التأثيرات البيئية للطاقة النووية
* د. عبد الوالي العجلوني
كان موضوع سلامة المفاعلات النووية من القضايا بالغة الاهمية لمستخدمي المفاعلات وذلك لما له من اثر على استخدام الطاقة النووية وانتشارها كبديل استراتيجي لوسائل الطاقة التقليدية. وقد اجريت اعداد كبيرة من الدراسات والتجارب وذلك لتوقع ما يمكن ان يحصل داخل المفاعل بحيث يؤدي الى حادث نووي وبنيت العديد من النماذج لتوقع الكيفيات التي يمكن ان تنتشر بها المواد المشعة الموجودة في قلب المفاعل الى البيئة.
ورغم التشدد الهائل في القضايا المتعلقة بالسلامة داخل المفاعل الا ان ما سيقع من حوادث لا بد من وقوعه مهما كانت الاحتياطات المتخذة، وان استطعنا هنا القول: ان رب ضارة نافعة، فان ما حصل من حوادث نووية، وان ادت الى انتشار الرعب في ارجاء المعمورة، فانها وبعد التحقق الكامل من ضآلة اثارها على الانسان والبيئة جعلت الحقيقة تنجلي ناصعة بان صناعة الطاقة النووية هي الصناعة الاكثر امانا على صعيد انواع الصناعات كافة، وان عدد الاصابات التي حصلت بين بني البشر عامة وعلى مستوى العالم من هذه الصناعة جديرة بالذكر من حيث ان الوفيات على مدى يزيد عن نصف قرن قد لا تتجاوز مئة شخص، واذا قمنا بمقارنة هذا الرقم مع الوفيات التي تحصل في اي قطاع من قطاعات الصناعة او الزراعة وحتى السياحة لوجدنا اننا نتعامل مع صناعة وتقنية فائقتي الامان.
ونظرا لما يوفره الاستعمال الموسع للطاقة النووية من إمكانيات هائلة للوفاء باحتياجات التنمية اللازمة لتوفير متطلبات الطاقة العالمية، وللتخلص من التهديد الهائل الذي يمثله تغير المناخ، وهما اثنان من التحديات الكبرى التي تواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين، فان فرص كبيرة ستكون متاحة في التوسع في إنتاج واستخدام الطاقة النووية في البلدان التي اختارت أن يكون لديها طاقة نووية، رغم ما تطرحه هذه الفرص من مسائل معقدة، وواسعة المدى، تتعلق بالأمن والسلامة النوويين، والتي يجب أن تدرس بعناية فائقة. من جهة أخرى فإن التعاون الدولي يجب أن يكون بأفضل أحواله لضمان أن أي توسع محتمل لإنتاج واستخدام الطاقة النووية سيكون آمنا ومضمونا، وسوف لن يساهم في انتشار الأسلحة النووية. إن الزيادة السريعة بالإضافة إلى التغير الكبير في كلفة الوقود التقليدي والتهديد الوشيك لتغير المناخ، وما يقابل ذلك من بديل معروف تقدمه الطاقة النووية كخيار مهم، يجعل عصر النهضة للطاقة النووية مرجحا في المستقبل القريب.
وفي ذات الوقت فان لدى الناس رعب من استخدام الطاقة النووية لما قد تسببه من حوادث نووية، سواء كانت الحوادث في دولة تملك مفاعل او مفاعلات او دولة لا تملكها، فالانبعاثات التي تنطلق من المفاعل لا تعرف الحدود، ورغم التطمينات التي تطلق من قبل المختصين الا ان الخوف يستمر ولا يوجد ما يحده. هذا الخوف الذي ساهمت وسائل الاعلام في تعزيزه، خلق فضاءا شعبي عالمي معارض بشدة لاستخدام الطاقة النووية.
إن حقيقة أن المواد المشعة المنطلقة من المفاعل تكون متجمعة بأشكال عنقودية غير قابلة للذوبان في الماء وغير قابلة للامتصاص من الخلايا الحية في النبات والحيوان والانسان مما يقلل خطرها الداخلي على الاحياء، كما ان خطرها الخارجي يكون قليلا نتيجة لتركيزها المنخفض جدا، هذه الحقيقة تؤدي الى التأكيد ان الخطر الكامن اثناء التشغيل الاعتيادي للمفاعل يعتبر مهملا جدا ولا داعي للقلق بشانه او التفكير به مطلقا.
حوادث المفاعلات النووية
تتفاوت خطورة الحادث النووي بين تسرب اشعاعي بسيط في المرتبة الاقل الى حادث يتضمن خروج اغلب المادة المشعة داخل المفاعل، وهو ما لا يمكن ان تقبل به اي دولة ان يحدث؛ اذ ان الخطر، مع ضآلته، سيكون في الاساس على مواطنيها المجاورين للمفاعل، ولا يمكن في أسوأ الظروف الا خروج جزء بسيط من المادة المشعة. اذ بمجرد بدء الحادث الكبير فان قلب الفاعل سيذوب وتنتشر المواد التي يتكون منها قلب المفاعل داخل بناية المفاعل كالصهارة البركانية وان ما سيخرج الى الجو كانبعاثات يعتمد على درجة الحرارة داخل المفاعل ونوعه وحجم الوقود النووي الذي سيتحول الى مادة عديمة الفائدة كوقود نووي بمجرد انخفاض تركيزه بسبب تباعد ذراته عن بعضها مما يجعل الوقود في حالة دون الحرجة مما يوقف عملية الانشطار المتسلسل.
