الجزء الأخير من كتاب صدام مر من هنا

alus

صقور الدفاع
إنضم
30 نوفمبر 2008
المشاركات
2,466
التفاعل
3,419 1 0
499b3f9034b21fc6d51efd6c4e21d742.jpg


• ماذا كانت خطة ناظم كزار للاستيلاء على الحكم؟



- غادر البكر إلى أحد البلدان الاشتراكية وصار البلد في عهدة صدام خلال غيابه. فكر كزار أنه حين يعود البكر سيذهب صدام لاستقباله ومعه عدد من كبار المسؤولين في الدولة والحزب. اعتبر المناسبة فرصة للتخلص من الاثنين معاً. حدد موعد وصول البكر وتم إبلاغ المسؤولين. طبعاً كزار مسؤول عن تدابير الأمن.



قبل ساعتين أو ثلاث من موعد وصول البكر كان هناك موعد رتبه كزار. قال لبعض المسؤولين إن الأمن العام افتتح دائرة جديدة للأمن وزودها تكنولوجيا حديثة وأريدكم أن تطلعوا عليها. وكان بين المدعوين حماد شهاب وزير الدفاع وسعدون غيدان وزير الداخلية، إضافة إلى آخرين. عندما وصلوا إلى مقر الأمن العام اعتقلهم بانتظار تنفيذ الخطة وكان وزع رشاشات على سطح المبنى في المطار ومواقع أخرى.



هنا حصل خطأ ما غيّر كل الحسابات. تأخر البكر في الوصول. وتضاربت الروايات لاحقاً. بينهم من قال إن رئيس إحدى الدول أصر على تكريمه بضع ساعات إضافية. وثمة من قال إن إحدى المخابرات الشرقية عرفت الخطة فطلبت من البكر أن يؤجل قليلاً موعد وصوله إلى بغداد. وهناك من قال إن مسائل فنية في الطائرة أرغمت البكر على تأخير الإقلاع. لم يصل البكر في الموعد المحدد، فارتبك ناظم كزار. تخوف أن تكون الخطة كشفت. وحتى ولو لم تكتشف فإن صدام الذي توجه إلى المطار سيعرف لاحقاً أن كزار اعتقل وزيري الدفاع والداخلية. اختار في النهاية الهرب مع مجموعته مصطحباً المحتجزين معه. اتجه نحو الحدود الإيرانية وطارده الجيش فاقترح عبر الجهاز لقاء تفاهم في بيت عبدالخالق السامرائي.



رُفض الطلب وألقي القبض على كزار بعدما قتل حماد شهاب وجرح سعدون غيدان. جيء به إلى القصر. هنا يقال إن البكر كان يريد إجراء تحقيق مع كزار في حين كان صدام يدفع باتجاه عدم إجراء تحقيق بحجة أن لا جدوى من ذلك. وأعدم كزار سريعاً.



هنا ظهر تفسير مفاده أن المطار كان مسرحاً لخطتين: الأولى تورط فيها كزار مع صدام وكان الغرض منها التخلص من البكر. والثانية خطة كزار نفسه لاستغلال المناسبة للتخلص من الاثنين. وسبب هذا التفسير الذي ساد الأوساط الحزبية أن كزار كان مقرباً جداً من صدام.



تطويق البكر



• ما قصة المؤامرة التي قال صدام حسين إنه اكتشفها بعد تسلّمه السلطة في 17 تموز 1979؟



- وقّعت سورية والعراق على ميثاق وحدوي. كان هناك تفاهم على أن يكون البكر رئيس دولة الوحدة وأن يكون الرئيس حافظ الأسد نائباً له. فجأة وجد صدام نفسه مهدداً بالخروج من اللعبة وإحباط ما خطط له. الخطوة أوغرت صدره ضد من ساروا في مشروع الوحدة.



هنا يجب أن نتذكّر أن صدام حسين الذي كان شاباً لدى تسلّم الحزب السلطة اختار التحالف مع البكر بانتظار أن تحين الساعة المناسبة للقفز إلى السلطة. استظل بالبكر واحتمى به وراح يبني مشروعه الشخصي في ظل من كان يسميه "الأب القائد".في 1968 لم يكن صدام جاهزاً. كان شاباً وتنقصه التجربة ولم يكن صاحب رصيد في الحزب أو الشارع في حين كان وضع البكر مختلفاً.



نفّذ صدام خطة أعدها بعناية للهيمنة على كل مواقع القرار في الحزب والأجهزة الأمنية والإعلام. طوّق البكر من كل الجهات بما في ذلك جهاز أمن رئاسة الجمهورية. وكانت خطته تقضي بفصل البكر عن قاعدته العسكرية والشعبية. عندما اطمأن إلى نضج الظروف ضغط على البكر للاستقالة.​
 
رد: الجزء الأخير من كتاب صدام مر من هنا

• هل تعتقد بأنه أرغمه على الاستقالة؟



- لا شك في هذه المسألة. صحيح أنني كنت خارج الهيئات القيادية للحزب لكن كانت لي صداقات عميقة داخل هذه الهيئات وداخل الدولة.



• نريد تأكيداً محدداً؟



- لا أريد الخوض في الأسماء لكنني أقول إنني التقيت عدداً من أفراد عائلة البكر والمقرّبين منه. أجمع هؤلاء على أن صدام أجبر البكر على التنازل. ولم يكن أمام البكر خيار آخر. عُقد لقاء ثنائي بين البكر وصدام وطُرحت خلاله المسألة واتفقا على عقد لقاء للقيادة في اليوم التالي لإعلان الخطوة.



في لقاء القيادة القطرية تحدث البكر فقال إنه متعب ومتقدم في السن وإنه أخذ قراراً لا رجعة فيه بالاستقالة.



وقال البكر ما معناه: الرفيق صدام رفيقكم وأخوكم، تدرّب وتعلّم وهو قائد كبير ومؤهل لقيادة العراق وأعتقد بأنه خير من يحمل الراية بعدي.



أعضاء القيادة الذين لم تكن لهم علاقة باللعبة فوجئوا. كان لدى معظم هؤلاء شعور بأن البكر ما يزال يشكّل حاجة وأن وجوده كمظلة للثورة والحزب والسلطة يشكّل ضمانة. وشعر هؤلاء أن صدام ما يزال غير مؤهل لتولي قيادة بلد معقّد وكثير المشاكل مثل العراق. اعترض هذا الفريق على قرار البكر بالتنحي. وبين المعترضين عدنان الحمداني وغانم عبدالجليل ومحمود محجوب ومحمد عايش ومحيي الشمري. كان هؤلاء يريدون استمرار البكر لترسيخ المؤسسات والاستقرار. لم يعترضوا على شخص صدام بل تخوّفوا على مستقبل تجربة الحزب والبلد.



عندما اعترضوا اعتبر صدام موقفهم مؤامرة كبرى ورأى فيهم عائقاً أمام مسيرة تفرّده بالسلطة.



أصر البكر على موقفه ولم يكن أمام الحاضرين غير القبول بصدام فوافق الفريق المعترض على مضض. طبعاً كان هناك بين الأعضاء من رحّب باختيار صدام مثل عزة ابراهيم وطه ياسين رمضان وحسن العامري وطارق عزيز.



