بينما ينشغل الآخرون بالجدل، تبني السعودية وتُعدِّل مسارها

F-47

عضو
إنضم
5 أكتوبر 2019
المشاركات
4,562
التفاعل
11,662 896 0
الدولة
Saudi Arabia
بقلم علي الشهابي

‏تُرى السعودية غالباً من خلال مشروعاتها العملاقة، لكن هذه الصورة تخفي جوهر التحوّل: المملكة تُعيد إحياء قدرة نادرة في عالم اليوم، هي الجمع بين التخطيط على مدى عقود والقدرة على تعديل المسار بسرعة كلما تغيّرت الظروف. في زمن تآكلت فيه قدرات الحوكمة طويلة الأجل، تصبح هذه الميزة أكثر ندرة وقيمة.

‏على الضفة الأخرى، تتعثر دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في تحويل الطموحات إلى واقع. مشروع القطار السريع في كاليفورنيا يلتهم منذ 16 عاماً وأكثر من 100 مليار دولار من دون خط عامل واحد. سياسة الصناعة والطاقة في ألمانيا تتأرجح مع الائتلافات الحاكمة. بريطانيا شهدت خمسة رؤساء وزراء في ثماني سنوات بينما تتوقف مشاريع البنى التحتية في دهاليز المشاورات. استمرارية السياسات، التي كانت يوماً سمة غربية، تآكلت بوضوح.

‏مسار السعودية منذ إطلاق رؤية 2030 في عام 2016 يقدّم صورة معاكسة تماماً. فقد نما الناتج غير النفطي بنسبة 4 إلى 5 في المئة سنوياً منذ 2017، وتجاوز عدد الزوّار 100 مليون العام الماضي محققاً هدف 2030 مبكراً. وارتفعت مشاركة المرأة في سوق العمل من 19 إلى أكثر من 34 في المئة. جرى تحديث الأطر التنظيمية، واستقطب قطاع التعدين استثمارات بمليارات الدولارات، وتوسعت قدرات الخدمات اللوجستية، وتعمل المملكة على ترسيخ موقعها مركزاً إقليمياً للبنية التحتية الرقمية المتقدمة. هذه المكاسب نتاج تنفيذ منضبط ومتناغم.

‏وفي الوقت نفسه، أظهرت الحكومة انضباطاً في تعديل الاستراتيجية. فتمت مراجعة أو تقليص عدد من المبادرات الكبرى لتجنّب إرهاق القدرات والحفاظ على التوازن المالي. وقد لخّص وزير المالية محمد الجدعان هذا النهج بقوله إن المملكة «لا تمتلك أي غرور» وإنها ستسرّع أو تؤجّل أو تلغي المشاريع «من دون تردد» إذا اقتضت المصلحة ذلك.

‏هذا النهج يختلف جذرياً، مثلاً، عن التجربة الصينية التي أمضت عقوداً تبني فيها مسبقاً قبل توافر الطلب. النتيجة اليوم أصول متعثرة أو غير مستغلة في الإسكان والصلب والنقل والمناطق الصناعية تُقدَّر بنحو 6 إلى 10 تريليونات دولار. مدن أُنشئت وبقيت شبه خالية، وخطوط قطار لا تحمل ما يكفي من الركاب، وطاقة صناعية فائضة عن حاجة العالم. السعودية، في المقابل، تُظهر استعداداً لتعديل الاتجاه قبل أن تتحول المشاريع إلى أعباء بنيوية.

‏تزداد قيمة هذه المرونة مع إعادة تشكيل الذكاء الاصطناعي لاقتصادات الطاقة والصناعة. ففي حين يتركّز النقاش العام على ناطحات السحاب، تجري ثورة أكثر هدوءاً في الخلفية: قيود تطوير الذكاء الاصطناعي اليوم باتت في الكهرباء أكثر مما هي في الرقائق أو المواهب. في فرجينيا الشمالية، أكبر تجمع لمراكز البيانات في العالم، تحذّر شركات الكهرباء من أن ربط أحمال جديدة بحجم الجيغاواط قد يستغرق سنوات. وفي أوروبا تجعل أسعار الكهرباء بين 15 و20 سنتاً للكيلوواط/ساعة تدريب النماذج الكبرى على نطاق واسع مكلفاً إلى حدّ كبير.

