من روائع التعبير القرآني المعجز
يوسف عبد الرحمن
القسم الأول
القرآن الكريم كتاب العربية الأكبر ، والمعجزة البيانية الخالدة، جعله الله آخر رسالاته لهداية البشرية:
{ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود:1]
ولهذا الكتاب خصوصيات في استعمال الألفاظ : فقد اختص كثيراً من الألفاظ باستعمالات خاصة به مما يدل على القصد الواضح في التعبير ، فمن ذلك :
(1) النعمة ... و ... النعيم :
الفرق بين ( النعمة والنعيم ) في التعبير القرآني :
نلاحظ - أخي القارىء - أن كل ( نعمة ) في القرآن الكريم إنما هي لنعم الدنيا على اختلاف أنواعها ، يطرد ذلك ولا يتخلف في كل مواضع استعمالها ، مفرداً وجمعاً،
كقوله تعالى : {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة : 211]
وقوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}[ابراهيم 6]
وقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً}[الأحزاب 9]
أما صيغة ( النعيم ) فتأتي في البيان القرآني متلازمة مع الحياة الآخرة ، يطرد هذا ولا يتخلف في كل آيات النعيم :
كقوله تعالى : {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ}[المعارج : 38]
وقوله تعالى : {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}[الشعراء : 85]
وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}لقمان 8
وقوله تعالى : {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر 8]
وهذا السؤال سيكون في الآخرة .
(2)المطر ... و ... الغيث :
المطر في البيان القرآني يختلف عن الغيث. فالمطر لا يستعمل إلا في موضعي العقاب والأذى ، بخلاف الغيث الذي يذكره القرآن في الخير دائماً .
قال الله تعالى :
{ وَأَمْطَرْنَاعَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } [ الاعراف : 84 ] وقال سبحانه :
{ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } [ الحجر : 74 ] و قال الله تعالى :
{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ } [ النمل : 58 ]
في حين قال عز وجل :
{ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [ الشورى : 28 ] وقال عز من قائل :
{ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } [ يوسف : 49 ] وقال تعالى:
{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } [ الحديد :20 ]
(3) حلف ... و ... أقسم :
الفرق بين ( الحلف والقسم ) في التعبير القرآني :
قال الله تعالى : { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } [ التوبة : 56 ]
وقال سبحانه : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ]
كثيراً ما يفسر أحدهما بالآخر ، وقلما تفرق بينهما المعاجم . نحتكم إلى البيان الأعلى ، في النص المحكم ، فيشهد الاستقراء الكامل بمنع ترادفهما .
جاءت مادة ( حلف ) في ثلاثة عشر موضعاً، كلها بغير استثناء ، في الحنث باليمين ( أي اليمين الكاذبة) .
وأما القسم ، فيأتي في الأيمان الصادقة سواء كانت حقيقة أو وهماً .
وبهذا يختص الحلف بالحنث في اليمين ( أي اليمين الكاذبة ) ويكون القسم لمطلق اليمين ، وهذا ما اطرد استعماله في البيان القرآني .
(4) الإِنْسِ ... و ... الانسان :
الفرق بين استعمال الإنس والانسان في البيان القرآني :
الإنس والانسان يلتقيان في الملحظ العام لدلالة مادتهما المشتركة على نقيض التوحش ، لكنهما لا يترادفان . فلفظ ( الإنس ) يأتي في القرآن الكريم دائماً مع الجن على وجه التقابل ، يطرد ذلك ، ولا يتخلف في كل الآيات التي جاء فيها اللفظ قسيماً للجن ، وعددها ثماني عشرة آية . والإنسية نقيض التوحش ، وبهذه الإنسية يتميز جنس عن أجناس خفية مجهولة غير مألوفة لنا ، ولا هي تخضع لنواميس حياتنا :
قال الله تعالى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } [ الانعام : 30 ]
وقال سبحانه : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ]
أما الإنسان فليس مناط إنسانيته كونه مجرد إنس ، وإنما الإنسانية فيها ارتقاء إلى أهلية التكليف وحمل أمانة الإنسان ، وما يلامس ذلك من تعرض للابتلاء والخير . وقد جاء لفظ الإنسان في القرآن الكريم في خمسة وستين موضعاً :
كقوله تعالى : { وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا } [ النساء : 28 ]
وقوله سبحانه : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } [ هود : 9 ]
وقوله سبحانه : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } [ الاسراء : 13 ]
(5) الرؤيا ... و ... الحلم :
الفرق بين الرؤيا والحلم في البيان القرآني :
استعمل القرآن الكريم ( الأحلام ) ثلاث مرات ، يشهد سياقها بأنها الأضغاث المهوشة والهواجس المختلطة ، وتأتي في المواضع الثلاثة بصيغة الجمع ، دلالة على الخلط والتهوش لا يتميز فيه حلم عن آخر ، قال تعالى :
{ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ } [ الانبياء : 5 ]
أما الرؤيا ، فجاءت في القرآن الكريم سبع مرات ، كلها في الرؤيا الصادقة ، وهو لا يستعملها إلا بصيغة المفرد ، دلالة على التميز والوضوح والصفاء . قال الله تعالى : { قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مبين } [ يوسف : 5 ]
(6) الخشية ... و ... الخوف :
الفرق بين الخشية والخوف بحسب التعبير القرآني :
قال الله تعالى : { وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } [ التوبة : 18 ]
وقال تعالى : { وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } [ النور : 55 ]
نلاحظ ان الخشية في البيان القرآني تفترق عن الخوف ، بأنها تكون عن يقين صادق بعظمة من نخشاه ، وأما الخوف فيجوز أن يحدث عن تسلط بالقهر .