خرافة انفجار المفاعل النووي
ان من المستحيل لاي مفاعل نووي تجاري وخاصة اذا كان من المفاعلات المبردة والمهدئة بالماء ان ينفجر كما تنفجر القنبلة النووية. وسبب ذلك انه حتى يحصل التفاعل المتسلسل غير المسيطر عليه (اي انفجار القنبلة النووية) فيجب ان يكون تخصيب اليورانيوم، اي نسبة تنظير اليورانيوم 235، مرتفعا جدا الى حدود مشابهة لتلك المستخدمة في وقود القنبلة اي اعلى من 90%، ويجب توفر كمية الوقود التي تشكل الكتلة الحرجة ضمن حجم معين مناسب وهو ما لا يمكن الحصول عليه بسبب وجود المواد الاضافية في المفاعل وهي مواد التهدئة والسيطرة التي تساهم في امتصاص النيوترونات ولا تسمح بحصول تفاعل متسلسل سريع وفعال كما في القنبلة النووية. اذا، وبما ان المفاعل لا ينفجر، ما الذي يحصل في المفاعل؟ ان ما يحصل هو ذوبان قلب المفاعل او اجزاء منه، اي ان مكونات قلب المفاعل من قضبان وقود وقضبان سيطرة وتهدئة تتحول الى الحالة السائلة اذا وصلت درجة حرارة قلب المفاعل درجة حرارة اعلى من درجة انصهار اي من مكونات القلب، واذا استمرت درجة الحرارة بالارتفاع فان الجدار الحديدي المغلف لقلب المفاعل يتحول هو الاخرالى الحالة السائلة مما يسبب خروج مكونات القلب المشعة من اهم ستارين حافظين لهما. ففي حادث مفاعل جزيرة الاميال الثلاثة في الولايات المتحدة قدرت درجة حرارة القلب بحوالى 2600 درجة مئوية بحيث اصبحت مكونات قلب المفاعل سائلة بما يشبه الطين رقيق القوام، اما في حادث تشرنوبل فقد وصلت درجة حرارة القلب الى حوالي 1800 درجة مئوية لمدة عشر ثوان، ثم انخفضت الى ما يقارب 1400 درجة مئوية لمدة عشرة ايام، وقد حصل في الحادثين خروج كمية كبيرة من المواد المشعة الى البيئة المحيطة. وفي ذات الوقت فان جزءا مهما من مكونات قلب المفاعل ذات الحرارة المرتفعة يمكن ان تؤدي الى ذوبان ارضية المفاعل وقد تنزل الى اعماق تبلغ عشرات الامتار.
ان ذوبان قلب المفاعل يحصل في الاغلب اذا لم يكن التبريد فعالا بشكل كاف بسبب حصول خلل في عملية تزويد قلب المفاعل بالماء كاغلاق احد الصمامات او كسر انبوب التزويد بالمياه، او بسبب حصول تفاعل متسلسل بوتيرة اعلى من المتوقع نتيجة خطأ في السيطرة مما يؤدي الى ارتفاع حرارة المفاعل وبالتالي ذوبان قلب المفاعل بالطريقة التي وصفت اعلاه، وهذا ما حصل في اسوأ حادثين عرفهما تاريخ الطاقة النووية الا وهما حادثا جزيرة الاميال الثلاث وتشرنوبل. وفي كلتا الحالتين ولوتم وضع كمية مناسبة من مواد السيطرة داخل قلب المفاعل وحتى اذا تم ايقاف التفاعل المتسلسل فانه بدون تغذية قلب المفاعل بالتبريد الكافي فان الحرارة الناتجة من التحلل الاشعاعي لنواتج الانشطار الموجودة في قضبان الوقود كفيلة برفع درجة الحرارة الى الحد الذي يؤدي الى ذوبان قلب المفاعل.
الطاقة النووية والبيئة
أدى الاهتمام العالمي بتلوث البيئة من النواتج المشعة للانشطار النووي المنطلقة من المفاعلات والتفجيرات النووية الى تسريع البحث العلمي في هذا المجال، مما ادى الى توفير عدد هائل من الدراسات التي توزعت على تخصصات فرعية مختلفة تعنى بسلوك هذه المواد في عناصر البيئة المختلفة. وقد كانت هذه الدراسات اما دراسات مختبرية انتجت عددا كبيرا من النماذج لتفسير او توقع سلوك نواتج الانشطار في البيئة، او بدراسة الانبعاثات الحقيقية من هذه النواتج من حوادث المفاعلات مثل تشرنوبل (الاتحاد السوفييتي السابق-1986) وحادث جزيرة الاميال الثلاثةTMI (الولايات المتحدة1979-) والتفجيرات النووية في اليابان(1945) وجزر مارشال والولايات المتحدة ومواقع أخرى من العالم.
المواد المشعة الناتجة من الانشطار النووي
ينتج الانشطار النووي عددا كبيرا من النويدات المشعة، تقع اعدادها الذرية بين 30 و65 بحيث يتكون بالنتيجة ذرات 35 عنصرا مختلفا. يفترض ان تقوم هذه الذرات بإجراء العديد من التفاعلات الكيماوية فيما بينها مما يعني توفر العديد من المركبات الكيماوية. وقد افترضت الدراسات تكون العديد من المركبات الكيماوية وهي الممكنة التكوين في الظروف الاعتيادية بين ذرات العناصر الموجودة ومن هذه المركبات ايوديد السيزيوم، اكاسيد الروثينيوم، هيدروكسيد السيزيوم ... الخ.
