جوزيف ستالين
في القرن الماضي، اتجه القائد السوفيتي جوزيف ستالين لإحياء مشروع تاريخي ألهم العديد من القياصرة الروس طيلة القرون السابقة.
ووفق عدد من المؤرخين، أبدى العديد من القادة الروس التاريخيين، وعلى رأسهم القيصر بطرس الأكبر، رغبتهم في إنشاء قناة بحرية تربط البحر الأبيض ببحر البلطيق. وخلال القرن التاسع عشر، طُرح مشروع هذه القناة، وعن إمكانية مرورها عبر بحيرة أونيغا، أكثر من مرة دون أن ينجز. وعام 1909 أعادت الجمعية التقنية الروسية طرح فكرة مشروع القناة البحرية كما أبدت البحرية الروسية عقب اندلاع الحرب العالمية الأولى رغبتها في البدء بهذا المشروع متحدثة عن الدور الاستراتيجي للقناة بالمنطقة.
صورة دعائية لستالين وهو يقود دفة الاتحاد السوفيتي
ستالين والقناة
مطلع ثلاثينيات القرن الماضي، عاد مشروع القناة التي تربط البحر الأبيض بالبلطيق للظهور مجدداً، حيث تحدّث أعضاء الحزب الشيوعي عن إمكانية تحوله لشريان اقتصادي هام للبلاد مع تركيز محطات توليد كهرباء وسكك حديدية لنقل السلع، خاصة الخشب، والمواد الأولية والمنتوجات الصناعية بالقرب منها.وبحسب المختصين السوفيت، كان من المقرر أن يبلغ عمق مياه هذه القناة البحرية حوالي 5.5 متراً لتسهيل عملية تنقل السفن التجارية الكبيرة والسفن الحربية. وقدّر البعض التكلفة الإجمالية المحتملة لهذا المشروع العملاق بنحو 350 مليون روبل.
خريطة لقناة ستالين
إلى ذلك، راق هذا المشروع لستالين. فلأغراض دعائية، سعى لإنجاز القناة البحرية وحاول إبراز مكانة الاتحاد السوفيتي بالعالم وقدرته على إنجاز مشاريع عملاقة ومقارعة القوى العظمى كفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأميركية.
من جهة أخرى، عاش الاتحاد السوفيتي مطلع الثلاثينيات على وقع برنامج الخمس سنوات الذي وضعه ستالين منذ عام 1928 لزيادة الإنتاج وتحويل البلاد لقوة صناعية. وأملاً في إنهاء هذا البرنامج بمشروع عملاق يعزز مكانة التجربة السوفيتية بالعالم، طالب ستالين بالتعجيل في إنشاء القناة البحرية.
125 ألف معتقل
لإنجاز هذا المشروع، استقطب الاتحاد السوفيتي أكثر من 125 ألفا من المعتقلين المتواجدين بمراكز العمل القسري المعروفة بالغولاغ. إلى ذلك، كان جل هؤلاء المعتقلين من المهندسين والأساتذة والأطباء ورجال الدين والفلاحين الذين رفضوا الانصهار بالمجتمع السوفيتي.وبسبب بعض الشكوك التي حامت حولهم بسبب توجهاتهم الفكرية وآرائهم، اعتقل هؤلاء الأشخاص من قبل رجال مفوضية الشعب للشؤون الداخلية، فنقلوا نحو مراكز العمل القسري بمناطق نائية وأجبروا على العمل في ظروف قاسية لسنوات عدة.
صورة لعدد من المعتقلين بالغولاغ السوفيتي
40 درجة تحت الصفر
انطلقت أشغال بناء القناة البحرية عام 1931. وأثناء فترة العمل، أجبر المعتقلون على إنجاز المشروع بشكل يدوي عقب حصولهم على أدوات بسيطة كالمعاول وعربات النقل الصغيرة.إلى ذلك عانى هؤلاء من ويلات البرد والجوع فاضطروا أثناء فترة الشتاء لتحمل درجات حرارة نزلت أحياناً لنحو 40 درجة تحت الصفر. كما حصلوا في الغالب على وجبات غذاء هزيلة جعلت كثيراً منهم عرضة لمرض البيريبيري (beriberi) أثناء فترة الربيع. وواجه المعتقلون العديد من حوادث العمل كالانهيارات والانزلاقات، ما أدى لدفن كثير منهم تحت أنقاض القناة.
دعاية ومشروع فاشل
افتتحت القناة التي ربطت بين البحر الأبيض والبلطيق يوم 2 آب/أغسطس 1933. وقد حضر ستالين عملية تدشين هذه القناة التي حملت اسمه ولقبت بقناة ستالين. ووفق ما روجت له آلة الدعاية السوفيتية، أُنجزت هذه القناة في وقت قياسي بلغ 20 شهراً فقط متفوقة بذلك على الرقم الذي سجلته قناة بنما في وقت سابق. كما تحدث المسؤولون السوفيت عن إنجاز تاريخي وصفوه بأحد أعظم مشاريع القرن.صورة دعائية سوفيتية
غير أنه في حقيقة الأمر، جاءت النتائج مخيبة للآمال. فأملاً في إنجاز القناة على جناح السرعة واحترام المدة الزمنية المحددة من قبل ستالين، لم تكن هذه القناة التي امتدت لأكثر من 200 كلم عميقة بما فيه الكفاية، حيث قدّر عمقها بنحو 3.5 أمتار فقط. وبسبب ذلك لم تتمكن أغلب السفن من المرور بها واقتصر دورها على بعض السفن الصغيرة والمتوسطة الحجم. إلى ذلك كان من الصعب استخدام هذه القناة طيلة أشهر عدة من السنة بسبب تجمد مياهها واستحالة التنقل بأجزاء منها.
وقد أدت هذه الإشكالية للحد من الدور الاقتصادي لقناة ستالين التي أنجزت أساساً على جثث المعتقلين. فأثناء فترة العمل التي استمرت 20 شهراً، توفي ما لا يقل عن 30 ألف معتقل حيث فارق هؤلاء الحياة إما بسبب البرد أو الجوع أو المرض.