• وتولّى صدام الرئاسة؟



- تولى الرئاسة وأعلن اكتشاف مؤامرة خطيرة تقودها سورية وأدواتها أعضاء في القيادة ومعهم كوادر عسكرية ومدنية من الحزب. وخلال 48 ساعة أعدم 54 من القياديين والكوادر الحزبية. وهي كانت المجزرة الكبرى.



دعا صدام إلى ندوة للكادر الحزبي في بغداد لإقناع الأعضاء بوجود مؤامرة. تحدث صدام مستخدماً قدراته الاستثنائية في التمثيل. تحدّث وكشف وأعرب عن استغرابه واستهجانه. ولم يتردد في التعبير عن ألمه وحتى في البكاء.



قدّم معلومات مضحكة ومخزية وغير مقنعة لأي إنسان. محمد محجوب كان وزيراً للصناعة التي كانت توقّع سنوياً على عقود بعشرات البلايين، اتهمه بتقاضي 15 ألف دولار من الملحق العسكري السوري وأعطى فلاناً خمسة آلاف دولار. هل يحتاج محمد عايش إلى رشوة بهذا الحجم وهو الذي يوقّع على عقود بالبلايين؟ كان محمد عايش مستقيماً ونزيهاً.



شرح صدام المؤامرة بمراحلها. وفي النهاية فتح باب الأسئلة. فوقف شخص وطلب الكلام ولم يكن هذا الشخص سوى ابن عمه علي حسن المجيد. قال المجيد: يا سيدي هذه المؤامرة التي حدّثتنا عنها لن تكون الأخيرة ما دام عبدالخالق السامرائي حياً.



كان عبدالخالق السامرائي معتقلاً منذ سنوات في زنزانة انفرادية ولم يُسمح له بمقابلة أي إنسان.



وضع صدام يده على شاربه وقال لعلي حسن المجيد: "خذ من هذا الشارب لن تصبح الشمس على عبدالخالق السامرائي".



وفي اليوم التالي أخرج السامرائي من السجن وأُعدم بطريقة همجية مقزّزة.
 
رد: الجزء الأخير من كتاب صدام مر من هنا

• لماذا هذا الحقد على السامرائي؟



- لو سألت ألدّ أعداء البعثيين عن عبدالخالق السامرائي لسمعتهم يشيدون به. إنسان بريء ونقي ومخلص ونزيه وزاهد بكل شيء. قتله صدام حسين لأنه كان بسلوكه يطرح النموذج النقيض. كان عضواً في القيادتين القومية والقطرية وفي مجلس قيادة الثورة وكان مسؤولاً عن المكتب الثقافي القومي للحزب. كان يشكّل النموذج النقيض لنموذج صدام المهووس بالسلطة والمظاهر والبذخ واستباحة كل التقاليد والأعراف. راقب صدام صعود شعبية السامرائي داخل الحزب وخارجه. صار وجوده مصدر إحراج. عندما صدر قرار بتعيين أعضاء القيادة القطرية للحزب وزراء أسندت إليه حقيبة العمل والشؤون الاجتماعية. رفض وتمسك بموقفه مفضّلاً الاستمرار في خدمة الحزب والناس، وكانت أبواب مكتبه مفتوحة للجميع.



الذريعة التي استخدمت للإيقاع به هي الآتية: عندما حصلت مؤامرة ناظم كزار مدير الأمن العام في 1973 وفشلت، اقترح كزار عبر جهاز الإرسال أن يحصل لقاء في منزل عبدالخالق السامرائي لترتيب المسألة. اختار كزار منزل السامرائي لأنه ليس طرفاً في القضية. تعمّد صدام تفسير المسألة على أنها دليل على تواطؤ السامرائي مع كزار. زجّ به في السجن وصدر ضده حكم بالإعدام.



اضطرت السلطة إلى عدم تنفيذ الحكم بفعل الضغوط الداخلية والخارجية. أبقاه في السجن إلى أن تعهد قتله.



"مسرحية" مؤامرة الرفاق



• بكى صدام خلال كشف مؤامرة الرفاق؟



- نعم قال إنه حزين وظهرت الدموع في عينيه لاستدرار عطف الحاضرين. إنه ممثل بارع جداً. كانت المجزرة استثنائية. غانم عبدالجليل كان مدير مكتب صدام، وعدنان الحمداني بمثابة رئيس وزراء، محمد محجوب كان وزيراً للتعليم العالي، محمد عايش وزيراً للصناعة، محيي الدين المشهدي كان مديراً عاماً لمجلس قيادة الثورة، أعدمهم ولم يرفّ له جفن.



• هل تؤكد رواية أنه تعمّد إشراك حزبيين في إعدامهم؟



- هذه مسألة بالغة الخطورة. إنه أسلوب يرمي إلى توريط أكبر عدد من الناس. استدعى صدام قيادات الحزب في المحافظات ووزعهم على مجموعات. وكلّفت كل مجموعة بإعدام واحد من أعضاء القيادة. كان واضحاً أن من لا يطلق النار ستُطلق النار عليه. أرغم قيادات الحزب على المشاركة في قتل المتآمرين. تصوّر الانعكاسات السلبية داخل الحزب، وكم تعقّدت العلاقات بين الناس. تصور شعور حزبي يُرغم على إعدام عضو في القيادة من دون أن يكون مقتنعاً بأنه مذنب.



لاحقاً استدعى صدام سفراء عراقيين وأعدم وسجن. أعدم محمد صبري الحديثي وكيل وزارة الخارجية ومرتضى الحديثي الذي كان سفير العراق في الاتحاد السوفياتي، وسجن عشرات الضباط والملحقين العسكريين الذين تعرضوا لتعذيب لا يتخيّله إنسان.



• هناك روايات أن صدام كان يشارك شخصياً في التعذيب؟



- أنا في الحقيقة لا أملك دليلاً في هذا المجال. أقول إن صدام ارتكب الكثير وألصق به الكثير أيضاً. يجب أن نتصف بالأمانة في استرجاع الأحداث. الواقع أنني لا أعتبر الأمر مهماً. فحتى ولو لم يشارك شخصياً فإن المسؤولية تقع عليه كونه صاحب القرار أساساً في الأجهزة الأمنية.
 
رد: الجزء الأخير من كتاب صدام مر من هنا

• ما هي قصة "قصر النهاية"؟



- إنه أحد القصور الملكية وهو قريب من منطقة القصر الجمهوري. اتُخذ مقراً لدائرة الاستخبارات العراقية وصار اسمه مرعباً لكل عراقي.



• هل كان صدام يتردد على "قصر النهاية"؟



- طبعاً. كان يمضي معظم وقته هناك. عندما عرضت فكرة إعادة تشكيل أجهزة الأمن بعد تموز (يوليو) 1968 اتفقنا على تشكيل دائرة للعلاقات العامة لننزع من أذهان الناس سمعة المخابرات. عرض علينا أن نتولاها فرفضنا تباعاً لكن صدام قبل. بدأ يبني هذه المؤسسة الأمنية ويستخدمها منطلقاً للسيطرة على الأجهزة والحزب والبلد. خلف صدام في قيادتها سعدون شاكر الذي كان يعمل برعاية صدام.



