تعكس وثيقة “الاستراتيجية الرئيسية للمياهين” في إثيوبيا الكثير من مواقفها ومصالحها وسياساتها الخارجية “المتناقضة” تجاه بلدان وقضايا إقليم القرن الإفريقي وحوض النيل، وتحديدًا إشكاليتي الوصول البحري والصراع التاريخي مع مصر والسودان حول نهر النيل.
والوثيقة أطلقها معهد الشؤون الخارجية الإثيوبي، وهو مركز بحثي يتبع وزارة الخارجية، يقع مقره في أديس أبابا، في كتاب باللغة الأمهرية بعنوان “የሁለት ውኃዎች ዐቢይ ስትራቴጂ”، ويُترجم إلى العربية: “الإستراتيجية الرئيسية للجسمين المائيين (حوض النيل والبحر الأحمر)”([1])، وتزامن صدوره مع مناقشات واسعة النطاق حول طموحات إثيوبيا “الحبيسة” في الوصول “التجاري” و”العسكري” المباشر إلى البحر الأحمر، ومع عدم التوصل إلى اتفاق حول ملء وتشغيل سد النهضة، والذي تتخوَّف من تداعياته مصر على حصتها المائية.
وتقدّم الإستراتيجية تحليلاً تفصيليًّا –من منظور إثيوبي- يُركّز على التجارب التاريخية والرؤى القانونية والقضايا والسياسات المختلفة والمتعلقة بالجسمين المائيين، وما يرتبط بالمصالح والمبادئ التي ينبغي على إثيوبيا اتباعها، كما تُولي أهمية خاصة لما كانت تبذله الحكومات السابقة من جهود للاستفادة من تلك المياه، ومواقف وردود فعل المصريين عليها.
تسعى هذه الورقة، إلى تقديم قراءة في الإستراتيجية الإثيوبية الكبرى للجسمين المائيين، محدداتها وأهدافها، إلى جانب الأدوات والإستراتيجيات الفرعية التي تستند إليها في تحقيق غاياتها، وموقع مصر منها؛ بالنظر إلى مركزيتها في إشكاليتي البحر الأحمر وحوض النيل بالنسبة لإثيوبيا.
مقدمة:
خرجت الإستراتيجية الرئيسية للمياه في إثيوبيا كإستراتيجية دفاعية وهجومية من رحم المناقشات الإثيوبية واسعة النطاق حول نهر النيل والبحر الأحمر، منذ صعود آبي أحمد إلى رئاسة الوزراء في أبريل 2018م، والذي يتبين دوران سياساته الخارجية في القرن الإفريقي وحوض النيل حول “حتمية” الوصول البحري بـ”الطرق السلمية” أو بـ”القوة إذا لزم الأمر”، مع ضرورة “الاستغلال” الأمثل لنهر النيل، وتبنّيه عقيدةً سياسيةً مركزيةً تقوم على أن البحر والنهر يُحدّدان مستقبل إثيوبيا “إما تطوُّرها أو زوالها”([2]).
وتأسيسًا على ما سبق، يتبين أن الإستراتيجية الإثيوبية الكبرى للجسمين المائيين تعكس أفكار آبي أحمد؛ وتشير في فصلها الأول إلى أنها جاءت بإدراك تعرُّض إثيوبيا لتهديدات وتحديات مستمرة من الخارج إلى الداخل، وأن المصالح الوطنية الأساسية تتسم دائمًا بالثبوت والاستمرارية، مما يتطلب وجود رؤية إستراتيجية تُمكّن من رد فعل مناسب ومنسّق ضد تلك التهديدات والتحديات.
ومع ذلك، لا تُعدّ الإستراتيجية وليدة اللحظة؛ إذ إن مساعي الوصول البحري واستغلال منابع النيل تعود إلى حِقَب تاريخية سابقة، وفي حين انخفضت أهمية مسألة الوصول البحري في سُلّم الأولويات الإثيوبية عقب انفصال إريتريا وتولي الجبهة الديمقراطية الثورية الشعبية السلطة -أوائل التسعينيات- ظلت التوترات قائمة حول مياه النيل بين إثيوبيا ومصر.
