نــظـــريـة الأمــــن الإســـرائيلية
إن التمعن فى هدف نــظـــريـة الأمــــن الإســـرائيلية الذى حددته إستراتيجية طويلة المدى ، وتحليل تاكتيكية تحقيق" تلك الخطوات ، وكسب التدعيم الدولى ، وعدم الأهتمام بما يقوله العالم ... أو بنقد العالم والأمم المتحدة ، يؤدى فى النهاية الى "فقد أمل العالم" فى أن تتجاوب إسرائيل ...
وفى هذه اللحظة ، ستغير إسرائيل سرعة تحقيق خطوات التاكتيك وستتقدم لتحقيق الغرض النهائى بأسرع وقت ممكن ، قبل أن يتنبه العالم الى ما يحدث ...
وعندها سنقف .. ونبكى دمائنا ... ندمــا ... على غفلتنا ... الطــويلة ....
د. يحى الشاعر
".......
مقدمة:
نظرية الأمن الإسرائيلي، هي المنبع الذي يستقي منه العسكريون الإسرائيليون توجهاتهم، ومن ثمّ بناء عقائدهم. كما أنها الأساس، الذي ترتكز عليه إستراتيجيتهم و أساليبهم، في إدارة الصراع مع الدول العربية. "وعلى الرغم من ذلك فإنها لم تكتب أبدا، كما لم تكتسب قوة إلزامية تتمسك بها القيادة السياسية العليا. كذلك فإن بعض الأهداف السياسية (القومية)، التي تُبنى عليها نظرية الأمن، لم تحددها القيادة السياسية المختصة منذ أواخر حرب التحرير عام 1948 وحتى يومنا هذا". ولا يعني ذلك أنها غير موجودة، فهي تشكل مجموعة من المبادئ والقواعد، تشبه في ذلك الدستور البريطاني غير المكتوب.
تعني نظرية الأمن الإسرائيلي "المفاهيم، التي تنتهجها إسرائيل لضمان أمنها، أو هي مجموعة القواعد والمبادئ والأساليب، التي يتم في إطارها تحديد التهديدات التي تتعرض لها إسرائيل، طبقا لأسبقياتها وطرق مواجهتها"، مع الوضع في الاعتبار الاستغلال الأمثل لمعطيات القوة الإسرائيلية، في مقابل تحجيم معطيات القوة العربية، وتعتبر عملية تصنيف أسبقيات العمل واتجاهاته، من الجوانب الحيوية للمفاهيم الإستراتيجية الإسرائيلية.
وترتبط نظرية الأمن الإسرائيلي الحالية، في المفهوم الشامل لها، بالكتلة الحيوية لإسرائيل ، وبباقي القدرات الشاملة لها (اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وعسكرياً) إضافة إلى عاملين جديدين يلقيان بظلالهما على تلك النظرية هما:
العامل النووي : وهو ما تسميه إسرائيل "الرادع الإستراتيجي"، تجنباً للإفصاح المباشر عنه.
فهي لم تقر رسميا بامتلاكها لأسلحة نووية حتى الآن.
العامل الآخر : هو توجهات إسرائيل نحو السلام الشامل، وما لذلك من معطيات جديدة وانعكاسات متعددة على نظرية الأمن، والإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية.
فسر ديفيد بن جوريون ومساعدوه، كلمة الأمن في مفاهيمها العسكرية الأساسية بأنها : "الدفاع عن الوجود".
ونظراً للطبيعة الاستيطانية لإسرائيل، فإن مفهوم الأمن الإسرائيلي يمتد، ليشمل محاولة التأثير (إن لم يكن التحكم) على خط التفاعلات الإقليمية بما يُثَبِتْ دور إسرائيل العسكري والسياسـي في منطقتها. ويتسع مفهوم الأمن كذلك ليضم قضية النقاء اليهودي، وبحث الوسائل الكفيلة بضمان تدفق المهاجرين اليهود إليها . وفي سبيل ذلك، فإن لإسرائيل رؤيتها الخاصة في دوائر اهتماماتها الإستراتيجية بالنسبة للدول العربية، حيث تنظر إلى هذه الدول كالآتي:
1. تقوم نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، على مفهوم رسم خريطة إستراتيجية للدول العربية، مقسمة إلى دوائر إستراتيجية مهمة (حيوية)، حيث تقسّم إسرائيل العالم العربي لثلاث دوائر إستراتيجية، أضافت إليها دائرتين أخريتين (مؤقت)، من الدول المحيطة بالوطن العربي. والدوائر الرئيسية هي:
الدائرة الأولى والأهم: دائرة وادي النيل، وتقودها مصر.
الدائرة الثانية: دائرة الشام، وتتنافس على قيادتها كل من العراق وسوريا.
الدائرة الثالثة: دائرة الخليج العربي، وتشكل المملكة العربية السعودية الدولة المركزية فيها.
أضاف "اريل شارون"، وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، دائرتين أخريتين إلى الدوائر سالفة الذكر، وهما ترتبطان بالمجال الحيوي لإسرائيل، وبالمفهوم الإسرائيلي لمصادر تهديد أمنها القومي:
الدائرة الإسلامية: وهي الدول الإسلامية النشيطة، خاصة إيران وباكستان ودول آسيا الوسطى.
الدائرة الإفريقية: وهي دائرة دول منابع النيل (شرق ووسط إفريقيا) وكذلك الدول المشرفة أو ذات التأثير على البحر الأحمر.
2. وتقوم إستراتيجية إسرائيل، بالنسبة للأمن، على عدة أسس:
أ. منع التقارب والتنسيق ما بين الدول، التي تقود هذه الدوائر، وخاصة دائرتي وادي النيل والشام.
ب. محاولة تشجيع عمليات الانشقاق داخل كل دائرة، خاصة دائرة الشام.
ج. تتبني إستراتيجية إسرائيل بالنسبة للدول الإسلامية، على أساس منع أو عرقلة حدوث أي تماس أو تنسيق، بين الدائرة الإسلامية ودائرة الخليج العربي.
د. بالنسبة للدائرة الإفريقية، تعمل إسرائيل على إقامة علاقات وثيقة مع دول منابع النيل الإفريقية، وكذلك الدول المشرفة على جنوب البحر الأحمر، بالقدر التي يمكنها من ممارسة الضغوط على كل من مصر والسودان، بالنسبة لمسألة المياه، بالإضافة لضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر.
هـ. منع محاولات التنسيق المصري السعودي، على مستوى دائرتي وادي النيل والخليج العربي.
3. نظرية الأمن الإسرائيلي ليست وليدة اليوم، فقد وضع جوهرها ولبناتها الأولى ديفيد بن جوريون، مؤسس إسرائيل. ومن ثم، فهي مرادفة لنشأة إسرائيل. وبالرغم مما يبدو، من أن جوهرها ثابت، إلا أنها مرنة وقابلة للتطوير. فبعد نشأة إسرائيل، رأي المسئولون فيها ضرورة وضع إطار عام للعملين السياسي، والعسكري. وأطلقوا على ذلك: نظرية الأمن الإسرائيلي، وذلك كنظرية إستراتيجية وعسكرية لإسرائيل. وكان الهدف الرئيسي من وراء وضعها: حماية الدولة، والعمل على إقامة إسرائيل الكبرى، وفرض الصلح على العرب، من خلال: "تحقيق أقصى فعالية لقدرات الدولة، وفي مقدمتها القدرة العسكرية كوسيلة لبلوغ هذا الهدف".
بُنيت نظرية الأمن الإسرائيلي على عدة اعتبارات، بعضها عسكري، مثل:
أ. ضيق رقعة الأرض، وصغر حجم الدولة.
ب. قلة عدد السكان نسبياً، مع وجود أقليات معادية.
ج. بعدها عن أصدقائها، وتعرض خطوط مواصلاتها معهم لردود فعل المتغيرات الدولية.
د. إحاطتها بدول معادية، وغير قابلة لوجودها.
هـ. هشاشة اقتصادها القومي، واعتمادها على المساعدات الخارجية.
راعى المسئولون في إسرائيل، عند وضعهم للنظرية، عدة أسس، منها الاحتفاظ بالتفوق النوعي في وسائل الدفاع، إلى جانب العمل على إقامة مجتمع عسكري. كما أخذوا في الاعتبار مبدأ الحرب القصيرة، نظرا للقيود البشرية والاقتصادية، التي تعانى منها إسرائيل، والتركيز على ضرورة مؤازرة قوة كبرى أو أكثر لها – كلما أمكن ذلك – كحليف موثوق بمعاونته ونجدته في الوقت المناسب. والأهم من ذلك كله، العمل على تهيئة الرأي العام العالمي، وكسبه إلى جانبها، ومحاولة إقناعه بأن الدول العربية، التي تحيط بها، تخطط دائما للاعتداء عليها أو غزوها.
4. دفعت نتائج الجولات العسكرية الأربع، بين إسرائيل والعرب، إضافة إلى حرب لبنان، وتداعيات حرب الخليج الثانية، إلى إعادة تقييم "نظرية الأمن"، لتطويرها حتى يمكنها مواجهة المتغيرات العديدة، سواء الدولية، أو الإقليمية، أو في مجال التطور الهائل في التقنية العسكرية . ولذلك، فإن دراسة نظرية الأمن الإسرائيلي، لابد أن يواكبها كذلك دراسة المؤسسة العسكرية، التي تشكل أداتها حتى تتكامل الرؤية.
بمثل تمسك العقيدة اليهودية "بوعد الله لشعبه المختار"، تطلعا منها إلى "امتلاك أرض الميعاد"، أخذت الصهيونية على عاتقها رسم الإستراتيجية، وصياغة الوسيلة والأدوات، وفي مقدمتها الأداة العسكرية، لتحويل الأمل المنشود إلى واقع ملموس. وكان ذلك باستباحة أرض فلسطين، وتفريغها من سكانها الفلسطينيين، عن طريق الاستيطان والحرب، ومن ثم فرض الإرادة لإقامة الدولة. وهو ما أكده دفيد بن جوريون حين قال: "إن جنود موسى ويشوع وداود، لم يكفوا عن القتال، حتى فيما بينهم، وكذلك جنود صهيون، لن يتوقفوا عن الحرب".
