دروس من التاريخ
نكبة البرامكة
محمد فاروق الإمام
بعد أن نُكب يحيى البرمكي وأولاده وآل حالهم إلى ما آل إليه، من جاه وعز وغنى وسلطان وسطوة إلى القبور أو التشريد أو السجون، وقد اختلفت روايات المؤرخين في حقيقة الأسباب التي أدت إلى نكبة البرامكة، قال ليحيى بعض بنيه وهم في السجن والقيود: يا أبت ! بعد الأمر والنهي والنعمة صرنا إلى هذا الحال. فقال: (يا بني ! دعوة مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون ولم يغفل الله عنها).
ثم أنشأ يقول:
رب قوم قد غدوا في نعمة * زمنا والدهر ريان غدق
سكت الدهر زمانا عنهم * ثم أبكاهم دما حين نطق
فما قصة البرامكة ومن أين جاؤوا وكيف وصلوا ليكونوا من علية القوم وولاة الأمر والنهي والجاه والسلطان وهم الفرس دون العرب، عشيرة ولاة الأمر وأبناء جلدتهم، في مملكة حدودها من أسوار الصين حتى المحيط الأطلسي؟!
البرامكة أو كما يسمون بالفارسية (برمكيان) هم عائلة ترجع أصولها إلى جدهم الأول برمك المجوسي، وكان من سدنة بيت النار وخدامه الكبار، ولا يذكر له إسلامًا ، كانت للبرامكة مكانة عالية في الدولة العباسية ، فقد كان يحيى بن خالد البرمكي مسؤولاً عن تربية الرشيد ، أما زوجته فقد أرضعت الخليفة هارون الرشيد، وقد قام يحيى بن خالد على أمر وزارة الرشيد وقد فوضه الرشيد بكل الأمور. أما الفضل بن يحيى بن خالد فقد كان اخو الرشيد من الرضاعة ووكله على تربية ابنه الأمين بن هارون الرشيد. البيعة للأمين بولاية العهد لم يكد الأمين يبلغ الخامسة من عمره حتى اجتهدت أمه زبيدة وأخواله في أن تؤول إليه ولاية العهد، لتكون الخلافة له من بعد أبيه. وبالرغم من أن الرشيد كان يتوسم النجابة والرجاحة في "عبد الله المأمون"، ويقول: "إن فيه حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة الهادي، ولو شئت أن أقول الرابعة مني لقلت"- فإنه قدَّم محمداً بن زبيدة على أخيه الأكبر المأمون، مع علمه أن متبع هواه. ولعل رغبة أمراء البيت لعباسي واجتماعهم على تولية الأمين كانت وراء نزول الرشيد على رأيهم، وتحقيق تلك الرغبة التي اجتمعوا عليها. وكانت حجتهم في ذلك أن الأمين هاشمي الأبوين، وأن ذلك لم يجتمع لغيره من خلفاء بني العباس، وكان يؤجج تلك الرغبة كرههم لـ"آل برمك" الذين استأثروا بالرشيد، ونالوا لديه حظوة ومكانة كبيرة.
استدعى الرشيد الأمراء والقواد ورجال الحاشية، وطلب الفقهاء ليُشهدهم على قراره الخطير الذي عقد عليه العزم، وهو البيعة لابنه الثاني "محمد الأمين". وفي يوم الخميس (6 من شعبان 175 هـ/8 من كانون الأول791 م) عقد الرشيد مجلس البيعة، وأخذت لمحمد البيعة، ولقبه أبوه بـ"الأمين"، وولاه في الحال على بلاد الشام والعراق، وجعل ولايته تحت إدارة مربيه "الفضل بن يحيى البرمكي". وبالرغم من عدم معارضة البرامكة في مسألة ولاية عهد الرشيد لابنه الأمين وسعيهم - في أول الأمر- إلى تزكية هذا الاختيار وتزيينه للرشيد ودفعهم له إلى إتمامه، فإنهم ما لبثوا أن شعروا بأنهم أساءوا الاختيار، وخصوصًا عندما أصبح الأمين شابًّا يافعًا، وبعد ظهور نفوذ أمه "زبيدة"، التي أصبحت تنقم على البرامكة ما صاروا إليه من النفوذ والسلطان في بلاط الرشيد ، وتسعى إلى استقطاب العنصر العربي في مواجهة تصاعد النفوذ الفارسي ممثلاً في البرامكة، وتفاقم الصراع الذي اتخذ صورة قومية داخل البلاط بين العرب والفرس. عندئذ بدأ البرامكة يعيدون النظر في مسألة ولاية العهد، فاستخدموا نفوذهم، واستغلوا قربهم من الرشيد ومنزلتهم عنده في إيجاد منافس للأمين وأمه زبيدة، ووجدوا بغيتهم في شخص "المأمون" الأخ الأكبر، خاصة أن أمه فارسية. واستطاع البرامكة أن يجعلوا الرشيد يعقد البيعة لولده "عبد الله المأمون"، على أن تكون ولاية العهد له من بعد أخيه الأمين، وذلك في سنة (182 هـ/798م)، بعد مضي نحو ثماني سنوات من بيعته الأولى للأمين. وأخذ "الرشيد" على ولديه "الأمين" و"المأمون" المواثيق المؤكدة، وأشهد عليهما، ثم وضع تلك البيعة في حافظة من الفضة، وعلقها في جوف الكعبة، بعد ذلك بأربعة أعوام في سنة (186 هـ/802م) عقد الرشيد ولاية العهد لابنه "القاسم" من بعد أخويه، ولقبه بـ"المؤتمن".