مُحدّدات الإستراتيجية الإثيوبية:
1- المُحدّد الجيوسياسي
يمثل البحر الأحمر إلى جانب حوض النيل لإثيوبيا مظهرين جغرافيين يحددان توازن القوة في المنطقة، ويربطان إثيوبيا مع الدول القريبة، ومن المنظور الجيوسياسي تُعدّ إثيوبيا دولة محورية، فهي تقع وتتمركز على مقربة من البحر الأحمر، ولها تاريخ يرتبط بموقعها الجغرافي، مع وجودها بالقرب من خط الاستواء، وبفضل الهضبة الإثيوبية تنبع أنهار تصبّ إلى دول الجوار، مع سهول شاسعة ممتدة قرب الحدود، وفي منطقة ذات شعوب متشابهة ومتداخلة.
ما سبق يمثل لإثيوبيا -وفق الإستراتيجية- آثارًا إيجابية وسلبية على سياستها الداخلية وعلاقاتها الخارجية، باعتبار أن أيّ قوة تفرض السيطرة على إثيوبيا يمكنها أن تحصل على مواردها وخيراتها، وبالعكس إذا وظَّفت إثيوبيا هذه الموارد والفرص واستفادت منها بالطرق المناسبة، تستطيع الخروج من الفقر وتتمكن من حفظ حقوقها على نهر النيل والبحر الأحمر، وعلى مكانتها وقدرة تأثيرها، كما يتيسر لها رفع مستوى الاستفادة من مواردها.
2- المحدد الاقتصادي
توضح وثيقة الإستراتيجية أن استقلال إريتريا عن إثيوبيا أفقدها حق الوصول البحري، ما ألحق بها ضررًا كبيرًا، وعلى الرغم من تحقيق بعض النمو الاقتصادي في السنوات الفائتة، لا يزال مستوى الفقر كبيرًا جدًّا في البلاد مع استمرار الزيادة السكانية؛ حيث تحتل المرتبة الأولى في تعداد سكان بلدان القرن الإفريقي.
إلى جانب ذلك، ترى إثيوبيا أن اختيار جيبوتي كمنفذ بحري في المقال الأول، قد مكَّنها من استفادة مبنية على حُسن نوايا جيبوتي، ومع ذلك فإن العلاقات التي تقيمها إثيوبيا مع جيرانها باتت تجبرها على أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح جيبوتي دائمًا.
كما أن الأضرار الاقتصادية تزداد سوءًا يومًا بعد يوم على إثيوبيا، وأرغمتها على أن تصرف من الموارد على خدمات ميناء جيبوتي ما كان يمكن أن تصرفه على التنمية، ما تسبَّب في ارتفاع أسعار السلع المستوردة والغلاء المعيشي، ومع نموّ الاقتصاد الإثيوبي وارتفاع حجم الصادرات والواردات؛ يُتوقع أن يزداد الضغط الاقتصادي بنفس الوتيرة.
3- المحدد الأمني والعسكري
ولفقدانها منفذًا بحريًّا، وبالتالي القوة البحرية، تعتقد إثيوبيا أن مرور معدات عسكرية وأجهزة مهمة لأمنها عبر دولة أخرى من المتوقع أن يشكل خطرًا أمنيًّا، بالإضافة إلى اقتصار الخيارات الأمنية في حماية السيادة الوطنية على القوات الأرضية والمشاة، كما أن قبول الانعزال عن منطقة البحر الأحمر التي تتصارع عليها القوى الكبرى يُعدّ خطرًا واستسلامًا للتهديدات والمخاوف.
وترى إثيوبيا أن أغلب الهجمات التي شكَّلت خطرًا وتهديدًا وجوديًّا عليها وعلى سيادتها جاءت لأسباب لها علاقة بالبحر الأحمر وحوض النيل، كما أن البحر الأحمر على وجه التحديد كان مدخلاً للغزاة الأجانب.
وتبين الوثيقة أن الحركات الانفصالية ظهرت بالتدرج –تاريخيًّا- في المقاطعات الساحلية، ابتداءً من القرون الوسطى والحروب الكبرى بين أباطرة السليمانية (في إثيوبيا) وسلطنات الممالك الإسلامية، وبين حكام مقاطعات السواحل البحرية والحكومة المركزية، وفي النصف الثاني من القرن العشرين بين جبهة تحرير إريتريا وبين حكومة الدرج العسكرية.
