بسم الله الرحمن الرحيم
في ستينيات القرن العشرين، في خضم الحرب الباردة، حيث كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي يتصارعان في لعبة القط والفأر على الساحة الدولية، ظهرت فكرة غريبة ومثيرة للدهشة. تخيّل معي: قطة، نعم، قطة منزلية عادية، تتجول في شوارع واشنطن، تحمل في جسدها سرًا خطيرًا – ميكروفون صغير وجهاز إرسال لاسلكي، جاهزة للتجسس على السفارة السوفيتية! هذه ليست قصة خيالية من فيلم هوليوودي، بل مشروع حقيقي أطلقته وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) تحت اسم "الهريرة الصوتية" (Acoustic Kitty). دعونا نغوص في هذه الحكاية الغريبة التي تجمع بين الإبداع، والطموح، والفشل المحتوم.
لطالما كانت الحيوانات شركاء للبشر في ميادين القتال، حاملةً أعباء الحروب بطرق لم يتخيلها أحد. منذ العصور القديمة، كانت الخيول تسحب العربات الحربية وتحمل الفرسان إلى المعارك، بينما استخدمت الفيلة في آسيا كآلات حربية مدمرة. في الحرب العالمية الأولى، كانت الكلاب تكشف عن الغازات السامة في الخنادق، ونقلت الحمائم الرسائل عبر الجبهات بنجاح مذهل، حيث يقال إن أكثر من 90% من رسائلها وصلت إلى وجهتها بأمان. خلال الحرب العالمية الثانية، أطلقت بريطانيا "خدمة الحمام السرية"، حيث كانت الطيور تُسقط في حاويات بمظلات فوق أوروبا لنقل المعلومات من المقاومة إلى الحلفاء، بل وصلت رسالة مكونة من 12 صفحة إلى ونستون تشرشل مباشرةً.
لكن لم تقتصر الحيوانات على نقل الرسائل أو القتال. فقد استخدمت الخفافيش في مشروع أمريكي غريب خلال الحرب العالمية الثانية، حيث خططت الولايات المتحدة لربط قنابل صغيرة بأجنحتها لإلقائها على المدن اليابانية، لكن المشروع أُلغي لاحقًا بسبب تعقيداته. هذه الأمثلة تُظهر أن الحيوانات لم تكن مجرد أدوات، بل كانت عناصر حيوية في استراتيجيات عسكرية معقدة، مما مهد الطريق لاستخدامها في مجال أكثر سرية: التجسس.
مع تطور التكنولوجيا في القرن العشرين، وجدت أجهزة الاستخبارات في الحيوانات وسيلة مثالية للتجسس، حيث لا يثير وجودها الشكوك. خلال الحرب الباردة، استخدمت وكالة الـ CIA الطيور، مثل الحمام، في عملية "تاكانا"، حيث زُودت بكاميرات دقيقة لتصوير مواقع حساسة في الاتحاد السوفيتي. كانت جودة الصور التي التقطتها هذه الطيور تفوق تلك التي أنتجتها الأقمار الصناعية في ذلك الوقت. كما درّبت الـ CIA الغربان على حمل وإعادة مواد تزن حوالي 40 غرامًا من حواف النوافذ، بمساعدة أشعة الليزر لتوجيهها.
لم تقتصر هذه الجهود على الطيور. فقد درّبت البحرية الأمريكية الدلافين وأسود البحر منذ حرب فيتنام للكشف عن الألغام والغواصين المشبوهين، مستفيدة من ذكائها وقدراتها الحسية الاستثنائية. الاتحاد السوفيتي لم يكن بعيدًا، إذ درّب الدلافين بالقرب من سيفاستوبول لأغراض مماثلة، واستمر البرنامج حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. حتى الحشرات لم تسلم، فقد طورت وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة الدفاعية (DARPA) مشروع "الحشرات الهجينة" لزرع أجهزة تجسس في أجسامها، مما يسمح لها بحمل ميكروفونات أو أجهزة استشعار.
لكن من بين كل هذه المحاولات، برز مشروع "الهريرة الصوتية" كواحد من أكثر المشاريع طموحًا وغرابةً في تاريخ الاستخبارات.