وَنُكب البرامكة على يد الخليفة العباسي هارون الرشيد ولحقهم القتل والتشريد والسجن، ومصادرة الأموال، وقد كانوا وزراء الدولة وأصحاب الأمر والسلطان.
ونكبة البرامكة من أهم الأحداث السياسية المؤثرة في حكم هارون الرشيد، وفي التاريخ السياسي الإسلامي بشكل عام، إذ أنها كانت حلقة في سلسلة نكبات طالت وزراء الدولة العباسية منذ قتل أبي مسلم الخراساني بتدبير الخليفة أبو جعفر المنصور، وقتل معظم المقربين من الخلفاء العباسيين، كآل سهل فيما بعد أيضاً، كان للنكبة أثر كبير، من حيث توصيفها للعلاقة بين العرب والفرس في السلطان. وإزاء تعاظم نفوذ البرامكة، واحتدام الصراع بين الفريقين، بدأت الأمور تتخذ منحىً جديدًا، بعد أن نجحت الدسائس والوشايات في إيغار صدر الرشيد على البرامكة، وذلك بتصويره بمظهر العاجز أمام استبداد البرامكة بالأمر دونه، والمبالغة في إظهار ما بلغه هؤلاء من الجرأة على الخليفة، وتحكُّمِهم في أمور الدولة؛ حتى قرر الرشيد التخلص من البرامكة ووضع حد لنفوذهم.
ولم يكن ذلك بالأمر الهين أو المهمة السهلة؛ فقد تغلغل البرامكة في كل أمور الدولة، وصار لهم كثير من الأنصار والأعوان، فاتبع الرشيد سياسة الكتمان، واستخدم عنصر المفاجأة؛ حتى يلحق بهم الضربة القاضية. وفي ليلة السبت (أول صفر 187 هـ/29 من كانون الثاني 803م)، أمر رجاله بالقبض على البرامكة جميعًا، وأعلن ألا أمان لمن آواهم، وأخذ أموالهم وصادر دورهم وضياعهم.
وفي ساعات قليلة انتهت أسطورة البرامكة وزالت دولتهم، وتبدت سطوة تلك الأسرة التي انتهت إليها مقاليد الحكم وأمور الخلافة لفترة طويلة من الزمان، تلك النهاية المأساوية التي اصطُلح على تسميتها في التاريخ بـ"نكبة البرامكة".
وكان لتلك النكبة أكبر الأثر في إثارة شجون القومية الفارسية، فعمدت إلى تشويه صورة الرشيد ووصفه بأبشع الصفات، وتصويره في صورة الحاكم الماجن المستهتر الذي لا همّ له إلا شرب الخمر ومجالسة الجواري، والإغراق في مجالس اللهو والمجون؛ حتى طغت تلك الصورة الظالمة على ما عُرف عنه من شدة تقواه وحرصه على الجهاد والحج عامًا بعد عام، وأنه كان يحج ماشيًا ويصلي في كل يوم مائة ركعة. وفي أواخر سنة (192 هـ/808م) خرج الرشيد لحرب "رافع بن الليث"، واستخلف على بغداد ابنه الأمين، وفي الطريق مرض الرشيد، وما لبث أن اشتد عليه المرض، وفاضت روحه في (3 من جمادى الآخرة 193م/24 من آذار 809م)، فتولى الخلافة من بعده ابنه "محمد الأمين.