4- المحدد التاريخي
تشير الإستراتيجية إلى أن الحكومات الإثيوبية المتعاقبة خاضت مسيرة نضالية للحصول على منفذ بحري والوصول إلى ساحل البحر الأحمر، كان محورها ينطلق من موقف: “لإثيوبيا ملكية قديمة وإطلالة على البحر الأحمر، وهي صاحبة الحقوق الكاملة والحيازة التامة، وأن الحدود الطبيعية لإثيوبيا هي البحر الأحمر والمحيط الهندي”.
كما تعتقد أن المنفذ البحري يلعب دورًا فاصلاً لبزوغ الدولة وأُفولها، وكذلك نشوء الحضارة واستمراريتها ووجود الدولة وسيادتها وتحقيق استقلالها السياسي، واستشهدت بعدة محطات تاريخية، منها:
- سقوط ممالك أكسوم وزاغو والأباطرة السليمانيين في إثيوبيا بسبب فقدان ميزة الوصول البحري وإضعاف قواتهم البحرية.
- سيطرة مصر في عهد أسرة محمد علي (1805- 1952م) على مناطق البحر الأحمر، كان تهديدًا مباشرًا لإثيوبيًا وخطرًا على أمنها القومي.
- إثيوبيا لم تستطع توظيف انتصارها العسكري على إيطاليا في معركة عدوا 1896م في تحقيق انتصار سياسي؛ إذ حوَّلت اتفاقية أديس أبابا التي أبرمت بين البلدين -عقب المعركة- إثيوبيا إلى دولة حبيسة، بعد أن منحت إقليم بحر نجاش القديم (سمي بإريتريا الإيطالية) لإيطاليا، وبالتزامن رفضت بريطانيا منح إثيوبيا مينائي زيلع وتاجورا اللذين كانا يقعان تحت السيطرة المصرية.
- هيَّأت الأوضاع الدولية أثناء الحرب العالمية الثانية الظروف الملائمة للإمبراطور الإثيوبي هيلاسيلاسي لتوحيد إريتريا مع إثيوبيا، بعد قرار أممي عام 1944م، وبموجبه استعادت إثيوبيا منفذَي مصوع وعصب.
- بحكم الواقع بقيت إثيوبيا دولة حبيسة منذ التسعينيات، بعدما لم تدرج حكومة الجبهة الثورية الديمقراطية لشعوب إثيوبيا موضوع المنفذ البحري في اتفاقية استقلال إريتريا، وفي “خطأ تاريخي” كانت تعتبر الميناء سلعة تجارية وليس سيادة للدولة.
- لكون حوض النيل والبحر الأحمر مسرحًا للصراع الجيوسياسي بين مصر وإثيوبيا، ظلت مصر تدعم الحركات الانفصالية في إثيوبيا بغرض إضعاف وإبعاد إثيوبيا عن البحر الأحمر.
ترتبط المصالح والأهداف الإثيوبية في البحر الأحمر وحوض النيل بتحقيق هدف واضح قابل للتنفيذ، هذا الهدف في المرتبة الأولى مرتبط بكينونة وسيادة البلاد؛ إذ تُبين الإستراتيجية أن كيان الدولة دخل مرحلة الخطر؛ بسبب الجماعات المسلحة في الداخل والدعم الذي تتلقاه من الخارج.
ويأتي تحقيق النمو الاقتصادي في المرتبة الثانية من المصالح والأهداف التي تصبو إليها الإستراتيجية الإثيوبية، ويرتبط بالمصلحتين السابقتين مصلحة “الحصول على منفذ بحري”؛ إذ تحذر الوثيقة من أن عدم وجود منفذ بحري يعني عدم تحقيق الوجود الوطني أو تحقيق التنمية الاقتصادية، في حين يمثل لعب دور ملموس في سياسة القرن الإفريقي وإفريقيا عمومًا، مصلحة رابعة في الإستراتيجية.
ولتحقيق هذه المصالح والأهداف، تشير الإستراتيجية إلى ضرورة الأخذ بأربعة مبادئ ينبغي أن تقود عند رسم السياسات المتعلقة بالجسمين المائيين، وهي:
- الأولوية لمصلحة إثيوبيا في أيّ قرار يُتَّخذ سواء فيما يتعلق بحوض النيل أو المنفذ البحري.
- البراغماتية، أي التفكير المتحرّر من أيّ مذهب أخلاقي أو أيديولوجي، والبحث عن حلول تتناسب مع أزمات البلاد.
