجين والخردل في ١١ تموز - يوليو - ١٩١٧ وبلغ مجموع من اصيبوا بالغازات حوالي ٣٥٩ الفا من كل الجنسيات بمن فيهم من الاميركيين. اما بالنسبة للدبابات والطائرات ففي معركة السوم استخدم الحلفاء بريطانيا وفرنسا ولاول مرة حوالي ٣٥٠ طائرة للاستطلاع. والرمي بالنيران الرشاشات والقنابل. ومقابل ذلك استخدم الالمان ١٤ طائرة. وفي ١٥ - ايلول - سبتمبر - ١٩١٦ - استخدم البريطانيون الدبابات للمرة الاولى وكان عددها ٣٢ دبابة. وبعد ذلك زج الحلفاء فرنسا وبريطانيا هجومهم في قطاع ريمس - سواسون واستخدموا اربعة جيوش في الهجوم في شهر نيسان - ابريل - ١٩١٧ حوالي ٥٥٨٠ مدفعا و ٥٠٠ طائرة و ٣٠٠ دبابة واكثر من ٣٠ مليون قذيفة. وقام الحلفاءومعهم قوات اميركية بشن هجوم بيكاردي ثم معركة اميان الحاسمة يوم ٢١ - اذار - مارس - ١٩١٨ و ٨ اب اغسطس ١٩١٨ وامكن لهم زج ٦٢ فرقة واكثر من ستة الاف مدفع والف مدفع هاون و ٤٦٢ دبابة قتال والف طائرة.
لم تتمكن هذه الاسلحة الجديدة احداث تغييرات كبيرة على اراضي القتال. ولكن التغييرات الحاسمة جاءت عن طريق تخريب الجبهات الداخلية حيث استطاعت اعمال الدعاية والجاسوسية ان تفجر الحروب الداخلية والحروب الثورية فانهارت الامبراطورية العنصرية الروسية. وانهارت الامبراطورية الالمانية، وانهارت الامبراطورية النمساوية - الهنغارية - ولحقت بهم الامبراطورية العثمانية. وبذلك تحقق النصر لقوات الحلفاء. واذا كانت الاسلحة الجديدة الطائرة والدبابة من اهم انجازات الحرب فقد اصبح من المتوقع ان تشكل هذه البداية نقطة التحول في تطوير القدرات الحركية والقدرات النارية واسلحة الدمار الشامل. بالاضافة الى التوسع الكبير في تطوير القدرات البحرية الحربية.
جاءت تطورات الاسلحة مع نهاية الحرب العالمية الاولى لتفرض على قادة الحرب مشكلات جديدة ذات علاقة وثيقة باستخدام هذه الاسلحة في حروب المستقبل والتي يجب لها ان تستثمر قدرات الدبابات والطائرات في حرب الحركة او الحروب الهجومية، فالدبابة تمتلك قدرة حركية عالية وقدرة نار قوية علاوة على قدرة الصدمة. وكذلك هي قدرة الطائرة. ويضاف الى ذلك القدرات البحرية الجديدة التي افادت بدورها من القدرات المتوافرة للاسلحة الجديدة من اجل تطوير القدرات البحرية. وامام هذا الموقف، ظهر اختلاف في طرائق العمليات المناسبة لبلوغ هدف الحرب، وعلى سبيل المثال - فقد اشتهر جنرال ايطالي دوهيه بنظرية استخدام الطائرات لحسم الحرب - دونما حاجة لزج قوات برية "التي لم تعد هناك حاجة اليها في حروب المستقبل، فالطائرات وحدها تستطيع حسم الحرب بحسب نظريات دوهيه" وهو ما طبقته المانيا في قصف انكلترا اثناء المرحلة الاولى من الحرب العالمية، وهو ايضا ما طبقه الحلفاء في القصف الاستراتيجي لالمانيا في المرحلة الاخيرة من الحرب. فيما ظهرت نظريات متناقضة في استخدام الدبابات "مثل استخدامها متفرقة ولاغراض دفاعية، او استخدامها كتلة واحدة في اعمال هجومية" وكانت النظرية الالمانية بتعاون كل صنوف الاسلحة الحديثة هي النظرية التي برهنت على صحتها واهميتها والتي حملت اسم "المعركة الحديثة للاسلحة المشتركة" والتي اقتبستها كل جيوش العالم عن التجربة الالمانية التي حملت اسم الحرب الصاعقة - او الحرب الخاطفة.
لا بد هنا من الاشارة الى ان قادة المانيا الذين وضعوا نظريات الحرب الخاطفة ونفذوها بعد ذلك قد افادوا من مجموعة التجارب القتالية التي سبقت الحرب العالمية الثانية وكان من اهمها الحرب الاهلية الاسبانية ١٩٣٦ - ١٩٣٩ وكذلك الحرب الروسية - اليابانية في منغوليا سنة ١٩٣٩.
وقعت الحرب الاهلية الاسبانية بين قوتين اسبانيتين الاولى تحالف القوى اليسارية والاشتراكية والتي دعمتها قوات عسكرية بقيادة الجنرال مولا قائد قوات الجمهوريين وبين قوات اليمينيين وقوات من الجيش بقيادة الجنرال فرانكو. وقدم الاتحاد السوفياتي لقوات الثورة دعما قويا من الوية المتطوعين الدولية وخبراء ومدربين وطائرات وذخائر ومعدات فيما قدمت المانيا لقوات فرانكو دعما قويا - فقام سلاح الجو الالماني بارسال طائرات الجو نكر-٥٢ لنقل قوات فرانكو من المغرب ومن جزر الكاناري الى اسبانيا وضم جيش فرانكو ١٢٠ دبابة و٣٠٠ طائرة و٣٥ سفينة حربية كما شاركت قوات جوية ايطالية والمانية في استخدام القاذفات لدعم القوات الارضية. كذلك قدمت ايطاليا للجنرال فرانكو دعما تمثل في ارسال ٥ فرق من قوات النخبة - القمصان السوداء و٢٠ الف مدفع و٧٠٠ طائرة واعدادا من الدبابات وانتهت الحرب بانتصار فرانكو وهزيمة الشيوعيين والاشتراكيين. وخسرت اسبانيا مليون مواطن وتختلف المصادر في تحديد عدد قتلى الحرب مع دمار هائل وكانت هذه الحرب اختبارا للاسحلة والذخائر والعقائد القتالية والتيارات السياسية والنظريات الاقتصادية والاجتماعية.