تشكل التوراة جذور الفكر العسكري الصهيوني المعاصر، بينما ترسم النظرية الصهيونية أصوله. فهي تبيح اغتصاب فلسطين، إطاعة لوعد الله ويتيح الحرب تحقيقا "للمهمة الإلهية". كما تجاهر بالعزم على التوسع، تنفيذا "لوصية نزلت من السماء" على بنى إسرائيل. وهو فكر فريد في نوعه، غريب في منهجه، ينسب كل أسباب القتال ودوافع الحرب، إلى "يهوه"، رب الجنود، وإله إسرائيل.
إن نظرية الأمن، التي وضعها منذ أكثر من 40 سنة بن جوريون، أرادت أن تجيب على سؤال مصيري لإسرائيل، وهو كيفية تحقيق الأمن لشعب قليل العدد، يواجه كثرة معادية. فالبيئة العربية معادية لوجود إسرائيل. وفي معظم الحالات، أخذ بن جوريون في الحسبان ضعف إسرائيل في القوة البشرية ( ديموجرافية السكان مقارنة بالشعوب العربية)، ومساحتها الضيقة، وكذلك مواردها المادية المحدودة. وهو ما أدى به إلى الاتجاه نحو عدد من المبادئ، شكلت ركائز نظرية الأمن، أبرزها:
أن كل الشعب هو جيش (الشعب المسلح).
نقل الحرب إلى أرض العدو.
وبناء على تلك الركائز، فإن الوجود القومي الإسرائيلي، مرتبط بمدى كفاءة جهاز الأمن في مفهومه الواسع، لخلق تفوق متنامٍ وسريع يؤدى إلى معالجة الضعف الأساسي لإسرائيل. وقد توصل واضعو نظرية الأمن إلى حلول لذلك، وقاموا بتطبيقها في إطار نظريتهم.
إن جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي يعُد الأداة الأساسية لجهاز الدفاع، وضع لنفسه أسلوباً عملياً هجومياً يساعد على حماية سيادة الدولة واستقلالها، من خلال طريقة قتال تهدف إلى نقل الحرب إلى أراضى العدو، و إلحاق الهزيمة بقواته في معارك حاسمة وسريعة. لذلك، بنيّ الجيش الإسرائيلي وأُعِدَت نظريته القتالية، ووزعت الموارد بين القوى الهجومية (مثل القوات المنقولة جوا والطائرات المقاتلة القاذفة، والهليوكوبتر الهجومية، والدبابات والمدفعية ذاتية الحركة، وغير ذلك)، وبين قوى الدفاع (مثل المشاة، والأسلحة المضادة للدبابات، والأسلحة المضادة للطائرات، والملاجئ، والوقاية من أسلحة الدمار الشامل، وغير ذلك).
ومنذ الخمسينيات لم يطرأ تغيير حاد في المبادئ العامة للنظرية. فقد عززت الحروب، التي دارت من آراء واضعي النظرية، لذلك بقيت سارية المفعول، في مجملها، عدا بعض التطوير و الإضافات، عقب كل حرب شهدتها المنطقة (حرب عام 1967 و عام 1973 وحرب الخليج). ونجم عن أخطاء في تطبيق النظرية وليس بسبب أخطاء في النظرية نفسها، العديد من الصعوبات في الحروب. التغيير البارز، الذي حدث منذ الخمسينيات، كان في حجم ونوع نظم التسليح والمعدات، والتطور الكبير فيهما، وما لهذين العنصرين (الحجم والنوع) من انعكاسات على أسلوب إدارة الجولات العربية الإسرائيلية، ومن ثم على التطبيق الفعلي لنظرية الأمن.
وتحذّر نظرية الأمن الإسرائيلية، من تعرض إسرائيل لحرب استنزاف طويلة، لذلك تؤكد أن يكون لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي قوة، يمكنها، توجيه ضربات قوية، تخترق فيها الخطوط الدفاعية "للعدو"، بالقوات البرية والقوات الجوية، والقضاء على الرغبة في الاستمرار في القتال. وقد فرض هذا الفكر، على إسرائيل، أن تكون حروبها قصيرة ومدمرة للأفراد والمعدات . كذلك، من الضروري توفر المرونة، من خلال القدرة على إيقاف العدو، أو احتوائه، ولو لفترة مؤقتة، لإعادة التوازن إذا اختل (على أي جبهة من الجبهات العربية)، وهو ما حققته إسرائيل بنجاح في حرب عام 1973، فعلى الرغم من نجاح العرب على جبهتي قناة السويس والجولان، إلا أن إسرائيل نجحت في الاحتواء وعدم الانهيار.
وتفرض نظرية الأمن الإسرائيلي، على جيش الاحتلال الإسرائيلي، أن يكون قادرا على تنفيذ ما يكلف به من مهام. وحتى يتمكن من تنفيذ ذلك، مغلية الإبقاء على تفوقه الكمي والنوعي، طبقاً لما تمليه التطورات التكنولوجية. لذلك، اعتمد الفكر الإسرائيلي للتخطيط في المجال الإستراتيجي، على العديد من الأسس، أبرزها حاجة المجتمع للأمن، نتيجة لطبيعة نشأة الدولة، وخصائصها (البشرية، الجغرافية، الاجتماعية، مواردها الطبيعية، علاقاتها الدولية)، وصياغة ركائز نظرية الأمن، لتحقيق أهداف الدولة العليا. كما تَطّلَبْ طموح واتساع أبعاد المخطط الصهيوني، أن يعتمد في تحقيق أهدافه على التدرج المرحلي، والانتقال المتتالي من هدف لآخر، وصولاً إلى الغاية الوطنية، التي تنشدها إسرائيل. لذلك يرتبط تطور مفهوم الأمن الإسرائيلي، بالنظرة الإسرائيلية إلى الذات، والنظرة إلى غير اليهود Gentiles، ليسبق موضوع الأمن (من حيث الشكل أو المستوى) موضوع الأرض. كما يقضي بتوظيف التفوق العسكري الإسرائيلي، لتحقيق التوازن والاستقرار في المنطقة من المنظور الإسرائيلي. كذلك ربط مفهوم الاستقرار Stability ، بالردع Deterrence والقدرة على التهديد، ثم إجبار الطرف الآخر على الاستجابة لما تراه إسرائيل من مركز القوة، حيث تسمح النظرية بقصر التنازلات الإقليمية على الأراضي ذات الأهمية الإستراتيجية المحدودة، أو تلك التي يمكن تعويضها من خلال التطور النوعي في نظم التسليح.
وقد سعت النظرية الأمنية الإسرائيلية، منذ أن وضحت اتجاهاتها، في أوائل الخمسينيات، على يد دفيد بن جوريون “David Ben Gurion” ومردخاي ماكليف إلى التأكيد على:
أ. حل مشكلة وجود إسرائيل لتحقيق الأمن، في ظروف القلة العددية، أمام كثرة عدد الخصوم.
ب. الجيش الإسرائيلي، هو العمود الفقري للمؤسسة الأمنية.
ج. متطلبات الأمن الإسرائيلي، تستوجب بناء وتسليح الجيش الإسرائيلي، بالشكل الذي يسمح بالرد المناسب على التهديدات العسكرية، من دول المواجهة العربية.
د. تَبَنّي نظرية الأمن لأساليب قتالية دفاعية، تُعد بالنسبة لإسرائيل أمرا صعب التنفيذ، وينطوي عليه أخطار عديدة، يمكن أن تجر الجيش الإسرائيلي إلى معارك طويلة وإستنزافية، لذلك فإن الأجدى تَبَنّي نظرية قتال هجومية.
هـ. ضرورة تملك قوة ردع، مع العمل المستمر على تطويرها.
القسم الأول
نشأة نظرية الأمن الإسرائيلي ( النظرية الإستراتيجية والعسكرية)
عملت الصهيونية “Zionsm” على تحويل العقيدة الدينية اليهودية، إلى "نظرية سياسية" تطالب بـ " حق تاريخي"، وتستند إلى"وعد إلهي"، وإلى نظرية عسكرية، ونظرية أمنية كذلك.
كان الدين اليهودي هو الأساس، الذي ارتكزت عليه النظرية الأمنية، من المنظورين السياسي والعسكري، والذي اتخذه دعاتها حجة للمناداة "بالقومية اليهودية"، وسندا للمطالبة بتحقيق " الوعد الإلهي"، ودعوة لاغتصاب أرض فلسطين، وحق العودة إليها لبناء الدولة اليهودية الحديثة والمعبد الثالث في أورشليم.ملحق أ
وتزعم الصهيونية إنه مثلما حفظ الدين اليهودي الشعب من الاندثار عبر قرون طويلة، يستطيع الدين أن يعيد جمع شمل الشعب فوق "أرض الميعاد"، داخل إطار الدولة التي تربط بين تراث الماضي البعيد، ومستجدات وحقائق الحاضر، وأمنيات المستقبل. لذلك، تمثل الديانة اليهودية إطاراً عاماً للنظرية الصهيونية. فالتوراة مصدر "العقيدة اليهودية"، منها نبعت فكرة "الخلاص والعودة"، وعلى هديها رسم اليهود حياتهم، ونظموا علاقاتهم، ورتبوا معاملاتهم، وبها أعادوا كتابة تاريخهم العسكري، واستنبطوا، كذلك، عقائدهم العسكرية.
ويُعد عام 1907 حداً فاصلاً في التاريخ اليهودي الحديث، لارتباط ذلك التاريخ بنشأة الصهيونية الحديثة، واتجاهاتها الاستعمارية، حيث انتصرت آراء الزعماء الصهيونيين المنادين ببدء العمل في فلسطين، دون انتظار لأي ضمانات سياسية. وبعد موت تيودور هرتزل “Theodore Herzl”، تم انتخاب دفيد ولفسون “David Wolfson” رئيساً للمنظمة، وشكلت اللجنة التنفيذية للمنظمة من فريقين مختلفين في الرأي . وظهر هذا الاختلاف بعد رفض مشروع شرق أفريقيا، والفشل في إجراء أي مفاوضات ناجحة مع السلطات العثمانية. وعلى الرغم من اتفاق جميع الصهاينة على الهدف السياسي، الذي نص عليه برنامج بال، بشأن الوطن القومي في فلسطين، إلاّ أن الآراء اختلفت فيما يتعلق بأسلوب التنفيذ . إذ أصر فريق على بدء النشاط العملي في فلسطين دون الضمانات السياسية - وهؤلاء أطلق عليهم اسم: الصهيونيين العمليين، بينما تمسك فريق آخر بأهمية الحصول على هذه الضمانات قبل أي عمل، وأطلق على هؤلاء اسم الصهيونيين السياسيين. واستمر الصراع بين الفريقين عدة سنوات حتى انتصر الصهيونيون العمليون. (ملحق ب)
أولاً المرجعية الدينية والتاريخية للفكر العسكري الإسرائيلي:
1. المرجعية الدينية للفكر العسكري الإسرائيلي:
أبرز ما يميز الفكر العسكري لليهود، القديم والمعاصر، هو ذلك الربط الوثيق بين "حروب إسرائيل" وبين "رب الجنود". فالحرب عمل مقدس، في ذلك الفكر، لأن قائدها هو الله، "يهوه" إله إسرائيل. وهو في الوقت نفسه رب الجيوش، محارب شديد، يقود شعبه بعنف وغلظة"، وترتيبا على ذلك فكل حروب إسرائيل، قديمها وحديثها، إنما هي حروب مقدسة، وفي هذا المعنى يقول "موشى جورين" حاخام جيش الاحتلال الإسرائيلي، إبان الجولة الثالثة في يونية 1967: "إن حروب إسرائيل الثلاث مع العرب في سنوات 1948، 1956، 1967 إنما هي حروب مقدسة، إذ دارت أولاها "لتحرير إسرائيل"، وقامت الثانية "لتثبيت أركان دولة إسرائيل"، أما الثالثة فقد كانت "لتحقيق كلمات أنبياء إسرائيل". "ومن أجل تحرير وتثبيت وتحقيق أمن إسرائيل نؤمر بالقتال" .