والخشية يجب ان لا تكون إلا لله وحده ،دون أي مخلوق ، يطرد ذلك في كل مواضع استعمالها في الكتاب المحكم بصريح الآيات .
وتسند خشية الله في القرآن الكريم إلى الذين يبلغون رسالات ربهم ، ومن اتبع الذكر ، والمؤمنين ، والعلماء ،والذين رضي الله عنهم ورضوا عنه
[الاعجاز البياني للقرآن : 226]
(7) العيون ... و ... الأعين : نلاحظ ان كلمة العيون في البيان القرآني المعجز تختلف عن كلمة الأعين من ناحية الاستعمال . إذ لم يستعمل القرآن الكريم العيون إلإ لعيون الماء . وقد وردت كلمة ( العيون) في القرآن الكريم في عشرة مواضع كلها بمعنى عيون الماء من مثل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [ الحجر : 45 ] وقوله سبحانه :
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ } [ المرسلات : 41 ] وقوله عز وجل :
{ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [ الشعراء : 57 ] ....
في حين جمع العين الباصرة على أعين مثل قوله تعالى :
{ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [ المائدة : 83 ] وقوله سبحانه:
{ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [ الاعراف : 116 ] وقوله عز وجل :
{ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا }[ الكهف : 101 ]
(8) النقمة ... و ... الانتقام : الفرق بين النقمة والانتقام :
النقمـة مصدر للفعل الثلاثي(نقم ) وهي بتصريفاتها مسندة إلى غير الله ، وهي كلمة تدل على الحقد والبغض، أما الانتقام فهو مصدر للفعل الرباعي ( انتقم ) والانتقام وتصريفاته مسند إلى الله فقط ، وهو عقوبة على الذنوب والانحراف.
النقمة وتصريفاتها :
1- { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ } [ المائدة : 59 ]
2-{ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } [ الاعراف : 126 ]
3 -{ وَمَانَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً ..}
[ التوبة : 74 ]
4 - { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ]
فأنت ترى - أخي القارىء - ان النقمة استعملها القرآن مع الكفار والأعداء فقط في حين قال تعالى :
1- { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ }[ آل عمران 4 ]
2 - { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَام ٍ} [ المائدة 95 ]
3 - { فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [ ابراهيم 47 ]
فأنت ترى ان الانتقام وهو العقوبة على الذنوب والانحرافلا تستعمل في القرآن إلا مع الله فقط.
(9) الكُره ... و ... الكَرهالكُرهُ : بضم الكاف. والكَرهُ بفتح الكاف .
كلمتان متقاربتان في البناء والتركيب والحركات ، ومتقاربتان أيضاً في المعنى . الا اننا نجد البيان القرآني المعجز يستخدم الكُره - بضم الكاف - ليفيد المشقة المرغوبة أي يفعلها صاحبها طواعية رغم ما فيها من مشاق ومتاعب فالمؤمن يريد الجهاد ويرغب به رغم مصاعبه والمرأة ترغب بالحمل رغم آلامه :
1 - { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ]
2 - { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } [ الاحقاف : 15 ]
وأما الكَره بفتح الكاف فيفيد فعل الشيء دون رغبة وإرادة. وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم خمس مرات، بمعنى : الإكراه والإجبار والقسر :
1 - قال الله تبارك وتعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين } [ فصلت : 11 ]
2 - وقال الله سبحانه : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ آل عمران : 83 ]
3 - وقال عز وجل : { وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [الرعد 15 ]
نلاحظ في الآيات الثلاثة ورود كلمة ( كره ) بمعنى الإكراه والإجبار والقسر ، وذلك لأن الأمر والتكليف جاء من الخارج.
