بسم الله الرحمن الرحيم
في سطور التاريخ العسكري، كُتبت أسماء القادة، وتوثقت المعارك، وتفاخرت الشعوب بأمجاد الانتصار… لكن ثمة سطور لم تُكتب، وأصوات لم تُسمع، وأجساد بقيت في الظل، خادمة لحروب لم تُخض بالسلاح، بل بالجسد, نساء كثيرات لم يحملن بندقية، لكنهن كنّ على مقربة من ساحات القتال، ليس كمقاتلات، بل كـ"خدمة لوجستية جنسية" للجنود.
فمنذ آلاف السنين، كان للجيوش وجهٌ خفي لا يظهر في السجلات الرسمية: النساء اللواتي خُصّصت أجسادهن لإراحة الجنود، ورفع معنوياتهم، وكسر وحدة الحرب القاتلة.
ففي جيش الإسكندر الأكبر، كان يُسمح للجنود باصطحاب "رفيقات مؤقتات" في الحملات الطويلة، بعضهن سبايا، وبعضهن مأجورات.
أما في الإمبراطورية الرومانية، فكان البغاء يُشرعن أحيانًا حول المعسكرات، ويُنظر إليه كأمر ضروري لـ"ضبط شهوات الجنود ومنع التمرد".
وفي العصور الوسطى، كتب المؤرخ غيوم من نيوبرج عن الحملات الصليبية قائلاً:
"في كل جيش صليبي، كانت هناك نساء كثيرات… لم يحملن السيف، لكنهن كن أكثر حضورًا من بعض الفرسان، يرافقن الجند في المعسكر والخيمة والليل."
أما خلال الحرب العالمية الثانية، فقد أخذت الظاهرة بُعدًا نظاميًا صادمًا، حين أنشأ الجيش الإمبراطوري الياباني ما عُرف بـ"بيوت المتعة العسكرية" (Comfort Stations)، حيث تم استعباد ما يُقدَّر بـ200,000 امرأة، غالبيتهن من كوريا والصين، لتقديم خدمات جنسية للجنود.
وصف أحد الجنود اليابانيين لاحقًا تلك الفترة بقوله:
"كانت النساء هناك مثل الذخيرة... نستهلكهن ثم نطلب المزيد."
حتى في الجيوش الغربية، لم تكن الظاهرة غائبة. ففي فرنسا خلال الحرب العالمية الأولى، كانت هناك دور مرخّصة تقع قرب خطوط الجبهة، أُطلق عليها اسم “Maisons Tolérées”، وكانت تعمل تحت إشراف عسكري مباشر.
وفي فيتنام، سمحت القيادة الأمريكية بوجود "نساء متعة" لخدمة الجنود، ضمن ما عُرف لاحقًا بـ"سياحة الحرب الجنسية".
لكن هل كانت كل النساء ضحايا؟
في بعض الحالات، وجدت بعضهن في هذا الدور وسيلة للبقاء، أو تحسين الوضع الاقتصادي، أو فرض مكانة معينة في معسكرٍ لا يعترف بالضعفاء. ومع ذلك، يبقى السؤال الأهم:
هل كان البغاء العسكري مجرد امتداد لعلاقات الهيمنة في الحرب؟ أم سياسة دولة؟
وهل تغيّر شيء فعلًا اليوم، أم أن الدور تغيّر شكله فقط؟
هذا الموضوع يفتح الصندوق الأسود لهذا الدور المسكوت عنه: تاريخ خدمات الجسد في الجيوش، من العصور القديمة حتى الواقع المعاصر، حيث لا تزال بعض الأنظمة تستثمر في "اللذة المنظمة"، كجزء من آلة الحرب.
جسد في قلب الحرب: مهنة غير معترف بها في الجيوش
لم تكن النساء المرافقات للجيوش يحملن رُتبًا عسكرية، ولم تُسجَّل أسماؤهن في دفاتر القتال، لكن وجودهن كان محوريًا في حياة المعسكر، وضروريًا لآلة الحرب كما يُنظر إليها من منظور الجندي، والقيادة على حد سواء.
كان دورهن مركبًا، يتجاوز العلاقة الجنسية إلى أدوار نفسية واجتماعية ولوجستية:
أولًا: "مُخفِّفات وطأة الحرب"
في المسيرات الطويلة، وفي ليالي الخنادق الباردة، ووسط الرائحة الكريهة للموت، كانت النساء المرافقات يُنظر إليهن على أنهن وسيلة لتخفيف التوتر الجنسي، وتفريغ الغضب، وكسر الشعور بالوحدة.
أحد القادة الرومان كتب ذات مرة:
"الجندي المشحون بالرغبة، لا يُؤتمن على حرب طويلة."
ثانيًا: "مكافأة، لا حاجة"
في بعض العصور، كان يُنظر إلى البغاء داخل الجيش كنوع من المكافأة أو الامتياز للجنود الشجعان، أو كـ"استراحة محارب". بل كان يُستخدم أحيانًا كأداة لتحفيز الجنود على الصمود في المعركة.
ففي حملات نابليون، كانت بعض النساء يتنقلن مع الجيش، ويُمنحن "تصاريح خاصة" للدخول إلى المعسكرات. وكان يُطلق عليهن لقب:
"femmes de joie" – نساء الفرح.
ثالثًا: بين "الحرية" و"التنظيم العسكري"
في فترات مبكرة، كانت المهنة تُمارس بحرية — من قبل نساء يتبعن المعسكرات طمعًا في الرزق أو الحماية — دون تنظيم رسمي.
لكن مع الوقت، بدأ ظهور "نظام البغاء العسكري الرسمي"، حيث تخضع النساء للفحص الطبي، وتُسجَّل أسماؤهن، وتُدار أحيانًا من قِبل الدولة نفسها أو قيادات الجيش، كما حدث في اليابان النازي، وفي الجيوش الأوروبية خلال القرن 19.
رابعًا: أدوار موازية للجنس
ورغم الطابع الجنسي المعلن، فإن كثيرًا من هؤلاء النساء أدّين أدوارًا أخرى:
- الطهي
- التمريض البسيط
- الغسيل
- الترفيه من خلال الرقص أو الغناء
- الدعم النفسي والتواصل العاطفي المؤقت
بعض المؤرخين وصفهن بـ"الجيش غير الرسمي الموازي"، خاصة في الحملات الطويلة مثل الحروب الصليبية أو الاستعمار الأوروبي في إفريقيا وآسيا.
النساء اللواتي ارتبطن بالجيوش من خلال "خدمات الجسد"، لم يكنّ مجرد عاهرات يتنقلن مع الجنود. بل كنّ جزءًا — غير مرئي رسميًا — من بنية المعسكر، يلبين حاجة مركبة تجمع بين الجنس، والرعاية، والانتماء المؤقت.
ولأن هذا الدور كان يُخجل القيادات، ويُخالف الصورة البطولية النقية للحرب، فقد جرى تهميشه، أو تغليفه بخطاب أخلاقي مزدوج… حتى صار واحدًا من أكبر أسرار الحرب المسكوت عنها.
femmes de joie