حديث في الحرب العالمية المقبلة
هكذا بدأت الحرب العالمية الثانية من - تجربتي الحرب الاهلية الاسبانية والحرب الروسية اليابانية في منغوليا - والتي كانت نموذجا للحرب الخاطفة او قصيرة المدى اذ وقعت في الفترة ١ حزيران"يونيو حتى ٣٠ آب"اغسطس ١٩٣٩ عندما انطلقت القوات اليابانية من منشوريا وهاجمت الحدود الشرقية من منغوليا شرق نهر خالجين غول فتصدت القوات السوفياتية - المنغولية للهجوم الياباني وجرت معارك جوية وبرية عنيفة جدا تمت فيها تجربة تقانات الاسلحة الحديثة التي اكدت قدرة الدبابة والطائرة على ممارسة دور حاسم في حرب الحركة الهجومية. كما اكدت طبيعة الحرب الحديثة من حيث الاستنزاف الكبير للقوات المتحاربة والاستهلاك المذهل للاسلحة والوسائط القتالية والتكاليف الباهظة للحروب وكان من ابرز ملامح الحرب العالمية الثانية التالي.
اولا: التطوير المتسارع لتقانة الاسلحة المتحاربة والكثافة الكبيرة للقوات والوسائط القتالية على جبهات القتال والتعرض للخسائر الكبيرة.
ثانيا: امتداد جبهات القتال على مساحات جغرافية واسعة.
ثالثا: التوسع الكبير في استخدام عمليات الانزال الجوية والنقل الجوي والانزالات البحرية.
رابعا: زيادة القدرة التدميرية للاسلحة وظهور النار النووية في هيروشيما وناغازاكي.
خامسا: الزيادة الكبرى في حجم تنظيمات اجهزة الاستطلاع واجهزة الدعاية مع التطوير الكبير لوسائط الرصد الجوي والبحري والبري.
لقد كان ظهور السلاح النووي في نهاية الحرب العالمية الثانية، والنتائج المذهلة في استخدام هذا السلاح في طليعة المتحولات الفكرية السياسية والعسكرية اذ توقع الخبراء وعلى ضوء التجارب التاريخية، ان الحرب القادمة او الحرب العالمية الثالثة ستكون حربا نووية او ستبدأ على الاقل بضربات نووية وتم لذلك وضع مجموعة الاستراتيجيات المتوقعة لبداية الحرب مثل الردع والردع المضاد والردع المتبادل والضربة الاجهاضية المستبقة او الحرب الاستباقية، والانتقام، والانتقام الكثيف الخ.. ولكن، ورغم تعاظم المخزون النووي في ترسانات الدول النووية، فانه ما من احد اظهر استعداده للبدء باطلاق النار النووية. ومقابل ذلك، فقد عملت الدول الصناعية على تطوير الاسلحة والذخائر حتى وصل هذا التطوير الى عتبة اسلحة الدمار الشامل. ولقد ظهرت ازمات كثيرة بين الدول القطبية الخمس الكبرى او الثمانية. وامكن دائما تجاوز تلك الازمات، ولم يقع اي صدام مباشر بين قوات دول القرار السياسي والعسكري في العالم ولكن، مقابل ذلك، فقد شهدت الكرة الارضية عددا كبيرا جدا من حرب الوكالة والحروب الاهلية والحروب المحدودة وكانت في معظمها تعبيرا عن صراعات وخلافات الدول القطبية بعضها ضد بعض. وجرى فيها ما عرفه فن الحرب من دروس تم استخلاصها من تجارب الحروب الصغرى التي تسبق وتمهد لاندلاع الحروب الكبرى، والتي ما زال من الصعب معرفة اهدافها وطبيعتها وحجمها واسلحتها والاهم من ذلك كله معرفة نتائجها.
جاءت مرحلة عصر الحرب الباردة ١٩٤٧ - ١٩٩١ او عصر الحروب الباردة لتمارس دورها في تطوير تقانات التسلح وتطوير الفكر العسكري. ونتج عن ذلك ظهور عوامل جديدة لا يمكن تجاهلها عند التعامل مع احتمالات حروب المستقبل، منها:
اولا: ان نظرية الغاء الجيوش في العالم واعطاء دورها للنار النووية قد سقطت وتم سحبها من التداول ربما بصورة نهائية.
ثانيا: لقد تطور التسلح عبر تجارب الحروب وتطورت الذخائر بكل انواعها وخصوصا في مجال الاسلحة الصاروخية للتعامل مع اعمال القتال البرية والجوية والبحرية. وكان من اهم ما تحقق هو ظهور الاسلحة دقيقة التوجيه والقنابل ذات القدرات التدميرية الكبيرة نموذجها ام القنابل.
ثالثا: زيادة القدرة الحركية للقوات البرية والبحرية والجوية، وتطوير تقاناتها بصورة متوازية مما دعم من زيادة اهمية تنسيق التعاون.
رابعا: ظهر تنظيم قوات التدخل السريع ليشكل نموذجا متقدما بدأت تجربته في نهاية عقد السبعينات، ليصبح تنظيما عالميا تتوافر له قدرة ومتطلبات المعركة الحديثة للاسلحة المشتركة. ويمكن اعتبار هذا التطور بمثابة برهان على تطور العولمة العسكرية.