فالكافر أسلم لله - أي استسلم له - رغم أنفه، وهو كاره رافض ، وكان استسلامه في الجانب اللا إرادي من كيانه - مثل أجهزة جسمه ونواميس حياته - لهذا اعتُبر استسلامه ( كرها ) بفتح الكاف .
وهو يسجد لله مكرهاً مجبراً رغم انفه ، والمراد بالسجود هنا الخضوع ، كما في اللغة ، وليس هكذا استسلام المؤمن لله ، ولهذا وصفه القرآن الكريم بأنه ( طوعاً ) وجعله مقابلاً ومضاداً لاستسلام الكافر وخضوعه الجبري لله تبارك وتعالى.
4 - بين القرآن الكريم أن إنفاق المنافقين لأموالهم غير مقبول ، وإن زعموا أنه في سبيل الله ، لأن ذلك الإنفاق لم يصدر عن إيمان في قلوبهم بل كانوا يريدون به التمويه على المسلمين ، ولهذا وصف الله إنفاقهم بأنه ( كَره ) وأمرنا أن نقول لهم :
{ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ } [ التوبة : 53 ]
5 - نهى القرآن الكريم عن وراثة المرأة كالمتاع والأثاث فقال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا } [ النساء : 19 ]
فقد كان الجاهلي إذا مات أبوه ، ورث أمواله ومتاعه ، ومن جملة ما يرث زوجة أبيه ، فنهى الله تعالى عن هذا التصرف الجاهلي البشع وحرَّمه عليهم ، والمرأة ترفض هذا التصرف وتكرهه ، لأنه إجبار وقسر لها ولذا سماه الله تعالى في القرآن الكريم كَرهاً بفتح الكاف .
[ من كتاب لطائف قرآنية للدكتور صلاح الخالدي بتصرف ]
(10) اللاتي ... و ... اللائي :
ما الفرق بين اللاتي واللائي ؟
نلاحظ أن القرآن الكريم لا يستعمل ( اللائي ) إلا في حالتي الظهاروالطلاق والمفارقة ، أما ( اللاتي ) فتستعمل في غير تلك الأحوال :
1 - قال الله تعالى :
{ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } [ الأحزاب : 4 ]
2 – وقوله سبحانه :
{ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللائِي وَلَدْنَهُمْ } [ المجادلة : 2 ]
3 - وقوله عز وجل :
{ وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا }[ الطلاق : 4 ]
فأنت ترى – أخي القارىء – انه استعمل في الآيات السابقة ( اللائي ) بالهمز وهي آيات تتحدث عن الظهار والطلاق والمفارقة .
في حين قال تعالى في غير تلك الأحوال :
1 – { وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } [ النساء :15 ]
2 – { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } [ يوسف : 50 ]
3 _ { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } [ النور : 60 ]
فانظر – أخي القارىء – إلى دقة استعمال الألفاظ ..
(11) شرى ... و ... اشترى :
كلمتان متقاربتان أصلهما واحد، لكنْ بينهما تضادّ في المعنى بحسب التعبير والأسلوب القرآني المعجز فما الفرق بينهما ؟
نلاحظ أن ( شرى ) قد وردت في القرآن الكريم أربع مرات، كلها بمعنى (باع) ، منها قوله تعالى :
1 - { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [ يوسف:20 ]
أي : باعوه مقابل ثمن .
2 - وقوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } [ البقرة207 ] أي : يبيع نفسه لله ، لنيل مرضاته .
أما فعل ( اشترى ) فإنها بمعنى أخذ، أي قبض المادة المشتراة، ودفع الثمن الذي معه. وقد وردت اشتقاقات هذه المادة إحدى وعشرين مرة في القرآن الكريم ، وكلها وردت فيها بهذا المعنى . فمن ذلك :
1 - قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ .. } [ يوسف : 21 ]
أي : الذي اشترى يوسف من الذين شروه .