ضم "قصر النهاية" عدداً من السجناء بينهم سياسيون وحزبيون ناصريون وقوميون وشيوعيون وغيرهم. كل هؤلاء كانوا قيد التعذيب بتوجيه من صدام حسين.



• من قتل النظام أيضاً؟



- يصعب إحصاء العدد. ذهب الآلاف ضحية ممارسات المخابرات العراقية. لقد حوّل صدام العراق، بإصرار وتخطيط ودراية، دولة مخابرات. هذا وضع لم يقم في أي مكان آخر في العالم إلى هذه الدرجة.



في ذلك اليوم غمرته البهجة. قال لمعاونيه بمزيج من الكبرياء والشماتة: "عشت حتى سمعت الخميني يتحدث عن تجرّع السم وقبول وقف النار". وفي الليل راح يتمشى في مكتبه. استوقفته المرآة، حدّق في ثيابه العسكرية وابتسم. ذات يوم طرق باب الكلية العسكرية فرفضوه. طرق ثانية فكرروا موقفهم. مساكين. قالها شامتاً. ها هم الجنرالات يتقاطرون وينحنون. يبعد جنرالات ويخترع جنرالات.



ينفث دخان سيجاره. لم تذهب سدى تلك الرصاصات التي سددها إلى سيارة عبدالكريم قاسم. لم تذهب سدى تلك اللكمات التي وجهها إلى الشيوعيين في الجامعة.



لم تكن الإقامة في "جهاز حنين" مضيعة للوقت. ولم يكن تسلمه دائرة العلاقات العامة بعد 7 تموز (يوليو) 1968 كذلك، فقد كانت التسمية تعني الإشراف على الأمن والاستخبارات.



تهجم عليه الذكريات. في السجن كان يقلّب الكتب، قرأ سير الكبار ومذكراتهم. قرأ لينين وستالين فأحب الثاني. أخضع الجنرالات بلا رحمة. طهّر الجيش وطهّر الحزب. يشم رائحة المؤامرة قبل ولادة خيوطها. يقرأ في العيون فيفضح الخيانات المحتملة. أول الدواء الكي ولا مبرر للانتظار. إعدامات. إعدامات. إعدامات. يضحك. قصة ستالين تشبه قصته. كبر في ظل (الأب القائد) ثم حانت ساعته.



السلطة وليمة يقطفها جائع كبير دعاه التاريخ إلى التهامها. لا حلفاء ولا شركاء. امرأة موتورة مثقلة بالمناجم. تخطفها أو يخطفها الآخرون. وتستحق الوليمة هذا الدم المتراكم تحت الطاولة وأجساد الرفاق المثقوبة في بغداد أو عواصم بعيدة. يسخر من الوسطاء والناصحين. قدره هو قدره: القصر أو القبر.



سألت صلاح عمر العلي:



• لماذا ذهب صدام إلى الحرب؟



- أعتقد بأن عاملين لعبا دوراً في هذا القرار. عامل يتعلق بشخص صدام الذي تطلع دائماً إلى زعامة تتخطى حدود العراق. وغالب الظن انه اعتبر ان الانتصار على دولة بحجم إيران وإرغامها على إعادة حقوق عراقية سيجعله زعيماً بحجم جمال عبدالناصر وصاحب الكلمة الأولى في المنطقة. العامل الآخر هو اقتناع صدام حسين أو شعوره بأن مغامرته هذه تحظى بالحد الأدنى من الموافقة الغربية في ضوء ما كانت تثيره ايران، ما بعد الشاه، من مخاوف في الغرب. صدام ليس رجلاً ساذجاً ولا بد أنه حصل إن لم يكن على موافقة فعلى شيء من التشجيع. فالحرب ضد إيران تحتاج إلى أسلحة وذخائر لأن إيران دولة كبيرة بمقاييس المنطقة.
 
رد: الجزء الأخير من كتاب صدام مر من هنا

• صدام يكره إيران؟



- نعم.



• ويكره الخميني؟



- بطبيعة الحال.



• ويكره الشيعة العراقيين؟



- هنا سيفاجئك الجواب. اتهام صدام بالمذهبية يخدمه. ثم إن الاتهام غير صحيح. صدام لا يفكر بهذه الطريقة. إنه يحدد علاقته بالآخرين في ضوء قربهم من شخصه أو بعدهم عنه وفي ضوء قدرتهم على عرقلة مشروعه. من يشكل عقبة لا يرحمه سواء كان سنياً أم شيعياً. أقول هذا وأنا من تكريت. أرى أن من يتهم صدام بالمذهبية مخطئ ويخدم صدام أو يدافع عنه. ليست هذه طريقة تفكيره. ثم إن الولاء لانتماء مذهبي ليس عاملاً سلبياً دائماً. تقدير الشخص لمذهبه لا يعني بالضرورة أنه صاحب موقف سيئ.



• لكن أجهزته تعتمد على السنة.



- هذا خطأ يتكرر كثيراً. في الأجهزة الأمنية هناك الشيعي وهناك السني. ربما يتمركز القرار في بعضها في منطقة معينة بسبب الولاء المضمون والمعرفة، لكن القول أن الأجهزة الفاعلة لا تضم شيعة، أو أن نسبتهم ضئيلة جداً غير صحيح. هناك تزوير في هذه المسائل لأغراض معينة. إذا كنت موالياً لصدام يقبلك بغض النظر عن مذهبك. اذا كنت غير موال فلن يقبلك حتى ولو كنت من عائلته. قتل صدام من تكريت أكثر مما قتل في مدن شيعية. أنا أعتبر اتهامه بالتعصب للسنة خدمة له. مقاييسه مختلفة.



تبييت النية لإيران



• هل لديك شيء خاص عن الحرب العراقية ــ الإيرانية؟



- سأروي حديثاً كثير الدلالات يظهر أن قرار الحرب على إيران كان شبه متخذ قبل عام من وقوعها. في أيلول (سبتمبر) 1979 عقدت في كوبا قمة لحركة عدم الانحياز وترأس صدام الوفد العراقي، إذ كان تولى الرئاسة قبل شهرين. وشاركت في القمة في إطار الوفد العراقي. وتولى رئاسة الوفد الإيراني الدكتور إبراهيم يزدي وزير الخارجية الذي عين في هذا المنصب بعد انتصار الثورة.



على هامش القمة عقد لقاء بين صدام ويزدي وكنت حاضراً. كانت العلاقات بين البلدين يشوبها قدر من التوتر. ليس فقط بسبب طبيعة التغيير الذي حصل في إيران وما رفعه من شعارات، بل أيضاً بسبب المناوشات الحدودية بين البلدين. وأقول بإنصاف إن غالبية الاعتداءات كانت تأتي من الجانب الإيراني. اعتداءات على مخافر الشرطة العراقية وممارسات استفزازية في شط العرب.