وتتناقل بعض كتب التاريخ قصة زواج العباسة أخت هارون الرشيد من جعفر بن يحيى البرمكي، وهي قصة شعوبية مدسوسة، لا أساس لها من الصحة، بالرغم من أنها ذكرت في بعض المصادر البعيدة زمنيا عن عهد الرشيد معتمدة على إشاعة كاذبة راجت بعد مقتل البرامكة، والعجيب أن هذه المصادر التي ذكرتها أضافت عليها حبكة فنية قد تكون مقصودة أو غير مقصودة، وهي أن الرشيد وجعفر والعباسة يجلسون جميعا في مجلس مبتذل فيه طرب وشراب وتهتك. وألف الكتاب المتأخرون حول هذا الزواج المزعوم بين العباسة والبرمكي الكثير من القصص بعضها لمستشرقين أجانب وبعضها لعرب مثل: (قصة العباسة) للكاتب المصري جورجي زيدان (ومسرحية العباسة) للشاعر المصري عزيز أباظة، وأشار لها الأستاذ منير العجلاني في كتابه (عبقرية الإسلام) حيث يقول: (وتغلب جعفر في النهاية على أمر الرشيد، الذي كان يحبه حبا جما حتى زوجه أخته، العباسة ـ وكان الرشيد يحب مجلسهما كثيراً ـ وذلك لينعم باجتماعهما في مجلس واحد). ويدحض هذه الرواية الكاذبة والمدسوسة ما جاء في كتاب المؤرخ الفقيه القديم أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310هـ/922م) (الرسل والملوك)، وهذا عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (ت 808هـ/1405م) صاحب (المقدمة الشهيرة)، التي اكتشف أهميتها الأوروبيون قبل أن نكتشفها، وصاحب تاريخ (العبر وديوان المبتدأ والخبر) فهما ينفيان نفياً قاطعاً هذا الزواج بالأدلة النقلية والعقلية المعروفة والمنقولة عن سيرة هذا الخليفة الهاشمي العربي المسلم، هارون الرشيد.
عن رابطة أدباء الشام
نكبة البرامكة
محمد فاروق الإمام
بعد أن نُكب يحيى البرمكي وأولاده وآل حالهم إلى ما آل إليه، من جاه وعز وغنى وسلطان وسطوة إلى القبور أو التشريد أو السجون، وقد اختلفت روايات المؤرخين في حقيقة الأسباب التي أدت إلى نكبة البرامكة، قال ليحيى بعض بنيه وهم في السجن والقيود: يا أبت ! بعد الأمر والنهي والنعمة صرنا إلى هذا الحال. فقال: (يا بني ! دعوة مظلوم سرت بليل ونحن عنها غافلون ولم يغفل الله عنها).
ثم أنشأ يقول:
رب قوم قد غدوا في نعمة * زمنا والدهر ريان غدق
سكت الدهر زمانا عنهم * ثم أبكاهم دما حين نطق
فما قصة البرامكة ومن أين جاؤوا وكيف وصلوا ليكونوا من علية القوم وولاة الأمر والنهي والجاه والسلطان وهم الفرس دون العرب، عشيرة ولاة الأمر وأبناء جلدتهم، في مملكة حدودها من أسوار الصين حتى المحيط الأطلسي؟!
البرامكة أو كما يسمون بالفارسية (برمكيان) هم عائلة ترجع أصولها إلى جدهم الأول برمك المجوسي، وكان من سدنة بيت النار وخدامه الكبار، ولا يذكر له إسلامًا ، كانت للبرامكة مكانة عالية في الدولة العباسية ، فقد كان يحيى بن خالد البرمكي مسؤولاً عن تربية الرشيد ، أما زوجته فقد أرضعت الخليفة هارون الرشيد، وقد قام يحيى بن خالد على أمر وزارة الرشيد وقد فوضه الرشيد بكل الأمور. أما الفضل بن يحيى بن خالد فقد كان اخو الرشيد من الرضاعة ووكله على تربية ابنه الأمين بن هارون الرشيد. البيعة للأمين بولاية العهد لم يكد الأمين يبلغ الخامسة من عمره حتى اجتهدت أمه زبيدة وأخواله في أن تؤول إليه ولاية العهد، لتكون الخلافة له من بعد أبيه. وبالرغم من أن الرشيد كان يتوسم النجابة والرجاحة في "عبد الله المأمون"، ويقول: "إن فيه حزم المنصور، ونسك المهدي، وعزة الهادي، ولو شئت أن أقول الرابعة مني لقلت"- فإنه قدَّم محمداً بن زبيدة على أخيه الأكبر المأمون، مع علمه أن متبع هواه. ولعل رغبة أمراء البيت لعباسي واجتماعهم على تولية الأمين كانت وراء نزول الرشيد على رأيهم، وتحقيق تلك الرغبة التي اجتمعوا عليها. وكانت حجتهم في ذلك أن الأمين هاشمي الأبوين، وأن ذلك لم يجتمع لغيره من خلفاء بني العباس، وكان يؤجج تلك الرغبة كرههم لـ"آل برمك" الذين استأثروا بالرشيد، ونالوا لديه حظوة ومكانة كبيرة.