خامسا: لقد جاءت ثورة التقانة التي اطلقتها الولايات المتحدة الاميركية سنة ١٩٨٢ لتشكل نقطة تحول مثيرة على محور الاعداد للحرب والاستعداد لها - وكان من ابرز نتائجها - او ظواهرها - الدرع الصاروخي المضاد للصواريخ، مما قد يشكل تحولا في تطوير الحروب حتى تصل الى الفضاء الخارجي.
سادسا: كذلك ادت ثورة التقانة لتطوير قدرات الرصد والاستطلاع عبر الاقمار الصناعية. وبذلك اصبحت القواعد البرية والبحرية والاقمار الصناعية هي الهدف الاول عند ظهور احتمال حرب عالمية باسلحة نووية.
يظهر ذلك اهمية الحروب المحدودة التي تفجرت مع انتهاء عصر الحرب الباردة وحتى العام ٢٠١٠ والتي كان من اهم انجازاتها ظهور حالة الممانعة بين الاسلحة والاسلحة المضادة مما وضع الحرب امام مأزق صعب ادى الى اطلاق ثورة التقانة وظهور الذخائر دقيقة التوجيه والذخائر ذات القدرة التدميرية العالية وقوات التدخل السريع. ثم جاءت حرب تحرير الكويت ١٩٩٠ - ١٩٩١ لتقدم نموذج الحرب العالمية الثالثة ولكن بمقياس مصغر ومع استخدام كل انجازات ثورة التقانة وخصوصا في مجال الاتصالات والاعلام. ثم جاءت الحرب ضد الارهاب بعد احداث ١١ ايلول"سبتمبر ٢٠٠١ لتعيد دورات سباق التسلح في كل المجالات وعلى النطاق العالمي. ولكن، ورغم كل الاجتهادات لرسم ملامح حروب المستقبل، فان مجاهيل الحروب ستبقى اكبر مما هو معروف ومعلوم عنها ولعل من ابرز ما يمكن تعلمه من هذه التجارب هو ان ثقافة السلام هي التي يجب لها توجيه تفكير صانعي قرارات السلم والحرب في العالم، وهي التي يجب ردع قادة الحروب الصغرى دولا وتنظيمات عن العبث بنار الحروب.
- عالم ما بعد الثورة الصناعية
بدأت الثورة الصناعية بالتحرك خلال سنوات النصف الثاني من القرن الثامن عشر وذلك مع ظهور الآلة البخارية ذات القدرة الهائلة - في ذلك الحين - والتي كانت تقاس قوتها بالحصان البخاري - وهو ما يعادل قوة خمسة عشر رجلاً قوياً... وفي العام ١٧٦٩ تقدم الاسكتلندي جيمس وات ١٧٣٦ - ١٨١٩ بطلب لتسجيل براءة اختراع آلته البخارية المحسنة. وبدأت التطورات المتسارعة والناتجة عن هذا الاختراع لتشمل كل مجالات الحياة - فقد واكب ظهور الآلة البخارية تطور في علم الميكانيك وفي تحول المجتمعات من العمل الزراعي الى العمل الصناعي. وأصبح للفحم الحجري ومناجمه واحواضه في المانيا اكروهر وفي فرنسا ليل وفي انكلترا البلاد السوداء وفي كل البلاد التي سارعت اي دخول دائرة السباق المحموم في الثورة الصناعية. وكان الماء والهواء هما مصدر الطاقة البخارية. وفي العام ١٨٢٤ تعرض كبار رجال الساسة للنتائج الأولى للثورة الصناعية - فتحدث اللورد كوشران - الذي اصبح بعد ذلك يحمل لقب الكونت دونالد العاشر امام مجلس العموم بالقول: "لولا استخدام الآلات في الوقت المناسب لكان من المحتمل ان تتعرض انكلترا للدمار الكامل.
لقد حدثت تغيرات كبيرة جداً بين العام ١٧٨٥ و١٨٢٤. ففي خلال الألفي عام من التاريخ المسجل، لم تحدث ثورة في العادات والأفكار والمعتقدات بمثل هذه السرعة الفورية. وتوقع رجال الفكر والأدب والفن والساسة والحرب ان تنعكس هذه الثورة الصناعية ونتائجها على تطور فن الحرب والتسلح وسياسات الحروب ومن ذلك ما سجله الشاعر والرسام البريطاني ويليام بليك ١٧٥٧ - ١٨٢٧ على لوحته التي صورت الاسقف طروادة وولديه وحولهم الحيتان التي تحاول ابتلاعهم، فكتب في اسفل اللوحة نبوءته قائلاً: "حيثما تقوم الافكار والآراء على المال، لا يقوم الفن وعندما ينحط الفن، ويختفي الخيال، تسيطر الحرب على الأمم". ويظهر ذلك ما ظهر من اختلاف ومن تباين في مواقف الناس من كل تحول جديد يحدث تغييرات في العلاقات المعهودة والتي اخذت شكل علاقات سلوكية وممارسات عادية. ولكن كل الانتقادات وكل المقاومات لم تتمكن من تغيير مسارات الآلة البخارية فتسارعت التطورات.
وفي سنة ١٧٨٣ تمت صناعة وتجربة اول منطاد يركبه الرجال، وفي ٧ كانون الثاني"يناير ١٧٨٤، تم عبور المانش بواسطة منطاد وتبع ذلك بتشكيل وتنظيم مدرسة للملاحة الجوية. وفي ١٦ حزيران"يونيو ١٧٩٤ في فرنسا وبدأ التفكير في استخدام هذا الانجاز في الاغراض العسكرية، فتم اطلاق اربعة مناطيد لاستطلاع المواقع النمساويية قبل معركة فاوروس الفرنسية - النمساوية. وكان ذلك هو البدايات المبكرة لاستخددام الفضاء للأغراض العسكرية.