خاطب الحاخام موشى جورين، جنود الجيش، صباح الخامس من يونيو 1967، مع بداية الجولة الثالثة، ليحثهم على القتال قائلاً: "لقد جاء اليوم العظيم لأمة إسرائيل، ولسوف يساعدكم رب المعارك وينصركم". وتلجأ إسرائيل إلى الحرب، لتحقيق ما تصبو إليه، وذلك بحكم عقيدتها الدينية، وتراثها التاريخي، وهي تعتبر انتماء المواطن إلى الجيش، شرفاً لا يعدله شرف، لأن "التوراة والسيف نزلا من السماء". وكما حمل يهوه رب إسرائيل "التابوت المقدس" وسار به أمام الجنود إلى المعركة، تسير إسرائيل اليوم إلى معاركها وقد حملت أمامها ذلك الصندوق المقدس، تيمنا بالتراث، وإحياء للتقاليد وقد كتب عليه "انهض يا الله ودع أعداءك يشتتون، واجعل من يكرهك يهرب من أمامك".
العناصر الأساسية للفكر العسكري الإسرائيلي:
أ. في كتاب العهد القديم:
إذا كان للحرب، في موازين العقيدة اليهودية، كل هذه القدسية، وتلك الوشائج برب الجنود، فيكون منطقيا أن ينظر إلى كل ما يترتب عليها من عواقب، كنتائج طبيعية تتطلبها ضرورة إطاعة "الأوامر الإلهية"، التي تأمر بالاستيلاء على أرض الميعاد وتفريغها من السكان الأصليين. هكذا كان "وعد الله" لشعبه المختار في التوراة، كذلك حول هرتزل هذا الوعد الديني إلى "مخطط صهيوني سياسي". ولا تكتفي الصهيونية بذلك، بل تستبيح دون قيود، أو حدود، أية أرض تطؤها أقدام جنود إسرائيل، فتلك وصية الرب ووعده الإلهي لشعبه المختار "كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمتُ موسى".
وفي المعنى نفسه، قال بن جوريون في خطاب له أمام الكنيست: "هنا تكون الحدود (قصد بذلك شبه جزيرة سيناء، التي تم الاستيلاء عليها عام 1956، وضمها الكنيست للأراضي الإسرائيلية) حيث يصل الزحف الإسرائيلي. إن ما حدده الرب هو أفضل ضمان لإسرائيل، أما الضمانات التي أعطتها لنا الدول الثلاث الكبرى ( البيان الثلاثي الذي أصدرته الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا عام 1950 لضبط التسلح في الشرق الأوسط وضمان حدود إسرائيل) فليس لها مثل هذا الوضوح أو تلك الثقة ".
ب. في كتاب التلمود:
ورد في التلمود أن: "الأرض المقدسة، هي أعلى من كل الأراضي"، كما جاء فيه الدعوة إلى تفضيل السكن في أرض الميعاد، في مدينة أكثر سكانها من غير اليهود، على السكن خارج الأرض المقدسة في مدينة، أكثرية سكانها من اليهود، كما ورد فيه أن هواء فلسطين هو الأفضل في الكون، وهو يكفي لجعل الإنسان حكيما.
ج. فكرة الخلاص، والعودة إلى أرض الميعاد:
جوهر هذه الفكرة، من وجهة النظر اليهودية، ينطوي على إعادة بعث الشعب اليهودي، وعودته إلى الأرض التي وعدهم بها الله (في فلسطين). وكان من نتيجة هذه الفلسفة انطباع أمل العودة إلى فلسطين لدى اليهود، بوصفه الخلاص من عهد العبودية والتشتت. وكانت فكرة الخلاص مرتبطة بمجئ المسيح المنتظر ليخلصهم، وظل الأمل يتردد في كتابهم المقدس معبرا عن الحنين إلى الأرض المقدسة بوحي ديني، إلا أن قادة الصهيونية حاولوا جعل فكرة الخلاص عقيدة سياسية، أكثر منها دينية. فهم يرددون أن أرض الميعاد، هي الأرض التي يقول اليهود إن الله قد وعدهم بها، وذلك بناء على عدة نصوص وردت بالتوراة، أهمها ما يلي:
العهد لإبراهيم: قال الرب لإبراهيم "اذهب من أرضك ومن عشيرتك، من بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة".
- وقال الرب "لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات ".
- وقال الرب "وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك.. أعطى لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكا أبديا" .
العهد لإسحاق: جاء بالكتاب المقدس، سفر التكوين " فقال الله بل سارة امرأتك تلد لك أبناً وتدعو اسمه اسحق وأقيم عهدي معه أبديا لنسله من بعده" .
العهد ليعقوب: جاء بالكتاب المقدس سفر التكوين: .. الأرض التي أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسلك ... وتمتد غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً" .
د. فكرة السيادة العالمية لليهود:
تتبع هذه الفكرة من عقيدة التفوق والتميز، نتيجة لكون شعب بنى إسرائيل شعب الله المختار، لذلك فرسالتهم القيام بدور القيادة العالمية، على أن تكون القاعدة التي ينطلقون منها، هي العودة والاستيلاء على أرض الميعاد.
ونتيجة للفلسفة اليهودية، تميزت تصرفاتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بالعنصرية الشديدة، والانعزال، وعدم الاندماج مع سائر بني البشر (تكوين جيتو Ghetto في أي بلد يقطنونه) واستغلال غير اليهود، بالإضافة لعدم الولاء الكامل للدولة التي يقيمون بها، ويعدون مواطنين فيها. وكان رد الفعل لتصرفات وسلوك اليهود، السياسي والاجتماعي والاقتصادي، أن تعرضوا لموجات من الاضطهاد، على مدار الفترات المختلفة، وأدى ذلك إلى ظهور المصطلح السياسي "اللاسامية".
(ملحق ج)
هـ. اللاسامية:Anti-Semitism (ملحق د)
يقصد باللاسامية عداء السامية أو مناهضة اليهود، أي النشاط والأعمال المعادية لهم. وقد بدأ الاضطهاد لليهود بشكل بارز، منذ عهد الإمبراطورية الرومانية (في عصر نيرون سنة 66م) حيث رفضت الجماعات اليهودية المتدينة، أن تندمج في المجتمع الروماني والثقافة الرومانية. واستولت تلك الجماعات على معبد أورشليم، وأحرقوا معبد لإله الرومان جوبيتر كابتو لينوس. ولم يتوقف الاضطهاد بعد انتشار المسيحية، لاعتبار اليهود مسؤولين عن دم المسيح عليه السلام، حيث استمرت موجات الاضطهاد على مدى الفترات المختلفة للتاريخ اليهودي، أثناء تشتتهم بأوروبا، خاصة منذ محاكم التفتيش (Inquisitions ) ، التي تم تأسيسها بأسبانيا في القرن الثالث عشر، واستمر وجودها حتى القرن التاسع عشر. ثم تزايدت موجات الاضطهاد اعتبارا من القرن الخامس عشر، كل من إنجلترا وفرنسا وإيطاليا ورومانيا، وبلغ الاضطهاد ذروته في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وعلى إثر إغتيال قيصر روسيا ألكسندر الثاني “Alexander The Second” سنة 1881، واتهام اليهود بقتله، حدثت حركة اضطهاد لليهود سميت باللاسامية ( Anti Semitism).
وهكذا كانت اللاسامية (اضطهاد اليهود)، من أهم البواعث على ظهور الصهيونية السياسية، حيث استغلت الزعامة الصهيونية، عقدة اللاسامية، كدافع لجذب الأنصار كما استغلت الصهيونية ظواهر اللاسامية، لدفع عجلة الصهيونية، حيث عبر هرتزل عن ذلك بقوله "إن الصهيونية هي وليدة الضغط والاضطهاد، وأنه إن لم يكن هناك ضغط واضطهاد ضد اليهود، فيجب أن نخلقهما لكي تقوى الصهيونية، ونجعل اليهود يتحدون ويتحركون لتحقيق أهداف الصهيونية".
ثم استغلت الصهيونية، بعد ذلك، أعمال الاضطهاد النازي في النصف الأول من القرن العشرين، وحاولت تجسيد وتضخيم هذه الأعمال، لدفع يهود أوروبا ( خاصة أوروبا الشرقية) للهجرة إلى فلسطين، ولكسب العطف العالمي. أما في النصف الثاني من القرن العشرين فقد استخدم اليهود تعبير اللاسامية كأداة للضغط على معارضيهم، بحيث أصبحت اللاسامية تهمة يلصقها اليهود بالمعارضين لهم، بغض النظر عن موضوع أو دوافع أو أسباب المعارضة، في حين أنها ليست إلا أحد ردود الفعل تجاه الفلسفة اليهودية، وتجاه الولاء المزدوج، وعدم الاندماج اليهودى (جيتو).
2. المرجعية التاريخية للفكر العسكري الإسرائيلي (اليهودي):
ترسيخاً لهذا الفكر، بذل المؤرخون العسكريون الإسرائيليون، غاية جهدهم لإخراج ما اسموه "بالتاريخ العسكري اليهودي". وربطوا بين معارك العبرانيين في التاريخ القديم، وحروب دولة إسرائيل في التاريخ الحديث، ليقنعوا أنفسهم، قبل غيرهم، أنهم أصحاب "مهمة إلهية" تخصهم بشرف إتمام رسالة الآباء والأجداد.