استدعى الرشيد الأمراء والقواد ورجال الحاشية، وطلب الفقهاء ليُشهدهم على قراره الخطير الذي عقد عليه العزم، وهو البيعة لابنه الثاني "محمد الأمين". وفي يوم الخميس (6 من شعبان 175 هـ/8 من كانون الأول791 م) عقد الرشيد مجلس البيعة، وأخذت لمحمد البيعة، ولقبه أبوه بـ"الأمين"، وولاه في الحال على بلاد الشام والعراق، وجعل ولايته تحت إدارة مربيه "الفضل بن يحيى البرمكي". وبالرغم من عدم معارضة البرامكة في مسألة ولاية عهد الرشيد لابنه الأمين وسعيهم - في أول الأمر- إلى تزكية هذا الاختيار وتزيينه للرشيد ودفعهم له إلى إتمامه، فإنهم ما لبثوا أن شعروا بأنهم أساءوا الاختيار، وخصوصًا عندما أصبح الأمين شابًّا يافعًا، وبعد ظهور نفوذ أمه "زبيدة"، التي أصبحت تنقم على البرامكة ما صاروا إليه من النفوذ والسلطان في بلاط الرشيد ، وتسعى إلى استقطاب العنصر العربي في مواجهة تصاعد النفوذ الفارسي ممثلاً في البرامكة، وتفاقم الصراع الذي اتخذ صورة قومية داخل البلاط بين العرب والفرس. عندئذ بدأ البرامكة يعيدون النظر في مسألة ولاية العهد، فاستخدموا نفوذهم، واستغلوا قربهم من الرشيد ومنزلتهم عنده في إيجاد منافس للأمين وأمه زبيدة، ووجدوا بغيتهم في شخص "المأمون" الأخ الأكبر، خاصة أن أمه فارسية. واستطاع البرامكة أن يجعلوا الرشيد يعقد البيعة لولده "عبد الله المأمون"، على أن تكون ولاية العهد له من بعد أخيه الأمين، وذلك في سنة (182 هـ/798م)، بعد مضي نحو ثماني سنوات من بيعته الأولى للأمين. وأخذ "الرشيد" على ولديه "الأمين" و"المأمون" المواثيق المؤكدة، وأشهد عليهما، ثم وضع تلك البيعة في حافظة من الفضة، وعلقها في جوف الكعبة، بعد ذلك بأربعة أعوام في سنة (186 هـ/802م) عقد الرشيد ولاية العهد لابنه "القاسم" من بعد أخويه، ولقبه بـ"المؤتمن".
وَنُكب البرامكة على يد الخليفة العباسي هارون الرشيد ولحقهم القتل والتشريد والسجن، ومصادرة الأموال، وقد كانوا وزراء الدولة وأصحاب الأمر والسلطان.
ونكبة البرامكة من أهم الأحداث السياسية المؤثرة في حكم هارون الرشيد، وفي التاريخ السياسي الإسلامي بشكل عام، إذ أنها كانت حلقة في سلسلة نكبات طالت وزراء الدولة العباسية منذ قتل أبي مسلم الخراساني بتدبير الخليفة أبو جعفر المنصور، وقتل معظم المقربين من الخلفاء العباسيين، كآل سهل فيما بعد أيضاً، كان للنكبة أثر كبير، من حيث توصيفها للعلاقة بين العرب والفرس في السلطان. وإزاء تعاظم نفوذ البرامكة، واحتدام الصراع بين الفريقين، بدأت الأمور تتخذ منحىً جديدًا، بعد أن نجحت الدسائس والوشايات في إيغار صدر الرشيد على البرامكة، وذلك بتصويره بمظهر العاجز أمام استبداد البرامكة بالأمر دونه، والمبالغة في إظهار ما بلغه هؤلاء من الجرأة على الخليفة، وتحكُّمِهم في أمور الدولة؛ حتى قرر الرشيد التخلص من البرامكة ووضع حد لنفوذهم.