وكذلك استخدمت المراكب البحرية البخارية منذ العام ١٧٧٥ عندما اخترع الاميركي جيمس رمسي اول مركب يعمل بقوة البخار ولم تكن اسلحة المشاة وبخاصة الاسلحة النارية وهي المدفع والرشاش والبارودة، مع تطوير ذخائر هذه الأسلحة، الى جانب تطوير الاسلحة الصاروخية. حيث استخدمت الصواريخ للمرة الأولى في الأعمال القتالية في حصار بولوني سنة ١٨٠٦ وتتحدث المصادر التاريخية عن هذه التجربة بالقول: "تم احراق المدينة في اقل من عشرة دقائق، بعد اطلاق الصلية او الرشقة الأولى منها" و"كانت سحابة من الصواريخ تسقط كالأمطار باستمرار طوال مدة الهجوم"، و"ان الصاروخ هو بحق سلاح يمكن له تعديل كل اسلوب التكتيك العسكري، وقد يصبح السلاح الرئيسي، وسيكون له اثر هائل على مصير العالم.
كذذلك اخترع الاميركي داود بوشنيل اول غواصة في سنة ١٧٧٦ وتمت تجربة اول مدفع رشاش بخاري بركينز في ٩ كانون الاول"ديسمبر ١٨٢٥ وكتبت صحيفة لندنية عن هذه التجربة ما يلي: "ان هذا المدفع - بركينز - يرمي الف رصاصة في الدقيقة، وقد اخترقت لوحة حديدية سمكها ستة ميلليمترات ان هذا النوع من العبقرية البشرية والقوة المدمرة، يعلن عن بدء عصر من السلام العالمي، لأنه ليس هناك من شعب يستطيع تعويض الخسائر التي تسببها هذه الآلات التدميرية. وكان من اهم الاختراعات وأكثرها تأثيراً في الأعمال القتالية اختراع القاطرات التي تسير على الخطوط الحديدية، وقد استخدمت في انكلترا منذ العام ١٨١٢ لنقل الفحم الحجري. وفي العام ١٨٢٥، انتشرت الخطوط الحديدية في معظم ارجاء اوروبا فرنسا وانكلترا والمانيا بخاصة.
لقد تحدث البارون الفرنسي الجنرال جوميني ١٧٧٩ - ١٨٦٩ في كتابه موجز من الحرب ما يلي: "يبدو ان الاختراعات الجديدة التي حدثت خلال عشرين عاماً ١٨٣٦ - ١٨٥٦ تهددنا بثورة كبرى في تنظيم الجيوش وتسليحها واساليبها التكتيكية، ان وسائل التدمير تتحسن وتتقدم بشكل مرعب. واذا لم يعقد الحكام مؤتمراً لتحريم هذه الاختراعات المدمرة والقاتلة، فانه لن يكون امامنا اي سبيل الا تشكيل نصف الجيوش من الخيالة المدرعة التي تستطيع القضاء على هذه الاسلحة بأقصى سرعة الخ.
هنا لا بد من التوقف عند ظاهرتين في حملة ظواهر الثورة الصناعية وافقها العسكري. اولاهما ان احداث الثورة الصناعية لم تتوقف عند حدود بلد واحد او قارة واحدة فمن طوكيو الى موسكو وواشنطن، غير ان الأقطار الاوروبية المتنافسة اقتصادياً وصناعياً حصلت على الرصيد الاكبر في ميدان سباق التسلح والتقانة فكان من طبيعة الامور ان تحصل ايضاً على الرصيد الاكبر في مجال الحروب ومن اهمها الحروب النابوليونية ١٧٩٧ - ١٨١٥ وحرب القرم ١٨٥٠ - ١٨٥٤ والحروب البروسية النمساوية والفرنسية ١٨٥٦ - ١٨٧٠.
الظاهرة الثانية كانت بتفجر الثورة الصناعية في كل الاقطار الصناعية فكانت اختراعاتها متقاربة وشبه موحدة. وكانت تلك الخطوط المبكرة والواعدة بالنظام العالمي الجديد. القائم على سيطرة الصناعة وتعاظم دور الثروات الاقتصادية والتطورات الاجتماعية عندما تفجرت الحرب العالمية الاولى كانت الحروب الصغرى التي سبقتها هي التي اعدت للحرب عدتها الاساسية الاحلاف والتكتلات والسياسية والعسكرية، والاسلحة المتطورة، والجيوش الضخمة. ونظراً للتماثل والتقارب في التسلح والتقانة فقد تشكلت ظاهرة الممانعة في توازن القدرات النارية، وجابهت الحرب على ساحة اوروبا مأزقاً صعباً تمثل بجمود القدرة الحركية، وجاءت نهاية الحرب حاملة معها الحلول التي كان من اهمها:
١ - ربط الاعمال القتالية بمخططات هدفها تدمير القدرة المادية والمعنوية للخصم عبر تدمير وتمزيق جبهته الداخلية وهو ما ادى الى انهيار الامبراطوريات القديمة روسيا والنمسا والدولة العثمانية والأمبراطورية الالمانية.
٢ - تطور القدرات الحركية للجيوش البرية والبحرية والجوية باختراع وتطوير الطائرات والمدرعات والاساطيل البحرية، وكانت حروب ما بين الحروب العالميتين الاولى والثانية هي مختبرات هذه الاسلحة التي قدمت للحرب العالمية الثانية القدرات القتالية المتكاملة النار والحركة والصدمة. وحصلت المانيا على قصب السبق في تنظيم الحرب وادارتها، فكان من ابداعاتها التي شكلت فن الحرب الحديث استخدام الفضاء لنقل القوات ودعمها بالنيران من القوات الجوية، وكذلك استخدام الدروع لتشكيل الصدمة بكتلها الكبيرة، وتنويع مصادر النيران فأمكن للقيادة الالمانية وضع اسس المعركة الحديثة للأسلحة المشتركة. وسرعان ما عملت كل الجيوش المتحاربة على الافادة من التجربة الالمانية واستخلاص الدروس لتطوير جيوشها.