انطلق المؤرخون يبحثون في صفحات التوراة والتلمود، وغيرهما من كتب الديانة اليهودية. فيقتبسون من هذه، ويأخذون عن تلك، كل ما من شأنه أن يؤكد دعواهم، أو يبرر مآربهم، فيجيز لهم إثارة الحرب. من هذا المنطلق عقدوا المقارنات بين فرسان داود وسليمان، وبين دبابات "حاييم لاسكوف" و"إسرائيل طال" “Israel Tal”، وأقاموا الندوات لبحث أوجه الشبه والخلاف، بين أساليب جدعون وتكتيكات ديان، اقتناعاً منهم بأنه طالما ينحو العمل الصهيوني نحو التوسع، فلا مناص من أن يعتنق أنماط "الإستراتيجية التعرضية" بأشكالها المباشرة وغير المباشرة وبكل ما يستتبعه ذلك من ضرورات ترسيخ عقائد ومفاهيم دينية تلائمه، يكون قوامها "الحق اليهودي" في الاستيلاء على "أرض الميعاد"، حتى يؤمن الجنود بشرعية خوض "الحرب رغم أنها عدوانية".
كان تعبئة جيش إسرائيلي ضخم، على أساس هذا الفكر، يتطلب تحويل مجتمع إسرائيل برمته إلى "شعب مسلح"، لذلك، أصبح لزاماً أن تحاط الحرب بهالة من القدسية، حتى يصير شـرف الانخراط في سلك الجندية أملاً يتمناه كافة اليهود، وامتيازاً ينفرد به الصفوة. ولتحقيق ذلك، تبذل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية الجهود لترسيخ تعاليم الديانة اليهودية، التي تحض على القتال، وتحث على تعبئة الموارد والإعداد للحرب، كما تعمل بلا ملل على نشر الوصايا الدينية العسكرية لتصبح جزءاً من حياة الجنود، وزادهم اليومي، ثقة منها بأن ذلك هو السبيل الأمثل، نحو خلق الشخصية العسكرية المقاتلة، المتحلية بصفات المبادأة والتعرض، المشحونة بروح الهجوم والرغبة في القتال.
وقد استلزم تثبيت هذه المفاهيم في وجدان اليهود، خلق رباط تاريخي متين، بين ماضي العبرانيين القديم، وحاضر الصهيونيين المعاصر. إذ أصبح ضرورياً مداومة التأكيد على أن الحاضر امتداد للماضي بكل آماله وآلامه، وأن الحروب حتمية تاريخية لا محيد عنها لإنجاز الرسالة اليهودية. فالقرن العشرون امتداد للقرن الأول، ولا يفصل بين وقفة اليهود فوق أسوار قلعة ماساده سنة 73 ميلادية، ووقفة الهاشومير الأولى فوق تلال الجليل “Galil Hill” سنة 1907 سوى وقفة لعجلة الزمن، استأنف التاريخ بعدها سيره بمجرد أن عادت دولة إسرائيل إلى الوجود.
وفي ذلك يقول بن جوريون ... " إن كل تاريخ إسرائيل القديم الذي يرويه لنا الكتاب المقدس، هو بالدرجة الأولى تاريخ إسرائيل العسكري ... لقد حارب اليهود الأوائل الأشوريين، والبابليين، والمصريين، والكنعانيين، والعمونيين، والفرس، والإغريق والرومان.. وحين هزموا على يد فيالق تيطس، بعد معركة يائسة، آثروا أن يقتلوا أنفسهم في ماساده على أن يستسلموا.. وقد رأت إسرائيل في ماساده رمزا لإرادتها.. فاليوم يقسم المجندون يمين الولاء فوق قلعة ماساده وهم يرددون.. "لن تسقط ماساده مرة أخرى".
بذل المؤرخون الإسرائيليون، جهداً كبيراً لصياغة تاريخهم العسكري، على النحو الذي يزود المقاتل الإسرائيلي بالمرجعية التاريخية، ويزوده أيضاً بالفكر العسكري، من التاريخ اليهودي. فالتوراة تصف معارك جدعون ضد المديانيين التي قسمها إلى ثلاث مراحل: حشد جدعون جيشه وإعداد خططه، إدارة رحى الحرب بأسلوب متميز، ثم مطاردة المديانيين والقضاء عليهم.
المرحلة الأولى (التعبئة والإعداد):
هي تعبئة جيش الشعب اليهودي وتنظيمه، ثم اختيار أصلح المقاتلين وأنسبهم تدريباً وإصراراً على النصر، لملاقاة العدو. وكان الاختيار دقيقاً، إذ لم يجتزه سوى واحد من كل مائة رجل.
ثم بنى جدعون خطته على أساس تقديره السليم لطبيعة المعركة، وقدرات رجاله، وتمام معرفته بالعــدو. وحتى يتأكد جدعون من نقطة الضعف هذه، ويقف على أفضل السبل لاستغلالها، قاد بنفسه استطلاعاً ليلياً، قبل أن يتخذ قراره النهائي للمعركة. وأحسن جدعون استغلال الطاقة البشرية الكبيرة، التي لم يصبها الاختيار لخوض القتال. أما المجموعات من المقاتلين، التي انتخبها جدعون وأعدها للهجوم، فهي تشبه، في عملها، قوات الصاعقة أو الكوماندوز، في وقتنا الحاضر لخوض القتال الليلي، كما كانت المعدات مناسبة تماماً للخطة الموضوعة.
وكذلك وقت بدء المعركة، لم يأت مصادفة، بل انتخبه جدعون بمهارة، فلحظة تغيير حراس المعسكر هي إشارة البدء بالهجوم، حتى يتم اجتياح العدو. وكان إصرار جدعون على إعطاء إشارة بدء الهجوم بنفسه، ضمانة إضافية لتحقيق التنسيق وإحكام السيطرة على إدارة العملية.
المرحلة الثانية (التخطيط):
صَفّ جدعون قواته المنتخبة في ثلاثة أضلاع، وترك الضلع الرابع خالياً عن عمد، حتى يتيح لعدوه طريقا للتسلل والانسحاب، يقوده إلى كمين أعده على امتداد نهر الأردن ليقضى فيه على مابقى من المديانيين.
المرحلة الثالثة (القتال):
حسم جدعون المعركة بمطاردة عدوه بسرعة وعنف، ونجح في أسر "قادة المديانيين".
ويواصل التاريخ العسكري الإسرائيلي المعاصر تحليل هذه المعركة، واستخلاص الدروس، التي تشكلت منها مبادئ الحرب بعد ذلك، ليزود بها جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث هدف من وراء ذلك إلى:
بث الثقة وروح القتال في نفوس جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، بقدرة إسرائيل في الماضي والحاضر والمستقبل، على شن الحملات الناجحة، وفق تخطيط دقيق وفكر متطور.
إبراز أهمية مبدأ الحشد ( كأحد مبادئ الحرب) لخوض الحرب، وأن جيش إسرائيل كان جيشا منظماً على مستوى عال، تشد أزره عناصر منتخبة بعناية، توكل إليها المهام الرئيسية المعقدة، بينما يُكلف باقي القوات بالمهام الأخرى أو الثانوية.
توضيح أهمية الاستطلاعات والاستخبارات (كأحد مبادئ الحرب)، ومعرفة أساليبهما في القتال، والإلمام بنقاط القوة والضعف، للعمل على حسن استغلالها، بما يكفل سهولة هزيمة العدو.
أن يظهر مدى أهمية مبدأ المباغتة، وهو أهم مبادئ الحرب في العصر الحديث، ويستعرض بعض أساليب الماضي في تحقيقه، عن طريق الهجوم الليلي، والمهارة في اختيار ساعة "س" ومن ثم أهمية وقت ومكان وأسلوب شن الهجوم، في تحقيق النصر الحاسم.
إبراز أهمية الابتكار وحسن التصرف، لإشاعة الذعر في صفوف العدو، ثم ترك ثغرة متعمدة لتشجيع العدو على الانسحاب من خلالها، ليقع بعدها في كمين، تحت أسوأ الظروف. كما يؤكد على أن الكم ليس هو العامل الأول في إحراز النجاح، ومن ثم فهو لم يغفل النوع.
مثال آخر عزز به موشى ديان هذه الآراء، فكتب قبل الجولة العربية الإسرائيلية الثالثة، عام 1967، مقالا عن روح المحارب، ساق فيه قصة المبارزة الشهيرة، التي وقعت بين "داود وجالوت"، ليظهر بعض أوجه الشبه بينها وبين الموقف الذي كان سائداً بين العرب وإسرائيل في ذلك الوقت، بالنسبة لاختلال ميزان القوى بين الطرفين المتصارعين. واهتم ديان في سرده لأحداث تلك المبارزة القديمة، بإظهار جانب المقارنة بين خفة الحركة، وبين البطء والجمود، لإظهار قيمة المرونة المادية والفكرية في تحقيق النصر. والتوراة تزخر بالآيات التي تحض على استعمال "أقصى درجات العنف مع العدو"، وتسوق الكثير من " الأساليب العنيفة"، التي اتبعت في الماضي كأمثلة يحتذي بها. كما ترسم التوراة صورة الغزو وسحق العدو وتدمير مدنه، فيأتي الوصف مماثلاً لما تقترفه إسرائيل، اليوم، حيال الفلسطينيين وبيوتهم وحقولهم، على أيدي جنود إسرائيل.
إن السّمة المشتركة بين كل هذه الأساليب، من جوانبها القتالية والسلوكية، هي السعي الحثيث لخلق قناعة لدى المجتمع الإسرائيلي بأنه الشعب المتميز المختار، "القادر على مواجهة الأعداء والقضاء عليهم"، مهما بلغت حشودهم أو قدراتهم. هكذا ربط موشى ديان بين التاريخ والدين، ليصل بين الماضي والحاضر، ليولد الحافز، من خلال المرجعية التاريخية، في أذهان جند اليوم
............."
إنتهى و"منقول حرفيا "
د. يحى الشاعر
إن التمعن فى هدف نــظـــريـة الأمــــن الإســـرائيلية الذى حددته إستراتيجية طويلة المدى ، وتحليل تاكتيكية تحقيق" تلك الخطوات ، وكسب التدعيم الدولى ، وعدم الأهتمام بما يقوله العالم ... أو بنقد العالم والأمم المتحدة ، يؤدى فى النهاية الى "فقد أمل العالم" فى أن تتجاوب إسرائيل ...