- استعراض جميع وسائل التنفيذ التي يمكن أن تساعد على تحقيق الهدف الرئيسي، واستخدامها حسب الحاجة.
- الشفافية في الأنشطة والتحركات حول ما يتعلق بالجسمين المائيين، مع توضيح المصلحة الوطنية بالتفصيل لدول الجوار الإثيوبي، حتى لا يؤدي ذلك إلى عداوة غير مقصودة، وعلى أن يتم تنفيذ الإستراتيجية بالحكمة والتأني.
وضعت الإستراتيجية الإثيوبية عددًا من الإستراتيجيات الفرعية والأدوات؛ لتحقيق أهداف ومصالح إثيوبيا في حوض النيل والبحر الأحمر.
أولاً: حوض النيل:
1- الاستفادة المستفيضة من الموارد المائية، من خلال:
- توسيع المعرفة التقنية في مجال استخدامات المياه.
- التنمية المشتركة للأحواض الإثيوبية عبر ربطها ببعض، بما في ذلك خطط تحويل مسار الحوض المائي، بما يمكن من بناء المدن وتنمية مناطق جديدة.
- الاستفادة القصوى من موارد المياه، كما حدث في إنتاج الطاقة الكهربائية.
- تحقيق التنمية المستدامة.
- المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي.
- الحصول على مهارة استخدام العلوم والتكنولوجيا وتبادل الخبرات.
- تقوية العلاقات مع مختلف الدول وتطويرها.
- تعرُّض إثيوبيا لضغوطات أمنية لأسباب تتعلق بمواردها المائية.
- تأتي هذه الضغوطات خاصة من الشمال الشرقي عبر البحر الأحمر، ومن الشمال الشرقي من دول حوض النيل.
- الدبلوماسية وحدها قد لا تكون حلاً لمواجهة أيّ تهديد يستهدف إثيوبيا، أو حين تستدعي الحاجة شنّ هجوم على عدو لها.
- يتوجب بناء جيش قوي متطور يتشكَّل من القوة الجوية والبحرية والبرية.
- فيما يتعلق بالقوة البحرية، إلى أن تحصل إثيوبيا على منفذ بحري، يمكنها بناء القوة في المياه الدولية، وهو ما تمَّ الشروع فيه.
- يمكن للقوة البحرية أن تمنع هجمات تستهدف إثيوبيا عن بُعْد وتُوفّر الحماية للسفن الإثيوبية.
5- تتبُّع الإستراتيجيات المصرية المتغيرة من وقتٍ لآخر، والاستعداد مسبقًا والرد عليها.
إذ تتهم الإستراتيجية الإثيوبية مصر بانتهاج سياسات تستهدف إثيوبيا؛ منها: أساليب الاعتداء المباشر وعبر دول الجوار، والاتفاقيات المقيَّدة، والإساءة لسمعتها في المحافل الدولية، والعمل على منع التمويل الدولي، وممارسة الضغط بواسطة دول عظمى، وتقديم المساعدات العسكرية والدعائية لقوى المعارضة، بهدف السيطرة على النيل.
6- مراعاة حسن الجوار وتحسين العلاقات مع دول الجوار
- الارتباط بدول الجوار وإحلال الأمن والاستقرار فيها والاستفادة منها.
- العمل على السماح لمواطني دول الجوار بالإقامة في إثيوبيا، وتمكينهم من المشاركة في الأعمال الصغيرة وحيازة الأراضي، وإتاحة الفرص ذاتها للإثيوبيين في دول الجوار.
- إهمال دول الجوار يمنح مصر فرصة كبيرة للاستفادة منهم ومناوئة إثيوبيا.
- التباعد الجغرافي بين مصر وإثيوبيا يمنع الأولى من الدخول في صدام عسكري مباشر مع إثيوبيا.
- تتحدد نتائج الصراع الجيوسياسي بين إثيوبيا ومصر بدول الجوار التي تُستخدم للعبور، وإذا استطاعت مصر السيطرة على هذه الدول يمكن أن تحصل على فرصة للسيطرة على إثيوبيا.
- أن يكون الاهتمام الأكبر في الصراع مع مصر يتمثل في ضم دول الجوار إلى جانب إثيوبيا، وحتى لو لم يكونوا في صف إثيوبيا يجب ألَّا يكونوا ممرًّا لمصر.