السبب وراء الفكرة
في ستينيات القرن العشرين، كانت الحرب الباردة في أوجها، والتوتر بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي يتصاعد. كانت السفارات السوفيتية في واشنطن مراكز للنشاط الاستخباراتي، وكانت الـ CIA تبحث عن طرق مبتكرة لجمع المعلومات دون إثارة الشكوك. القطط، بطبيعتها الماكرة وقدرتها على التجول دون لفت الانتباه، بدت كمرشح مثالي. من منا يشك في قطة تتسكع في حديقة أو تقفز على جدار؟ كانت الفكرة بسيطة: تحويل قطة إلى جهاز تنصت متحرك يتجول بالقرب من السفارة السوفيتية لتسجيل المحادثات الحساسة.مراحل المشروع
بدأ المشروع تحت إشراف مديرية العلوم والتكنولوجيا في وكالة الـ CIA، وكان يهدف إلى تطوير "جاسوس مثالي" يتمتع بتسعة أرواح. استهل المشروع باختيار قطة مناسبة، وهي عملية لم تكن بالسهولة التي قد يتخيلها المرء. كان يجب أن تكون القطة هادئة، قابلة للتدريب، وغير متشتتة بسهولة. بعد الاختيار، خضعت القطة لعملية جراحية معقدة استغرقت ساعة، أجراها طبيب بيطري متخصص. زُرع ميكروفون دقيق في قناة أذن القطة، وجهاز إرسال لاسلكي صغير في قاعدة جمجمتها، مع سلك رفيع مدمج في فرائها ليعمل كهوائي. الهدف كان أن تسجل القطة الأصوات من محيطها وتنقلها إلى فريق الاستخبارات القريب.لكن القطط، كما نعلم، ليست بالضرورة الأكثر طاعة. اكتشف فريق الـ CIA أن الجوع كان يشتت القطة، مما دفع العلماء إلى إجراء عملية جراحية أخرى لمعالجة إحساسها بالجوع، محاولين جعلها تركز على المهمة بدلاً من البحث عن الطعام. بعد سنوات من التدريب والاختبارات، وبعد إنفاق ما يُقدّر بحوالي 14 إلى 20 مليون دولار (حسب مصادر مختلفة)، كان المشروع جاهزًا لأول اختبار ميداني.
القصة المأساوية للاختبار الأول
في يوم مشمس في واشنطن العاصمة، أطلقت الـ CIA قطتها الجاسوسة بالقرب من حديقة خارج السفارة السوفيتية. كانت المهمة واضحة: التجسس على رجلين يتحدثان في الحديقة. القطة، المزودة بأحدث التقنيات، بدت جاهزة لتغيير قواعد اللعبة في عالم الاستخبارات. لكن، في لحظة دراماتيكية، وفي غضون ثوان من إطلاقها، اصطدمت بها سيارة أجرة، مما أدى إلى مقتلها على الفور تقريبًا. هكذا، انتهت أول مهمة لـ"الهريرة الصوتية" قبل أن تبدأ، في كارثة لم يتوقعها أحد.النتائج ونهاية المشروع
بعد الحادث، أعاد فريق الـ CIA تقييم المشروع. تبين أن القطط لم تكن "عملاء ميدانيين ممتازين". كانت طبيعتها المستقلة وميلها للتشتت – سواء بسبب الجوع أو بمطاردة فريسة – تجعلها غير موثوقة لمثل هذه المهام. في عام 1967، أُلغي المشروع رسميًا، تاركًا وراءه إرثًا من الإنفاق الباهظ والتجربة الفاشلة. ومع ذلك، استمرت الـ CIA في تدريب القطط والطيور لمهام تجسس أخرى، خاصة لمراقبة الأجانب في الولايات المتحدة الذين لديهم ميل لتربية القطط.مشروع "الهريرة الصوتية" ليس مجرد قصة مضحكة عن فشل استخباراتي، بل هو شهادة على الطموح البشري والإبداع في مواجهة التحديات. في زمن كانت فيه التكنولوجيا محدودة، حاولت الـ CIA استغلال الطبيعة نفسها لتحقيق أهدافها. لكن القصة تذكرنا أيضًا بأن الطبيعة، وخاصة القطط، لا تخضع دائمًا لخطط البشر. ربما كان من الأفضل لو تركوا القطط تتجول بحرية، تطارد الفئران بدلاً من أسرار السوفييت.