نبيُّ الرحمة والتواضع/د.عثمان قدري مكانسي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,783
التفاعل
17,901 114 0
نبيُّ الرحمة والتواضع
الدكتور عثمان قدري مكانسي


تعال معي ننظر بعين البصيرة لا البصر ـ ولا نملك إلا هذا ـ إلى سيّدَيْنَا العظيمين ، أحدهما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والآخر جبريل رسولُ الله إلى رسول الله ، صلى الله على جبريل . . فإني أحبه رغماً عن اليهود الذين يكرهونه لأن قلوبهم ملئت حقداً وكرهاً لسيد الملائكة الجليل .
هذا رسول الله ، وجبريل معه يتدارسان القرآن ويتجاذبان أطراف الحديث ، قرب الكعبة ، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( يا جبريل ، والذي بعثك بالحق ما أمسى لآل محمد سفـّةٌ من دقيق ، ولا كفٌّ من سـَويق )) .
فلم يكن كلامه بأسرع من أن سمع هدَّةً من السماء أفزعته وكانت مجلجلة ، ظنّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الله أمر القيامة أن تقوم ، فتضعضعت السماء .
فقال جبريل مهدئاً من روعه ومسكِّناً خوفه : لا . . إنه ملك نزل من السماء ، لم ينزل منها منذ خلقه الله تعالى .
ونظر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى عظيم خلقته وجليل صورته وهو يدنو منهما ، فملأ عينه ، وسبّح خالقه ، فلما وصل قال لهما : (( السلام عليكما ورحمة الله وبركاته ، ـ وهذا سلام المسلمين منذ خلق الله تعالى آدم في الجنة ، - فردّا عليه السلام بأحسنَ منه : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ومغفرته ورضوانه . . . فلما تمكن واقفاً التفت إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال : إن ربّك يقرئك السلام ، ويقول سبحانه : إنه عزّ شأنه سمع ما ذكرت ، فبعثني إليك بمفاتيح خزائن الأرض ، وأمرني أن أعرض عليك أن أسـَيّر جبال تِهامة زمُرُّداً ، وياقوتاً ، وذهباً ، وفضّة ، وأمرني أن أجعلك إن شئت نبياً ملكاً وإن شئت نبياً عبداً .
إن الفطرة لتدعوه أن يختار النبوّة مع العبوديّة ، فأعلى مراتب الإنسان العبوديةُ لله تعالى :
(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ) [ الإسراء : الآية 1 ]
ونظر إلى جبريل يستشيره ، فرآه يوحي إليه : أن تواضَعْ . فالتواضع يرفع صاحبه في عليِّين ، ومن تواضع لله رفعه .
إن للمُلْك حظاً في النفس ورغبة في الاستعلاء ، وشعوراً بالعظمة وإحساساً بالفوقيّة على مَنْ حوله ، وإن في العبودية تواضعاً للآخرين ، وقدرة على الدخول إلى نفوسهم والتباسط معهم ، واكتساب قلوبهم وتحمل أذاهم والصفح عنهم .
فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( بل عبداً رسولاً ، أشبع يوماً فأشكر الله ، وأجوع يوماً فأحمَد الله ، إنما أنا عبد ، والله يحب أن يراني في مقام العبودية ، متذللاً له ، ضارعاً إليه ، مقبلاً عليه ، لا أصلح للدنيا ولا تصلح لي . . .
يا الله ما أعظم هذا الرسول الكريم ! تأتيه الدنيا صاغرة ويدفعها عنه ، فقد دخل عليه عمر رضي الله عنه فرأى الحصير قد أثرَّ في جنبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فيبكي عمر فيسأله المصطفى : (( ما يبكيك يا عمر ؟ )) فيقول : هذا هرقل وذاك كسرى حيزت لهما الدنيا ، يتنعمان بها ، وأنت رسول الله يؤثر هذا الحصير في جنبك !!
فيقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ منبهاً إلى حقارة الدنيا عند الله تعالى وهوانها على المؤمن : (( فوالذي نفسي بيده لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء . . يا عمر أما يرضيك أن تكون لهما الدنيا ولنا الآخرة ؟ )) .
ومات هرقل وكسرى مذمومَيْن ، ولا يُذكران إلا حين يتحدث الناس في العظات والعبر ويتعوذون من مصيرهما ، أما رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فيذكر في كل لحظة ، آناء الليل وأطراف النهار ، بكل حب وإجلال وتقدير ، اسمه مقرون باسم الله تعالى في الأذان وفي الإقامة ، وفي كثير من آيات القرآن
( وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ) ( الجن 19 )
( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا ) ( الكهف 1)
(وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ) (الأنفال من الآية 41)

فهل هناك أعظم وأجلُّ من هذه المكانة ؟!!
إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجه حين طلب الماء قالوا : انتظر يا رسول الله قليلاً يأتِ ماء زمزم فتشربه ـ وكان في عَرَفةَ ـ فإن الماء هنا يخوض الناس فيه ، فقال : (( لا حاجة لي فيه . . اسقوني مما يشرب الناس )) فهو على بركته ـ صلى الله عليه وسلم ـ يبعث إلى الماء الذي يشرب منه المسلمون يرجو بركتهم . . يا سبحان الله . . رسول الله يرجو بركة المسلمين . . آمنتُ أنه سيد البشر الشفيع المشفَّع في المحشر .
بل إنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ يجلس إلى قصعته بين الناس جاثياً على ركبتيه ويبدأ الطعام مع أصحابه ، فيقول له أعرابي : ما هذه الجلسة ؟ إنها لم تعجبه ولم يرضها للرسول الكريم . فيقول عليه الصلاة والسلام : (( إن الله جعلني عبداً كريماً ، ولم يجعلني جباراً عنيداً )) .
وما أقربه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى قلوبنا وقلب عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين استأذن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في العمرة . فأذن له ، وقال له : يا أخي عمر لا تنسني من دعائك . فيناديه باسمه ، ويتقرب إليه بلفظ يا أخي ، ويسأله أن يشركه بالدعاء ، وهو منقذ البشرية وهاديها إلى الصراط المستقيم .
ولم لا يقول ويفعل وهو مَنْ تَواضَعَ ولَطُفَ ؟ ، وهو الذي يعلِّمنا في حديثه الشريف : إن الله تعالى أوحى إليَّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ، ولا ينبغي أحد على أحد .
تواضع لربِّ العرش عَلّكَ تُرفَعُ
فما خاب عبدٌ للمهيمن يـخضع
وداوِ بــذكــر الله قـلـبــــك إنـــه
أجــل دواءٍ لــلـقـلــوب وأنـفـع
 
التعديل الأخير:
عودة
أعلى