1- تعزيز القدرات الداخلية، بما في ذلك:
- تحقيق الاكتفاء الذاتي من الأغذية، وخلق اقتصاد نَامٍ.
- بناء مؤسسات قوية، وجيش قوي يمتلك قدرات دفاعية عالية.
- نشر روح الوحدة والتضامن، وتهيئة الظروف لحل الخلافات السياسية عبر الانتخابات.
- إيجاد حلول سريعة للمشكلات الأمنية، وتقويض قدرات الجماعات التي تمكَّنت من بناء قوة عسكرية.
وهذه المنافذ توجد حاليًا –وفق الوثيقة الإثيوبية- في إريتريا وجيبوتي وأرض الصومال والصومال، مع ضرورة البحث عن طرق كفيلة لتمكين إثيوبيا من استخدام هذه الموانئ استخدامًا مضمونًا، وأن تكون مالكة لها بصورة أو بأخرى، ومن بين الأدوات التي وضعتها الوثيقة لتحقيق هذا الغرض:
- بناء بنى تحتية في هذه الموانئ على مستوى البنية التحتية التي تم تشييدها في ميناء جيبوتي، وتنميتها.
- توفير التمويل الدولي لسدّ الخلل، وتحفيز التنافس عليه.
- التفاوض في الاتفاقيات التي تُبْرَم عند شروع موانئ جديدة بصورة تحافظ على مصالح إثيوبيا، وأن يتم التوصل إلى اتفاق مسبق يسمح بدخول وخروج البضائع الإستراتيجية الإثيوبية -على الأقل- دون تفتيش أو عرقلة أو تأخير.
- الحيطة والتتبُّع ثم التحرك اللازم، كي لا تقوم إريتريا وجيبوتي وأرض الصومال والصومال مجتمعةً في تحالف، أو التعاون مع الطرف الثالث بغرض ممارسة ضغط جماعي ومنظَّم على إثيوبيا، خاصةً إذا طرأ وضع يمكن أن ترى فيه الدول الثلاث إثيوبيا كتهديد لها، مع عدم استبعاد تحالفهم معًا ضدّها.
- العمل على إدخال موانئ القرن الإفريقي في سوق تنافسي يقدم لإثيوبيا خدمات مضمونة ومتواصلة.
- في ضوء الخلاف القائم بين أرض الصومال والصومال، يمكن التحدُّث مع الجانبين معًا أو مع كلٍّ على حدة حسب الحاجة الإثيوبية، ومع تناقض المصالح بين الطرفين من الممكن التطلع إلى ميناء زيلع في أرض الصومال.
- الاستفادة من الفرص الموجودة مِن قِبَل إريتريا، مع الأخذ في الحسبان سلوك الحكومة الإريترية.
- تشجيع الشباب على الالتحاق بالتدريبات المهنية في هذا المجال، وتوظيفهم بعد تخرجهم في مختلف الدول للعمل على السفن التجارية والحربية.
- تهيئة الظروف لكي يُؤسِّس عدد كبير من الإثيوبيين حياتهم حول المناطق التي تضم الموانئ البحرية (في القرن الإفريقي)، وأن يمتلكوا فيها الثروة.
- بناء قدرات بحرية متطورة، وتوسيع المعاهد التعليمية والتدريبية للبحار.
- تنمية ثقافة ومهنة البحارة يخلق مجتمعًا يدرك أهمية الوصول البحري، ويُمهّد الطريق لحراك سياسي شعبي يكافح لتحقيق الغرض.
- تبادل الأراضي، باعتباره واحدًا من خيارات التفاوض للحصول على منفذ بحري.
- السيادة المشتركة، سواء عبر إدارة المنفذ البحري أو منطقته، من خلال مبدأ الأخذ والعطاء.
- إقامة منطقة تجارية حرة، بالتشاور مع إريتريا وجيبوتي وأرض الصومال والصومال.
- من الممكن، انطلاقًا من الآلية الإطارية للتعاون الإقليمي للاتحاد الإفريقي أخذ المبادرة لإيجاد مناطق تجارية حرة مع جميع دول الجوار.
- تحويل إثيوبيا إلى مركز الثقل والجاذبية في المنطقة لمواطني دول الجوار.