وفى هذه اللحظة ، ستغير إسرائيل سرعة تحقيق خطوات التاكتيك وستتقدم لتحقيق الغرض النهائى بأسرع وقت ممكن ، قبل أن يتنبه العالم الى ما يحدث ...
وعندها سنقف .. ونبكى دمائنا ... ندمــا ... على غفلتنا ... الطــويلة ....
د. يحى الشاعر
".......
نــظـــريـة الأمــــن الإســـرائيلية
مقدمة:
نظرية الأمن الإسرائيلي، هي المنبع الذي يستقي منه العسكريون الإسرائيليون توجهاتهم، ومن ثمّ بناء عقائدهم. كما أنها الأساس، الذي ترتكز عليه إستراتيجيتهم و أساليبهم، في إدارة الصراع مع الدول العربية. "وعلى الرغم من ذلك فإنها لم تكتب أبدا، كما لم تكتسب قوة إلزامية تتمسك بها القيادة السياسية العليا. كذلك فإن بعض الأهداف السياسية (القومية)، التي تُبنى عليها نظرية الأمن، لم تحددها القيادة السياسية المختصة منذ أواخر حرب التحرير عام 1948 وحتى يومنا هذا". ولا يعني ذلك أنها غير موجودة، فهي تشكل مجموعة من المبادئ والقواعد، تشبه في ذلك الدستور البريطاني غير المكتوب.
تعني نظرية الأمن الإسرائيلي "المفاهيم، التي تنتهجها إسرائيل لضمان أمنها، أو هي مجموعة القواعد والمبادئ والأساليب، التي يتم في إطارها تحديد التهديدات التي تتعرض لها إسرائيل، طبقا لأسبقياتها وطرق مواجهتها"، مع الوضع في الاعتبار الاستغلال الأمثل لمعطيات القوة الإسرائيلية، في مقابل تحجيم معطيات القوة العربية، وتعتبر عملية تصنيف أسبقيات العمل واتجاهاته، من الجوانب الحيوية للمفاهيم الإستراتيجية الإسرائيلية.
وترتبط نظرية الأمن الإسرائيلي الحالية، في المفهوم الشامل لها، بالكتلة الحيوية لإسرائيل ، وبباقي القدرات الشاملة لها (اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً وعسكرياً) إضافة إلى عاملين جديدين يلقيان بظلالهما على تلك النظرية هما:
العامل النووي : وهو ما تسميه إسرائيل "الرادع الإستراتيجي"، تجنباً للإفصاح المباشر عنه.
فهي لم تقر رسميا بامتلاكها لأسلحة نووية حتى الآن.
العامل الآخر : هو توجهات إسرائيل نحو السلام الشامل، وما لذلك من معطيات جديدة وانعكاسات متعددة على نظرية الأمن، والإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية.
فسر ديفيد بن جوريون ومساعدوه، كلمة الأمن في مفاهيمها العسكرية الأساسية بأنها : "الدفاع عن الوجود".
ونظراً للطبيعة الاستيطانية لإسرائيل، فإن مفهوم الأمن الإسرائيلي يمتد، ليشمل محاولة التأثير (إن لم يكن التحكم) على خط التفاعلات الإقليمية بما يُثَبِتْ دور إسرائيل العسكري والسياسـي في منطقتها. ويتسع مفهوم الأمن كذلك ليضم قضية النقاء اليهودي، وبحث الوسائل الكفيلة بضمان تدفق المهاجرين اليهود إليها . وفي سبيل ذلك، فإن لإسرائيل رؤيتها الخاصة في دوائر اهتماماتها الإستراتيجية بالنسبة للدول العربية، حيث تنظر إلى هذه الدول كالآتي:
1. تقوم نظرية الأمن القومي الإسرائيلي، على مفهوم رسم خريطة إستراتيجية للدول العربية، مقسمة إلى دوائر إستراتيجية مهمة (حيوية)، حيث تقسّم إسرائيل العالم العربي لثلاث دوائر إستراتيجية، أضافت إليها دائرتين أخريتين (مؤقت)، من الدول المحيطة بالوطن العربي. والدوائر الرئيسية هي:
الدائرة الأولى والأهم: دائرة وادي النيل، وتقودها مصر.
الدائرة الثانية: دائرة الشام، وتتنافس على قيادتها كل من العراق وسوريا.
الدائرة الثالثة: دائرة الخليج العربي، وتشكل المملكة العربية السعودية الدولة المركزية فيها.
أضاف "اريل شارون"، وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، دائرتين أخريتين إلى الدوائر سالفة الذكر، وهما ترتبطان بالمجال الحيوي لإسرائيل، وبالمفهوم الإسرائيلي لمصادر تهديد أمنها القومي:
الدائرة الإسلامية: وهي الدول الإسلامية النشيطة، خاصة إيران وباكستان ودول آسيا الوسطى.
الدائرة الإفريقية: وهي دائرة دول منابع النيل (شرق ووسط إفريقيا) وكذلك الدول المشرفة أو ذات التأثير على البحر الأحمر.
2. وتقوم إستراتيجية إسرائيل، بالنسبة للأمن، على عدة أسس:
أ. منع التقارب والتنسيق ما بين الدول، التي تقود هذه الدوائر، وخاصة دائرتي وادي النيل والشام.
ب. محاولة تشجيع عمليات الانشقاق داخل كل دائرة، خاصة دائرة الشام.
ج. تتبني إستراتيجية إسرائيل بالنسبة للدول الإسلامية، على أساس منع أو عرقلة حدوث أي تماس أو تنسيق، بين الدائرة الإسلامية ودائرة الخليج العربي.
د. بالنسبة للدائرة الإفريقية، تعمل إسرائيل على إقامة علاقات وثيقة مع دول منابع النيل الإفريقية، وكذلك الدول المشرفة على جنوب البحر الأحمر، بالقدر التي يمكنها من ممارسة الضغوط على كل من مصر والسودان، بالنسبة لمسألة المياه، بالإضافة لضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر.
هـ. منع محاولات التنسيق المصري السعودي، على مستوى دائرتي وادي النيل والخليج العربي.
3. نظرية الأمن الإسرائيلي ليست وليدة اليوم، فقد وضع جوهرها ولبناتها الأولى ديفيد بن جوريون، مؤسس إسرائيل. ومن ثم، فهي مرادفة لنشأة إسرائيل. وبالرغم مما يبدو، من أن جوهرها ثابت، إلا أنها مرنة وقابلة للتطوير. فبعد نشأة إسرائيل، رأي المسئولون فيها ضرورة وضع إطار عام للعملين السياسي، والعسكري. وأطلقوا على ذلك: نظرية الأمن الإسرائيلي، وذلك كنظرية إستراتيجية وعسكرية لإسرائيل. وكان الهدف الرئيسي من وراء وضعها: حماية الدولة، والعمل على إقامة إسرائيل الكبرى، وفرض الصلح على العرب، من خلال: "تحقيق أقصى فعالية لقدرات الدولة، وفي مقدمتها القدرة العسكرية كوسيلة لبلوغ هذا الهدف".
بُنيت نظرية الأمن الإسرائيلي على عدة اعتبارات، بعضها عسكري، مثل:
أ. ضيق رقعة الأرض، وصغر حجم الدولة.
ب. قلة عدد السكان نسبياً، مع وجود أقليات معادية.
ج. بعدها عن أصدقائها، وتعرض خطوط مواصلاتها معهم لردود فعل المتغيرات الدولية.
د. إحاطتها بدول معادية، وغير قابلة لوجودها.
هـ. هشاشة اقتصادها القومي، واعتمادها على المساعدات الخارجية.
راعى المسئولون في إسرائيل، عند وضعهم للنظرية، عدة أسس، منها الاحتفاظ بالتفوق النوعي في وسائل الدفاع، إلى جانب العمل على إقامة مجتمع عسكري. كما أخذوا في الاعتبار مبدأ الحرب القصيرة، نظرا للقيود البشرية والاقتصادية، التي تعانى منها إسرائيل، والتركيز على ضرورة مؤازرة قوة كبرى أو أكثر لها – كلما أمكن ذلك – كحليف موثوق بمعاونته ونجدته في الوقت المناسب. والأهم من ذلك كله، العمل على تهيئة الرأي العام العالمي، وكسبه إلى جانبها، ومحاولة إقناعه بأن الدول العربية، التي تحيط بها، تخطط دائما للاعتداء عليها أو غزوها.
4. دفعت نتائج الجولات العسكرية الأربع، بين إسرائيل والعرب، إضافة إلى حرب لبنان، وتداعيات حرب الخليج الثانية، إلى إعادة تقييم "نظرية الأمن"، لتطويرها حتى يمكنها مواجهة المتغيرات العديدة، سواء الدولية، أو الإقليمية، أو في مجال التطور الهائل في التقنية العسكرية . ولذلك، فإن دراسة نظرية الأمن الإسرائيلي، لابد أن يواكبها كذلك دراسة المؤسسة العسكرية، التي تشكل أداتها حتى تتكامل الرؤية.
الفصل الأول
نشأة وتطور نظرية الأمن الإسرائيلي
بمثل تمسك العقيدة اليهودية "بوعد الله لشعبه المختار"، تطلعا منها إلى "امتلاك أرض الميعاد"، أخذت الصهيونية على عاتقها رسم الإستراتيجية، وصياغة الوسيلة والأدوات، وفي مقدمتها الأداة العسكرية، لتحويل الأمل المنشود إلى واقع ملموس. وكان ذلك باستباحة أرض فلسطين، وتفريغها من سكانها الفلسطينيين، عن طريق الاستيطان والحرب، ومن ثم فرض الإرادة لإقامة الدولة. وهو ما أكده دفيد بن جوريون حين قال: "إن جنود موسى ويشوع وداود، لم يكفوا عن القتال، حتى فيما بينهم، وكذلك جنود صهيون، لن يتوقفوا عن الحرب".
تشكل التوراة جذور الفكر العسكري الصهيوني المعاصر، بينما ترسم النظرية الصهيونية أصوله. فهي تبيح اغتصاب فلسطين، إطاعة لوعد الله ويتيح الحرب تحقيقا "للمهمة الإلهية". كما تجاهر بالعزم على التوسع، تنفيذا "لوصية نزلت من السماء" على بنى إسرائيل. وهو فكر فريد في نوعه، غريب في منهجه، ينسب كل أسباب القتال ودوافع الحرب، إلى "يهوه"، رب الجنود، وإله إسرائيل.