ان نواتج الانشطار حتى تخرج من مكانها داخل عنصر الوقود يجب ان تجتاز ثلاثة حواجز رئيسية: الاول هو حافظة عنصر الوقود نفسة والثاني الغلاف المحكم الذي يحيط بقلب المفاعل ويحتوي بداخله قلب المفاعل وما يرافقه من نظام التبريد والثالث ما يعرف بالاحتواء او الحاوية وهو يحيط بالمفاعل ككل ولا دور استراتيجي له في الظروف العادية، غير انه عند حصول خلل في قلب المفاعل فان هذا الحاجز يغلق بشكل محكم لضمان عدم خروج محتويات قلب المفاعل وتحديدا نواتج الانشطار الى البيئة المحيطة (شكل رقم 5). ان عناصر الوقود ونتيجة للحرارة المرتفعة داخل قلب المفاعل قد تصاب بفتق يؤدي الى خروج جزء من محتواها من نواتج الانشطار وهذا يعد وضعا طبيعيا اذا كان عدد عناصر الوقود المتضررة اقل بكثير من العدد الإجمالي لعدد عناصر الوقود، فتخرج هذه النواتج خاصة تلك التي تكون على شكل غاز او هباء من حافظة الوقود وتمر عبر الحاجز الثاني وتنتشر في بيئة المفاعل داخل الحاجز الثالث الذي يسمح عبر فتحات التهوية الموجودة فيه بخروج نسبة ضئيلة جدا بحدود جزء واحد من الف جزء من محتوى الهواء الموجود داخل المفاعل الى الخارج يوميا، وهذا الجزء هو ما يسبب القلق لعامة الناس من المفاعلات النووية.
ان الحالة الفيزيائية التي تتواجد عليها العناصر والمركبات المختلفة المذكورة سابقا داخل حافظة عنصر الوقود الموجود في قلب المفاعل تعتمد على درجة الانصهار والغليان لكل منها. كما ان خروج اي منها من حافظة عنصر الوقود يعتمد على هاتين الدرجتين، فمثلا في حال حصول أي صدع في الحافظة من المتوقع خروج الغازات الخاملة وهي الكربتون والزينون تليها العناصر ذات درجات الانصهار والغليان المنخفضة مثل اليود والسيزيوم والتيليريوم ثم عناصر بدرجات انصهار وغليان أعلى مثل السترونشيوم والباريوم وأخيرا العناصر المقاومة للصهر (refractory elements) مثل الزركونيوم والروثينيوم. وقد اعتمد هذا المبدأ في كافة النماذج التي اعدت لتوقع انبعاث نواتج الانشطار من المفاعلات سواء أثناء التشغيل الاعتيادي او اثناء الحوادث.
غير ان المشاهدات الميدانية بعد الانبعاثات الواقعية لنواتج الانشطار، سواء اثناء التشغيل العادي او عند حصول حوادث نووية او التفجيرات النووية، لم تتفق ونتائج او توقعات تلك الدراسات او النماذج المعتمدة عليها. ومجمل المشاهدات كانت على النحو التالي: أ - لا توجد مركبات كيماوية متكونة من نواتج الانشطار بشكل واضح كتلك المعروفة في الظروف العادية ولكن تجمعات متماسكة من المواد المشعة.
ب - لم يعتمد انبعاث نواتج الانشطار الى البيئة على درجتي انصهار وغليان أي من هذه المواد، فمثلا في حادث تشرنوبل،حيث حصل انبعاث هائل ومفاجئ للمواد المشعة وبلغت درجة حرارة قلب المفاعل1800 درجة مئوية لمدة 10 ثوان و 1400درجة مئوية لمدة 10 ايام، فقد انبعث من المفاعل 95% من محتوى قلب المفاعل من الروثينيوم (درجة غليانه 4150 درجة مئوية) بينما لم ينبعث الا 65% من محتوى قلب المفاعل من السيزيوم ( درجة غليانه 670 درجة مئوية). ولا يزال انبعاث السيزيوم من الحادث بهذه النسبة المنخفضة لغزا لم يفسر لحد الان.
ان نواتج الانشطار هذه والتي تتجمع داخل قضبان الوقود في المفاعلات نتيجة للتشغيل الاعتيادي تشكل ما يعرف بالنفايات النووية التي ينظر اليها كعبئ كبير على البيئة، وان كانت هذه النفايات غير قابلة للذوبان في اغلب انواع السوائل لا بل وفي اكثر السوائل فعالية في الاذابة.
الاثار البيئية للمواد المشعة الناتجة من الانشطار النووي
من المفترض ان سلوك نواتج الانشطار في البيئة يحدد من خلال شكلها الكيماوي الذي دخلت به الى البيئة. وبالتالي فان هذه المواد ستنتقل في التربة حسب تركيزها ونوعية التربة وظروف الطقس خاصة كمية الأمطار المتساقطة في مكان تواجدها. بعد دخولها التربة، تمتص نواتج الانشطار من قبل الجذور لتتوزع في اجزاء النبات المختلفة، ثم تتوزع داخل جسم الانسان او الحيوان عندما يتناول النبات الملوث وذلك بطريقة تشبه توزع العناصر المماثلة حيث يعتبر السيزيوم مماثلا للبوتاسيوم و السترونشيوم مماثلا للكالسيوم. ويعبر عن نسب الانتقال بين النبات والحيوان او الانسان بمعامل الانتقال. كما انه عندما تدخل نواتج الانشطار الى البيئة المائية فإنها من المفترض ان تذوب وتنتشر في الوسط المائي.