تجارب قبل الحرب الاولى
عرفت الاقطار الاوروبية خصوصا مجموعة كبيرة من الحروب والمعارك البرية والبحرية والتي اكتسبت شهرة عالمية بسبب اقترانها بتطور التسلح والتقانة وتطور الجيوش ذاتها في تنظيمها وفي اساليبها بخوض المعارك من الناحيتين التكتيكية والعمليات. كما عرفت معظم شعوب الارض انواع الحروب الثورية. والصراع بين الجيوش القديمة والجيوش الحديثة، وبذلك تطور فن الحرب. وقد يكون من المناسب اختيار بعض الحروب - مما سبق الحرب العالمية الاولى او الحرب الوطنية العظمى ١٩٠٤ - ١٩١٨. والتي كان من اكثرها شهرة حرب البوير في جنوب افريقيا ١٨٩٩ - ١٩٠٢ والحرب الروسية - اليابانية ١٩٤ - ١٩٠٥. ولقد وقعت حرب البوير عندما شرعت بريطانيا في تنفيذ خطتها لاحتلال جمهوريتين صغيرتين في جنوب افريقيا هما الترانسفال واورانجي وبعد ان تم فيهما اكتشاف وجود كميات كبيرة من الذهب والالماس. وكان يطلق على هاتين المنطقتين اسم البوير وهم احفاد المهاجرين من الهولنديين والفرنسيين وغيرهم من الاوروبيين الذين تملكوا مساحات واسعة من الاراضي في القرن السابع عشر، وكانوا يعيشون على زراعتها وعلى تربية المواشي فيها. وكان هؤلاء البوير قد نظموا للدفاع عن انفسهم وممتلكاتهم قوات من الشرطة والامن وصل عدد افرادها عشية الحرب الى حوالي ستين الف رجل. وهم مسلحون بالبنادق البواريد ذات الرمي السريع ولها مخزن ويصل مداها حتى ثلاثة كيلومترات، وبعض المدافع ذات الرمي السريع ولها مخزن ويصل مداها حتى ثلاثة كيلومترات، وبعض المدافع ذات الرمي السريع، وكانت هذه القوات ذات كفاءة قتالية عالية، ولديها معرفة بالطبيعة الجغرافية للبلاد. وتتقن اعمال الاخفاء والتمويه والخداع. فكانت اساليبهم القتالية تعتمد على الاغارات والكمائن والضربات السريعة وتجنب الصدام بخوض معارك جبهة كبرى. ومقابل ذلك عملت بريطانيا في العام ١٩٠٠ على زج ٢٠٠ الف جندي. وامكن لهم احتلال الترانسفال واورانجي مستفيدين من تفوقهم المادي في القوى والوسائط القتالية، فاستولوا على مساحة مليون ومائة الف كيلومتر مربع من الاراضي. ولكن الحرب بدأت عندما ظن قادة الحرب الريطانيين انهم انجزوا مهمتهم. وهو ما كان يعتقده البريطانيون. وعبرت عنه صحيفة ستاندرد - اللندنية يوم ٩ تشرين الاول - اكتوبر - ١٨٩٩ اي قبل يومين من بدء الحرب - فكتبت ما يلي: "ماذا تأمل عصابة من القوات غير النظامية، وذات التدريب الضعيف ضد مثل هذا الجيش من حملة الحراب والسيوف والمدافع"... ولكن هذه القوات غير النظامية - البوير - جابهت قوات نظامية غير مؤهلة لخوض حرب في مناطق صعبة - وهذا ما عبر عنه ماريشال فرنسا فوش بقوله "ان هذه الحرب لم تكن حربا بين الرصاصة والحربة فقط، بل كانت حرب اختبار بين الجندي المدرب على المناورة كالالة وبين المحارب المسلح ببندقية ويعمل من تلقاء بديهته. فقد اعلنت الحرب تبعا لصيغ جامدة، ضد قوات تمتلك الاحساس السليم والقوي وتخوض معاركها طوعا وبدون اكراه". وهكذا استمرت الحرب: ووقعت معارك كثيرة. وكان للاسلحة النارية دورها الحاسم في الوصول بالحرب الى نهايتها بانتصار الجيوش البريطانية.
جاءت بعد ذلك الحرب الروسية اليابانية ١٩٠٤ - ١٩٥ لتقدم النموذج الاكثر وضوحا والافضل تطورا على طريق الحرب العالمية. ذلك لانها وقعت بين جيوش دولتين اسيويتين كبيرتين، وفي اطار حروب المنافسة الاستعمارية. اذ كانت روسيا قد وسعت حدودها نحو الشرق، واخذت في الاعداد لضم كوريا ومنشوديا الى اراضيها - وشرعت في انهاء تمديد خط الحديد - واجراء الاصلاحات عند بحيرة بايكال. وقررت الحكومة اليابانية احباط هذا المشروع الذي كان يشكل ازعاجا لكل من اميركا وبريطانيا اللتين لم تكن لديهما الرغبة في افساح المجال للاساطيل الروسية وللقوات الروسية في الوصول الى الشرق الاسيوي.
اعلنت الحرب رسميا يوم ١٩ شباط - فبراير - ١٩٠٤ وتضمنت الخطة اليابانية ما يلي:
اولا - حصار خليج بورت ارثر، وتدمير الاسطول الروسي بضربة بحرية مباغتة.
ثانيا - توجيه وزج القوات البرية اليابانية لخوض معارك سريعة وحاسمة، في الفترة من ٢٣ شباط - فبراير حتى ١٠ - اذار - مارس ١٩٠٥. وامكن للقوات اليابانية في هذه المعارك تحقيق انتصارات حاسمة من اهمها معركة مولان.