إن نظرية الأمن، التي وضعها منذ أكثر من 40 سنة بن جوريون، أرادت أن تجيب على سؤال مصيري لإسرائيل، وهو كيفية تحقيق الأمن لشعب قليل العدد، يواجه كثرة معادية. فالبيئة العربية معادية لوجود إسرائيل. وفي معظم الحالات، أخذ بن جوريون في الحسبان ضعف إسرائيل في القوة البشرية ( ديموجرافية السكان مقارنة بالشعوب العربية)، ومساحتها الضيقة، وكذلك مواردها المادية المحدودة. وهو ما أدى به إلى الاتجاه نحو عدد من المبادئ، شكلت ركائز نظرية الأمن، أبرزها:
أن كل الشعب هو جيش (الشعب المسلح).
نقل الحرب إلى أرض العدو.
وبناء على تلك الركائز، فإن الوجود القومي الإسرائيلي، مرتبط بمدى كفاءة جهاز الأمن في مفهومه الواسع، لخلق تفوق متنامٍ وسريع يؤدى إلى معالجة الضعف الأساسي لإسرائيل. وقد توصل واضعو نظرية الأمن إلى حلول لذلك، وقاموا بتطبيقها في إطار نظريتهم.
إن جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي يعُد الأداة الأساسية لجهاز الدفاع، وضع لنفسه أسلوباً عملياً هجومياً يساعد على حماية سيادة الدولة واستقلالها، من خلال طريقة قتال تهدف إلى نقل الحرب إلى أراضى العدو، و إلحاق الهزيمة بقواته في معارك حاسمة وسريعة. لذلك، بنيّ الجيش الإسرائيلي وأُعِدَت نظريته القتالية، ووزعت الموارد بين القوى الهجومية (مثل القوات المنقولة جوا والطائرات المقاتلة القاذفة، والهليوكوبتر الهجومية، والدبابات والمدفعية ذاتية الحركة، وغير ذلك)، وبين قوى الدفاع (مثل المشاة، والأسلحة المضادة للدبابات، والأسلحة المضادة للطائرات، والملاجئ، والوقاية من أسلحة الدمار الشامل، وغير ذلك).
ومنذ الخمسينيات لم يطرأ تغيير حاد في المبادئ العامة للنظرية. فقد عززت الحروب، التي دارت من آراء واضعي النظرية، لذلك بقيت سارية المفعول، في مجملها، عدا بعض التطوير و الإضافات، عقب كل حرب شهدتها المنطقة (حرب عام 1967 و عام 1973 وحرب الخليج). ونجم عن أخطاء في تطبيق النظرية وليس بسبب أخطاء في النظرية نفسها، العديد من الصعوبات في الحروب. التغيير البارز، الذي حدث منذ الخمسينيات، كان في حجم ونوع نظم التسليح والمعدات، والتطور الكبير فيهما، وما لهذين العنصرين (الحجم والنوع) من انعكاسات على أسلوب إدارة الجولات العربية الإسرائيلية، ومن ثم على التطبيق الفعلي لنظرية الأمن.
وتحذّر نظرية الأمن الإسرائيلية، من تعرض إسرائيل لحرب استنزاف طويلة، لذلك تؤكد أن يكون لدى جيش الاحتلال الإسرائيلي قوة، يمكنها، توجيه ضربات قوية، تخترق فيها الخطوط الدفاعية "للعدو"، بالقوات البرية والقوات الجوية، والقضاء على الرغبة في الاستمرار في القتال. وقد فرض هذا الفكر، على إسرائيل، أن تكون حروبها قصيرة ومدمرة للأفراد والمعدات . كذلك، من الضروري توفر المرونة، من خلال القدرة على إيقاف العدو، أو احتوائه، ولو لفترة مؤقتة، لإعادة التوازن إذا اختل (على أي جبهة من الجبهات العربية)، وهو ما حققته إسرائيل بنجاح في حرب عام 1973، فعلى الرغم من نجاح العرب على جبهتي قناة السويس والجولان، إلا أن إسرائيل نجحت في الاحتواء وعدم الانهيار.
وتفرض نظرية الأمن الإسرائيلي، على جيش الاحتلال الإسرائيلي، أن يكون قادرا على تنفيذ ما يكلف به من مهام. وحتى يتمكن من تنفيذ ذلك، مغلية الإبقاء على تفوقه الكمي والنوعي، طبقاً لما تمليه التطورات التكنولوجية. لذلك، اعتمد الفكر الإسرائيلي للتخطيط في المجال الإستراتيجي، على العديد من الأسس، أبرزها حاجة المجتمع للأمن، نتيجة لطبيعة نشأة الدولة، وخصائصها (البشرية، الجغرافية، الاجتماعية، مواردها الطبيعية، علاقاتها الدولية)، وصياغة ركائز نظرية الأمن، لتحقيق أهداف الدولة العليا. كما تَطّلَبْ طموح واتساع أبعاد المخطط الصهيوني، أن يعتمد في تحقيق أهدافه على التدرج المرحلي، والانتقال المتتالي من هدف لآخر، وصولاً إلى الغاية الوطنية، التي تنشدها إسرائيل. لذلك يرتبط تطور مفهوم الأمن الإسرائيلي، بالنظرة الإسرائيلية إلى الذات، والنظرة إلى غير اليهود Gentiles، ليسبق موضوع الأمن (من حيث الشكل أو المستوى) موضوع الأرض. كما يقضي بتوظيف التفوق العسكري الإسرائيلي، لتحقيق التوازن والاستقرار في المنطقة من المنظور الإسرائيلي. كذلك ربط مفهوم الاستقرار Stability ، بالردع Deterrence والقدرة على التهديد، ثم إجبار الطرف الآخر على الاستجابة لما تراه إسرائيل من مركز القوة، حيث تسمح النظرية بقصر التنازلات الإقليمية على الأراضي ذات الأهمية الإستراتيجية المحدودة، أو تلك التي يمكن تعويضها من خلال التطور النوعي في نظم التسليح.
وقد سعت النظرية الأمنية الإسرائيلية، منذ أن وضحت اتجاهاتها، في أوائل الخمسينيات، على يد دفيد بن جوريون “David Ben Gurion” ومردخاي ماكليف إلى التأكيد على:
أ. حل مشكلة وجود إسرائيل لتحقيق الأمن، في ظروف القلة العددية، أمام كثرة عدد الخصوم.
ب. الجيش الإسرائيلي، هو العمود الفقري للمؤسسة الأمنية.
ج. متطلبات الأمن الإسرائيلي، تستوجب بناء وتسليح الجيش الإسرائيلي، بالشكل الذي يسمح بالرد المناسب على التهديدات العسكرية، من دول المواجهة العربية.
د. تَبَنّي نظرية الأمن لأساليب قتالية دفاعية، تُعد بالنسبة لإسرائيل أمرا صعب التنفيذ، وينطوي عليه أخطار عديدة، يمكن أن تجر الجيش الإسرائيلي إلى معارك طويلة وإستنزافية، لذلك فإن الأجدى تَبَنّي نظرية قتال هجومية.
هـ. ضرورة تملك قوة ردع، مع العمل المستمر على تطويرها.
القسم الأول
نشأة نظرية الأمن الإسرائيلي ( النظرية الإستراتيجية والعسكرية)
عملت الصهيونية “Zionsm” على تحويل العقيدة الدينية اليهودية، إلى "نظرية سياسية" تطالب بـ " حق تاريخي"، وتستند إلى"وعد إلهي"، وإلى نظرية عسكرية، ونظرية أمنية كذلك.
كان الدين اليهودي هو الأساس، الذي ارتكزت عليه النظرية الأمنية، من المنظورين السياسي والعسكري، والذي اتخذه دعاتها حجة للمناداة "بالقومية اليهودية"، وسندا للمطالبة بتحقيق " الوعد الإلهي"، ودعوة لاغتصاب أرض فلسطين، وحق العودة إليها لبناء الدولة اليهودية الحديثة والمعبد الثالث في أورشليم.ملحق أ
وتزعم الصهيونية إنه مثلما حفظ الدين اليهودي الشعب من الاندثار عبر قرون طويلة، يستطيع الدين أن يعيد جمع شمل الشعب فوق "أرض الميعاد"، داخل إطار الدولة التي تربط بين تراث الماضي البعيد، ومستجدات وحقائق الحاضر، وأمنيات المستقبل. لذلك، تمثل الديانة اليهودية إطاراً عاماً للنظرية الصهيونية. فالتوراة مصدر "العقيدة اليهودية"، منها نبعت فكرة "الخلاص والعودة"، وعلى هديها رسم اليهود حياتهم، ونظموا علاقاتهم، ورتبوا معاملاتهم، وبها أعادوا كتابة تاريخهم العسكري، واستنبطوا، كذلك، عقائدهم العسكرية.
ويُعد عام 1907 حداً فاصلاً في التاريخ اليهودي الحديث، لارتباط ذلك التاريخ بنشأة الصهيونية الحديثة، واتجاهاتها الاستعمارية، حيث انتصرت آراء الزعماء الصهيونيين المنادين ببدء العمل في فلسطين، دون انتظار لأي ضمانات سياسية. وبعد موت تيودور هرتزل “Theodore Herzl”، تم انتخاب دفيد ولفسون “David Wolfson” رئيساً للمنظمة، وشكلت اللجنة التنفيذية للمنظمة من فريقين مختلفين في الرأي . وظهر هذا الاختلاف بعد رفض مشروع شرق أفريقيا، والفشل في إجراء أي مفاوضات ناجحة مع السلطات العثمانية. وعلى الرغم من اتفاق جميع الصهاينة على الهدف السياسي، الذي نص عليه برنامج بال، بشأن الوطن القومي في فلسطين، إلاّ أن الآراء اختلفت فيما يتعلق بأسلوب التنفيذ . إذ أصر فريق على بدء النشاط العملي في فلسطين دون الضمانات السياسية - وهؤلاء أطلق عليهم اسم: الصهيونيين العمليين، بينما تمسك فريق آخر بأهمية الحصول على هذه الضمانات قبل أي عمل، وأطلق على هؤلاء اسم الصهيونيين السياسيين. واستمر الصراع بين الفريقين عدة سنوات حتى انتصر الصهيونيون العمليون. (ملحق ب)
أولاً المرجعية الدينية والتاريخية للفكر العسكري الإسرائيلي:
1. المرجعية الدينية للفكر العسكري الإسرائيلي:
أبرز ما يميز الفكر العسكري لليهود، القديم والمعاصر، هو ذلك الربط الوثيق بين "حروب إسرائيل" وبين "رب الجنود". فالحرب عمل مقدس، في ذلك الفكر، لأن قائدها هو الله، "يهوه" إله إسرائيل. وهو في الوقت نفسه رب الجيوش، محارب شديد، يقود شعبه بعنف وغلظة"، وترتيبا على ذلك فكل حروب إسرائيل، قديمها وحديثها، إنما هي حروب مقدسة، وفي هذا المعنى يقول "موشى جورين" حاخام جيش الاحتلال الإسرائيلي، إبان الجولة الثالثة في يونية 1967: "إن حروب إسرائيل الثلاث مع العرب في سنوات 1948، 1956، 1967 إنما هي حروب مقدسة، إذ دارت أولاها "لتحرير إسرائيل"، وقامت الثانية "لتثبيت أركان دولة إسرائيل"، أما الثالثة فقد كانت "لتحقيق كلمات أنبياء إسرائيل". "ومن أجل تحرير وتثبيت وتحقيق أمن إسرائيل نؤمر بالقتال" .