- العمل على رفع منظمة “إيغاد” إلى مستوى اتحاد إقليمي قوي متعدّد الأبعاد.
- بناء اتحاد يتمركز حول إثيوبيا وتستفيد منه دول وشعوب المنطقة، ثم يتطور إلى مستوى الكونفدرالية بالتدرج، وبالإضافة إلى الارتباط الاقتصادي ينفذ السياسة الخارجية والأمنية المشتركة، على غرار نشأة الاتحاد الأوروبي.
- دور إثيوبيا القيادي في الاتحاد الإفريقي، يُمكّنها من رفع مستوى تأثيرها وسمعتها الدولية، بما يُسهم في تحقيق مطالبها الأساسية، خاصةً الحصول على منفذ بحري.
- تجنُّب الوقوف بجانب معسكر دولي ضد آخر، واتباع منهج براغماتي يمنح إثيوبيا صداقة وثيقة مع كل القوى الكبرى.
وتبين الوثيقة أن استخدام هذا النوع من الإستراتيجيات يتطلب أوقاتًا وحالات ملائمة، بما في ذلك تقوية القدرات الوطنية في المجالات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية.
وقد كان لافتًا أن الإستراتيجية الإثيوبية استشهدت في آخر فقراتها بأن “الإجراءات التي أدَّت إلى أن تصبح كوسوفا دولة مستقلة، واحتلال إسرائيل لهضبة الجولان السورية لأكثر من نصف قرن بالقوة، وتجربة احتلال روسيا لشبه جزيرة القرم، تُؤشِّر إلى حقيقة لها دلالاتها في القانون الدولي والعلاقات الدولية”.
موقع مصر من الإستراتيجية الإثيوبية:
ترى إثيوبيا أن لُبّ الخلاف في حوض النيل، هو إثارة مصر والسودان واقتباسهما الاتفاقيات الموقَّعة في عهد الاستعمار للاستدلال على “ما يزعمان” حقوقهما التاريخية والمكتسبة، وفي هذا الصدد تشدد الوثيقة على رفضها “الامتثال” لقانونية هذه الاتفاقيات، باعتبارها “استعمارية” و”بين أطراف غير متكافئة”، وتتهما بأنها “تهمل مصالح” إثيوبيا، وعلى رأسها اتفاقيات 1902 و1929 و1959م، وتحديدًا في البنود المتعلقة بـالحقوق “التاريخية لمصر والسودان في مياه النيل، و”الإخطار المسبق” قبل إنشاء مشروعات مائية على نهر النيل.
وانطلاقًا من هذا الرفض، تشير وثيقة الإستراتيجية الإثيوبية إلى ضرورة اعتماد اتفاقية “الإطار التعاوني لحوض نهر النيل”، المعروفة باتفاقية عنتيبي([3])، مع ضرورة البحث عن الخيارات والوسائل الممكنة لكي تتم المصادقة على الاتفاقية مِن قِبَل دول الحوض لأجل إدخالها إلى حيِّز التنفيذ، بما يحقّق فوائد مستدامة أكثر من مجرد اتفاقية ثنائية أو ثلاثية.
وفي حين تشير الإستراتيجية الإثيوبية إلى أن سد النهضة غيَّر جذريًّا المقولات السائدة حول النيل، ودحض “المزاعم القديمة” المصرية والسودانية حوله؛ اعتبرت توقيع إعلان المبادئ عام 2015م بين مصر وإثيوبيا والسودان يعد “قبولاً مبدئيًّا لأول مرة مِن قِبَل مصر والسودان بسد النهضة، اعترَفا فيه بأن نهر النيل أساس الحياة وأهم مورد للتنمية للدول الثلاث”.
ومع ذلك، تَعتبر الإستراتيجية استدلال مصر والسودان بإعلان المبادئ في احتجاجاتهما على سد النهضة “ليس له أثر قانوني ملزم”؛ لكونه “لا يتطرَّق للتفاصيل والجزئيات، ولم يكن هذا هدفه، بل العمل معًا بالنوايا الحسنة والمنفعة المشتركة واحترام القانون الدولي”.
