الانتقام من أبطال المخابرات المصرية على الطريقة الإسرائيلية
بقلم محمد الباز
العربى
15\11\2009
التعليق التالي ، بتاريخ 15 نوفمبر ، بستدعي منا التمعن في فقراته .. وسطوره ... وأحداثه ...
كما يحثنا أيضا علي التجاوب مع رغبة كاتبه ، التالية حول ... "ضرورة نشر قصص بطولات وأعمال هؤلاء الذين بذلوا حياتهم وأن نحتفظ لهم بما فعلوه، للحفاظ على ذاكرتنا الوطنية، فهذا بيس فقط من حقهم ، ولكن أيضا من حق على لأجيال الجديدة،
إننا أمام حالة من الإساءة البالغة التى وجهها أبناء هؤلاء الأبطال إلى آبائهم، أعرف أنهم لا يزنون فى ميزان التاريخ شيئا، فسوف يطوى التاريخ صفحاتهم ويمضي، وتبقى صفحات آبائهم بيضاء ناصعة لا يمسها السوء من قريب أو بعيد.
لكن هل تريدون الأمانة، إننا فى حاجة ملحة الآن للحفاظ على ذاكرتنا الوطنية، فمن حق هؤلاء الذين بذلوا حياتهم أن نحتفظ لهم بما فعلوه، أن ننشر قصص بطولاتهم وأعمالهم الجليلة على لأجيال الجديدة، أن نقرر حياتهم فى المناهج الدراسية بدلا من المناهج البائسة التى يدرسها أبناؤنا، إن اقتراحى هذا يعرف طريقه جيدا، وأرجو أن يجد استجابة.. أرجو ذلك جدا.
الانتقام من أبطال المخابرات المصرية على الطريقة الإسرائيلية بقلم محمد الباز
العربى 15\11\2009
وكأننا أمام فصول من الدراما الإغريقية، ما نتابعه على المساحة الفاصلة بيننا وبين إسرائيل يصل إلى درجة الأسطورة، التاريخ يصر على تقليب أوراقه، لا يرحم الذين رقدوا تحت التراب سالمين، بعد أن أدوا ما عليهم لوطنهم، يريد أن يزعجهم ويقلق منامهم، ويؤرق راحتهم الأبدية.
إسرائيل ليست كيانا استعماريا شرسا فقط، ولكن قلبها أسود، لا تنسى أبدا من أهانوها ومرغوا كرامتها فى الأرض، وجلبوا الطين على رأسها، تعرف أسماءهم جيدا، وفى اللحظة المناسبة تنتقم وتفعل ما تعتقد أنها ترد الاعتبار لنفسها ولكرامتها المذبوحة.
فى حمى متابعة الفضيحة التى كان هشام محمد نسيم ابن بطل المخابرات المصرية المعروف باسم نديم قلب الأسد، جرت وقائع ما يشبه الجريمة فى شرم الشيخ، ابن أحد أبطال عملية إيلات كان بصحبة صديق ألمانى له فى شرم الشيخ، نزل الصديقان يمارسان رياضة الغوص، وبعد فترة خرج الصديق الألمانى وحده، وغرق ابن بطل إيلات.
لا أحد يعرف شيئا عن هذه الواقعة، ولم تتصدر مانشيتات الصحف، وقد يكون هناك نوع من التعتيم المقصود عليها، ربما لأن هناك من يعتقد أنها كانت حادثة قدرية، ليس وراءها مؤامرة، لكن تفاصيل ما جرى تشير إلى أن الواقعة ليست طبيعية، وأنه ربما كان هناك من أراد أن ينتقم بعد كل هذه السنوات من أحد أبطال عملية إيلات، بقتل ابنه غرقا، وهو أمر ليس بعيدا عن رجال الموساد الإسرائيلى الذين يعتبرون الانتقام من أعداء الدولة العبرية وخصومها واجبا مقدسا.
كانت هذه الواقعة عابرة، ولم تصمد، أما القصة التى فجرتها جريدة هاآرتس الإسرائيلية، كانت ياسمين ابنة هشام محمد نسيم تحتفل بعيد ميلادها الثانى عشر، وهو السن التى يبدأ فيها التعميد فى الديانة اليهودية، كانت الصحف الإسرائيلية ومنذ 12 عاما، قد أشارت إلى ميلاد الطفلة من أم يهودية وأب مصرى هو هشام ابن أحد أبطال المخابرات المصرية، لكن الخبر وقتها لم يلفت انتباه أحد هنا فى مصر إلا قليلا، لأنه نشر دون تفاصيل.