بيد أن السلوك الحقيقي لنواتج الانشطار المنطلقة الى البيئة لم تكن حسب التصور المتوقع اعلاه. فعند انطلاق نواتج الانشطار من المفاعل فإنها سرعان ما تترسب على الارض، وتبين ايضا ان انتقال نواتج الانشطار في التربة يكون بطيئا جدا حيث تصل سرعة انتقالها من 3ر0 الى 5ر0 سم في العام الواحد وبشكل عمودي فقط حتى لو تساقطت كميات كبيرة من الامطار فوقها. هذا بالاضافة الى ان قيم معامل الانتقال ، اي انتقال المادة المشعة من النبات الى الحيوان او من النبات الى الانسان، كانت متفاوتة بشكل هائل، مما يشير الى ان آلية الانتقال لا تسير بشكل منتظم حسب التصور الكيماوي الاعتيادي. كما ان المواد المنطلقة كانت غير قابلة للتبادل الايوني وبالتالي فإن انتقالها عبر الجذر لا يتجاوز نسبة مئوية بسيطة. ونتيجة للحركة البطيئة لنواتج الانشطار في التربة تم اقتراح بديل جديد للتخلص من نواتج الانشطارالمنتشرة على سطح الارض بعد حادث تشرنوبل وهو حراثة التربة وقلبها لعمق 30 سم وذلك بدلا من ازالة الطبقات السطحية من التربة وتجميعها في مكان خاص حيث تكون كم هائل من التربة الملوثة بالمواد المشعة.
ان امتصاص نواتج الانشطار في اجسام الحيوانات يكون قليلا جدا، ويتفاوت كثيرا من نوع لنوع ومن حيوان لاخر، وهذا التفاوت غير معروف الاسباب في كثير من الاحيان. كما ان وصول هذه المواد الى اللحوم والالبان ضئيل جدا ومتفاوت القيمة.
عند دخول نواتج الانشطار الى المياه، فان الكمية الغالبة منها تكون على شكل دقائقي صلب غير قابل للذوبان في الماء، لذا فإنها سرعان ما تترسب في قعر التجمع المائي سواء كان بحرا او نهرا اوبحيرة او تجمعا مائيا اكبر من ذلك او اصغر.
ان العامل المهم في تقييم الخطر الذي تمثله المواد المشعة وهي نواتج الانشطار المنبعثة من المفاعل، هو مقدار الجرعة الاشعاعية التي يتلقاها الشخص الموجود في منطقة تساقطت بها نواتج الانشطار هذه بعد خروجها او تسربها من المفاعل. لذا فقد اقترحت حدود للتعامل مع هذه النواتج، تتضمن الحد الاعلى لمقدار تركيز هذه المواد في مساحة معينة (متر مربع واحد مثلا)، ومقدار التلوث المسموح به للمواد الغذائية اي كمية المادة المشعة(الفعالية الاشعاعية) في كيلوغرام واحد من المادة الغذائية كالحليب او اللحوم او الخضروات، ومقدار تركيز المادة المشعة في الهواء الجوي الذي يستنشقه الانسان، والمرجعية التي بنيت عليها هذه الارقام هي مقدرة الحدود المذكورة(اي الفعالية الاشعاعية) في احداث جرعة اشعاعية داخل جسم الانسان تصل الى حد مكافئ الجرعة السنوي 50 ملي سيفرت في السنة. وكمثال على ذلك فان الحد الاعلى الذي لا يجب تجاوزه في تناول مادة غذائية ملوثة بالسيزيوم-137 هو ستة ملايين بيكريل سنويا(يسمى حد الاخذ السنوي)، اي ان تناول شخص ما طعاما ملوثا بالسيزيوم-137 فيجب ان لا يزيد ما يتناوله عن ستة ملايين بيكريل خلال عام واحد، وهذه بدورها سوف تعطي جسم الشخص المتناول للغذاء الملوث جرعة اشعاعية مقدارها 50 ملي سيفرت، واذا تذكرنا انه لا الخمسين ولا الخمسماية ملي سيفرت سوف تؤدي الى اضرار مباشرة او اضرار بعيدة المدى محققة، واذا عرفنا صعوبة الحصول على ستة ملايين بيكريل لتناولها في غذاء ملوث، اللهم الا في حادث اشعاعي كبير وان يكون الشخص وغذاءه في قلب الحادث، تبين لنا مقدار الخطر الوهمي الذي تمثله المفاعلات على البيئة، خاصة عندما نتذكر ان المواد المشعة الناتجة من الانشطار النووي في المفاعل ذات حركة بطيئة جدا في التربة وامتصاصها شبه معدوم في النبات وانتشارها داخل الاجسام الحية محدود جدا.