2 - وقوله سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ آل عمران : 177 ] أي : أخذوا الكفر، وباعوا الإيمان .
[ لطائف قرآنية للدكتور صلاح الخالدي - دار القلم - بتصرف ]
(12) الجسم ... و ... الجســد :
الجسم والجسد كلمتان متقاربتان في الحروف وفي المعنى ، و المتدبر لكتاب الله يجد أن القرآن يفرق بين هاتين الكلمتين تفرقة بالغة الدقة ... فلكل منهما معنى يغاير معنى الآخر فهما ليسا مترادفين كما يرى البعض ، فالجسم يُطلقُ بحسب السياق القرآني على البدن الذي فيه حياةٌ وروحٌ وحركة. وأما الجسدُ فيطلق على التمثالِ الجامد، أو بدن الإنسان بعدَ وفاته وخروجِ روحه!
وتوضيح ذلك بالآتي :
وردت كلمة الجسم مرتين في القرآن :
قال تعالى عن ( طالوت ) مبيناً مؤهلاته ليكون ملكاً على بني إسرائيل:
{ إنَّ الله اصطفاه عليكم وزادهُ بسطةً في العلم والجسم }. [ البقرة : 247 ]
وقال تعالى عن اهتمام المنافقين بأجسامهم على حساب قلوبهم ، واهتمامهم بالصورة والشكل على حساب المعنى والمضمون :
{ وإذا رأيتهم تعجبك اجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خُشُبٌ مُّسَنَّدةٌ } [ المنافقون : 4 ]
ونلاحظ من الآيتين أنهما تتحدثان عن الأحياء، فطالوت ملك حي، والمنافقون أحياء يتكلمون .
أما كلمة { جَسَد } فقد وردت أربع مرات في القرآن.
وردت مرتين في وصف العجل ( التمثال ) الذي صنعه ( السّامِرِيّ ) من الذهب لبني إسرائيل، ودعاهم إلى عبادته، مستغلاً غَيبة موسى عليه السلام.
قال تعالى : { واتَّخذ قومُ مُوسى من بعده من حُلِيِّهِم عِجلاً جَسَداً له خوارٌ } [ الاعراف : 148 ]
وقال تعالى : { فأخرج لهم عِجلاً جَسَداً له خوارٌ فقالوا هذا إلهُكُم وإلاه موسى فَنَسِىَ * ألا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا}. [ طه : 88 ]
وأُطلقت كلمة الجسد على ابن سليمان عليه السلام الذي وُلِدَ مَيتاً مشوَّهاً، قال تعالى:
{ ولقد فَتَنَّا سليمان وألقينا على كُرسِيِّهِ جسداً ثُم أناب } [ ص : 34 ]
فالآية تتحدث هنا عن جسد ألقي على كرسي سليمان – عليه السلام – لا روح فيه ميتا كان أو غير كامل الخلقة .
هذا وقد فصَّـل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قصة المولود الجسد الميْت ...
فقد روى البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ : لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ في سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ وَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إِلَّا وَاحِدًا سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ فَقَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ .
والمرة الرابعة التي وردت فيها كلمة { جسد } : في بيان أنَّ الأنبياء كانوا رجالاً أحياء، ذَوي أجسام متحركة، ولم يكونوا { أجساداً } هامدة.
قال تعالى : { وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نُّوحي إليهم فسئلوا أهل الذِّكرِ إن كُنتُم لا تَعلَمُون * وما جَعَلناهم جَسَداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين }. [ الانبياء : 7 - 8 ]
من هذا نعلم أن كلمة { جسد } في السياق القرآني وردت صفة للجماد، وللميت، ونُفِيَت عن النبيِّ الحيِّ المتحرك.
وبهذا نعرف الفرق بين الجسم والجسد في القرآن.
فالجسم يُطلقُ على البدن الذي فيه حياةٌ وروحٌ وحركة.
والجسدُ يطلقُ على التمثالِ الجامد، أو بدن الإنسان بعدَ وفاته وخروجِ روحه!