أما الآن فالقصة نشرت كاملة، هشام ابن محمد نسيم الذى كان واحدا من المؤسسين الأوائل لجهاز المخابرات المصرية، والذى قام بأدوار مهمة فى عمليات خطيرة نفذها الجهاز ضد إسرائيل مثل تدمير إيلات وتدمير الحفار الذى كانت إسرائيل قد استأجرته للتنقيب عن البترول فى خليج السويس، وكان هو العراب الأول والأساسى فى زرع وتجنيد الجاسوس الشهير رأفت الهجان، ابن هذا الرجل استراح لمعاهدة السلام بين مصر وإسرائيل.
اعتقد كما اعتقد غيره أن الأمور أصبحت طبيعية للغاية، وأنه يمكن أن يستثمر أمواله مستخدما الإسرائيليين فى ذلك، أنشأ قرية سياحية فى نويبع، وكان لابد من تسويق المشروع، فاستعان بفتاة إسرائيلية لمهمة التسويق، لكن يبدو أن العلاقة بين الشاب المصرى والفتاة اليهودية لم تتوقف عند البيزنس، فقد امتدت إلى الحب والغرام، الذى ترجم إلى علاقة جنسية، يقول هشام فى اعترافه بأن هذه العلاقة كانت غلطة عمره، أنه تزوج منها عرفيا.
هل كانت هذه الفتاة "فيرد ليبوفيتش" الإسرائيلية، مجرد فتاة عابرة فى حياة هشام نسيم، أم أن هناك من كان يحركها لتصطاد هذا الشاب على وجه التحديد، لقد ظل والده طوال حياته يقف كصخرة صلبة فى وجه إسرائيل، ولابد من الانتقام منه، وليس أكثر من الانتقام الخاص الذى يمسه فى أعز ما يملك، أن تكون له حفيدة يهودية إسرائيلية، تقول له إن الكيان الذى أنفق عمره من أجل القضاء عليه وإفنائه، سيظل قائما وممتدا، بل خرج من صلبه من ساعد هذا الكيان فى الاستمرار والحياة والحيوية.
إن ياسمين التى يقول هشام إنها مسلمة وأمها مسلمة، تدعوها الصحافة الإسرائيلية بـ"ياسمين ليبوفتش"، فهى بالنسبة لها مواطنة يهودية إسرائيلية، طبقا للشريعة اليهودية، التى لا تعترف أساسا بالزواج بين يهودية وغير يهودي، أى أن الفتاة الصغيرة بالنسبة لليهود ابنة غير شرعية نبتت من خلال علاقة محرمة بين يهودية ومصري.
كان هشام نسيم موفقا فى شيء واحد عندما قال إن من يقيم علاقة مثل هذه يستحق الضرب بالجزمة (التصريح منسوب له فى حوار أجراه معه الزميل محمد عبود فى جريدة المصرى اليوم)، وقد يكون هشام قال ذلك لأنه أوقع ابنته فى أزمة هوية ضخمة جدا، وأنه لا يستطيع بأى حال من الأحوال أن يقيم معها ويربيها على طريقته.
لكن العقاب الذى ذهب إليه يستحقه لشيء مختلف تماما، وهو أنه حمل والده قبل أن يموت ما لا تستطيع الجبال أن تتحمله، وليس بعيدا أن يكون هذا الجبل الذى اسمه محمد نسيم مات متأثرا بما جرى من ابنه، فقد دخل مستشفى وادى النيل على قدميه، لكنه خرج منها جثة هامدة.
لابد أن هذا الرجل اختلى بنفسه لساعات طويلة استعرض فيها تاريخ حياته كله، ما فعله وقدمه من أجل الوطن، لكن وفى لحظة واحدة يأتى ابنه ويضيعه من أجل لحظة متعة، وجد نفسه بين شقى رحي، إنه لا يستطيع أن يتبرأ من ابنه ومما فعله، لا يستطيع أن يضحى بحفيدته، لكنه فى الوقت نفسه لا يستطيع أن يتقبل الأمر على علاته وكما جري، ولذلك كان من الأفضل له أن يرحل عن هذا العالم الذى لا يرحم أبطاله، بل يظل يتربص بهم حتى ينهى أمجادهم وهم على قيد الحياة.
