بسم الله الرحمن الرحيم
قد يبدو من الجنون أن يُذكر اسم هتلر إلى جانب كلمة صهيونية في سياق اتفاق مشترك، لكن التاريخ، حين يُقرأ بصدق، يفضح ما عجزت الدعاية عن إخفائه.
في عام 1933، وبعد أشهر من صعود الرايخ النازي، وقّعت نخبة من زعماء الحركة الصهيونية اتفاقًا رسميًا مع حكومة هتلر. لم يكن هذا الاتفاق يهدف إلى إنقاذ اليهود من الاضطهاد، بل إلى اختيار من يُنقذ ومن يُترك للموت، حسب ما يخدم مشروع بناء وطن استيطاني في فلسطين.
اتفاقية هافارا لم تكن سوى عملية تصفية ناعمة لليهود في ألمانيا:
من كان يملك المال، خُصص له مخرجٌ نحو "الوطن القومي" المزعوم.
أما الفقراء – أولئك الذين لا يصلحون لبناء الدولة ولا يجلبون معها الاموال للاستثمار في الوطن الجديد– فقد تُركوا لمصيرهم في الأحياء المغلقة ومعسكرات الموت.
الصهيونية لم تكن مشروعًا لحماية اليهود، بل مشروعًا لاختيار نوع معين منهم:
القابل للتهوّر القومي، القادر على الهجرة، المستعد لتحويل مأساته إلى طوبة في جدار الدولة الجديدة، حتى لو تطلب ذلك التحالف مع الجلاد.
في تلك اللحظة، أصبح النازي – الذي يطرد اليهود – شريكًا مرحّبًا به، بينما أصبح اليهودي الفقير غير المناسب للمشروع الصهيوني عبئًا يجب تجاهله.
هافارا ليست مجرد اتفاق اقتصادي أو صفقة مشبوهة، بل شهادة موثقة على أن بعض اليهود لم يُقتلوا فقط بأيدي النازي، بل بخيانة من يدّعون تمثيلهم.
في سطور هذه الاتفاقية، كتب الصهاينة أول فصول دولتهم بالحبر النازي، وعلى حساب دماء أولئك الذين ماتوا بلا أسماء.
عملات معدنية سُكت احتفالاً بالتعاون النازي الصهيوني، 1933.
طموح بلا ضمير: كيف أرادت الصهيونية فلسطين ولو على جثث اليهود
■ الصهيونية: مشروع قومي لا ديني، لا إنساني
من يقرأ التاريخ من بعيد، قد يتصور أن الحركة الصهيونية وُلدت كملجأ أخلاقي لليهود المضطهدين في أوروبا، وأنها جاءت تحمل شعلة الخلاص لجماعة ممزقة بين أممٍ لم تقبلهم يومًا. لكن الحقيقة كانت أبعد ما تكون عن هذا التصور النبيل.فالحركة الصهيونية، كما تشكّلت في نهايات القرن التاسع عشر، لم تنطلق من وجدان ديني، ولا من إحساس تضامني مع يهود الشتات، بل من عقل سياسي أوروبي جاف، استنسخ فكرة القومية كما ظهرت في ألمانيا وفرنسا، وطبّقها على اليهود، لا باعتبارهم جماعة دينية، بل باعتبارهم "شعبًا يجب أن تكون له دولة". لم يكن هذا التفكير مقبولًا في أوساط اليهود أنفسهم، بل قوبل في بداياته بالاستهجان.