كما تطرَّقت الإستراتيجية إلى معاهدة الأمم المتحدة للمجاري المائية (تم الموافقة عليها عام 1997م، ودخلت حيز التنفيذ 2014م)، مشيرة إلى أن عدم الانضمام إليها “قرار صائب”، لأسباب منها فقدان الثقة بين دول حوض النيل، واشتمال الاتفاقية على بنود تفتقد الوضوح، وتبدو أنها تنحاز لدول المصب، بما في ذلك التفاصيل الواردة بخصوص إبلاغ دول الحوض قِبَل استخدام الموارد المائية.
خاتمة:
يمكن القول: إن الإستراتيجية الإثيوبية للجسمين المائيين، محاولة لصبغ طموحات آبي أحمد “التوسعية” في المنطقة بصبغة مؤسسية، تتعارض مع سيادة دول الجوار وحوض النيل، بما قد يدفع المنطقة إلى مزيد من التوترات والصراعات التي بدأت تتزايد مؤخرًا، وتأخذ زخمًا دبلوماسيًّا وعسكريًّا غير مسبوق.
كما تحمل الإستراتيجية الكثير من التناقضات الإثيوبية في مسألة الاعتراف بقواعد القانون والاتفاقيات الدولية المرتبطة بحوض النيل أو الوصول البحري للدول الحبيسة، وتُعبِّر عن “انحراف” إثيوبي عن الاتفاقيات الدولية التي سبق أن أقرت فيها بالتخلي عن مطالبها في المنافذ البحرية التي كانت تحت سيادتها في مراحل تاريخية معينة، مستعينة بما جاء في الإستراتيجية: “الطبيعة المطاطية للقانون الدولي”.
وعطفًا على ما سبق، فإن استدعاء الإستراتيجية الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان السورية والاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم يُعبِّر عن “خلل” إستراتيجي” إثيوبي، في ضوء عدم إدراك موازين القوى الدولية والإقليمية، إضافةً إلى “هشاشة” الدولة الإثيوبية، على خلاف الوضع بالنسبة إلى روسيا وإسرائيل بما لديهما من اقتصاد ونفوذ وقدرات عسكرية كبيرة ومتقدمة.
كما أن طرح الإستراتيجية فكرة رفع مستوى الارتباط الإقليمي إلى اتحاد كونفدرالي في القرن الإفريقي يفتقد إلى الواقعية، في ضوء تجاوزه أزمات الاندماج الوطني المحلية، والخلافات المتأصلة بين بلدان الإقليم.
وفي ضوء ما تحمله الإستراتيجية الإثيوبية من “عدائيات” مباشرة تجاه سيادة دول الجوار وحوض النيل، فإنه من غير المستبعَد أن تضع حججًا قوية بيد أعداء محتملين متفرقي الأهداف والغايات للتحالف ضد إثيوبيا، بما في ذلك مصر، التي نالت قسطًا كبيرًا من الفكر الإستراتيجي الإثيوبي، باعتبارها صاحبة مصلحة في نهر النيل من جهة، ومن جهة أخرى اعتبار القاهرة وجود قوة إثيوبية بحرية على ساحل البحر الأحمر يمثل تهديدًا لمصالحها الوطنية، وهو ما يمكن إثباته في ضوء التحركات المصرية الأخيرة تجاه الصومال ودعمه ضد إثيوبيا مؤخرًا.
………………………………………………..
[1]– معهد الشؤون الخارجية الإثيوبي (مجموعة باحثين)، محمد جمال مختار (مترجم)، “الإستراتيجية الرئيسية للجسمين المائيين… حوض النيل والبحر الأحمر”، (أديس أبابا: ترجمة غير رسمية، د ن، مايو 2024م).
[2]– ربيع محمد محمود، “مركزية عقيدة آبي أحمد السياسية في قضية المنافذ البحرية”، مركز الجزيرة للدراسات، 20 أغسطس 2024م، متاح على الرابط التالي: http://studies.aljazeera.net/ar/article/6001
[3]– أبرمت اتفاقية عنتيبي عام 2010م، وتفرض إطارًا قانونيًّا لحل الخلافات والنزاعات، وتُنهي الحصص التاريخية لمصر والسودان وتفرض إعادة تقسيم المياه، وتسمح لدول المنبع بإنشاء مشروعات مائية بدون التوافق مع دول المصب، وهو ما ترفضه القاهرة والخرطوم، وفي يوليو 2024م صدَّقت جمهورية جنوب السودان على الاتفاقية، وبذلك يكتمل النصاب القانوني لتأسيسها.