دور السعودية المحوري في تشكيل الجغرافيا السياسية للعالم
في مايو 2024، كتبت مجلة نيوزويك تقريرًا مطولًا عن كيفية تغيير الحرب الروسية الأوكرانية للنظام العالمي، أو على الأقل إعادة ضبط النظام الدولي القائم على القواعد.
ونشر مركز "GMF جي إم إف"، وهو معهد أبحاث عبر الأطلسي يقع مقره الرئيسي في واشنطن العاصمة، تقريرًا يدعو فيه إلى إعادة المشاركة مع ما وصفه بـ "الدول العالمية المتأرجحة". وقال تقرير المؤسسة البحثية غير الحزبية وغير الربحية إن التطورات الجيوسياسية، إلى جانب الأزمات الاقتصادية والأمنية الأخيرة، تدعو لإعادة النظر في المشاركة الأميركية والأوروبية مع الجهات الفاعلة الرئيسية في أميركا اللاتينية وأفريقيا والشرق الأوسط ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وخلص التقرير إلى أن الدول التي تتمتع بنفوذ كبير في الشؤون الدولية، ولكن تفضيلاتها للتعاون متفاوتة، باتت ذات أهمية متزايدة في مواجهة التحديات العالمية. وحدد التقرير 6 دول لما وصفه بـ "الدول العالمية المتأرجحة"، هي: السعودية، والبرازيل، والهند، وإندونيسيا، وجنوب أفريقيا، وتركيا.
وفي الحقيقة، أنا أتفق مع هذا التوصيف تمامًا بوضع السعودية على رأس الدول العالمية المتأرجحة بناءً على مبدأ عدم الانحياز لأي طرف، وإنما التحرك وفق ما يخدم مصلحتها.
لكن دعونا ننظر إلى مصطلح الدول المتأرجحة، ماذا يعني هذا المصطلح بالنسبة لأميركا وربما الدول الغربية؟
مصطلح الولايات المتأرجحة أو Swing States في السياق السياسي الأميركي يشير إلى الولايات التي يكون فيها التنافس بين الحزبين الرئيسيين الديمقراطي والجمهوري شديدًا، ولا يمكن توقع فوز أي منهما بشكل مؤكد خلال الانتخابات الرئاسية. وتُعرف أيضًا باسم ولايات ساحة المعركة (Battleground States)، وتلعب دورًا حاسمًا في تحديد نتيجة الانتخابات. وعادةً ما ينفق الحزب الذي يتولى السلطة مليارات الدولارات على مشاريع عملاقة في مثل هذه الولايات لضمان ولائها لحزبه، كما فعل بايدن في ولاية أريزونا المتأرجحة والتي صوتت له عام 2020 وسلمته الرئاسة.
وفي عهد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، بات من الواضح أن السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية تعطي الأولوية للبراغماتية. ومن خلال العمل كدولة متأرجحة، وهو نهج يضمن الفوائد الاقتصادية والأمنية من جوانب متعددة، وأهمها أنها تتجنب التورط في صراعات القوى العظمى، خصوصًا التنافس بين الولايات المتحدة والصين، والصراع بين أوروبا وروسيا.
وتاريخيًا، طبقت الهند استراتيجية الدول المتأرجحة في حقبة الحرب الباردة التي حققت التوازن بين العلاقات الأميركية والسوفيتية. كما نجحت تركيا في الشراكة مع الناتو مع شراء الأسلحة الروسية وأنظمة دفاعاتها الجوية وتعميق علاقتها مع الصين في نفس الوقت.
وبالنسبة للمملكة العربية السعودية، يؤكد هذا التصنيف على دورها المحوري في تشكيل الجغرافيا السياسية في القرن الحادي والعشرين. وهي دولة ذات أهمية استراتيجية لكل من الولايات المتحدة وروسيا والصين بسبب نفوذها الجيوسياسي وموارد الطاقة ودورها في الشؤون الإقليمية والعالمية. فهي من تقود جامعة الدول العربية ولها دور رائد ومؤثر في منظمة التعاون الإسلامي، وهي من أسرع الاقتصادات نموًا في مجموعة دول العشرين.
وفي الحقيقة، هناك أسباب عديدة تجعل من مصلحة المملكة العربية السعودية أن تُصنف على أنها دولة متأرجحة، خصوصًا في عالم مضطرب وبات فيه الاستقرار الدولي على المحك، وأولها الشراكات الاستراتيجية مع القوى المتنافسة. وسابقًا، كانت المملكة العربية السعودية حليفًا حصريًا للولايات المتحدة. هذا التحالف كان مدعومًا بصفقات النفط مقابل التحالف الأمني، ومبيعات الأسلحة، والتعاون في مكافحة الإرهاب والتطرف، لكنه كان متقلبًا جراء تغير الإدارات باستمرار، وهو ما دفع السعودية لاستكشاف خياراتها مع الصين وروسيا وغيرها من الدول المؤثرة.
وفي العلاقات مع روسيا، تعمل السعودية بشكل وثيق معها عبر تحالف أوبك+ لإدارة أسعار النفط العالمية، على الرغم من معارضة الولايات المتحدة لهذا التعاون، حيث تشترك الدولتان في مصلحة الحفاظ على عائدات النفط المرتفعة. وفي العلاقات مع الصين، عمقت المملكة العربية السعودية علاقاتها الاقتصادية والاستراتيجية مع الصين، بما في ذلك الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية والتكنولوجيا وتكرير النفط. وأصبحت الصين الآن أكبر مشترٍ للنفط في المملكة العربية السعودية وشريكًا رئيسيًا في رؤية 2030.
ومن خلال الشراكات الاستراتيجية مع الدول الثلاث، تجنبت المملكة العربية السعودية الاعتماد المفرط على قوة واحدة، مما زاد من نفوذها.
وللتذكير بأهميتها الدولية، وبصفتها أكبر مصدر للنفط في العالم، فإن قرارات السعودية (على سبيل المثال، خفض الإنتاج أو زيادته من خلال أوبك+) تؤثر بشكل مباشر على أسواق الطاقة العالمية. وبمواصلة تنسيقها مع روسيا واستعدادها لتحدي الضغوط الأميركية، مثل رفضها طلبات بايدن لعام 2022 لزيادة إنتاج النفط، تكشفت قدرتها على التأرجح بين التوافق مع المصالح الأميركية أو إعطاء الأولوية لأجندتها الاقتصادية مع منافسين مثل روسيا أو الصين.
وفي اعتقادي، أن السعودية نجحت في التعامل مع التنافسات الدولية المعقدة بشدة من خلال الحفاظ على العلاقات مع الأطراف المتعارضة. على سبيل المثال، ظلت السعودية محايدة في الحرب الأوكرانية الروسية رغم الضغوط، ورفضت دعم روسيا أو الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي علنًا، وفي نفس الوقت عرضت الوساطة، على سبيل المثال في تبادل الأسرى بين الجانبين، ونجحت بشكل لافت في هذا الملف.
وبالتالي، لا يجب أن نستغرب أن تصبح السعودية الوجهة الدولية المفضلة لعقد صفقات السلام وإنهاء الصراعات الدولية كما تفعل الآن بين القوى العظمى أميركا وروسيا.
وعليه، فإن مركزية المملكة العربية السعودية في أسواق الطاقة والسياسة الإقليمية وديناميكيات الأمن تجعلها لا غنى عنها لكل من الولايات المتحدة وروسيا، حتى مع تباين أولوياتهما واستراتيجياتهما.
مصدر :
المصدر اضغط هنا