في اللقاء جرى بين صدام ويزدي حديث بنّاء وإيجابي ومهم. انتهى اللقاء باتفاق على متابعة الحوار على مستوى رفيع. خرجت لوداع الوزير الإيراني وعدت إلى داخل مقر صدام الذي سرعان ما خرج إلى الحديقة ورافقته. الحقيقة ان المناخ الإيجابي للقاء عزز رغبتي في ترسيخ قناعة أن الإشكالات يجب أن تحل بالوسائل السلمية لأنني كنت أدرك أخطار اندلاع حرب بين العراق وإيران التي تفوقه سكانياً بمرات.راودتني رغبة متزايدة أن أعزز لدى الرئيس شخصياً مثل هذه القناعة. واعتبرت أن أجواء الاجتماع تشجع على الخوض في كلام من هذا النوع خصوصاً أننا نتحدث على انفراد.



بدأت الحديث عن أهمية الحل السلمي والمفاوضات واللقاءات. وقلت إننا بلدان متجاوران وكل بلد يحتاج إلى بناء اقتصاده وتوفير فرص التعليم والعلم لأبنائه. وأضفت أن الحرب ليست الطريق إلى حل المشكلات. فهي تعقدها وتضاعفها خصوصاً إذا جرت على خلفية حساسيات تاريخية. كان صدام يستمع إلي. والقدرة على الاستماع من صفاته.



عندما انتهيت من كلامي تحدث صدام قائلاً: "يا صلاح انتبه. هذه الفرصة قد لا تتاح مرة كل مئة سنة. الفرصة متاحة اليوم. سنكسر رؤوس الإيرانيين وسنعيد كل شبر احتلوه. وسنعيد شط العرب".



حدقت فيه وإذا به يضيف: "هذا الكلام عن حل سلمي وحل إنساني وتصفية المشاكل مع إيران لا أريده أن يتكرر على لسانك إطلاقاً. حضّر نفسك في الأمم المتحدة. إسمع ما أقوله لك. سأكسر رؤوس الإيرانيين وأرجع كل شبر من المحمرة إلى شط العرب".



كان كلام صدام مختلفاً تماماً عن أجواء الاجتماع، وهو بارع عادة في إخفاء ما يفكر به. لقد اعتبر أن أمامه فرصة تاريخية لتأديب إيران التي كانت تعيش صراعات فيما أخذ الجيش يتفكك.



شعرت بخطورة كلام صدام وفيه لهجة اندفاع أعمى. كنت أعرف حدودي فأنا أخاطب الرجل الذي فتك قبل شهرين بـ54 قيادياً وكادراً حزبياً غداة تسلمه الرئاسة. ومذّاك لازمني شعور أن الأمور تندفع في اتجاه الكارثة.



بدا واضحاً أن صدام يريد تصفية حسابات تاريخية مع ايران قبل أن تلتقط أنفاسها. كما بدا أن الحرب مع إيران تشكل في نظر صدام فرصة لإعلان قيام العراق القوي كلاعب رئيسي في المنطقة وإعلان تحول صدام إلى اللاعب الأقوى فيها.



وفكرت في نفسي كم تغير السلطة في الناس. لم يعد صدام ذلك الشاب الهادئ الذي يصمت ويصغي ويعطي الانطباع أنه كرس حياته للحزب. صار المصدر الوحيد للقرار وأصابه غرور مخيف ورهان قاتل على الاحتكام إلى القوة وحدها في التعامل مع الداخل والخارج.​
 
رد: الجزء الأخير من كتاب صدام مر من هنا

• ماذا فعلت؟



- تمنيت ألا تحصل الحرب، لكنها حصلت. لم يعد أمامي أي خيار. وفعلت، كمندوب دائم للعراق في الأمم المتحدة، كل ما أستطيع أن أفعله لخدمة بلدي. كانت المعركة الديبلوماسية ضارية فعلاً في مجلس الأمن وحركة عدم الانحياز والكتلة الإسلامية والمجموعة العربية. كنت أؤدي واجبي، لكنني لم أكن مرتاحاً في الداخل. ورحت أسأل نفسي إلى متى أستطيع التعايش مع مشاعري الداخلية هذه. عادت فكرة الاستقالة تراودني. ذهبت إلى بغداد والتقيت كثيرين بينهم صدام ووزير الخارجية.



كان ذلك في أيار (مايو) 1982. قلت للرئيس صدام إن الحرب على وشك دخول مرحلة أخرى. إيران التقطت أنفاسها وبدأت تضغط علينا. هذه الحرب ليست الأولى في التاريخ. حصلت قبلها حروب. فلنبحث في ظروف نجاح الحرب. الدروس تقول إن الشرط الأول لنجاح المعركة هو أن يقاتل الجيش مدعوماً بجبهة داخلية متماسكة. أي جبهة وطنية متراصة تمثل كل القوى والأحزاب والشرائح. هذا الأمر يا سيدي غير متوافر الآن. هل يمكن أن يخوض حزب واحد هذه الحرب. طبعاً كان صدام يسمح لي بالتحدث ليس بصفتي سفيراً بل كعضو سابق في القيادة. قلت إن الرهان الحالي ينذر بخسارة المعركة. كي لا نواجه اندحاراً، أتمنى لو ترعى عملية بناء جبهة وطنية بعد توفير المناخ الضروري لقيامها.



كان صدام في تلك الأيام مصاباً بغرور هائل. قادة العالم يتحدثون إليه في الهاتف، فلماذا يقتنع بكلام سفير لبلاده في الأمم المتحدة. كان شديد الغرور إلى درجة العمى الكامل. قال لي: يا صلاح إنس هذا الموضوع بالكامل. نحن لا نحتاج إلى جبهة. أرجوك لا تتحدث في هذا الموضوع. إذا كنت تريد من طرفك ضمان حالة التوازن النفسي فنحن لسنا بحاجة. ثقتنا بنفسنا عالية جداً. الانتصار لنا. سنكسب المعركة. سيندحر الإيرانيون.



خرجت مقتنعاً بالاستقالة. والتقيت وزير الدفاع عدنان خيرالله ابن خال الرئيس.



• ماذا كان موقف عدنان خيرالله؟



- سأقول كلاماً ربما يفسر إلى حد ما لماذا قتل عدنان خيرالله لاحقاً على يد صدام حسين.



• هل تعتقد فعلاً أن صدام قتله؟



- لا شك لديّ أبداً. عدنان خيرالله كان ضد الحرب وضد سياسة صدام وضد أسلوبه في إدارتها.



• لنعد إلى اللقاء، أين عقد؟



- في القصر الجمهوري نفسه. كانت المفاجأة بالنسبة لي أن عدنان شن هجوماً لاذعاً على صدام وتحدث عليه بقسوة.



• ماذا قال؟



- قال ما معناه أن صدام شخص لا علاقة له بالجيش والعلوم العسكرية. لا يعرف شيئاً عن الحرب ولا يتقن إدارتها. سيطر على القرار وأزاح كل العسكريين المتخصصين جانباً. يتدخل في كل صغيرة وكبيرة وفي رسم الخطط، وهو ما يعرضنا لهزائم ونكبات وكوارث على كل الجبهات. تحدث بصراحة ومرارة.