ثالثا - تدمير الاسطول الروسي في البلطيق عند مضيق تسوشيما في يوم ٢٧ ايار - مايو ١٩٠٥. وامكن لليابانيين تحقيق انتصارات في كل معاركهم. وقدمت لها اميركا وانكلترا دعما بحريا. وانعكست هذه الهزائم على الجبهة الداخلية الروسية فتم اغتيال عدد من حكام روسيا مع وقوع عصيان ارغم روسيا القيصر نيكولا الثاني ١٨٩٤ - ١٩١٨ لقبول وساطة اميركا لانهاء الحرب. وتم التوقيع على اتفاقية السلام بين روسيا واليابان يوم ٢٣ آب - اغسطس - ١٩٠٥. وتضمنت اخلاء منشوريا من القوات الروسية والتنازل عن شبه جزيرة لياو - تونغ لليابانيين وعن نصف جزيرة سخالين، والاعتراف لها بالنفوذ في كوريا.
جدير بالذكر ان الجيوش الروسية الثلاثة على جبهة منشوريا قد ضمت اكثر من ٣٠٠ الف جندي و ١٢٦٦ مدفع و ٥٦ رشاش. اما الجيش الياباني وكان يضم ٢٧٠ الف جندي و ١٠٦٢ مدفع و ٣٠٠ رشاش و ١٧٠ مركب حربي و ٢٦٢ مركب نقل. وكان الدرس الاول المستخلص من هذه الحرب هو اهمية التعاون بين الاساطيل البحرية والقوات البرية. وقد تضاعف حجم القوات الروسية اثناء الحرب - غير ان القدرة الحركية العالية للقوات اليابانية كانت تساعد على حرمان القوات الروسية. التي كان يتم نقلها بقطار وحيد. من حرية العمل. كذلك كان من اهم الدروس المستخلصة من هذه الحرب:
١ - فشل الهجمات الجبهية، ونجاح اعمال الالتفاف والتطويق.
٢ - القدرة الدفاعية الهائلة لخنادق الميدان والاسلاك الشائكة.
٣ - الدور المتعاظم للمدافع الرشاشة في احباط هجمات المشاة - وتدميرها.
٤ - تعاظم دور المدفعية ذات الرمي السريع.
٥ - اهمية تنظيم الامداد بالذخائر والقوات - وتشكيل القوات الاحتياطية.
العالمية الثانية والنار النووية
انطلقت الحرب العالمية الاولى من حيث انتهت اليه الحروب المحدودة في البوير وفي الحرب اليابانية - الروسية في مجال قدرات الاسلحة النارية او المدفع والرشاش والبارودة وفي مجال القدرات الحركية للجيوش النقل بالقطارات والخطوط الحديدية. ولكن الانتاج الكثيف للاسلحة والذخائر والذي قدمته الثورة الصناعية للجيوش قد فرض نتائج جديدة ايضا على فن الحرب وادارة الاعمال القتالية. اذ ان التوسع الكبير في حجم الجيوش، والزيادة الهائلة في القدرات النارية، قد شكل حالة من الممانعة بحيث لم يتمكن قادة الاطراف المتصارعة حسم الاعمال القتالية، وماتت الحركة على جبهات القتال. واصبح تحرك الجيوش على جبهات القتال يقاس بعدد قليل من الكيلومترات. وقد حاولت قيادات الجيوش المتحاربة الخروج من مأزق حرب الخنادق وجمود القدرة الحركية والتغلب على حالة الممانعة النارية. استخدام ثلاثة اسلحة جديدة هي: الحفازات الخانقة والدبابات والطائرا.
بدأ الالمان باستخدام الغازات القاتلة الكلور يوم ٢٢ نيسان - ابريل - ١٩١٥ - ثم استخدموا غاز الفوسجين والخردل في ١١ تموز - يوليو - ١٩١٧ وبلغ مجموع من اصيبوا بالغازات حوالي ٣٥٩ الفا من كل الجنسيات بمن فيهم من الاميركيين. اما بالنسبة للدبابات والطائرات ففي معركة السوم استخدم الحلفاء بريطانيا وفرنسا ولاول مرة حوالي ٣٥٠ طائرة للاستطلاع. والرمي بالنيران الرشاشات والقنابل. ومقابل ذلك استخدم الالمان ١٤ طائرة. وفي ١٥ - ايلول - سبتمبر - ١٩١٦ - استخدم البريطانيون الدبابات للمرة الاولى وكان عددها ٣٢ دبابة. وبعد ذلك زج الحلفاء فرنسا وبريطانيا هجومهم في قطاع ريمس - سواسون واستخدموا اربعة جيوش في الهجوم في شهر نيسان - ابريل - ١٩١٧ حوالي ٥٥٨٠ مدفعا و ٥٠٠ طائرة و ٣٠٠ دبابة واكثر من ٣٠ مليون قذيفة. وقام الحلفاءومعهم قوات اميركية بشن هجوم بيكاردي ثم معركة اميان الحاسمة يوم ٢١ - اذار - مارس - ١٩١٨ و ٨ اب اغسطس ١٩١٨ وامكن لهم زج ٦٢ فرقة واكثر من ستة الاف مدفع والف مدفع هاون و ٤٦٢ دبابة قتال والف طائرة.
لم تتمكن هذه الاسلحة الجديدة احداث تغييرات كبيرة على اراضي القتال. ولكن التغييرات الحاسمة جاءت عن طريق تخريب الجبهات الداخلية حيث استطاعت اعمال الدعاية والجاسوسية ان تفجر الحروب الداخلية والحروب الثورية فانهارت الامبراطورية العنصرية الروسية. وانهارت الامبراطورية الالمانية، وانهارت الامبراطورية النمساوية - الهنغارية - ولحقت بهم الامبراطورية العثمانية. وبذلك تحقق النصر لقوات الحلفاء. واذا كانت الاسلحة الجديدة الطائرة والدبابة من اهم انجازات الحرب فقد اصبح من المتوقع ان تشكل هذه البداية نقطة التحول في تطوير القدرات الحركية والقدرات النارية واسلحة الدمار الشامل. بالاضافة الى التوسع الكبير في تطوير القدرات البحرية الحربية.