* رئيس قسم الفيزياء التطبيقية/جامعة الطفيلة التقنية
[email protected]
http://www.alrai.com/pages.php?news_id=297857
* د. عبد الوالي العجلوني
كان موضوع سلامة المفاعلات النووية من القضايا بالغة الاهمية لمستخدمي المفاعلات وذلك لما له من اثر على استخدام الطاقة النووية وانتشارها كبديل استراتيجي لوسائل الطاقة التقليدية. وقد اجريت اعداد كبيرة من الدراسات والتجارب وذلك لتوقع ما يمكن ان يحصل داخل المفاعل بحيث يؤدي الى حادث نووي وبنيت العديد من النماذج لتوقع الكيفيات التي يمكن ان تنتشر بها المواد المشعة الموجودة في قلب المفاعل الى البيئة.
ورغم التشدد الهائل في القضايا المتعلقة بالسلامة داخل المفاعل الا ان ما سيقع من حوادث لا بد من وقوعه مهما كانت الاحتياطات المتخذة، وان استطعنا هنا القول: ان رب ضارة نافعة، فان ما حصل من حوادث نووية، وان ادت الى انتشار الرعب في ارجاء المعمورة، فانها وبعد التحقق الكامل من ضآلة اثارها على الانسان والبيئة جعلت الحقيقة تنجلي ناصعة بان صناعة الطاقة النووية هي الصناعة الاكثر امانا على صعيد انواع الصناعات كافة، وان عدد الاصابات التي حصلت بين بني البشر عامة وعلى مستوى العالم من هذه الصناعة جديرة بالذكر من حيث ان الوفيات على مدى يزيد عن نصف قرن قد لا تتجاوز مئة شخص، واذا قمنا بمقارنة هذا الرقم مع الوفيات التي تحصل في اي قطاع من قطاعات الصناعة او الزراعة وحتى السياحة لوجدنا اننا نتعامل مع صناعة وتقنية فائقتي الامان.
ونظرا لما يوفره الاستعمال الموسع للطاقة النووية من إمكانيات هائلة للوفاء باحتياجات التنمية اللازمة لتوفير متطلبات الطاقة العالمية، وللتخلص من التهديد الهائل الذي يمثله تغير المناخ، وهما اثنان من التحديات الكبرى التي تواجه البشرية في القرن الحادي والعشرين، فان فرص كبيرة ستكون متاحة في التوسع في إنتاج واستخدام الطاقة النووية في البلدان التي اختارت أن يكون لديها طاقة نووية، رغم ما تطرحه هذه الفرص من مسائل معقدة، وواسعة المدى، تتعلق بالأمن والسلامة النوويين، والتي يجب أن تدرس بعناية فائقة. من جهة أخرى فإن التعاون الدولي يجب أن يكون بأفضل أحواله لضمان أن أي توسع محتمل لإنتاج واستخدام الطاقة النووية سيكون آمنا ومضمونا، وسوف لن يساهم في انتشار الأسلحة النووية. إن الزيادة السريعة بالإضافة إلى التغير الكبير في كلفة الوقود التقليدي والتهديد الوشيك لتغير المناخ، وما يقابل ذلك من بديل معروف تقدمه الطاقة النووية كخيار مهم، يجعل عصر النهضة للطاقة النووية مرجحا في المستقبل القريب.
وفي ذات الوقت فان لدى الناس رعب من استخدام الطاقة النووية لما قد تسببه من حوادث نووية، سواء كانت الحوادث في دولة تملك مفاعل او مفاعلات او دولة لا تملكها، فالانبعاثات التي تنطلق من المفاعل لا تعرف الحدود، ورغم التطمينات التي تطلق من قبل المختصين الا ان الخوف يستمر ولا يوجد ما يحده. هذا الخوف الذي ساهمت وسائل الاعلام في تعزيزه، خلق فضاءا شعبي عالمي معارض بشدة لاستخدام الطاقة النووية.
إن حقيقة أن المواد المشعة المنطلقة من المفاعل تكون متجمعة بأشكال عنقودية غير قابلة للذوبان في الماء وغير قابلة للامتصاص من الخلايا الحية في النبات والحيوان والانسان مما يقلل خطرها الداخلي على الاحياء، كما ان خطرها الخارجي يكون قليلا نتيجة لتركيزها المنخفض جدا، هذه الحقيقة تؤدي الى التأكيد ان الخطر الكامن اثناء التشغيل الاعتيادي للمفاعل يعتبر مهملا جدا ولا داعي للقلق بشانه او التفكير به مطلقا.
حوادث المفاعلات النووية
تتفاوت خطورة الحادث النووي بين تسرب اشعاعي بسيط في المرتبة الاقل الى حادث يتضمن خروج اغلب المادة المشعة داخل المفاعل، وهو ما لا يمكن ان تقبل به اي دولة ان يحدث؛ اذ ان الخطر، مع ضآلته، سيكون في الاساس على مواطنيها المجاورين للمفاعل، ولا يمكن في أسوأ الظروف الا خروج جزء بسيط من المادة المشعة. اذ بمجرد بدء الحادث الكبير فان قلب الفاعل سيذوب وتنتشر المواد التي يتكون منها قلب المفاعل داخل بناية المفاعل كالصهارة البركانية وان ما سيخرج الى الجو كانبعاثات يعتمد على درجة الحرارة داخل المفاعل ونوعه وحجم الوقود النووي الذي سيتحول الى مادة عديمة الفائدة كوقود نووي بمجرد انخفاض تركيزه بسبب تباعد ذراته عن بعضها مما يجعل الوقود في حالة دون الحرجة مما يوقف عملية الانشطار المتسلسل.