• كيف يجرؤ على مثل هذا الكلام؟



- أعرف عدنان خيرالله منذ وقت طويل، وهو حزبي قديم ويعرف أنني لن أوقع به. الرجل عسكري محترف وصاحب رصيد في الجيش. آلمته الخسارة وإصرار صدام على قرارات تدفع الجيش العراقي نحو الهزيمة. قلت له إذا استمرت إدارة الحرب على هذا المنوال سيدخل الإيرانيون بغداد. وافقني بألم وحكى لي عن جملة أشياء. قال إن ضباطاً لامعين في الجيش حوّلهم إلى أصفار. وتحدث بألم عن الشبان العراقيين الذين يخوضون معارك طاحنة ويستشهدون فيما ينسى الإعلام تضحياتهم ولا يتحدث إلّا عن صدام، فهو واضع الخطط والمشرف على التنفيذ وصانع أي نجاح. ألغيت من ذاكرة الإعلام العراقي صور الشهداء والأرامل ولم يبقَ إلا شخص صدام حسين. زاد كلام عدنان خيرالله قناعتي. عدت إلى نيويورك وفي شهر تموز (يوليو) أرسلت كتاب استقالتي.​
 
رد: الجزء الأخير من كتاب صدام مر من هنا

• ماذا كان رد فعل صدام؟



- أرسل لي صهره حسين كامل. زارني في نيويورك وحاول بكل الطرق إقناعي بالعدول عن الاستقالة. قال إن البلد في حرب وأنت شخص معروف ولك تاريخ في الحزب وسيستغل الإيرانيون استقالتك ضدنا. أرجوك فلنبحث عن حل. مستعدون لأي وظيفة تطلبها. عرض إغراءات مالية ووظيفية.



• لنعد إلى مقتل عدنان خيرالله؟



- ذهب صدام وعائلته وعدنان وآخرون إلى شمال العراق في لقاء ذي طابع عائلي. خلال عودة عدنان انفجرت طائرة الهليكوبتر. التفسير الرسمي الذي قدم هو أن الطائرة سقطت بفعل العاصفة. وقال فنيون إن الرواية غير مقنعة وإن الطائرة كانت ملغومة.



• هل تعتقد فعلاً بأن صدام قتله؟



- نعم، وهذه قناعة موجودة لدى معظم العراقيين. عدنان خيرالله صاحب رصيد وسمعة واسعة في الجيش. وهذا كاف ليقرر صدام إزاحته. وفي المناسبة لم يحصل تحقيق جدي في الحادثة.



العلي: من الصعب أن يتعايش صدام مع أي رجل قوي



• جئتم إلى السلطة في 1968، هل كان صدام يومها يعتبر الكويت جزءاً من العراق؟



- لا. أستطيع التأكيد أن لا صدام ولا الآخرون كانوا يعتقدون ذلك. لم يكن الموضوع مطروحاً ولم يبحث ولو مرة واحدة. كان هناك تسليم عام بأن موضوع الكويت انتهى وباتت دولة مستقلة وعلينا التعامل مع الواقع الجديد. أكبر طموح كان موجوداً لدى البعض هو أن تكون العلاقة مميزة فالبلدان لديهما حدود مشتركة وأصول الكويت ربما تكون عراقية في هذه الحدود وليست أكثر.



• لماذا اجتاح صدام حسين الكويت؟



- واجه صدام بعد انتهاء الحرب مع إيران واقعاً جديداً. جيش يزيد عدد أفراده على مليون شخص خاض حرباً على مدى ثماني سنوات وصار يشكل عبئاً في أكثر من اتجاه. التفت صدام ووجد أمامه ديوناً هائلة لن يستطيع العراق إيفاءها. طبعاً ابتهج صدام بما اعتبره "انتصاراً" وتحركت ماكينته الدعائية. في الوقت نفسه كان عليه أن يواجه حقيقة تردّي الوضع الاقتصادي والحيلولة دون تسببه، مع عوامل أخرى، في سقوط نظامه. لم يجد صدام حلاًّ أفضل من دخول الكويت ووضع يده على ثروتها النفطية وربما التفاوض حول الديون والدور مستقبلاً. طبعاً هذا تفسير سريع لكنني أعتقد بأن وطأة الديون كانت المحرك الأول له. جس صدام نبض أطراف عدة قبل تنفيذ خطته ومن دون أن يكشف نواياه. في هذا السياق يأتي لقاؤه مع السفيرة الأميركية آبريل غلاسبي. استنتج صدام من هذا اللقاء ومن محاولات أخرى لجس النبض أن دخوله الكويت لن يتسبب في رد فعل غير عادي من جانب الغرب. في المقابل كان صدام ينوي تقديم منافع كبرى للغرب وبينها خفض أسعار النفط وفتح أسواق الكويت وإضافة إلى ذلك لعب دور الحليف والشرطي في المنطقة. ربما من سوء حظ صدام حسين أن الوضع الدولي لم يكن ملائماً لحساباته فقد كان الاتحاد السوفياتي يتداعى.



• كيف كانت مشاعر صدام تجاه سورية والحزب الحاكم فيها؟



- لم يكن لديه أي ود تجاه القيادة السورية. هنا أريد أن أقول إنه قبل تسلمنا السلطة وبعدها كان الرئيس الراحل حافظ الأسد يبعث برسائل يؤكد فيها رغبته في قيام أفضل العلاقات والتفاهم معنا. وللأمانة كان البكر يثق بالأسد ويحبه ويكنّ له وداً ورأيه فيه إيجابي تماماً. هذا كلام سمعته أنا وسمعه غيري. العائق الأكبر أمام هذا التقارب كان صدام حسين الذي اعتبر أن موقعه سيكون ضحية أي تقارب بين بغداد ودمشق. كان صدام حاقداً على الأسد لشعوره أن الرئيس السوري لا يسلم له بالزعامة في المنطقة. كان صدام يزرع الألغام أمام أي محاولة جدية للتقارب بين العراق وسورية. وبلغت هذه السياسة ذروتها حين اعتبر تهمة التعامل مع سورية ذريعة كافية لإعدام كادرات قيادية في الحزب، وذلك غداة توليه الرئاسة خلفاً للرئيس البكر. تحدث صدام عن مؤامرة. والواقع أن المؤامرة لم تكن موجودة.

 
رد: الجزء الأخير من كتاب صدام مر من هنا

مشاعر صدام تجاه العرب



• ما هي مشاعره تجاه أهل الخليج؟



- مشاعره غير طيبة تجاههم، لا يكنّ لهم التقدير. يتعامل معهم باستعلاء كي لا أقول أكثر. أقول من دون مبالغة إن صدام ينظر إلى الحكام العرب كأنهم وكلاء عابرون لا قدرة لهم على القرار ويعتبر نفسه الرجل الأجدر بقيادة العالم العربي.



• يعتبر نفسه قائداً تاريخياً؟



- لو عدت إلى خطبه لوجدت أن لديه شعوراً بأنه صاحب مهمة إنسانية كبرى أي أكبر من الأمة العربية. يعتقد بأن حجمه أكبر من أن تستوعبه الساحة العربية.



• يكره إسرائيل جداً؟



- نعم. موقفه معروف من إسرائيل ككيان.