جاءت تطورات الاسلحة مع نهاية الحرب العالمية الاولى لتفرض على قادة الحرب مشكلات جديدة ذات علاقة وثيقة باستخدام هذه الاسلحة في حروب المستقبل والتي يجب لها ان تستثمر قدرات الدبابات والطائرات في حرب الحركة او الحروب الهجومية، فالدبابة تمتلك قدرة حركية عالية وقدرة نار قوية علاوة على قدرة الصدمة. وكذلك هي قدرة الطائرة. ويضاف الى ذلك القدرات البحرية الجديدة التي افادت بدورها من القدرات المتوافرة للاسلحة الجديدة من اجل تطوير القدرات البحرية. وامام هذا الموقف، ظهر اختلاف في طرائق العمليات المناسبة لبلوغ هدف الحرب، وعلى سبيل المثال - فقد اشتهر جنرال ايطالي دوهيه بنظرية استخدام الطائرات لحسم الحرب - دونما حاجة لزج قوات برية "التي لم تعد هناك حاجة اليها في حروب المستقبل، فالطائرات وحدها تستطيع حسم الحرب بحسب نظريات دوهيه" وهو ما طبقته المانيا في قصف انكلترا اثناء المرحلة الاولى من الحرب العالمية، وهو ايضا ما طبقه الحلفاء في القصف الاستراتيجي لالمانيا في المرحلة الاخيرة من الحرب. فيما ظهرت نظريات متناقضة في استخدام الدبابات "مثل استخدامها متفرقة ولاغراض دفاعية، او استخدامها كتلة واحدة في اعمال هجومية" وكانت النظرية الالمانية بتعاون كل صنوف الاسلحة الحديثة هي النظرية التي برهنت على صحتها واهميتها والتي حملت اسم "المعركة الحديثة للاسلحة المشتركة" والتي اقتبستها كل جيوش العالم عن التجربة الالمانية التي حملت اسم الحرب الصاعقة - او الحرب الخاطفة.
لا بد هنا من الاشارة الى ان قادة المانيا الذين وضعوا نظريات الحرب الخاطفة ونفذوها بعد ذلك قد افادوا من مجموعة التجارب القتالية التي سبقت الحرب العالمية الثانية وكان من اهمها الحرب الاهلية الاسبانية ١٩٣٦ - ١٩٣٩ وكذلك الحرب الروسية - اليابانية في منغوليا سنة ١٩٣٩.
وقعت الحرب الاهلية الاسبانية بين قوتين اسبانيتين الاولى تحالف القوى اليسارية والاشتراكية والتي دعمتها قوات عسكرية بقيادة الجنرال مولا قائد قوات الجمهوريين وبين قوات اليمينيين وقوات من الجيش بقيادة الجنرال فرانكو. وقدم الاتحاد السوفياتي لقوات الثورة دعما قويا من الوية المتطوعين الدولية وخبراء ومدربين وطائرات وذخائر ومعدات فيما قدمت المانيا لقوات فرانكو دعما قويا - فقام سلاح الجو الالماني بارسال طائرات الجو نكر-٥٢ لنقل قوات فرانكو من المغرب ومن جزر الكاناري الى اسبانيا وضم جيش فرانكو ١٢٠ دبابة و٣٠٠ طائرة و٣٥ سفينة حربية كما شاركت قوات جوية ايطالية والمانية في استخدام القاذفات لدعم القوات الارضية. كذلك قدمت ايطاليا للجنرال فرانكو دعما تمثل في ارسال ٥ فرق من قوات النخبة - القمصان السوداء و٢٠ الف مدفع و٧٠٠ طائرة واعدادا من الدبابات وانتهت الحرب بانتصار فرانكو وهزيمة الشيوعيين والاشتراكيين. وخسرت اسبانيا مليون مواطن وتختلف المصادر في تحديد عدد قتلى الحرب مع دمار هائل وكانت هذه الحرب اختبارا للاسحلة والذخائر والعقائد القتالية والتيارات السياسية والنظريات الاقتصادية والاجتماعية.
حديث في الحرب العالمية المقبلة
هكذا بدأت الحرب العالمية الثانية من - تجربتي الحرب الاهلية الاسبانية والحرب الروسية اليابانية في منغوليا - والتي كانت نموذجا للحرب الخاطفة او قصيرة المدى اذ وقعت في الفترة ١ حزيران"يونيو حتى ٣٠ آب"اغسطس ١٩٣٩ عندما انطلقت القوات اليابانية من منشوريا وهاجمت الحدود الشرقية من منغوليا شرق نهر خالجين غول فتصدت القوات السوفياتية - المنغولية للهجوم الياباني وجرت معارك جوية وبرية عنيفة جدا تمت فيها تجربة تقانات الاسلحة الحديثة التي اكدت قدرة الدبابة والطائرة على ممارسة دور حاسم في حرب الحركة الهجومية. كما اكدت طبيعة الحرب الحديثة من حيث الاستنزاف الكبير للقوات المتحاربة والاستهلاك المذهل للاسلحة والوسائط القتالية والتكاليف الباهظة للحروب وكان من ابرز ملامح الحرب العالمية الثانية التالي.
اولا: التطوير المتسارع لتقانة الاسلحة المتحاربة والكثافة الكبيرة للقوات والوسائط القتالية على جبهات القتال والتعرض للخسائر الكبيرة.
ثانيا: امتداد جبهات القتال على مساحات جغرافية واسعة.
ثالثا: التوسع الكبير في استخدام عمليات الانزال الجوية والنقل الجوي والانزالات البحرية.
رابعا: زيادة القدرة التدميرية للاسلحة وظهور النار النووية في هيروشيما وناغازاكي.