[ لطائف قرآنية للدكتور صلاح الخالدي - دار القلم - بتصرف ]
يتبع
يوسف عبد الرحمن
القسم الأول
القرآن الكريم كتاب العربية الأكبر ، والمعجزة البيانية الخالدة، جعله الله آخر رسالاته لهداية البشرية:
{ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [هود:1]
ولهذا الكتاب خصوصيات في استعمال الألفاظ : فقد اختص كثيراً من الألفاظ باستعمالات خاصة به مما يدل على القصد الواضح في التعبير ، فمن ذلك :
(1) النعمة ... و ... النعيم :
الفرق بين ( النعمة والنعيم ) في التعبير القرآني :
نلاحظ - أخي القارىء - أن كل ( نعمة ) في القرآن الكريم إنما هي لنعم الدنيا على اختلاف أنواعها ، يطرد ذلك ولا يتخلف في كل مواضع استعمالها ، مفرداً وجمعاً،
كقوله تعالى : {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة : 211]
وقوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}[ابراهيم 6]
وقوله : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً}[الأحزاب 9]
أما صيغة ( النعيم ) فتأتي في البيان القرآني متلازمة مع الحياة الآخرة ، يطرد هذا ولا يتخلف في كل آيات النعيم :
كقوله تعالى : {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ}[المعارج : 38]
وقوله تعالى : {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}[الشعراء : 85]
وقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}لقمان 8
وقوله تعالى : {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[التكاثر 8]
وهذا السؤال سيكون في الآخرة .
(2)المطر ... و ... الغيث :
المطر في البيان القرآني يختلف عن الغيث. فالمطر لا يستعمل إلا في موضعي العقاب والأذى ، بخلاف الغيث الذي يذكره القرآن في الخير دائماً .
قال الله تعالى :
{ وَأَمْطَرْنَاعَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ } [ الاعراف : 84 ] وقال سبحانه :
{ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ } [ الحجر : 74 ] و قال الله تعالى :
{ وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ } [ النمل : 58 ]
في حين قال عز وجل :
{ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ } [ الشورى : 28 ] وقال عز من قائل :
{ ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ } [ يوسف : 49 ] وقال تعالى:
{ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ } [ الحديد :20 ]
(3) حلف ... و ... أقسم :
الفرق بين ( الحلف والقسم ) في التعبير القرآني :
قال الله تعالى : { وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } [ التوبة : 56 ]
وقال سبحانه : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } [ الواقعة : 76 ]
كثيراً ما يفسر أحدهما بالآخر ، وقلما تفرق بينهما المعاجم . نحتكم إلى البيان الأعلى ، في النص المحكم ، فيشهد الاستقراء الكامل بمنع ترادفهما .
جاءت مادة ( حلف ) في ثلاثة عشر موضعاً، كلها بغير استثناء ، في الحنث باليمين ( أي اليمين الكاذبة) .
وأما القسم ، فيأتي في الأيمان الصادقة سواء كانت حقيقة أو وهماً .
وبهذا يختص الحلف بالحنث في اليمين ( أي اليمين الكاذبة ) ويكون القسم لمطلق اليمين ، وهذا ما اطرد استعماله في البيان القرآني .
(4) الإِنْسِ ... و ... الانسان :
الفرق بين استعمال الإنس والانسان في البيان القرآني :
الإنس والانسان يلتقيان في الملحظ العام لدلالة مادتهما المشتركة على نقيض التوحش ، لكنهما لا يترادفان . فلفظ ( الإنس ) يأتي في القرآن الكريم دائماً مع الجن على وجه التقابل ، يطرد ذلك ، ولا يتخلف في كل الآيات التي جاء فيها اللفظ قسيماً للجن ، وعددها ثماني عشرة آية . والإنسية نقيض التوحش ، وبهذه الإنسية يتميز جنس عن أجناس خفية مجهولة غير مألوفة لنا ، ولا هي تخضع لنواميس حياتنا :
قال الله تعالى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } [ الانعام : 30 ]
وقال سبحانه : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ]
أما الإنسان فليس مناط إنسانيته كونه مجرد إنس ، وإنما الإنسانية فيها ارتقاء إلى أهلية التكليف وحمل أمانة الإنسان ، وما يلامس ذلك من تعرض للابتلاء والخير . وقد جاء لفظ الإنسان في القرآن الكريم في خمسة وستين موضعاً :
كقوله تعالى : { وَخُلِقَ الإِنْسَانُ ضَعِيفًا } [ النساء : 28 ]
وقوله سبحانه : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } [ هود : 9 ]
وقوله سبحانه : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } [ الاسراء : 13 ]
(5) الرؤيا ... و ... الحلم :
الفرق بين الرؤيا والحلم في البيان القرآني :
استعمل القرآن الكريم ( الأحلام ) ثلاث مرات ، يشهد سياقها بأنها الأضغاث المهوشة والهواجس المختلطة ، وتأتي في المواضع الثلاثة بصيغة الجمع ، دلالة على الخلط والتهوش لا يتميز فيه حلم عن آخر ، قال تعالى :
{ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ } [ الانبياء : 5 ]
أما الرؤيا ، فجاءت في القرآن الكريم سبع مرات ، كلها في الرؤيا الصادقة ، وهو لا يستعملها إلا بصيغة المفرد ، دلالة على التميز والوضوح والصفاء . قال الله تعالى : { قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مبين } [ يوسف : 5 ]
(6) الخشية ... و ... الخوف :
الفرق بين الخشية والخوف بحسب التعبير القرآني :
قال الله تعالى : { وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ } [ التوبة : 18 ]
وقال تعالى : { وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا } [ النور : 55 ]
نلاحظ ان الخشية في البيان القرآني تفترق عن الخوف ، بأنها تكون عن يقين صادق بعظمة من نخشاه ، وأما الخوف فيجوز أن يحدث عن تسلط بالقهر .