خرافة انفجار المفاعل النووي
ان من المستحيل لاي مفاعل نووي تجاري وخاصة اذا كان من المفاعلات المبردة والمهدئة بالماء ان ينفجر كما تنفجر القنبلة النووية. وسبب ذلك انه حتى يحصل التفاعل المتسلسل غير المسيطر عليه (اي انفجار القنبلة النووية) فيجب ان يكون تخصيب اليورانيوم، اي نسبة تنظير اليورانيوم 235، مرتفعا جدا الى حدود مشابهة لتلك المستخدمة في وقود القنبلة اي اعلى من 90%، ويجب توفر كمية الوقود التي تشكل الكتلة الحرجة ضمن حجم معين مناسب وهو ما لا يمكن الحصول عليه بسبب وجود المواد الاضافية في المفاعل وهي مواد التهدئة والسيطرة التي تساهم في امتصاص النيوترونات ولا تسمح بحصول تفاعل متسلسل سريع وفعال كما في القنبلة النووية. اذا، وبما ان المفاعل لا ينفجر، ما الذي يحصل في المفاعل؟ ان ما يحصل هو ذوبان قلب المفاعل او اجزاء منه، اي ان مكونات قلب المفاعل من قضبان وقود وقضبان سيطرة وتهدئة تتحول الى الحالة السائلة اذا وصلت درجة حرارة قلب المفاعل درجة حرارة اعلى من درجة انصهار اي من مكونات القلب، واذا استمرت درجة الحرارة بالارتفاع فان الجدار الحديدي المغلف لقلب المفاعل يتحول هو الاخرالى الحالة السائلة مما يسبب خروج مكونات القلب المشعة من اهم ستارين حافظين لهما. ففي حادث مفاعل جزيرة الاميال الثلاثة في الولايات المتحدة قدرت درجة حرارة القلب بحوالى 2600 درجة مئوية بحيث اصبحت مكونات قلب المفاعل سائلة بما يشبه الطين رقيق القوام، اما في حادث تشرنوبل فقد وصلت درجة حرارة القلب الى حوالي 1800 درجة مئوية لمدة عشر ثوان، ثم انخفضت الى ما يقارب 1400 درجة مئوية لمدة عشرة ايام، وقد حصل في الحادثين خروج كمية كبيرة من المواد المشعة الى البيئة المحيطة. وفي ذات الوقت فان جزءا مهما من مكونات قلب المفاعل ذات الحرارة المرتفعة يمكن ان تؤدي الى ذوبان ارضية المفاعل وقد تنزل الى اعماق تبلغ عشرات الامتار.
ان ذوبان قلب المفاعل يحصل في الاغلب اذا لم يكن التبريد فعالا بشكل كاف بسبب حصول خلل في عملية تزويد قلب المفاعل بالماء كاغلاق احد الصمامات او كسر انبوب التزويد بالمياه، او بسبب حصول تفاعل متسلسل بوتيرة اعلى من المتوقع نتيجة خطأ في السيطرة مما يؤدي الى ارتفاع حرارة المفاعل وبالتالي ذوبان قلب المفاعل بالطريقة التي وصفت اعلاه، وهذا ما حصل في اسوأ حادثين عرفهما تاريخ الطاقة النووية الا وهما حادثا جزيرة الاميال الثلاث وتشرنوبل. وفي كلتا الحالتين ولوتم وضع كمية مناسبة من مواد السيطرة داخل قلب المفاعل وحتى اذا تم ايقاف التفاعل المتسلسل فانه بدون تغذية قلب المفاعل بالتبريد الكافي فان الحرارة الناتجة من التحلل الاشعاعي لنواتج الانشطار الموجودة في قضبان الوقود كفيلة برفع درجة الحرارة الى الحد الذي يؤدي الى ذوبان قلب المفاعل.
الطاقة النووية والبيئة
أدى الاهتمام العالمي بتلوث البيئة من النواتج المشعة للانشطار النووي المنطلقة من المفاعلات والتفجيرات النووية الى تسريع البحث العلمي في هذا المجال، مما ادى الى توفير عدد هائل من الدراسات التي توزعت على تخصصات فرعية مختلفة تعنى بسلوك هذه المواد في عناصر البيئة المختلفة. وقد كانت هذه الدراسات اما دراسات مختبرية انتجت عددا كبيرا من النماذج لتفسير او توقع سلوك نواتج الانشطار في البيئة، او بدراسة الانبعاثات الحقيقية من هذه النواتج من حوادث المفاعلات مثل تشرنوبل (الاتحاد السوفييتي السابق-1986) وحادث جزيرة الاميال الثلاثةTMI (الولايات المتحدة1979-) والتفجيرات النووية في اليابان(1945) وجزر مارشال والولايات المتحدة ومواقع أخرى من العالم.
المواد المشعة الناتجة من الانشطار النووي
ينتج الانشطار النووي عددا كبيرا من النويدات المشعة، تقع اعدادها الذرية بين 30 و65 بحيث يتكون بالنتيجة ذرات 35 عنصرا مختلفا. يفترض ان تقوم هذه الذرات بإجراء العديد من التفاعلات الكيماوية فيما بينها مما يعني توفر العديد من المركبات الكيماوية. وقد افترضت الدراسات تكون العديد من المركبات الكيماوية وهي الممكنة التكوين في الظروف الاعتيادية بين ذرات العناصر الموجودة ومن هذه المركبات ايوديد السيزيوم، اكاسيد الروثينيوم، هيدروكسيد السيزيوم ... الخ.