• قيل إنه أجرى اتصالات بالأميركيين خلال وجوده في القاهرة؟



- أعتقد بأن قصصاً كثيرة ألصقت به. شخص يريد أن يحكم الأمة العربية أو أن يقودها هل يقبل أن يكون عميلاً لـ"سي اي ايه"؟ أشك في ذلك.



• كيف كانت علاقته مع السوفيات؟



- علاقات قوية جداً لكنها علاقات مصلحة، وهو كان يبرمجها وفق مصالح نظامه ومشروعه ولا يسمح للسوفيات بالتأثير على قراره أو التدخل في الشؤون الداخلية.



• كرهه للشيوعيين صريح؟



- لا شك في ذلك.



• في 11 آذار (مارس) 1970 وقع صدام اتفاق الحكم الذاتي مع ملا مصطفى البارزاني. هل فعل ذلك عن قناعة؟



- خلال اللقاءات التي كنا نعقدها في سياق التخطيط لإطاحة حكم عبدالرحمن عارف كنا نستعرض المشاكل التي سيتعين علينا مواجهتها في حال نجاح حركتنا. وكان واضحاً أن الموضوع الكردي سيكون في مقدمتها. وظهرت في تلك الاجتماعات قناعة مفادها أنه لا يمكن حل المشكلة مع الأكراد بالوسائل العسكرية نظراً إلى طبيعة المشكلة وطبيعة المنطقة التي يقطنها الأكراد. ثم إن استمرار النزاع مع التنظيمات الكردية المسلحة يستنزف إمكانات الدولة العراقية ويشغلها عن البناء الداخلي من جهة وعن دورها في النزاع العربي ـــ الإسرائيلي من جهة أخرى.



في ضوء ما حصل لاحقاً تبين أن صدام لم يوقع بيان 11 آذار 1970 عن قناعة. لعله اعتبر ان مصلحته ومصلحة النظام تقضيان بالحصول على هدنة لالتقاط الأنفاس.



مشكلة صدام أنه يبرم اتفاقات لكن قناعته الحقيقية هي أن الأمور يجب أن تحسم في الميدان أي عن طريق القوة القاهرة. ثم إنه من الصعب عليه أن يتعايش مع أي رجل قوي أو هناك انطباع بأنه قوي. وهذا ما يفسر توقيعه مع البارزاني وقراره بعد فترة غير طويلة باغتياله فكانت محاولة الاغتيال الشهيرة.



• هل تجزم أنه كان صاحب فكرة الاغتيال؟



- نعم. ومن كانوا في القيادة آنذاك يعرفون هذه الحقيقة. صدام اتخذ القرار وأوكل التنفيذ إلى ناظم كزار مدير الأمن العام. وحتى لو تجاهلنا المعلومات المتوافرة في الدائرة الحزبية الضيقة هل يعتقد أحد بأن كزار المدين لصدام بموقعه يجرؤ على اتخاذ قرار من هذا النوع وبهذا الحجم يمكن أن يغرق البلد مجدداً في الاقتتال. أكثر من ذلك أقول إن صدام وضع الخطة شخصياً وأشرف كزار على التنفيذ.



يجب الانتباه هنا إلى أسلوب صدام. في تلك المرحلة لم يكن غروره بلغ الحد الذي يمنعه من رؤية موازين القوى. حين يحتاج يتنازل ويوقع لكنه لا ينسى أبداً أنه تنازل ويستعد للعودة عن هذه التنازلات لاحقاً.



• وتوقيعه اتفاق الجزائر مع شاه إيران محمد رضا بهلوي في 1975؟



- يمكن قراءته في ظل الظروف الداخلية والإقليمية التي كانت سائدة. لم يكن ذلك الاتفاق سهلاً، لكن صدام كان قادراً على اتخاذ القرارات الصعبة. كان يريد تدعيم سلطته في الداخل واستكمال هيمنته على كل المواقع بانتظار أن تكتمل الظروف التي تمكّنه من انتزاع الموقع الأول في البلد. في تلك الفترة كان الجيش العراقي منهكاً في القتال مع الأكراد ولديه مشاكل تسلح وذخيرة. الأكراد كانوا مدعومين من إيران وقوى أخرى كثيرة ومناطقهم صعبة وهم أصحاب خبرة في القتال. حرب العصابات صعبة على الجيش النظامي. جاءت فرصة الجزائر فاعتبرها ثمينة جداً لعقد صفقة مع الشاه على حساب الأكراد. محمد رضا بهلوي كان أيضاً يحتاج إلى الاتفاق إذ كان العراق يدعم المعارضة الإيرانية.​
 
رد: الجزء الأخير من كتاب صدام مر من هنا

رحلة عفلق الى بغداد



• بعد توّليكم السلطة في 1968 كلفتك القيادة القطرية الذهاب إلى البرازيل لإقناع ميشيل عفلق بالعودة إلى بغداد. لماذا ومن كان وراء الفكرة؟



- هذه المسألة طويلة ومعقدة ولا بد لفهمها من العودة إلى الخلاف الذي كان قائماً بين البعث في سورية والبعث في العراق. كان السوريون يقدمون أنفسهم على أنهم أهل اليسار ويتهمون التنظيم العراقي بسلوك نهج يميني. أثبتت التجربة أن هذه الشعارات لم تكن صحيحة أو دقيقة. عندما تسلمنا السلطة في 1968 أثير الموضوع في أحد الاجتماعات. كانت هناك قطيعة بين القيادة القومية والحزب في سورية. في العراق كنا ننظر إلى القيادة القومية بوصفها الشرعية الحزبية واعتبرنا أن من الخطورة بمكان أن ينتفض الحزب في هذا القطر أو ذاك ضدها، خصوصاً في صورة انقلاب عسكري عليها. لو سلّمنا بهذا المنطق لتحول الحزب إلى جزر كي لا نقول إلى ما هو أكثر من ذلك. لا يمكن التذرع بمعارضة توجه للقيادة القومية لتبرير ترتيب انقلاب عليها. في الاجتماع كان الرأي متفقاً على أن القيادة القومية يجب أن تعود إلى العراق وتحديداً في شخص ميشيل عفلق. كلفتني القيادة القطرية أن أذهب إلى البرازيل لإقناعه. وإذا صدقت الذاكرة أعتقد بأن الرئيس أحمد حسن البكر كان وراء الاقتراح ربما لاعتقاده بأن عودة عفلق ترسخ شرعية البعث الذي تسلّم السلطة في بغداد.



• ماذا حدث في البرازيل؟



- أروي هنا بأمانة كاملة. استقبلني عفلق استقبالاً حسناً وكان ترحيبه شديداً. تحدثنا وقدمت له صورة عن الوضع في العراق وعن الأوضاع في القيادة القطرية. الواقع أنني فوجئت بالظروف التي كان الرجل يعيشها. كان يقيم مع زوجته وأطفاله الأربعة في غرفة واحدة لدى خاله، وهو طبيب متقاعد متقدم في السن. ولم تكن ثمة حاجة إلى شروحات. فقد بدا الرجل يعيش في ظروف مزرية جداً. شعرت بألم لأن هذا الرجل الكبير الأحلام اختار الابتعاد وفي ظروف قاسية. قبل مجيئنا إلى السلطة كانت العلاقات مقطوعة. فهو مقيم في البرازيل ونحن قيادة تمارس العمل السري. قلت لعفلق إن الرفاق في القيادة القطرية يصرّون على أن تعود إلى بغداد.