والخشية يجب ان لا تكون إلا لله وحده ،دون أي مخلوق ، يطرد ذلك في كل مواضع استعمالها في الكتاب المحكم بصريح الآيات .
وتسند خشية الله في القرآن الكريم إلى الذين يبلغون رسالات ربهم ، ومن اتبع الذكر ، والمؤمنين ، والعلماء ،والذين رضي الله عنهم ورضوا عنه
[الاعجاز البياني للقرآن : 226]
(7) العيون ... و ... الأعين : نلاحظ ان كلمة العيون في البيان القرآني المعجز تختلف عن كلمة الأعين من ناحية الاستعمال . إذ لم يستعمل القرآن الكريم العيون إلإ لعيون الماء . وقد وردت كلمة ( العيون) في القرآن الكريم في عشرة مواضع كلها بمعنى عيون الماء من مثل قوله تعالى :
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [ الحجر : 45 ] وقوله سبحانه :
{ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ } [ المرسلات : 41 ] وقوله عز وجل :
{ فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [ الشعراء : 57 ] ....
في حين جمع العين الباصرة على أعين مثل قوله تعالى :
{ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ } [ المائدة : 83 ] وقوله سبحانه:
{ قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [ الاعراف : 116 ] وقوله عز وجل :
{ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا }[ الكهف : 101 ]
(8) النقمة ... و ... الانتقام : الفرق بين النقمة والانتقام :
النقمـة مصدر للفعل الثلاثي(نقم ) وهي بتصريفاتها مسندة إلى غير الله ، وهي كلمة تدل على الحقد والبغض، أما الانتقام فهو مصدر للفعل الرباعي ( انتقم ) والانتقام وتصريفاته مسند إلى الله فقط ، وهو عقوبة على الذنوب والانحراف.
النقمة وتصريفاتها :
1- { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ } [ المائدة : 59 ]
2-{ وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } [ الاعراف : 126 ]
3 -{ وَمَانَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً ..}
[ التوبة : 74 ]
4 - { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } [ البروج : 8 ]
فأنت ترى - أخي القارىء - ان النقمة استعملها القرآن مع الكفار والأعداء فقط في حين قال تعالى :
1- { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ }[ آل عمران 4 ]
2 - { عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَام ٍ} [ المائدة 95 ]
3 - { فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } [ ابراهيم 47 ]
فأنت ترى ان الانتقام وهو العقوبة على الذنوب والانحرافلا تستعمل في القرآن إلا مع الله فقط.
(9) الكُره ... و ... الكَرهالكُرهُ : بضم الكاف. والكَرهُ بفتح الكاف .
كلمتان متقاربتان في البناء والتركيب والحركات ، ومتقاربتان أيضاً في المعنى . الا اننا نجد البيان القرآني المعجز يستخدم الكُره - بضم الكاف - ليفيد المشقة المرغوبة أي يفعلها صاحبها طواعية رغم ما فيها من مشاق ومتاعب فالمؤمن يريد الجهاد ويرغب به رغم مصاعبه والمرأة ترغب بالحمل رغم آلامه :
1 - { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ]
2 - { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا } [ الاحقاف : 15 ]
وأما الكَره بفتح الكاف فيفيد فعل الشيء دون رغبة وإرادة. وقد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم خمس مرات، بمعنى : الإكراه والإجبار والقسر :
1 - قال الله تبارك وتعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِين } [ فصلت : 11 ]
2 - وقال الله سبحانه : { أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ آل عمران : 83 ]
3 - وقال عز وجل : { وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ } [الرعد 15 ]
نلاحظ في الآيات الثلاثة ورود كلمة ( كره ) بمعنى الإكراه والإجبار والقسر ، وذلك لأن الأمر والتكليف جاء من الخارج.