ما حدث من ابن محمد نسيم واعترف به كاملا، لم يكن بعيدا عما حدث من ابن رأفت الهجان، الجاسوس المصرى الذى أوجع إسرائيل عندما كشفت المخابرات المصرية الستار عن قصته كاملة، وكان لمحمد نسيم الدور الأكبر والأهم فى زرعه فى الجسد الإسرائيلى الذى لم يلفظه بل على العكس فقد تقبله بصورة طبيعية جدا.
لقد حاولت إسرائيل أن تنتقص من شأن وقيمة وقامة رأفت الهجان، بأن حاولت أن تروج لأنه كان عميلا مزدوجا، لكن محاولات إسرائيل باءت جميعها بالفشل، فلم يكن للمخابرات المصرية أن تصمت أمام هذا الادعاء، فقد كان رأفت الهجان جاسوسا مصريا حتى النخاع، لحما ودما وأعصابا، ولو كان عميلا مزدوجا لأعلنت إسرائيل عنه دون تردد، لكن عندما أعلنت عنه المخابرات المصرية، أصيبت المخابرات الإسرائيلية بما يشبه الارتباك الذى قادها إلى أن تردد هذا الكلام الهزيل بأنه كان عميلا مزدوجا.
كان لابد أن يعتز ابن رأفت الهجان بما فعله والده وبما قدمه لمصر، لكن لخطأ يبدو أنه لم يكن مقصودا، فشل ابن رأفت الهجان فى الحصول على الجنسية المصرية، فولى وجهه شطر إسرائيل ليعمل معها ويقدم نفسه فى خدمتها، مستهينا بكل ما فعله أبوه.
بطل آخر من أبطال الموساد هو مصطفى حافظ، لم يكن أحد يعرفه حتى صدر كتاب إسرائيلى يحمل عنوان "سرى جدا"، كتبه يوسى أرجمان، سجل فيه العمليات التى نفذها جهاز الموساد الإسرائيلي، وكان من بين من اغتالتهم مصطفى حافظ، كان ذلك فى العام 1956، كان مصطفى وقتها يرأس جهاز المخابرات المصرية فى غزة، وبدلا من أن يعود إلى مصر وجد نفسه شهيدا بعبوة ناسفة أرسلتها له المخابرات الإسرائيلية.
أتعب مصطفى حافظ اليهود، فقد كان يقود عمليات الفدائيين الفلسطينيين ويوجهها، وقد أدت هذه العمليات إلى نزيف إسرائيلى هائل، ولم يكن هناك قرار مناسب فى الموساد إلا اغتياله والتخلص منه وهو ما حدث.
لم يكن أحد فى مصر يعرف مصطفى حافظ، لكن أهالى غزة كانوا يعرفونه جيدا، بل ويدينون له بالفضل، كانت قصته تروى فى البيوت الفلسطينية كما تروى قصص الشاطر حسن وأبوزيد الهلالي.
لكن وعندما عرف المصريون قصة بطلهم كانت هناك صدمة أكبر، كان لدى مصطفى حافظ أربعة أبناء، منهم الصغرى ناهد التى ولدت فى العام 1949، أى كان عمرها 7 سنوات لحظة اغتيال أبيها، تعلمت ناهد وتخرجت فى الجامعة الأمريكية، وعملت مترجمة فى الصحافة، وعندما هاجرت إلى أمريكا انقلبت أحوالها جميعا.
لم تعد تعترف باسمه ناهد حافظ، بل أصبح اسمها نونى درويش، تردد أنها تركت الإسلام واعتنقت المسيحية، لكنها عادت لتنفى ذلك جملة وتفصيلا، قالت فقط إنها تركت المسجد وذهبت إلى الكنيسة، لأنهم فى الكنيسة لا يتحدثون فى السياسة والحروب والقتل، بل يتحدثون عن الحب والسلام.
لم يكن مهماً ما إذا كانت ناهد حافظ قد خرجت من الإسلام واعتنقت المسيحية من عدمه، فهى حرة فى اختيارها للدين الذى تتعبد به لله، لكن ما كان مذهلا ومخيفا فى آن واحد هو انقلاب ناهد على تاريخ ونضال أبيها، فقد نسب إليها أنها قالت إن موت أبيها يعود إلى الحضارة الإسلامية فى الشرق الأوسط، وإلى حملة إعلان الكره الذى يتم تعليمه للأطفال منذ الطفولة، وأنها لذلك تعمل من أجل الصلح والقبول والفهم بين الإسرائيليين والعرب.