ولم يكن ذلك بالأمر الهين أو المهمة السهلة؛ فقد تغلغل البرامكة في كل أمور الدولة، وصار لهم كثير من الأنصار والأعوان، فاتبع الرشيد سياسة الكتمان، واستخدم عنصر المفاجأة؛ حتى يلحق بهم الضربة القاضية. وفي ليلة السبت (أول صفر 187 هـ/29 من كانون الثاني 803م)، أمر رجاله بالقبض على البرامكة جميعًا، وأعلن ألا أمان لمن آواهم، وأخذ أموالهم وصادر دورهم وضياعهم.
وفي ساعات قليلة انتهت أسطورة البرامكة وزالت دولتهم، وتبدت سطوة تلك الأسرة التي انتهت إليها مقاليد الحكم وأمور الخلافة لفترة طويلة من الزمان، تلك النهاية المأساوية التي اصطُلح على تسميتها في التاريخ بـ"نكبة البرامكة".
وكان لتلك النكبة أكبر الأثر في إثارة شجون القومية الفارسية، فعمدت إلى تشويه صورة الرشيد ووصفه بأبشع الصفات، وتصويره في صورة الحاكم الماجن المستهتر الذي لا همّ له إلا شرب الخمر ومجالسة الجواري، والإغراق في مجالس اللهو والمجون؛ حتى طغت تلك الصورة الظالمة على ما عُرف عنه من شدة تقواه وحرصه على الجهاد والحج عامًا بعد عام، وأنه كان يحج ماشيًا ويصلي في كل يوم مائة ركعة. وفي أواخر سنة (192 هـ/808م) خرج الرشيد لحرب "رافع بن الليث"، واستخلف على بغداد ابنه الأمين، وفي الطريق مرض الرشيد، وما لبث أن اشتد عليه المرض، وفاضت روحه في (3 من جمادى الآخرة 193م/24 من آذار 809م)، فتولى الخلافة من بعده ابنه "محمد الأمين.
وتتناقل بعض كتب التاريخ قصة زواج العباسة أخت هارون الرشيد من جعفر بن يحيى البرمكي، وهي قصة شعوبية مدسوسة، لا أساس لها من الصحة، بالرغم من أنها ذكرت في بعض المصادر البعيدة زمنيا عن عهد الرشيد معتمدة على إشاعة كاذبة راجت بعد مقتل البرامكة، والعجيب أن هذه المصادر التي ذكرتها أضافت عليها حبكة فنية قد تكون مقصودة أو غير مقصودة، وهي أن الرشيد وجعفر والعباسة يجلسون جميعا في مجلس مبتذل فيه طرب وشراب وتهتك. وألف الكتاب المتأخرون حول هذا الزواج المزعوم بين العباسة والبرمكي الكثير من القصص بعضها لمستشرقين أجانب وبعضها لعرب مثل: (قصة العباسة) للكاتب المصري جورجي زيدان (ومسرحية العباسة) للشاعر المصري عزيز أباظة، وأشار لها الأستاذ منير العجلاني في كتابه (عبقرية الإسلام) حيث يقول: (وتغلب جعفر في النهاية على أمر الرشيد، الذي كان يحبه حبا جما حتى زوجه أخته، العباسة ـ وكان الرشيد يحب مجلسهما كثيراً ـ وذلك لينعم باجتماعهما في مجلس واحد). ويدحض هذه الرواية الكاذبة والمدسوسة ما جاء في كتاب المؤرخ الفقيه القديم أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت310هـ/922م) (الرسل والملوك)، وهذا عبد الرحمن بن محمد بن خلدون (ت 808هـ/1405م) صاحب (المقدمة الشهيرة)، التي اكتشف أهميتها الأوروبيون قبل أن نكتشفها، وصاحب تاريخ (العبر وديوان المبتدأ والخبر) فهما ينفيان نفياً قاطعاً هذا الزواج بالأدلة النقلية والعقلية المعروفة والمنقولة عن سيرة هذا الخليفة الهاشمي العربي المسلم، هارون الرشيد.
عن رابطة أدباء الشام