فالكافر أسلم لله - أي استسلم له - رغم أنفه، وهو كاره رافض ، وكان استسلامه في الجانب اللا إرادي من كيانه - مثل أجهزة جسمه ونواميس حياته - لهذا اعتُبر استسلامه ( كرها ) بفتح الكاف .
وهو يسجد لله مكرهاً مجبراً رغم انفه ، والمراد بالسجود هنا الخضوع ، كما في اللغة ، وليس هكذا استسلام المؤمن لله ، ولهذا وصفه القرآن الكريم بأنه ( طوعاً ) وجعله مقابلاً ومضاداً لاستسلام الكافر وخضوعه الجبري لله تبارك وتعالى.
4 - بين القرآن الكريم أن إنفاق المنافقين لأموالهم غير مقبول ، وإن زعموا أنه في سبيل الله ، لأن ذلك الإنفاق لم يصدر عن إيمان في قلوبهم بل كانوا يريدون به التمويه على المسلمين ، ولهذا وصف الله إنفاقهم بأنه ( كَره ) وأمرنا أن نقول لهم :
{ قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ } [ التوبة : 53 ]
5 - نهى القرآن الكريم عن وراثة المرأة كالمتاع والأثاث فقال تعالى :
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَاء كَرْهًا } [ النساء : 19 ]
فقد كان الجاهلي إذا مات أبوه ، ورث أمواله ومتاعه ، ومن جملة ما يرث زوجة أبيه ، فنهى الله تعالى عن هذا التصرف الجاهلي البشع وحرَّمه عليهم ، والمرأة ترفض هذا التصرف وتكرهه ، لأنه إجبار وقسر لها ولذا سماه الله تعالى في القرآن الكريم كَرهاً بفتح الكاف .
[ من كتاب لطائف قرآنية للدكتور صلاح الخالدي بتصرف ]
(10) اللاتي ... و ... اللائي :
ما الفرق بين اللاتي واللائي ؟
نلاحظ أن القرآن الكريم لا يستعمل ( اللائي ) إلا في حالتي الظهاروالطلاق والمفارقة ، أما ( اللاتي ) فتستعمل في غير تلك الأحوال :
1 - قال الله تعالى :
{ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } [ الأحزاب : 4 ]
2 – وقوله سبحانه :
{ الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللائِي وَلَدْنَهُمْ } [ المجادلة : 2 ]
3 - وقوله عز وجل :
{ وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا }[ الطلاق : 4 ]
فأنت ترى – أخي القارىء – انه استعمل في الآيات السابقة ( اللائي ) بالهمز وهي آيات تتحدث عن الظهار والطلاق والمفارقة .
في حين قال تعالى في غير تلك الأحوال :
1 – { وَاللاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } [ النساء :15 ]
2 – { ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } [ يوسف : 50 ]
3 _ { وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } [ النور : 60 ]
فانظر – أخي القارىء – إلى دقة استعمال الألفاظ ..
(11) شرى ... و ... اشترى :
كلمتان متقاربتان أصلهما واحد، لكنْ بينهما تضادّ في المعنى بحسب التعبير والأسلوب القرآني المعجز فما الفرق بينهما ؟
نلاحظ أن ( شرى ) قد وردت في القرآن الكريم أربع مرات، كلها بمعنى (باع) ، منها قوله تعالى :
1 - { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ } [ يوسف:20 ]
أي : باعوه مقابل ثمن .
2 - وقوله تعالى :
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ } [ البقرة207 ] أي : يبيع نفسه لله ، لنيل مرضاته .
أما فعل ( اشترى ) فإنها بمعنى أخذ، أي قبض المادة المشتراة، ودفع الثمن الذي معه. وقد وردت اشتقاقات هذه المادة إحدى وعشرين مرة في القرآن الكريم ، وكلها وردت فيها بهذا المعنى . فمن ذلك :
1 - قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ .. } [ يوسف : 21 ]
أي : الذي اشترى يوسف من الذين شروه .