• ماذا كان رده؟



- كان الرجل في حالة نفسية شديدة الصعوبة. وبدا في الأيام الأولى أنه أقفل الباب نهائياً أمام احتمالات العودة. كان النقاش صعباً وطويلاً. قال عفلق وبمزيج من الأسف والألم إنه لا يرى ما يربطه بتنظيمات الحزب في سورية والعراق. قال: "هذا ليس الحزب الذي عملنا من أجله ووضعنا الأسس الأولى له. تغير الحزب كثيراً وتبدلت مسيرته وابتعدت عن المبادئ والقواعد والضوابط. لم أعد أشعر أن صلة ما تربط بيني وبين هذا الحزب. أنا شخص لم تبق لي علاقة به.



أتمنى لكم كل توفيق ونجاح. أتمنى أن تؤدوا دوركم الوطني والقومي بشكل صحيح وأن تكونوا في خدمة شعبكم وأمتكم. أنا لم أعد في حاجة إلى تجارب جديدة. ما عشته يكفي ولا مبرر لتكراره. عشت كل هذه المشاكل والمآسي وأنا الآن اخترت العيش في البرازيل. أشكرك لأنك جئت. وأشكر الرفاق في بغداد. رجائي أن تتفهموا موقفي وعدم قدرتي على العودة. أرجوك أن تنقل سلامي إلى الأخوان".



قال عفلق ذلك بلهجة قاطعة تظهر عمق المرارة التي يشعر بها. وخالجني شعور أن خيبته من ممارسة الحزب دفعته إلى الطلاق الكامل مع الآمال التي علقها عليه سابقاً. كان واضحاً أنه يعتبر أن الحزب في سورية خرج عن المسار القومي للتنظيم وأن شيئاً شبيهاً حصل في العراق نفسه خصوصاً حين كان الحزب بقيادة علي صالح السعدي. كان من الصعب علي، وعلى أعضاء القيادة في بغداد، تقبل هذا الموقف. مكثت في البرازيل ثلاثة أسابيع نجحت في نهايتها بإقناعه بالموافقة على العودة.



• هل قال شيئاً محدداً عن البكر؟



- لم يخض تفصيلاً في الأشخاص لكن كان واضحاً أنه يكن احتراماً كبيراً للبكر.



• وعن صدام؟



- كان عفلق يعرف صدام لكن لم يتوقف عند اسمه إذ لم يكن صدام بدأ يومها صعوده الفعلي.



• ماذا اشترط للعودة؟



- الحقيقة أنه لم يضع شروطاً بمعنى الشروط ولم يظهر لي أنه كان أعد خطة للتفاوض. كان قراره الاستمرار في الابتعاد. لم أقبل. قلت له أنت ميشيل عفلق. لست عضواً منتسباً إلى الحزب. أنت المؤسس. مهما كان حجم التشويهات التي لحقت بالحزب عليك التصدي لها. لست عضواً عادياً لتعلن يأسك وتطوي الصفحة. قدرك أن تستمر في هذا الحزب وأن لا تنسحب منه إطلاقاً. لا يمكنك الاستقالة والابتعاد. يجب ألا تنسى الحقائق وهي أن بعثيين استشهدوا من أجل مبادئ الحزب الذي أسسته. وأن مئات البعثيين اعتقلوا ونكل بهم وأحيلوا على المحاكم وكانوا يهتفون تحت التعذيب بحياة الحزب. هل يصح أن يتعرض هؤلاء لما تعرضوا له بسبب وفائهم لعقيدة الحزب، عقيدة ميشيل عفلق، وتجلس أنت في البرازيل غير مبال بما يحدث وترفض العودة إلى موقعك في الطليعة؟ أعطى هذا الأسلوب ثماره. وافق على العودة لكن على مراحل، بمعنى أن يمر على باريس وبعدها بيروت للقاء الرفاق الموجودين هناك وسماع آرائهم ثم يتوجه إلى بغداد.
 
رد: الجزء الأخير من كتاب صدام مر من هنا

• كيف استقبل في العاصمة العراقية؟



- كان الاستقبال حافلاً وكان الجميع في انتظاره يتقدمهم البكر.



• ماذا تقول عن شخصية عفلق؟



- يصعب اختصارها بكلمات قليلة. رجل هادئ جداً ومستمع جيد جداً. مقلّ في الكلام لكنه شديد التركيز حين يطرح أفكاره. متواضع ويعشق البساطة. جوهر سلوكه لم يتبدل على رغم محاولات صدام استدراجه إلى عالم المظاهر والحياة المترفة. دوره أعطاه هالة ومهابة.



• يقال إن مكتبه كان كبيراً وصلاحياته قليلة؟



- هذا بالضبط ما حدث. اهتموا براحته كشخص. وفّروا له شروط عيش كريم ولائق بعدما عانى في البرازيل ضنك العيش. كانت ظروف إقامته هناك رديئة جداً. في العراق أعطوه مكتباً محترماً وسكناً لائقاً. اعتنوا بحياته العادية والشخصية لكن لم يعطوه دوراً باستثناء بعض مظاهر التكريم.



علاقة صدام بعفلق



• هل كان صدام يحبه؟



- لا صدام كان يحبه ولا البكر. كانا يخافان منه ولديهما حذر عميق تجاهه. كانت لديهما شكوك يقتضي شرحها الخوض في تفاصيل كثيرة.



برز نجم صدام وبدأت صورته تظهر على الساحة العربية في السبعينيات. استقطب مشاعر فئات من المواطنين أعجبوا به وراهنوا عليه. صارت له صورة القائد. حتى إن الحزب الشيوعي العراقي، هذا الحزب القديم والعتيد، انخدع، وسماه "كاسترو العراق". وتحدثت وسائل إعلامهم عنه بإيجابية. الأكراد أيضاً أعجبوا به وراهنوا على حل معه وتعاملوا معه بإيجابية عالية.



وبعد تأميم النفط في 1972 صارت بتصرف صدام ثروة هائلة يمكنه توظيفها في خدمة طموحه. هكذا صارت الرشوة ورقة موازية يستخدمها صدام إلى جانب ورقة الترهيب. قام بعملية شراء واسعة. رُشى لسياسيين وإعلاميين ولمثقفين عرب. هذا السلوك مكّن صدام من تقديم نفسه في صورة مثالية وبوصفه القائد المنتظر للأمة العربية. في مناخ الترويج الإعلامي الهائل هذا كان من الصعب اكتشاف السلبيات. كانت الدول منهمكة في الحصول على عقود، وبعض المؤسسات في المساعدات، وأفراد كثر بالرشى. كان العراق في خضم نشاط كبير. استورد ما يقرب من خمسة ملايين عامل.