ان نواتج الانشطار حتى تخرج من مكانها داخل عنصر الوقود يجب ان تجتاز ثلاثة حواجز رئيسية: الاول هو حافظة عنصر الوقود نفسة والثاني الغلاف المحكم الذي يحيط بقلب المفاعل ويحتوي بداخله قلب المفاعل وما يرافقه من نظام التبريد والثالث ما يعرف بالاحتواء او الحاوية وهو يحيط بالمفاعل ككل ولا دور استراتيجي له في الظروف العادية، غير انه عند حصول خلل في قلب المفاعل فان هذا الحاجز يغلق بشكل محكم لضمان عدم خروج محتويات قلب المفاعل وتحديدا نواتج الانشطار الى البيئة المحيطة (شكل رقم 5). ان عناصر الوقود ونتيجة للحرارة المرتفعة داخل قلب المفاعل قد تصاب بفتق يؤدي الى خروج جزء من محتواها من نواتج الانشطار وهذا يعد وضعا طبيعيا اذا كان عدد عناصر الوقود المتضررة اقل بكثير من العدد الإجمالي لعدد عناصر الوقود، فتخرج هذه النواتج خاصة تلك التي تكون على شكل غاز او هباء من حافظة الوقود وتمر عبر الحاجز الثاني وتنتشر في بيئة المفاعل داخل الحاجز الثالث الذي يسمح عبر فتحات التهوية الموجودة فيه بخروج نسبة ضئيلة جدا بحدود جزء واحد من الف جزء من محتوى الهواء الموجود داخل المفاعل الى الخارج يوميا، وهذا الجزء هو ما يسبب القلق لعامة الناس من المفاعلات النووية.
ان الحالة الفيزيائية التي تتواجد عليها العناصر والمركبات المختلفة المذكورة سابقا داخل حافظة عنصر الوقود الموجود في قلب المفاعل تعتمد على درجة الانصهار والغليان لكل منها. كما ان خروج اي منها من حافظة عنصر الوقود يعتمد على هاتين الدرجتين، فمثلا في حال حصول أي صدع في الحافظة من المتوقع خروج الغازات الخاملة وهي الكربتون والزينون تليها العناصر ذات درجات الانصهار والغليان المنخفضة مثل اليود والسيزيوم والتيليريوم ثم عناصر بدرجات انصهار وغليان أعلى مثل السترونشيوم والباريوم وأخيرا العناصر المقاومة للصهر (refractory elements) مثل الزركونيوم والروثينيوم. وقد اعتمد هذا المبدأ في كافة النماذج التي اعدت لتوقع انبعاث نواتج الانشطار من المفاعلات سواء أثناء التشغيل الاعتيادي او اثناء الحوادث.
غير ان المشاهدات الميدانية بعد الانبعاثات الواقعية لنواتج الانشطار، سواء اثناء التشغيل العادي او عند حصول حوادث نووية او التفجيرات النووية، لم تتفق ونتائج او توقعات تلك الدراسات او النماذج المعتمدة عليها. ومجمل المشاهدات كانت على النحو التالي: أ - لا توجد مركبات كيماوية متكونة من نواتج الانشطار بشكل واضح كتلك المعروفة في الظروف العادية ولكن تجمعات متماسكة من المواد المشعة.
ب - لم يعتمد انبعاث نواتج الانشطار الى البيئة على درجتي انصهار وغليان أي من هذه المواد، فمثلا في حادث تشرنوبل،حيث حصل انبعاث هائل ومفاجئ للمواد المشعة وبلغت درجة حرارة قلب المفاعل1800 درجة مئوية لمدة 10 ثوان و 1400درجة مئوية لمدة 10 ايام، فقد انبعث من المفاعل 95% من محتوى قلب المفاعل من الروثينيوم (درجة غليانه 4150 درجة مئوية) بينما لم ينبعث الا 65% من محتوى قلب المفاعل من السيزيوم ( درجة غليانه 670 درجة مئوية). ولا يزال انبعاث السيزيوم من الحادث بهذه النسبة المنخفضة لغزا لم يفسر لحد الان.
ان نواتج الانشطار هذه والتي تتجمع داخل قضبان الوقود في المفاعلات نتيجة للتشغيل الاعتيادي تشكل ما يعرف بالنفايات النووية التي ينظر اليها كعبئ كبير على البيئة، وان كانت هذه النفايات غير قابلة للذوبان في اغلب انواع السوائل لا بل وفي اكثر السوائل فعالية في الاذابة.
الاثار البيئية للمواد المشعة الناتجة من الانشطار النووي
من المفترض ان سلوك نواتج الانشطار في البيئة يحدد من خلال شكلها الكيماوي الذي دخلت به الى البيئة. وبالتالي فان هذه المواد ستنتقل في التربة حسب تركيزها ونوعية التربة وظروف الطقس خاصة كمية الأمطار المتساقطة في مكان تواجدها. بعد دخولها التربة، تمتص نواتج الانشطار من قبل الجذور لتتوزع في اجزاء النبات المختلفة، ثم تتوزع داخل جسم الانسان او الحيوان عندما يتناول النبات الملوث وذلك بطريقة تشبه توزع العناصر المماثلة حيث يعتبر السيزيوم مماثلا للبوتاسيوم و السترونشيوم مماثلا للكالسيوم. ويعبر عن نسب الانتقال بين النبات والحيوان او الانسان بمعامل الانتقال. كما انه عندما تدخل نواتج الانشطار الى البيئة المائية فإنها من المفترض ان تذوب وتنتشر في الوسط المائي.