وكأنها بعد كل هذه السنوات تعتبر أن ما فعله والدها كان خطأ، وأن من واجبها أن تعتذر عنه، لقد أصدرت نونى درويش كتابا يعتبره البعض مهماً فى العام 2006، كان عنوانه "الآن يدعوننى كافرة".. وصفت فيه ما اعتبرته سيطرة للمتطرفين المسلمين على المساجد فى أمريكا ودعوتهم إلى كراهية المجتمع الأمريكي، كما انتقدت فيه رد فعل المسلمين على الرسوم الدنماركية المسائية للرسول صلى الله عليه وسلم، ورأت أن رد الفعل الإسلامى كان مبالغا فيه بدرجة كبيرة.
إنها تعمل إذن من أجل أمريكا وإسرائيل، ورغم أنها نفت بشدة أن تكون تبرأت من أعمال أبيها كفدائى ومقاوم، ونفت كذلك أنها وصفته بالإرهابي، إلا أنها فعلت ما هو أعنف وأسخف من ذلك، فقد أعلنت أنها تسامح الإسرائيليين فى كل ما سلف لأنها ترى أن التسامح هو السبيل لتحقيق السلام.
لا يمكن أن أتهم نونى درويش بشيء لم تفعله، لكننى لا يمكن أن أعزل أفكارها كذلك عن التأثيرات الأمريكية والإسرائيلية، إنها تبدو وكأنه أجرى لها عملية غسيل مخ تامة، انقلبت بها على ثوابت وهب أبوها حياته لها.
لا يمكن أن نطالب أن يسير الأبناء على درب آبائهم، فهذا ضرب من الخيال والمستحيل، لكن لماذا يحدث هذه الاندفاع الحاد بعيدا عما حققه أبطال من رجال المخابرات المصرية، لو تم عن قناعة لأعلنا أننا نقبله، لكن وراء كل واقعة وكل انقلاب تقف الأيدى الإسرائيلية تلوح من بعيد، وكأنها تصفق لما جري.
إنها حرب تشويه كاملة نجحت فيها إسرائيل حتى الآن، ففى كل مرة يذكر محمد نسيم وتذكر أعماله البطولية الهائلة، لابد أن تذكر فضيحة زواج ابنه هشام من يهودية، وكلما جاء ذكر مصطفى حافظ، فلابد أن يلحق بالحديث عنه حديث آخر عن ابنته نونى درويش، التى لم تحافظ حتى على اسمه فاستبدلته باسم آخر، وكأنها تريد أن تمحو كل أثر لأبيها عليها.
إننى لا أركن كثيرا إلى نظرية المؤامرة، لكننى أرى أن لها أفضالا كثيرة لا يمكن لأحد أن ينكرها أو يتنكر لها، خاصة إذا كنا فى مواجهة كيان عنصرى يعمل طوال الوقت بالمؤامرة ولا يجيد غيرها.
أعرف أن من رحلوا لا يحملون من أوزار أبنائهم شيئا، لكن مؤكد أنهم لو اطلعوا على ما يفعلون لعز عليهم ما يجري، إننا أمام حالة من الإساءة البالغة التى وجهها أبناء هؤلاء الأبطال إلى آبائهم، أعرف أنهم لا يزنون فى ميزان التاريخ شيئا، فسوف يطوى التاريخ صفحاتهم ويمضي، وتبقى صفحات آبائهم بيضاء ناصعة لا يمسها السوء من قريب أو بعيد.
لكن هل تريدون الأمانة، إننا فى حاجة ملحة الآن للحفاظ على ذاكرتنا الوطنية، فمن حق هؤلاء الذين بذلوا حياتهم أن نحتفظ لهم بما فعلوه، أن ننشر قصص بطولاتهم وأعمالهم الجليلة على لأجيال الجديدة، أن نقرر حياتهم فى المناهج الدراسية بدلا من المناهج البائسة التى يدرسها أبناؤنا، إن اقتراحى هذا يعرف طريقه جيدا، وأرجو أن يجد استجابة.. أرجو ذلك جدا.
إســلمي يـــامــصـــــر
د. يحي الشاعر