خاطب الحاخام موشى جورين، جنود الجيش، صباح الخامس من يونيو 1967، مع بداية الجولة الثالثة، ليحثهم على القتال قائلاً: "لقد جاء اليوم العظيم لأمة إسرائيل، ولسوف يساعدكم رب المعارك وينصركم". وتلجأ إسرائيل إلى الحرب، لتحقيق ما تصبو إليه، وذلك بحكم عقيدتها الدينية، وتراثها التاريخي، وهي تعتبر انتماء المواطن إلى الجيش، شرفاً لا يعدله شرف، لأن "التوراة والسيف نزلا من السماء". وكما حمل يهوه رب إسرائيل "التابوت المقدس" وسار به أمام الجنود إلى المعركة، تسير إسرائيل اليوم إلى معاركها وقد حملت أمامها ذلك الصندوق المقدس، تيمنا بالتراث، وإحياء للتقاليد وقد كتب عليه "انهض يا الله ودع أعداءك يشتتون، واجعل من يكرهك يهرب من أمامك".
العناصر الأساسية للفكر العسكري الإسرائيلي:
أ. في كتاب العهد القديم:
إذا كان للحرب، في موازين العقيدة اليهودية، كل هذه القدسية، وتلك الوشائج برب الجنود، فيكون منطقيا أن ينظر إلى كل ما يترتب عليها من عواقب، كنتائج طبيعية تتطلبها ضرورة إطاعة "الأوامر الإلهية"، التي تأمر بالاستيلاء على أرض الميعاد وتفريغها من السكان الأصليين. هكذا كان "وعد الله" لشعبه المختار في التوراة، كذلك حول هرتزل هذا الوعد الديني إلى "مخطط صهيوني سياسي". ولا تكتفي الصهيونية بذلك، بل تستبيح دون قيود، أو حدود، أية أرض تطؤها أقدام جنود إسرائيل، فتلك وصية الرب ووعده الإلهي لشعبه المختار "كل موضع تدوسه بطون أقدامكم لكم أعطيته كما كلمتُ موسى".
وفي المعنى نفسه، قال بن جوريون في خطاب له أمام الكنيست: "هنا تكون الحدود (قصد بذلك شبه جزيرة سيناء، التي تم الاستيلاء عليها عام 1956، وضمها الكنيست للأراضي الإسرائيلية) حيث يصل الزحف الإسرائيلي. إن ما حدده الرب هو أفضل ضمان لإسرائيل، أما الضمانات التي أعطتها لنا الدول الثلاث الكبرى ( البيان الثلاثي الذي أصدرته الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا عام 1950 لضبط التسلح في الشرق الأوسط وضمان حدود إسرائيل) فليس لها مثل هذا الوضوح أو تلك الثقة ".
ب. في كتاب التلمود:
ورد في التلمود أن: "الأرض المقدسة، هي أعلى من كل الأراضي"، كما جاء فيه الدعوة إلى تفضيل السكن في أرض الميعاد، في مدينة أكثر سكانها من غير اليهود، على السكن خارج الأرض المقدسة في مدينة، أكثرية سكانها من اليهود، كما ورد فيه أن هواء فلسطين هو الأفضل في الكون، وهو يكفي لجعل الإنسان حكيما.
ج. فكرة الخلاص، والعودة إلى أرض الميعاد:
جوهر هذه الفكرة، من وجهة النظر اليهودية، ينطوي على إعادة بعث الشعب اليهودي، وعودته إلى الأرض التي وعدهم بها الله (في فلسطين). وكان من نتيجة هذه الفلسفة انطباع أمل العودة إلى فلسطين لدى اليهود، بوصفه الخلاص من عهد العبودية والتشتت. وكانت فكرة الخلاص مرتبطة بمجئ المسيح المنتظر ليخلصهم، وظل الأمل يتردد في كتابهم المقدس معبرا عن الحنين إلى الأرض المقدسة بوحي ديني، إلا أن قادة الصهيونية حاولوا جعل فكرة الخلاص عقيدة سياسية، أكثر منها دينية. فهم يرددون أن أرض الميعاد، هي الأرض التي يقول اليهود إن الله قد وعدهم بها، وذلك بناء على عدة نصوص وردت بالتوراة، أهمها ما يلي:
العهد لإبراهيم: قال الرب لإبراهيم "اذهب من أرضك ومن عشيرتك، من بيت أبيك، إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمة عظيمة وأباركك وأعظم اسمك وتكون بركة".
- وقال الرب "لنسلك أعطى هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات ".
- وقال الرب "وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك.. أعطى لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكا أبديا" .
العهد لإسحاق: جاء بالكتاب المقدس، سفر التكوين " فقال الله بل سارة امرأتك تلد لك أبناً وتدعو اسمه اسحق وأقيم عهدي معه أبديا لنسله من بعده" .
العهد ليعقوب: جاء بالكتاب المقدس سفر التكوين: .. الأرض التي أنت مضطجع عليها أعطيها لك ولنسلك ... وتمتد غرباً وشرقاً وشمالاً وجنوباً" .
د. فكرة السيادة العالمية لليهود:
تتبع هذه الفكرة من عقيدة التفوق والتميز، نتيجة لكون شعب بنى إسرائيل شعب الله المختار، لذلك فرسالتهم القيام بدور القيادة العالمية، على أن تكون القاعدة التي ينطلقون منها، هي العودة والاستيلاء على أرض الميعاد.
ونتيجة للفلسفة اليهودية، تميزت تصرفاتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بالعنصرية الشديدة، والانعزال، وعدم الاندماج مع سائر بني البشر (تكوين جيتو Ghetto في أي بلد يقطنونه) واستغلال غير اليهود، بالإضافة لعدم الولاء الكامل للدولة التي يقيمون بها، ويعدون مواطنين فيها. وكان رد الفعل لتصرفات وسلوك اليهود، السياسي والاجتماعي والاقتصادي، أن تعرضوا لموجات من الاضطهاد، على مدار الفترات المختلفة، وأدى ذلك إلى ظهور المصطلح السياسي "اللاسامية".
(ملحق ج)
هـ. اللاسامية:Anti-Semitism (ملحق د)
يقصد باللاسامية عداء السامية أو مناهضة اليهود، أي النشاط والأعمال المعادية لهم. وقد بدأ الاضطهاد لليهود بشكل بارز، منذ عهد الإمبراطورية الرومانية (في عصر نيرون سنة 66م) حيث رفضت الجماعات اليهودية المتدينة، أن تندمج في المجتمع الروماني والثقافة الرومانية. واستولت تلك الجماعات على معبد أورشليم، وأحرقوا معبد لإله الرومان جوبيتر كابتو لينوس. ولم يتوقف الاضطهاد بعد انتشار المسيحية، لاعتبار اليهود مسؤولين عن دم المسيح عليه السلام، حيث استمرت موجات الاضطهاد على مدى الفترات المختلفة للتاريخ اليهودي، أثناء تشتتهم بأوروبا، خاصة منذ محاكم التفتيش (Inquisitions ) ، التي تم تأسيسها بأسبانيا في القرن الثالث عشر، واستمر وجودها حتى القرن التاسع عشر. ثم تزايدت موجات الاضطهاد اعتبارا من القرن الخامس عشر، كل من إنجلترا وفرنسا وإيطاليا ورومانيا، وبلغ الاضطهاد ذروته في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وعلى إثر إغتيال قيصر روسيا ألكسندر الثاني “Alexander The Second” سنة 1881، واتهام اليهود بقتله، حدثت حركة اضطهاد لليهود سميت باللاسامية ( Anti Semitism).
وهكذا كانت اللاسامية (اضطهاد اليهود)، من أهم البواعث على ظهور الصهيونية السياسية، حيث استغلت الزعامة الصهيونية، عقدة اللاسامية، كدافع لجذب الأنصار كما استغلت الصهيونية ظواهر اللاسامية، لدفع عجلة الصهيونية، حيث عبر هرتزل عن ذلك بقوله "إن الصهيونية هي وليدة الضغط والاضطهاد، وأنه إن لم يكن هناك ضغط واضطهاد ضد اليهود، فيجب أن نخلقهما لكي تقوى الصهيونية، ونجعل اليهود يتحدون ويتحركون لتحقيق أهداف الصهيونية".
ثم استغلت الصهيونية، بعد ذلك، أعمال الاضطهاد النازي في النصف الأول من القرن العشرين، وحاولت تجسيد وتضخيم هذه الأعمال، لدفع يهود أوروبا ( خاصة أوروبا الشرقية) للهجرة إلى فلسطين، ولكسب العطف العالمي. أما في النصف الثاني من القرن العشرين فقد استخدم اليهود تعبير اللاسامية كأداة للضغط على معارضيهم، بحيث أصبحت اللاسامية تهمة يلصقها اليهود بالمعارضين لهم، بغض النظر عن موضوع أو دوافع أو أسباب المعارضة، في حين أنها ليست إلا أحد ردود الفعل تجاه الفلسفة اليهودية، وتجاه الولاء المزدوج، وعدم الاندماج اليهودى (جيتو).