أوردت كل ذلك لأقول إن ميشيل عفلق خُدع هو الآخر وإلى حد أنه اعتبر صدام "هدية السماء إلى البعث وهدية البعث إلى الأمة العربية". هكذا وصفه عفلق في إحدى الخطب. أستطيع أن أقول، وبحكم علاقاتي الحزبية، إن عفلق قبل وفاته بفترة قصيرة كان يبدي أسفه الشديد لوقوعه في خطأ الإعجاب بصدام. أنا على اطلاع مباشر في هذا الأمر. لكن الرجل كان تقدم في السن ولا توجد لديه خيارات أخرى. لم يكن لديه غير تقبل الحالة كما هي.



• هل تقصد أن صدام لم يكن يثق بعفلق؟



- لم يكن يثق به أبداً، ليس لأن الشخص ميشيل عفلق. صدام لا يريد شريكاً مهما كان اسمه. لدى صدام نزعة فردية قاتلة وليس لها مثيل. أنا أعتقد بأن هتلر كان يستشير القيادة أما صدام فلا يفعل.



حتى ستالين كان لبعض أعضاء القيادة لديه أدوار. صدام لا يسمح لأي إنسان بأي دور. طبعاً كان صدام يتظاهر بالحب والود والاحترام تجاه ميشيل عفلق. لم يكن يزعجه أن يستخدم عفلق كلافتة في ما يتعلق بالشرعية الحزبية أو لإغاظة آخرين. أقول وأعرف ما أقول، لم يكن صدام يأتمن عفلق ولم تكن لديه مشاعر ود تجاهه.



• متى التقيت عفلق للمرة الأخيرة؟



- في 1983 في باريس أي بعد استقالتي والقطيعة مع النظام. عرفت أنه في العاصمة الفرنسية فذهبت إليه وكان لديه زوار. لدى مغادرتي قلت له أريد أن أراك فطلب رقم الهاتف والعنوان حيث أقيم. بعدها اتصل وجاء مع زوجته ورفيق من لبنان. أخذوني في سيارة إلى خارج باريس وجلسنا في مقهى بقرب غابة.



أدرك عفلق أنني أريد التحدث إليه على انفراد فمشينا في الغابة. كنت مكلفاً من عدد من الرفاق أن أتمنى عليه عدم العودة إلى بغداد وعدم الانزلاق أكثر في مديح صدام. قلت له أنت مؤسس الحزب ومع ذلك تمتدح صدام في خطبك على رغم تحوله رمزاً للمشاكل التي يعانيها العراق ولعذابات البعثيين أنفسهم. ذكّرته بالإعدامات وتحديداً بعبدالخالق السامرائي، وهو كان يحبه ويقدره. وقلت له إن امتداحه صدام يجرح مشاعر البعثيين وأن هذا الموقف لم يعد مقبولاً. رجوته أن يشرح موقفه.
 
رد: الجزء الأخير من كتاب صدام مر من هنا

• ماذا قال؟



- فوجئت أنه لم يمتدح صدام ولم يدافع عنه. قال: "إنني الآن، يا صلاح، وبعد كل الذي جرى أجد نفسي أمام وضع يصعب علي الخروج منه. كبرت في السن ولن أعيش أكثر من سنتين أو ثلاث. لدي عائلة وأنا محكوم بالإعدام في سورية وغير قادر على خيارات جديدة. صدام شره للمديح وأنا مضطر أن أتجنب مشاكله". قلت له: "نحن لا نطلب منك أن تعادي صدام. نطلب فقط أن تبقى في باريس احتراماً للحزب ولرفاقك الأحياء والأموات، وإذا كانت المشاكل إعالة عائلتك فأنا والرفاق الذين كلفوني التحدث إليك نتكفل ذلك".



كان الحوار طويلاً واستمع باهتمام ولم يبد اعتراضاً أو امتعاضاً. في النهاية قال: "أنا محكوم بظروف معينة وإذا تمكنت من الخروج منها أعدك وعداً كاملاً بتنفيذ ما طلبت".



عاد عفلق إلى بغداد ولا أعرف هل هي وطأة السن دفعته إلى الاستسلام أم خوفه من الاغتيال في الخارج.



• ماذا قال عن موضوع الإعدامات؟



- علق عليه وتوقف عند إعدام عبدالخالق السامرائي، قائلاً إن هذا الإنسان كان على درجة من الصفاء والإخلاص والتواضع تجعل مقتله بمثابة محنة كبيرة جداً. وأذكر جيداً قوله إن محنة عبدالخالق السامرائي لم تحصل إلا مع الحسين.



• وعن الحرب العراقية ــ الإيرانية التي كانت في أوجها؟



- أشار إلى أن صدام ورط الحزب والعراقيين في تلك الحرب. أذكر جيداً قوله إن صدام قام بعمل خاطئ بمحاربته إيران وخلق مشاكل للعراقيين والعرب.



• هل كان يتحدث بصراحة عندما كنت تلتقيه في بغداد؟



- كان يعرف أن أي حديث في المكتب أو البيت لا بد أن يصل إلى الأجهزة. كان يشعر أن مقره مزروع بالميكروفونات ولم يكن في وارد الدخول في مشاكل ومواجهات.



• كم مرة دخلت السجن؟



- ثلاث مرات. الأولى في العهد الملكي وكان التعذيب بسيطاً. كان ذلك في 1957 ولبضعة أشهر. الثانية في 1964 تعرضت فيها لتعذيب قاس للغاية. عذبت على أيدي اثنين من مديري الشرطة هما فوزي الجميري وعبدالله شعبان. ضُربت بقضيب حديد على رأسي وما يزال الجرح واضحاً. وضُربت على يدي وكُسرت إصبعي. وعلقت من يدي في سقف الغرفة في سجن تابع لمعسكر التاجي للجيش في شمال بغداد. دام الاعتقال نحو تسعة أشهر. الثالثة كانت في 1965 ودام الاعتقال سبعة أشهر لكن لم أتعرض لتعذيب.



الطريف أنه بعد تسلمنا السلطة في 1968 تذكر الرئيس البكر الذي كان معتقلاً معي في 1964 كيف كان يراني أنزف دماً أحياناً خلال نقلي في السجن. ذات يوم حملوني على نقالة لأنني لم أستطع المشي. اتصل بي الرئيس البكر وذكرني بتلك المشاهد وقال لي نريد أن تدلي بشهادتك على مديري الشرطة اللذين أشرفا على تعذيبك لنعاقبهما. وفي الحقيقة شعرت أن تربيتي وخلفيتي السياسية وقناعاتي تمنعني كمسؤول في تلك الفترة من فتح ملف شخصي فرفضت. خلال رحلة السجون التقيت البكر كما التقيت صدام أيضاً.



• هل تعرض صدام للتعذيب في السجن؟



- لم أره تحت التعذيب. شاهدته في دائرة الأمن العام.



• لم تزر بغداد منذ 1982؟


نعم، والزيارة ليست واردة ما دام صدام موجوداً. هناك حكم بالإعدام صدر بحقي والذنب أنني استقلت. يعتبرون الاستقالة العادية مؤامرة. لدي أربعة أولاد لم يشاهدوا البلاد. حتى عندما كنت سفيراً لم أكن أجرؤ على أخذ عائلتي كاملة إلى العراق لأنني لم أكن مطمئناً.
 
عودة
أعلى