لكن الصهيونية، كما صاغها تيودور هرتزل الذي لم يكن رجل دين، ولا ناشطًا اجتماعيًا بين المجتمعات اليهودية الفقيرة في أوروبا الشرقية، بل كان صحفيًا مثقفًا مندمجًا في المجتمع النمساوي الألماني، وكتب أفكاره من مقاهي فيينا وقاعات المؤتمرات البرجوازية. حتي انه في كتابه الشهير "الدولة اليهودية" (1896)، لم تكن يتهم بآراء الجماهير اليهودية أو أحلامهم، بل شاف أن خلاص اليهود لا يكون بالاندماج، بل بخلق كيان يهودي مستقل بأي وسيلة، على أرض مختارة، وبقيادة نخبة اقتصادية وفكرية, لذلك كان من الواضح ان هرتزل لم يكتب دفاعًا عن يهود الحارات الضيقة في بولندا أو روسيا، بل كتب نداءً إلى القوى العظمى كي تمنح اليهود بقعة أرض ينشئون عليها دولتهم، لا باعتبارهم ضحايا، بل باعتبارهم مشروعًا سياسيًا حديثًا، قادرًا على جلب الاستثمار، والانضباط، والعلم الحديث.
و في عام 1897، عُقد أول مؤتمر صهيوني في مدينة بازل السويسرية، حيث تم الإعلان رسميًا عن إنشاء المنظمة الصهيونية العالمية، التي جعلت من فلسطين الهدف السياسي الأول، رغم أن الأرض كانت مأهولة بشعب آخر، له تاريخه وحقوقه, و في تلك اللحظة، لم يكن حديثه عن وطن لليهود، بل عن مستوطنة نفعية تنتقي من اليهود فقط من يصلحون للزراعة والعمل والانضباط والبناء، أي النخبة فقط. أما البقية – من الفقراء، المتدينين، والمندمجين في المجتمعات الأوروبية – فلم يكن لهم مكان في هذا المشروع. لقد رآهم عبئًا، أو في أحسن الأحوال، مادة خام يجب أن تُشكَّل من جديد.
وقد عبّر هرتزل بوضوح عن هدفه النخبوي الانتقائي، حين كتب في مذكراته:
"سيرحل الأغنياء أولًا، والبقية سيتبعونهم لاحقًا. سنتولى نحن خلق بيئة صعبة لا تجعل اليهود قادرين على البقاء في أوروبا."
كأنما كان يقول: لن ننقذ اليهود من الكارثة، بل سنخلقها بأنفسنا إذا تطلّب الأمر ذلك... لكي يأتوا إلينا.
"اليهود الخطأ": الفقراء والمتدينون والمندمجون
لم تكن الصهيونية تمثل يهود أوروبا، لا عدديًا ولا فكريًا. بل كانت تُهاجم علنًا:
- اليهود المتدينين الذين اعتبروا أن العودة إلى فلسطين لا تجوز إلا بيد الله، لا السياسة.
- واليهود الاندماجيين الذين رأوا أنفسهم مواطنين ألمان أو فرنسيين من الديانة اليهودية، لا "شعبًا غريبًا".
وقد كتبت "رابطة اليهود الألمان" في أحد بياناتها عام 1935:
"نحن مواطنون ألمان من الديانة اليهودية، لا نريد أن تُفرض علينا قومية لم نطلبها. الصهيونية تشكّل خطرًا على ولائنا ووجودنا."
الصهاينة، بدورهم، لم يخفوا ازدراءهم بهؤلاء, ففي مؤتمرات المنظمة الصهيونية العالمية خلال العقود التالية، كتب أحد القياديين في المنظمة في عشرينيات القرن العشرين قائلًا:"نحن لا نسعى لنقل كل اليهود إلى فلسطين. هذا وهم. نحن نحتاج إلى من يمكنهم بناء دولة، لا من يطلبون الخلاص."حتى في الرسائل المتبادلة بين الزعماء الصهاينة، كان هناك قلق واضح من أن يؤدي نقل اليهود الفقراء من أوروبا الشرقية إلى فلسطين إلى "تشويه البنية الديموغرافية للمشروع"، ولهذا سعوا إلى فرض شروط مالية وعملية على الهجرة، بحيث لا يصل إلا من تتوفر فيه الصفات المطلوبة.
قال ناحوم غولدمان، أحد أبرز وجوه الحركة الصهيونية لاحقًا:
"لم يكن هدفنا إنقاذ اليهود من الموت، بل خلق يهود جدد لبناء الدولة. كان لا بد من اختيار من يصلحون، لا من يحتاجون."