خامسا: الزيادة الكبرى في حجم تنظيمات اجهزة الاستطلاع واجهزة الدعاية مع التطوير الكبير لوسائط الرصد الجوي والبحري والبري.
لقد كان ظهور السلاح النووي في نهاية الحرب العالمية الثانية، والنتائج المذهلة في استخدام هذا السلاح في طليعة المتحولات الفكرية السياسية والعسكرية اذ توقع الخبراء وعلى ضوء التجارب التاريخية، ان الحرب القادمة او الحرب العالمية الثالثة ستكون حربا نووية او ستبدأ على الاقل بضربات نووية وتم لذلك وضع مجموعة الاستراتيجيات المتوقعة لبداية الحرب مثل الردع والردع المضاد والردع المتبادل والضربة الاجهاضية المستبقة او الحرب الاستباقية، والانتقام، والانتقام الكثيف الخ.. ولكن، ورغم تعاظم المخزون النووي في ترسانات الدول النووية، فانه ما من احد اظهر استعداده للبدء باطلاق النار النووية. ومقابل ذلك، فقد عملت الدول الصناعية على تطوير الاسلحة والذخائر حتى وصل هذا التطوير الى عتبة اسلحة الدمار الشامل. ولقد ظهرت ازمات كثيرة بين الدول القطبية الخمس الكبرى او الثمانية. وامكن دائما تجاوز تلك الازمات، ولم يقع اي صدام مباشر بين قوات دول القرار السياسي والعسكري في العالم ولكن، مقابل ذلك، فقد شهدت الكرة الارضية عددا كبيرا جدا من حرب الوكالة والحروب الاهلية والحروب المحدودة وكانت في معظمها تعبيرا عن صراعات وخلافات الدول القطبية بعضها ضد بعض. وجرى فيها ما عرفه فن الحرب من دروس تم استخلاصها من تجارب الحروب الصغرى التي تسبق وتمهد لاندلاع الحروب الكبرى، والتي ما زال من الصعب معرفة اهدافها وطبيعتها وحجمها واسلحتها والاهم من ذلك كله معرفة نتائجها.
جاءت مرحلة عصر الحرب الباردة ١٩٤٧ - ١٩٩١ او عصر الحروب الباردة لتمارس دورها في تطوير تقانات التسلح وتطوير الفكر العسكري. ونتج عن ذلك ظهور عوامل جديدة لا يمكن تجاهلها عند التعامل مع احتمالات حروب المستقبل، منها:
اولا: ان نظرية الغاء الجيوش في العالم واعطاء دورها للنار النووية قد سقطت وتم سحبها من التداول ربما بصورة نهائية.
ثانيا: لقد تطور التسلح عبر تجارب الحروب وتطورت الذخائر بكل انواعها وخصوصا في مجال الاسلحة الصاروخية للتعامل مع اعمال القتال البرية والجوية والبحرية. وكان من اهم ما تحقق هو ظهور الاسلحة دقيقة التوجيه والقنابل ذات القدرات التدميرية الكبيرة نموذجها ام القنابل.
ثالثا: زيادة القدرة الحركية للقوات البرية والبحرية والجوية، وتطوير تقاناتها بصورة متوازية مما دعم من زيادة اهمية تنسيق التعاون.
رابعا: ظهر تنظيم قوات التدخل السريع ليشكل نموذجا متقدما بدأت تجربته في نهاية عقد السبعينات، ليصبح تنظيما عالميا تتوافر له قدرة ومتطلبات المعركة الحديثة للاسلحة المشتركة. ويمكن اعتبار هذا التطور بمثابة برهان على تطور العولمة العسكرية.
خامسا: لقد جاءت ثورة التقانة التي اطلقتها الولايات المتحدة الاميركية سنة ١٩٨٢ لتشكل نقطة تحول مثيرة على محور الاعداد للحرب والاستعداد لها - وكان من ابرز نتائجها - او ظواهرها - الدرع الصاروخي المضاد للصواريخ، مما قد يشكل تحولا في تطوير الحروب حتى تصل الى الفضاء الخارجي.
سادسا: كذلك ادت ثورة التقانة لتطوير قدرات الرصد والاستطلاع عبر الاقمار الصناعية. وبذلك اصبحت القواعد البرية والبحرية والاقمار الصناعية هي الهدف الاول عند ظهور احتمال حرب عالمية باسلحة نووية.
يظهر ذلك اهمية الحروب المحدودة التي تفجرت مع انتهاء عصر الحرب الباردة وحتى العام ٢٠١٠ والتي كان من اهم انجازاتها ظهور حالة الممانعة بين الاسلحة والاسلحة المضادة مما وضع الحرب امام مأزق صعب ادى الى اطلاق ثورة التقانة وظهور الذخائر دقيقة التوجيه والذخائر ذات القدرة التدميرية العالية وقوات التدخل السريع. ثم جاءت حرب تحرير الكويت ١٩٩٠ - ١٩٩١ لتقدم نموذج الحرب العالمية الثالثة ولكن بمقياس مصغر ومع استخدام كل انجازات ثورة التقانة وخصوصا في مجال الاتصالات والاعلام. ثم جاءت الحرب ضد الارهاب بعد احداث ١١ ايلول"سبتمبر ٢٠٠١ لتعيد دورات سباق التسلح في كل المجالات وعلى النطاق العالمي. ولكن، ورغم كل الاجتهادات لرسم ملامح حروب المستقبل، فان مجاهيل الحروب ستبقى اكبر مما هو معروف ومعلوم عنها ولعل من ابرز ما يمكن تعلمه من هذه التجارب هو ان ثقافة السلام هي التي يجب لها توجيه تفكير صانعي قرارات السلم والحرب في العالم، وهي التي يجب ردع قادة الحروب الصغرى دولا وتنظيمات عن العبث بنار الحروب.