‏السعودية تقدّم نموذجاً مختلفاً؛ فبدلاً من تصدير الطاقة فقط، بدأت تستضيف الحوسبة التي تغذيها هذه الطاقة. تكلفة الكهرباء الشمسية في المملكة تقارب سنتاً واحداً للكيلوواط/ساعة، مقابل 7 إلى 9 سنتات للمستهلك الصناعي في الولايات المتحدة. ومع أحمال الذكاء الاصطناعي الهائلة، يصبح نقل الحوسبة إلى حيث الطاقة أرخص وأكثر وفرة خياراً بديهياً، كما يخفف الضغط عن الشبكات الغربية المجهدة.

‏هذا التحوّل بدأ فعلياً. شركة xAI تبني مركز بيانات بقدرة 500 ميغاواط في المملكة، ومشروع مشترك مع AMD وCisco يستهدف قدرة تصل إلى واحد جيغاواط بحلول 2030. تطوّر Adobe وQualcomm تطبيقات ذكاء اصطناعي توليدي مهيأة للأسواق الإقليمية، فيما التزمت Blackstone بثلاثة مليارات دولار لمخازن بيانات موجهة للذكاء الاصطناعي. وتعمل أرامكو ديجيتال مع Groq على تحقيق سرعات استدلال تبلغ مليار «توكن» في الثانية. ومن المتوقع أن ترتفع القدرة الوطنية لمراكز البيانات من نحو 350 ميغاواط اليوم إلى 1.3 جيغاواط بحلول 2030.

‏السعودية لا تدّعي تفوقاً تقنياً؛ فهي تعتمد على رقائق أمريكية وخوارزميات غربية وخبرات عالمية. لكنها توفّر ما بات اقتصاد الذكاء الاصطناعي يقدّره أكثر من أي شيء آخر: طاقة وفيرة، وترخيصاً سريعاً، وإرادة سياسية قوية. المملكة قادرة على بناء قدرات رقمية وصناعية بسرعة وبدرجة عالية من اليقين، مع البقاء منسجمة مع معايير الأمن والتكنولوجيا الأمريكية. وفي عالم تتحوّل فيه التأخيرات إلى خسارة استراتيجية، يصبح عامل السرعة بحدّ ذاته ميزة تنافسية.

‏هذه الفوارق في كفاءة الدولة بدأت بالفعل تعيد توجيه تدفقات رأس المال العالمي. فالشركات المتعددة الجنسيات تبحث عن ولايات قضائية توفّر وضوحاً واستقراراً وقدرة على التنفيذ. والسعودية تبرز كواحدة من قلّة من الاقتصادات الصاعدة القادرة على تقديم هذه المنظومة. الحضور الكثيف لرؤساء الشركات العالمية في مؤتمرات الاستثمار السعودية ترجمة عملية لهذه الحقيقة.

‏لا يخلو الطريق من مخاطر؛ فالإفراط في الإنفاق وتحديات التنفيذ لا بد من إدارتها، كما يجب أن تستمر المؤسسات في التطور. لكن الاتجاه العام واضح: في زمن تنشغل فيه كثير من الحكومات بضغوط اللحظة، تُعيد السعودية إحياء القدرة على التفكير بعقود مع تعديل المسار بسرعة كلما تغيّرت الظروف. وفي عالم أصبحت فيه الحوكمة طويلة الأجل استثناءً لا قاعدة، يغدو هذا المزيج من الطموح الاستراتيجي والانضباط في تصحيح المسار واحداً من أهم عناصر التفوق التنافسي للمملكة

 
عودة
أعلى