2. المرجعية التاريخية للفكر العسكري الإسرائيلي (اليهودي):
ترسيخاً لهذا الفكر، بذل المؤرخون العسكريون الإسرائيليون، غاية جهدهم لإخراج ما اسموه "بالتاريخ العسكري اليهودي". وربطوا بين معارك العبرانيين في التاريخ القديم، وحروب دولة إسرائيل في التاريخ الحديث، ليقنعوا أنفسهم، قبل غيرهم، أنهم أصحاب "مهمة إلهية" تخصهم بشرف إتمام رسالة الآباء والأجداد.
انطلق المؤرخون يبحثون في صفحات التوراة والتلمود، وغيرهما من كتب الديانة اليهودية. فيقتبسون من هذه، ويأخذون عن تلك، كل ما من شأنه أن يؤكد دعواهم، أو يبرر مآربهم، فيجيز لهم إثارة الحرب. من هذا المنطلق عقدوا المقارنات بين فرسان داود وسليمان، وبين دبابات "حاييم لاسكوف" و"إسرائيل طال" “Israel Tal”، وأقاموا الندوات لبحث أوجه الشبه والخلاف، بين أساليب جدعون وتكتيكات ديان، اقتناعاً منهم بأنه طالما ينحو العمل الصهيوني نحو التوسع، فلا مناص من أن يعتنق أنماط "الإستراتيجية التعرضية" بأشكالها المباشرة وغير المباشرة وبكل ما يستتبعه ذلك من ضرورات ترسيخ عقائد ومفاهيم دينية تلائمه، يكون قوامها "الحق اليهودي" في الاستيلاء على "أرض الميعاد"، حتى يؤمن الجنود بشرعية خوض "الحرب رغم أنها عدوانية".
كان تعبئة جيش إسرائيلي ضخم، على أساس هذا الفكر، يتطلب تحويل مجتمع إسرائيل برمته إلى "شعب مسلح"، لذلك، أصبح لزاماً أن تحاط الحرب بهالة من القدسية، حتى يصير شـرف الانخراط في سلك الجندية أملاً يتمناه كافة اليهود، وامتيازاً ينفرد به الصفوة. ولتحقيق ذلك، تبذل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية الجهود لترسيخ تعاليم الديانة اليهودية، التي تحض على القتال، وتحث على تعبئة الموارد والإعداد للحرب، كما تعمل بلا ملل على نشر الوصايا الدينية العسكرية لتصبح جزءاً من حياة الجنود، وزادهم اليومي، ثقة منها بأن ذلك هو السبيل الأمثل، نحو خلق الشخصية العسكرية المقاتلة، المتحلية بصفات المبادأة والتعرض، المشحونة بروح الهجوم والرغبة في القتال.
وقد استلزم تثبيت هذه المفاهيم في وجدان اليهود، خلق رباط تاريخي متين، بين ماضي العبرانيين القديم، وحاضر الصهيونيين المعاصر. إذ أصبح ضرورياً مداومة التأكيد على أن الحاضر امتداد للماضي بكل آماله وآلامه، وأن الحروب حتمية تاريخية لا محيد عنها لإنجاز الرسالة اليهودية. فالقرن العشرون امتداد للقرن الأول، ولا يفصل بين وقفة اليهود فوق أسوار قلعة ماساده سنة 73 ميلادية، ووقفة الهاشومير الأولى فوق تلال الجليل “Galil Hill” سنة 1907 سوى وقفة لعجلة الزمن، استأنف التاريخ بعدها سيره بمجرد أن عادت دولة إسرائيل إلى الوجود.
وفي ذلك يقول بن جوريون ... " إن كل تاريخ إسرائيل القديم الذي يرويه لنا الكتاب المقدس، هو بالدرجة الأولى تاريخ إسرائيل العسكري ... لقد حارب اليهود الأوائل الأشوريين، والبابليين، والمصريين، والكنعانيين، والعمونيين، والفرس، والإغريق والرومان.. وحين هزموا على يد فيالق تيطس، بعد معركة يائسة، آثروا أن يقتلوا أنفسهم في ماساده على أن يستسلموا.. وقد رأت إسرائيل في ماساده رمزا لإرادتها.. فاليوم يقسم المجندون يمين الولاء فوق قلعة ماساده وهم يرددون.. "لن تسقط ماساده مرة أخرى".
بذل المؤرخون الإسرائيليون، جهداً كبيراً لصياغة تاريخهم العسكري، على النحو الذي يزود المقاتل الإسرائيلي بالمرجعية التاريخية، ويزوده أيضاً بالفكر العسكري، من التاريخ اليهودي. فالتوراة تصف معارك جدعون ضد المديانيين التي قسمها إلى ثلاث مراحل: حشد جدعون جيشه وإعداد خططه، إدارة رحى الحرب بأسلوب متميز، ثم مطاردة المديانيين والقضاء عليهم.
المرحلة الأولى (التعبئة والإعداد):
هي تعبئة جيش الشعب اليهودي وتنظيمه، ثم اختيار أصلح المقاتلين وأنسبهم تدريباً وإصراراً على النصر، لملاقاة العدو. وكان الاختيار دقيقاً، إذ لم يجتزه سوى واحد من كل مائة رجل.
ثم بنى جدعون خطته على أساس تقديره السليم لطبيعة المعركة، وقدرات رجاله، وتمام معرفته بالعــدو. وحتى يتأكد جدعون من نقطة الضعف هذه، ويقف على أفضل السبل لاستغلالها، قاد بنفسه استطلاعاً ليلياً، قبل أن يتخذ قراره النهائي للمعركة. وأحسن جدعون استغلال الطاقة البشرية الكبيرة، التي لم يصبها الاختيار لخوض القتال. أما المجموعات من المقاتلين، التي انتخبها جدعون وأعدها للهجوم، فهي تشبه، في عملها، قوات الصاعقة أو الكوماندوز، في وقتنا الحاضر لخوض القتال الليلي، كما كانت المعدات مناسبة تماماً للخطة الموضوعة.
وكذلك وقت بدء المعركة، لم يأت مصادفة، بل انتخبه جدعون بمهارة، فلحظة تغيير حراس المعسكر هي إشارة البدء بالهجوم، حتى يتم اجتياح العدو. وكان إصرار جدعون على إعطاء إشارة بدء الهجوم بنفسه، ضمانة إضافية لتحقيق التنسيق وإحكام السيطرة على إدارة العملية.
المرحلة الثانية (التخطيط):
صَفّ جدعون قواته المنتخبة في ثلاثة أضلاع، وترك الضلع الرابع خالياً عن عمد، حتى يتيح لعدوه طريقا للتسلل والانسحاب، يقوده إلى كمين أعده على امتداد نهر الأردن ليقضى فيه على مابقى من المديانيين.
المرحلة الثالثة (القتال):
حسم جدعون المعركة بمطاردة عدوه بسرعة وعنف، ونجح في أسر "قادة المديانيين".
ويواصل التاريخ العسكري الإسرائيلي المعاصر تحليل هذه المعركة، واستخلاص الدروس، التي تشكلت منها مبادئ الحرب بعد ذلك، ليزود بها جيش الاحتلال الإسرائيلي، حيث هدف من وراء ذلك إلى:
بث الثقة وروح القتال في نفوس جنود جيش الاحتلال الإسرائيلي، بقدرة إسرائيل في الماضي والحاضر والمستقبل، على شن الحملات الناجحة، وفق تخطيط دقيق وفكر متطور.
إبراز أهمية مبدأ الحشد ( كأحد مبادئ الحرب) لخوض الحرب، وأن جيش إسرائيل كان جيشا منظماً على مستوى عال، تشد أزره عناصر منتخبة بعناية، توكل إليها المهام الرئيسية المعقدة، بينما يُكلف باقي القوات بالمهام الأخرى أو الثانوية.
توضيح أهمية الاستطلاعات والاستخبارات (كأحد مبادئ الحرب)، ومعرفة أساليبهما في القتال، والإلمام بنقاط القوة والضعف، للعمل على حسن استغلالها، بما يكفل سهولة هزيمة العدو.
أن يظهر مدى أهمية مبدأ المباغتة، وهو أهم مبادئ الحرب في العصر الحديث، ويستعرض بعض أساليب الماضي في تحقيقه، عن طريق الهجوم الليلي، والمهارة في اختيار ساعة "س" ومن ثم أهمية وقت ومكان وأسلوب شن الهجوم، في تحقيق النصر الحاسم.
إبراز أهمية الابتكار وحسن التصرف، لإشاعة الذعر في صفوف العدو، ثم ترك ثغرة متعمدة لتشجيع العدو على الانسحاب من خلالها، ليقع بعدها في كمين، تحت أسوأ الظروف. كما يؤكد على أن الكم ليس هو العامل الأول في إحراز النجاح، ومن ثم فهو لم يغفل النوع.
مثال آخر عزز به موشى ديان هذه الآراء، فكتب قبل الجولة العربية الإسرائيلية الثالثة، عام 1967، مقالا عن روح المحارب، ساق فيه قصة المبارزة الشهيرة، التي وقعت بين "داود وجالوت"، ليظهر بعض أوجه الشبه بينها وبين الموقف الذي كان سائداً بين العرب وإسرائيل في ذلك الوقت، بالنسبة لاختلال ميزان القوى بين الطرفين المتصارعين. واهتم ديان في سرده لأحداث تلك المبارزة القديمة، بإظهار جانب المقارنة بين خفة الحركة، وبين البطء والجمود، لإظهار قيمة المرونة المادية والفكرية في تحقيق النصر. والتوراة تزخر بالآيات التي تحض على استعمال "أقصى درجات العنف مع العدو"، وتسوق الكثير من " الأساليب العنيفة"، التي اتبعت في الماضي كأمثلة يحتذي بها. كما ترسم التوراة صورة الغزو وسحق العدو وتدمير مدنه، فيأتي الوصف مماثلاً لما تقترفه إسرائيل، اليوم، حيال الفلسطينيين وبيوتهم وحقولهم، على أيدي جنود إسرائيل.
إن السّمة المشتركة بين كل هذه الأساليب، من جوانبها القتالية والسلوكية، هي السعي الحثيث لخلق قناعة لدى المجتمع الإسرائيلي بأنه الشعب المتميز المختار، "القادر على مواجهة الأعداء والقضاء عليهم"، مهما بلغت حشودهم أو قدراتهم. هكذا ربط موشى ديان بين التاريخ والدين، ليصل بين الماضي والحاضر، ليولد الحافز، من خلال المرجعية التاريخية، في أذهان جند اليوم
............."
إنتهى و"منقول حرفيا "
د. يحى الشاعر