بيد أن السلوك الحقيقي لنواتج الانشطار المنطلقة الى البيئة لم تكن حسب التصور المتوقع اعلاه. فعند انطلاق نواتج الانشطار من المفاعل فإنها سرعان ما تترسب على الارض، وتبين ايضا ان انتقال نواتج الانشطار في التربة يكون بطيئا جدا حيث تصل سرعة انتقالها من 3ر0 الى 5ر0 سم في العام الواحد وبشكل عمودي فقط حتى لو تساقطت كميات كبيرة من الامطار فوقها. هذا بالاضافة الى ان قيم معامل الانتقال ، اي انتقال المادة المشعة من النبات الى الحيوان او من النبات الى الانسان، كانت متفاوتة بشكل هائل، مما يشير الى ان آلية الانتقال لا تسير بشكل منتظم حسب التصور الكيماوي الاعتيادي. كما ان المواد المنطلقة كانت غير قابلة للتبادل الايوني وبالتالي فإن انتقالها عبر الجذر لا يتجاوز نسبة مئوية بسيطة. ونتيجة للحركة البطيئة لنواتج الانشطار في التربة تم اقتراح بديل جديد للتخلص من نواتج الانشطارالمنتشرة على سطح الارض بعد حادث تشرنوبل وهو حراثة التربة وقلبها لعمق 30 سم وذلك بدلا من ازالة الطبقات السطحية من التربة وتجميعها في مكان خاص حيث تكون كم هائل من التربة الملوثة بالمواد المشعة.
ان امتصاص نواتج الانشطار في اجسام الحيوانات يكون قليلا جدا، ويتفاوت كثيرا من نوع لنوع ومن حيوان لاخر، وهذا التفاوت غير معروف الاسباب في كثير من الاحيان. كما ان وصول هذه المواد الى اللحوم والالبان ضئيل جدا ومتفاوت القيمة.
عند دخول نواتج الانشطار الى المياه، فان الكمية الغالبة منها تكون على شكل دقائقي صلب غير قابل للذوبان في الماء، لذا فإنها سرعان ما تترسب في قعر التجمع المائي سواء كان بحرا او نهرا اوبحيرة او تجمعا مائيا اكبر من ذلك او اصغر.
ان العامل المهم في تقييم الخطر الذي تمثله المواد المشعة وهي نواتج الانشطار المنبعثة من المفاعل، هو مقدار الجرعة الاشعاعية التي يتلقاها الشخص الموجود في منطقة تساقطت بها نواتج الانشطار هذه بعد خروجها او تسربها من المفاعل. لذا فقد اقترحت حدود للتعامل مع هذه النواتج، تتضمن الحد الاعلى لمقدار تركيز هذه المواد في مساحة معينة (متر مربع واحد مثلا)، ومقدار التلوث المسموح به للمواد الغذائية اي كمية المادة المشعة(الفعالية الاشعاعية) في كيلوغرام واحد من المادة الغذائية كالحليب او اللحوم او الخضروات، ومقدار تركيز المادة المشعة في الهواء الجوي الذي يستنشقه الانسان، والمرجعية التي بنيت عليها هذه الارقام هي مقدرة الحدود المذكورة(اي الفعالية الاشعاعية) في احداث جرعة اشعاعية داخل جسم الانسان تصل الى حد مكافئ الجرعة السنوي 50 ملي سيفرت في السنة. وكمثال على ذلك فان الحد الاعلى الذي لا يجب تجاوزه في تناول مادة غذائية ملوثة بالسيزيوم-137 هو ستة ملايين بيكريل سنويا(يسمى حد الاخذ السنوي)، اي ان تناول شخص ما طعاما ملوثا بالسيزيوم-137 فيجب ان لا يزيد ما يتناوله عن ستة ملايين بيكريل خلال عام واحد، وهذه بدورها سوف تعطي جسم الشخص المتناول للغذاء الملوث جرعة اشعاعية مقدارها 50 ملي سيفرت، واذا تذكرنا انه لا الخمسين ولا الخمسماية ملي سيفرت سوف تؤدي الى اضرار مباشرة او اضرار بعيدة المدى محققة، واذا عرفنا صعوبة الحصول على ستة ملايين بيكريل لتناولها في غذاء ملوث، اللهم الا في حادث اشعاعي كبير وان يكون الشخص وغذاءه في قلب الحادث، تبين لنا مقدار الخطر الوهمي الذي تمثله المفاعلات على البيئة، خاصة عندما نتذكر ان المواد المشعة الناتجة من الانشطار النووي في المفاعل ذات حركة بطيئة جدا في التربة وامتصاصها شبه معدوم في النبات وانتشارها داخل الاجسام الحية محدود جدا.
* رئيس قسم الفيزياء التطبيقية/جامعة الطفيلة التقنية
[email protected]
http://www.alrai.com/pages.php?news_id=297857