ألمانيا: أرض التنوير... وكراهية مكبوتة
بينما كانت الصهيونية تختار من "يستحق الحياة في وطن قومي"، كانت ألمانيا تغلي على نار بطيئة. ففي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدت ألمانيا وكأنها بلد المستقبل، قوة صناعية صاعدة، ذات مؤسسات حديثة، وفكر علماني منفتح. وقد وجد فيها اليهود بيئة واعدة: انخرطوا في الجامعات، تسلقوا السلم الاقتصادي، وأصبحوا جزءًا من الطبقة الوسطى، بل والنخبة في بعض الأحيان.
لكن خلف هذا الاندماج، ظلت كراهية مكبوتة تتغذى على القومية الجرمانية المتطرفة، وعلى التصورات القديمة التي ربطت اليهود بالمال والفساد والانحلال الثقافي.
بعد الحرب العالمية الأولى، سقط القناع. ألمانيا المهزومة، المذلولة بشروط معاهدة فرساي، وجدت في اليهود هدفًا جاهزًا لإسقاط اللوم. ارتفعت نسب البطالة، انهار الاقتصاد، وتضخّم الغضب الشعبي، وظهر الخطاب الذي يقول: "اليهود خانوا الوطن"، و"اليهود يسيطرون على البنوك والإعلام".
أحد ملصقات الدعاية اليمينية عام 1928 كتب:
"اليهود سرقوا خبزنا، وثقافتنا، وكرامتنا. أعيدوهم من حيث أتوا."
تصوير اليهود على أنهم ماركسيين ومرابين ومستعبدين للآخرين
صعود النازية: من الكراهية العشوائية إلى البرنامج المنظم
لم تكن تلك الأفكار وليدة النازيين، لكنها وجدت في أدولف هتلر من يجمعها في خطاب سياسي شامل. وحين أصدر كتابه كفاحي، أظهر فيه موقفًا لا لبس فيه: "اليهود ليسوا جزءًا من ألمانيا، بل خطر داخلي يجب اقتلاعه". لكنه، رغم تطرفه، لم يدعُ في البداية إلى القتل، بل إلى الطرد والترحيل. كان يرى أن الحل هو إخراج اليهود من أوروبا تمامًا، وقد راودته، كما تُظهر وثائق لاحقة، أفكار عدة: إرسالهم إلى مدغشقر، أو إلى بولندا الشرقية، أو أي مكان يقبلهم.
في خطاب له عام 1937، قال هتلر:
"إذا تعاون اليهود مع مشروع ترحيلهم الجماعي، فسنُسهل لهم ذلك. نحن لا نريد قتلهم، بل التخلص منهم."
وقد فسر الصهاينة هذا العرض ليس كتهديد، بل كـ"فرصة تاريخية".
وصرّح أحد مسؤولي الحركة الصهيونية الألمانية، كورت بلومنفلد:
"إذا أغلق العالم أبوابه، وفتح هتلر باب الرحيل إلى فلسطين، فليكن. لن نطلب من الجميع أن يُنقَذوا."
وفي هذا السياق بالضبط، بدأت جسور الاتصال الأولى مع الحركة الصهيونية. لقد تلاقى الطرفان – النازية والصهيونية – في قناعة واحدة، وإن اختلفت دوافعهما:أن لا مكان لليهود في أوروبا.
النازيون أرادوا "تطهير ألمانيا".والصهاينة أرادوا "بناء وطن نقي".أما يهود ألمانيا العاديون، فقد وجدوا أنفسهم بين فكّي كماشة: نظام يطردهم، وحركة تدّعي تمثيلهم لكنها لا تريدهم، إلا إذا كانوا يملكون المال والرغبة في الهجرة إلى فلسطين.
في هذه اللحظة، لم تعد الخيانة احتمالًا... بل صارت سياسة.