2 - وقوله سبحانه : { إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْأِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ آل عمران : 177 ] أي : أخذوا الكفر، وباعوا الإيمان .
[ لطائف قرآنية للدكتور صلاح الخالدي - دار القلم - بتصرف ]
(12) الجسم ... و ... الجســد :
الجسم والجسد كلمتان متقاربتان في الحروف وفي المعنى ، و المتدبر لكتاب الله يجد أن القرآن يفرق بين هاتين الكلمتين تفرقة بالغة الدقة ... فلكل منهما معنى يغاير معنى الآخر فهما ليسا مترادفين كما يرى البعض ، فالجسم يُطلقُ بحسب السياق القرآني على البدن الذي فيه حياةٌ وروحٌ وحركة. وأما الجسدُ فيطلق على التمثالِ الجامد، أو بدن الإنسان بعدَ وفاته وخروجِ روحه!
وتوضيح ذلك بالآتي :
وردت كلمة الجسم مرتين في القرآن :
قال تعالى عن ( طالوت ) مبيناً مؤهلاته ليكون ملكاً على بني إسرائيل:
{ إنَّ الله اصطفاه عليكم وزادهُ بسطةً في العلم والجسم }. [ البقرة : 247 ]
وقال تعالى عن اهتمام المنافقين بأجسامهم على حساب قلوبهم ، واهتمامهم بالصورة والشكل على حساب المعنى والمضمون :
{ وإذا رأيتهم تعجبك اجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خُشُبٌ مُّسَنَّدةٌ } [ المنافقون : 4 ]
ونلاحظ من الآيتين أنهما تتحدثان عن الأحياء، فطالوت ملك حي، والمنافقون أحياء يتكلمون .
أما كلمة { جَسَد } فقد وردت أربع مرات في القرآن.
وردت مرتين في وصف العجل ( التمثال ) الذي صنعه ( السّامِرِيّ ) من الذهب لبني إسرائيل، ودعاهم إلى عبادته، مستغلاً غَيبة موسى عليه السلام.
قال تعالى : { واتَّخذ قومُ مُوسى من بعده من حُلِيِّهِم عِجلاً جَسَداً له خوارٌ } [ الاعراف : 148 ]
وقال تعالى : { فأخرج لهم عِجلاً جَسَداً له خوارٌ فقالوا هذا إلهُكُم وإلاه موسى فَنَسِىَ * ألا يرون ألا يرجع إليهم قولاً ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا}. [ طه : 88 ]
وأُطلقت كلمة الجسد على ابن سليمان عليه السلام الذي وُلِدَ مَيتاً مشوَّهاً، قال تعالى:
{ ولقد فَتَنَّا سليمان وألقينا على كُرسِيِّهِ جسداً ثُم أناب } [ ص : 34 ]
فالآية تتحدث هنا عن جسد ألقي على كرسي سليمان – عليه السلام – لا روح فيه ميتا كان أو غير كامل الخلقة .
هذا وقد فصَّـل رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قصة المولود الجسد الميْت ...
فقد روى البخاري عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ : لأطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا يُجَاهِدُ في سَبِيلِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَلَمْ يَقُلْ وَلَمْ تَحْمِلْ شَيْئًا إِلَّا وَاحِدًا سَاقِطًا أَحَدُ شِقَّيْهِ فَقَالَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللَّهِ .
والمرة الرابعة التي وردت فيها كلمة { جسد } : في بيان أنَّ الأنبياء كانوا رجالاً أحياء، ذَوي أجسام متحركة، ولم يكونوا { أجساداً } هامدة.
قال تعالى : { وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نُّوحي إليهم فسئلوا أهل الذِّكرِ إن كُنتُم لا تَعلَمُون * وما جَعَلناهم جَسَداً لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين }. [ الانبياء : 7 - 8 ]
من هذا نعلم أن كلمة { جسد } في السياق القرآني وردت صفة للجماد، وللميت، ونُفِيَت عن النبيِّ الحيِّ المتحرك.
وبهذا نعرف الفرق بين الجسم والجسد في القرآن.
فالجسم يُطلقُ على البدن الذي فيه حياةٌ وروحٌ وحركة.
والجسدُ يطلقُ على التمثالِ الجامد، أو بدن الإنسان بعدَ وفاته وخروجِ روحه!
[ لطائف قرآنية للدكتور صلاح الخالدي - دار القلم - بتصرف ]
يتبع
التعديل الأخير: