رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه
الدكتور محيي الدين عميمور
مُخْلِصٌ؛
خدم الله والوطن.
الجزء الثاني عشر
مناضل في سبيل القضية الصحراوية
إهداء : لرجال المخابرات الجزائرية منذ ثورة التحرير المجيدة، حتى يوم الناس هذا، لرجال الظل الذين دافعوا عن الجزائر في أصعب الأوقات، لكل رجل من رجال المخابرات الذين دفعوا حياتهم من أجل الحصول على معلومة واحدة فقط تفيد في حماية البلاد من أعداء الداخل و الخارج، لرجال المخابرات الجزائرية الذي حاول و لا يزال يحاول المغرضون تشويه صورتهم، و يحاولون سُدًا تحميلهم من الجرائم ما لم يرتكبوه، لرجال المخابرات الذين يحاربون في صمت و يحققون انتصارات لا يسمع بها أحد، لكم جميعا من أكبر ضابط لأصغر مجند أهدي هذا الجزء، راجيا أن يرفع ولو جزء بسيط جدا مما حققه صقور المخابرات في صمت.
عاشت الجزائر، و عاشت مخابراتها، و عاش جيشها، و لا قرت أعين الخونة و الأعداء.
_____________________________________________________________
مرباح، عميمور، و زغار يكفني هؤلاء الثلاثة لأكسب الرهان
الرئيس هواري بومدين لمحمد أمير عام 1975.
كانت الساعة قد قاربت منتصف النهار، صبيحة يوم 05 نوفمبر 1975، حين دخل عبد المجيد علاهم مدير التشريفات برئاسة مجلس الوزراء، لمكتب الرئيس بومدين، كي يبلغه أن المدير المركزي للأمن العسكري الرائد قاصدي مرباح، يستأذن لمقابله، و كانت العادة بين الرئيس بومدين و مدير أمنه العسكري، أن لا يتصل به هذا الأخير إلا للضرورة القصوى، أو حين يستدعيه الرئيس بومدين بنفسه، و حتى تغطى زيارات الرائد قاصدي مرباح للرئيس بومدين، و لا تثير أي انتباه، كان لقاصدي مرباح مكتب خاص، في رئاسة مجلس الوزراء (رئاسة الجمهورية حاليا)، يستعمله بين الفنية و الأخرى، ليكون قرب الرئيس بومدين و رهن إشارته، خصوصا عند الأزمات الكبرى، بحيث يكون الاتصال بينهما مباشرا و فوري.
خلال لقائهما، أبلغ الرائد مرباح الرئيس بومدين، أن مصالحه قد تمكنت من الوصول لمعلومات مؤكدة، مفادها أن ولي العهد الإسباني، قد أوفد أحد أقرب مقربيه لمقابلة وزير الخارجية الأمريكي، و أن اللقاء قد تم فعلا يومي 03 و 04 نوفمبر، و الأمر يتعلق بدون أدنى شك، بمسألة انتقال السلطة في إسبانيا، و أيضا بالصحراء الإسبانية (1)، و بما أن قاصدي مرباح لم يكن له أي سلطة على مسعود زغار، طلب من الرئيس بومدين الإذن في الاتصال بزغار، للتأكد من صحة المعلومات، و الحصول على مزيد من التفاصيل عن هذه القضية، التي أن صحت تحاليل مصالح الأمن العسكري، فهي مؤامرة مكتملة الأركان تحاك في الخفاء ضد الجزائر.
بعد مغادرة قاصدي مرباح لمكتب الرئيس بومدين، طلب هذا الأخير من عبد المجيد علاهم، أن يتصل عن طريق القنوات المعتادة بمسعود زغار، و يكلفه بتحري قضية المبعوث الإسباني الموفد سرا للولايات المتحدة، و أن يوافيه بالرد في أقرب وقت ممكن، كما طلب من علاهم الاتصال بوزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة الذي كان في مهمة خارج البلاد، يؤمره فيها العودة فورا للجزائر، دون تحديد سبب الاستدعاء، و هذه كانت إشارة سرية بين بومدين و بوتفليقة، ليفهم وزير الخارجية أن القضية مستعجلة جدا.
بعد بضعة أيام من ذلك التاريخ، وصل مسعود زغار لمطار الدار البيضاء، قادما من العاصمة الاسبانية مدريد، التي قضى فيها 48 ساعة، بحجة القيام بعملية مراقبة عادية لبعض ممتلكاته فيها، ثم توجه للجزائر العاصمة أين وجد في انتظاره الرائد قاصدي مرباح، الذي اصطحبه مباشرة لمقر رئاسة مجلس الوزراء، أين كان الرئيس بومدين في انتظاره على أحر من الجمر.
عند وصول مسعود زغار، لمقر رئاسة مجلس الوزراء، وجد في انتظاره زيادة على الرئيس بومدين، كل من وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة، و الدكتور محمد أمير الأمين العام لرئاسة مجلس الوزراء، بينما وصل المدير المركزي للأمن العسكري الرائد قاصدي مرباح، رفقة زغار لينضموا لمن كان في انتظارهما، قصد استبيان تفاصيل الزيارة السرية التي قام بها موفد ولي العهد الإسباني الأمير خوان كارلوس، الذي تولى إدارة شؤون اسبانيا، بعد أن دخل الدكتاتور فرانشيسكو فرانكو في غيبوبة للمرة الثانية على التوالي (2).
بعد تبادل جمل الترحيب و السلام على بعضهم، قدم مسعود زغار تقريرا شفهيا جاء فيه، أنه بتاريخ 21 آوت 1975، صدر عن كتابة الدولة الأمريكية للشؤون الخارجية، تعليمة موجه لوكالة الاستخبارات المركزية، قصد الشروع في تنفيذ مخطط استراتيجي سري للغاية، ممول من طرف دولة خليجية، هدفه منع الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء و وادي الذهب، بأي طريقة كانت من الحصول على استقلال الصحراء الغربية، و السبب أن جبهة البوليساريو قوة اشتراكية تابعة للمعسكر الشرقي، و لا يمكن بأي حال من الأحوال للولايات المتحدة الأمريكية، السماح للاتحاد السوفيتي أن يضع قدميه، على أرض غاية في الأهمية و غنية بالفوسفات و الغاز و البترول، و بما أن مملكة إسبانيا تعيش حالة من لا استقرار، تجعلها غير قادرة على المحافظة على مستعمرتها، فمن الأجدر تسليم هذا الإقليم، لأحد أصدقاء الولايات المتحدة، الذي يمكن الاعتماد عليه، في إبقاء هذه المنطقة خارج نطاق النفوذ السوفيتي، و قد وقع الاختيار على الملك الحسن الثاني لسببين رئيسيين هما :
أولا: أن الحسن الثاني لديه أطماع توسعية في المنطقة، و قد تجلى ذلك، من خلال رفع دعوة، لدى محكمة العدل الدولية، بتاريخ 27 سبتمبر 1974، لإبداء الرأي في مغربية الصحراء.
ثانيا: أن الملك الحسن الثاني، شخصية سياسية، قريبة جدا من المعسكر الغربي، و هو في أمس الحاجة لدعم أمريكي و غربي بصفة عامة، لبسط نفوذه على الصحراء الغربية، و بالتالي سيكون من السهل منحه الصحراء مقابل التزامه بتسخير مواردها، و موقعها لخدمة المعسكر الغربي.
كما أشار مسعود زغار أنه بتاريخ 03 نوفمبر 1975، وصل للعاصمة الأمريكية واشنطن موفد من ولي العهد الإسباني خوان كارلوس، الذي التقى في نفس اليوم وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر، ثم التقيا للمرة الثانية في اليوم الموالي 04 نوفمبر 1975، و جرت الجلستان بحضور نائب كاتب الدولة للشؤون الخارجية المكلف بأوروبا و آسيا آرثر هيرتمان(راجع الصورة المرفقة رقم 01)، أما موفد الأمير خوان كارلوس لم يكن سوى صديقه الوفي و المخلص رجل الأعمال إمانيال بارادو كولون كارفجال(راجع الصورة المرفقة رقم 02)، و كان الأمير خوان كارلوس يكلف هذا الرجل تحديدا بكل اتصالاته السرية، من باب الصداقة التي تربط الرجلين، و الثقة العمياء التي يحضا بها إمانيال بارادو لدى الأمير خوان كارلوس، و قد أبلغ إمانيال بارادو وزير خارجية أمريكا، مخاوف الأمير خوان من مغبة قيام حرب بين إسبانيا و المغرب، مما قد يؤثر سلبا على توليه السلطة، بعد وفاة الجنرال فرانكو الذي يعاني المرض، و هو في غيبوبة للمرة الثانية على التوالي، و أبلغ الموفد الإسباني مضيفه هنري كيسنجر أن هناك شبه اتفاق بين الأمير خوان كارلوس و الملك المغربي الحسن الثاني، على تسليم الصحراء الغربية للمغرب و موريتانيا، مقابل الإبقاء على للامتيازات الإسبانية في المنطقة كما هي، إلا أن هذا الاتفاق لا يمكن أن يجسد على أرض الواقع بدون رعاية أمريكية، فالجيش الإسباني لن يقبل بمغادرة الصحراء الغربية إثر هزيمة عسكرية، و أن أي تدخل عسكري مغربي في الصحراء سيواجهه الجيش الإسباني بعنف، مما يعني أن المنطقة كلها ستنفجر إذا نفذ الملك الحسن الثاني تهديداته باجتياح الصحراء الغربية، و الحل الوحيد الذي يحفظ للجيش الإسباني ماء وجهه هو أن يجتاح الصحراء مواطنين مغاربة مدنيين و عزل لا يحملون معهم أي نوع من الأسلحة، على أن يتوقف زحفهم عند بلوغ مراكز تواجد الجيش الإسباني، الذي لن يفتح النار عليهم، و يتم حل المسألة بعد ذلك، عن طريق اتفاق تتنازل فيه إسبانيا عن الصحراء الغربية، لكل من المغرب و موريتانيا (3).
أزال تقرير مسعود زغار كل الشكوك أمام الرئيس بومدين، الذي لم يبقى له أدنى شك في صحة المعلومات المتوفرة لدى مصالح الأمن العسكري الجزائرية، فالجزائر أصبحت مستهدفه، و هناك فعلا مخطط سري لضرب الجزائر و استنزاف قدراتها، من خلال جرها لحرب طاحنة، مع المملكة المغربية و موريتانيا، فالجزائر إذا لن تواجه المغرب و موريتانيا، بل ستواجه من خلفهما، كل من إسرائيل و أمريكا و فرنسا، مما يجعل القضية صعبة و خطيرة جدا.
طلب الرئيس بومدين من بوتفليقة تقديم رأيه في الموضوع، فالقضية و إن كانت عسكرية و إستخباراتية، فهي تقع ضمن مجال اخصاص الخارجية الجزائرية، فكان رأي عبد العزيز بوتفليقة أن على الجزائر التعامل بحذر شديد مع المعطيات المتوفرة أمامها، و بما أن المغرب يسعى سرا لتشكيل تحالف ضد الجزائر، مع العم أن ذلك عمل مخالف تماما لنص المادة الخامسة من معاهدة الأخوة و حسن الجوار و التعاون الموقعة بين البلدين بتاريخ 15 يناير 1969 (راجع النسخة المرفقة صورة رقم 03)، فعلى الجزائر أن تعامل بالمثل، و أن توسع هي أيضا قائمة حلفائها، و بالتالي يجب اتخاذ موقف واضح و فاصل فيما يخص، الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء و وادي الذهب، بحيث تمنحها الجزائر كل الاهتمام، و علينا أن نمدها بما يلزم لتقوية صفوفها، كما يجب بسط ستار الرعاية عليها، قصد تحريرها من وصاية العقيد معمر القذافي، فالصحراء الغربية، أرض مجاورة للجزائر، و أي شيء يحدث فيها سيؤثر على الجزائر بطريقة مباشرة، كما أن العقيد معمر القذافي المعروف بعملياته الغير محسوبة العواقب، يمكنه أن ينشئ قوة من المرتزقة الأفارقة، و يزج بهم في المنطقة تحت غطاء جبهة البوليساريو، مما قد يتسبب في خلل داخل هذا التنظيم، الذي يسعى لتحرير أرضه و إنشاء دولة مستقلة خاصة به، فبقاء جبهة البوليساريو مكونة من أبناء الشعب الصحراوي فقط، هو الضامن الوحيد لبقاء الجبهة مستقلة في قراراتها، و أبنائها فقط سيتولون شؤون بلادهم عند تحريرها (4).
جاء تعليق الرائد قاصدي مرباح، موافقا و متمما لما قاله وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة، و أضاف أن العقيد الليبي قد ارتكب خطأ جسيم في حق الجزائر، حين قام باستعمال الأراضي الجزائرية، لتهريب أسلحة كانت ستستعمل في الإطاحة بالملك الحسن الثاني عام 1973، و أن العلاقات بين الجزائر و المغرب ساءت كثيرا بسبب، تصرفات العقيد القذافي الطائشة، التي يفعلها من وراء ظهورنا، و دون استشارتنا المسبقة، بينما نتحمل نحن عواقبها الوخيمة (5).
عند اختتام الجلسة، قال الرئيس بومدين، إذا كنا متجهين مباشرة نحو حرب مع المغرب، فعلي أن أجمع مجلس الثورة لأناقش هذه القضية مع أعضاءه، و في انتظار ذلك، سيتولى الرائد قاصدي مرباح مهمة ربط الاتصال بقيادات جبهة البوليساريو، بينما سأتفق لاحقا مع بوتفليقة على خطة عمل ننتهجها على الصعيد الخارجي، لإعانة الشعب الصحراوي على استعادة استقلاله، يبقى الجانب الإعلامي سأكلف به الدكتور عميمور، و قد كان قرار تكليف الدكتور عميمور بضبط الجوانب الإعلامية، من باب أنه المستشار الإعلامي للرئيس، فهو إذا أقرب للرئيس و يستطيع الدخول عليه بدون أي بروتوكول، و متى قدر أن الأمر يتطلب إعلام الرئيس بأي طارئ يرد للرئاسة، بينما باقي المسئولين خارج الرئاسة، ملزمون بتقديم طلب لمقابلة الرئيس و المرور بالأمانة العامة أو مدير التشريفات، مما قد يسبب تأخر في معالجة القضايا، و هذا بالتحديد ما أراد الرئيس بومدين تجنبه، زيادة في ثقته الراسخة في قدرات مستشاره الإعلامي، على الوصول لكل شاردة و واردة تخص القضية الصحراوية (6).
عندما غادر الجميع مكتب الرئيس و لم يبقى فيه إلا بومدين و الدكتور محمد أمير، قال بومدين : يضن الحسن الثاني أن موقفي ضعيف جدا، لكنه يجهل تماما أن لي ثلاث رجال، مرباح، عميمور، و زغار، يكفني هؤلاء الثلاثة لأكسب الرهان (7).
يتبع
الهوامش :
(01) تؤكد صحة هذه المعلومات مذكرتان سريتان موجهتان للرئيس الأمريكي، صادرتان عن كاتب الدولة الأمريكي للشؤون الخارجية، تحتوي على مباحثات أجراها هنري كيسنجر بتاريخ 03 و 04 نوفمبر 1975، مع موفد ولي عهد مملكة إسبانيا الأمير خوان كارلوس (الوثيقة الأولى متكونة من 14 صفحة) و (الوثيقة الثانية متكونة من 06 صفحات)، المصدر سجلات وزير الخارجية هنري كيسنجر الأرشيف الوطني الأمريكي وثيقة رقم 5403، الصف 23، مذكرات الخارجية، تصنيف سري. (وثيقة ملحقة رقم 01 و 02).
(02) دخل الدكتاتور الإسباني فرنشيسكو فرانكو في غيبوبة للمرة الثانية بتاريخ 30 أكتوبر 1975، بينما تولى ولي عهد مملكة إسبانيا الأمير خوان كارلوس رئاسة الدولة بالنيابة، وفقا للترتيبات المحددة في الدستور الإسباني، و من نفس اليوم الذي تولى فيه رئاسة الدولة، بدأ يتحرك ليستلم السلطة فور وفاة فرانكو بصفته ملكا دستوريا لإسبانيا. المصدر المذكرة التحليلية للوكالة المركزية للاستخبارات الأمريكية بتاريخ 15 مايو 1975، المتعلقة بمشاكل الخلافة و انتقال السلطة في إسبانيا (وثيقة ملحقة رقم 03).
(03) راجع التقرير السري الصادر عن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بتاريخ 06 نوفمبر 1975 الذي يتحدث عن اتفاق مسبق بين الملك الحسن الثاني و خوان كارلوس ولي عهد مملكة إسبانيا، تمنح من خلاله اسبانيا مستعمرتها القديمة الصحراء الغربية للمملكة المغربية (وثيقة ملحقة رقم 04).
(04) مصدر خاص.
(05) مصدر خاص.
(06) مصدر خاص.
(07) مصدر خاص.
الصور المرفقة :
01- صورة آرثر هيرتمان نائب كاتب الدولة الأمريكي المكلف بأوروبا و آسيا.
02- صورة الملك خوان كارلوس الأول رفقة صديقه رجل الأعمال إمانيال بارادو كولون كارفجال.
03- صورة للصفحة الأولى و الثانية من معاهدة الأخوة و حسن الجوار و التعاون الجزائرية المغربية الموقعة بتاريخ 15 يناير 1969.
04- صورة للدكتور محيي الدين عميمور مع مسعود زغار.
الدكتور محيي الدين عميمور
مُخْلِصٌ؛
خدم الله والوطن.
الجزء الثاني عشر
مناضل في سبيل القضية الصحراوية
إهداء : لرجال المخابرات الجزائرية منذ ثورة التحرير المجيدة، حتى يوم الناس هذا، لرجال الظل الذين دافعوا عن الجزائر في أصعب الأوقات، لكل رجل من رجال المخابرات الذين دفعوا حياتهم من أجل الحصول على معلومة واحدة فقط تفيد في حماية البلاد من أعداء الداخل و الخارج، لرجال المخابرات الجزائرية الذي حاول و لا يزال يحاول المغرضون تشويه صورتهم، و يحاولون سُدًا تحميلهم من الجرائم ما لم يرتكبوه، لرجال المخابرات الذين يحاربون في صمت و يحققون انتصارات لا يسمع بها أحد، لكم جميعا من أكبر ضابط لأصغر مجند أهدي هذا الجزء، راجيا أن يرفع ولو جزء بسيط جدا مما حققه صقور المخابرات في صمت.
عاشت الجزائر، و عاشت مخابراتها، و عاش جيشها، و لا قرت أعين الخونة و الأعداء.
_____________________________________________________________
مرباح، عميمور، و زغار يكفني هؤلاء الثلاثة لأكسب الرهان
الرئيس هواري بومدين لمحمد أمير عام 1975.
كانت الساعة قد قاربت منتصف النهار، صبيحة يوم 05 نوفمبر 1975، حين دخل عبد المجيد علاهم مدير التشريفات برئاسة مجلس الوزراء، لمكتب الرئيس بومدين، كي يبلغه أن المدير المركزي للأمن العسكري الرائد قاصدي مرباح، يستأذن لمقابله، و كانت العادة بين الرئيس بومدين و مدير أمنه العسكري، أن لا يتصل به هذا الأخير إلا للضرورة القصوى، أو حين يستدعيه الرئيس بومدين بنفسه، و حتى تغطى زيارات الرائد قاصدي مرباح للرئيس بومدين، و لا تثير أي انتباه، كان لقاصدي مرباح مكتب خاص، في رئاسة مجلس الوزراء (رئاسة الجمهورية حاليا)، يستعمله بين الفنية و الأخرى، ليكون قرب الرئيس بومدين و رهن إشارته، خصوصا عند الأزمات الكبرى، بحيث يكون الاتصال بينهما مباشرا و فوري.
خلال لقائهما، أبلغ الرائد مرباح الرئيس بومدين، أن مصالحه قد تمكنت من الوصول لمعلومات مؤكدة، مفادها أن ولي العهد الإسباني، قد أوفد أحد أقرب مقربيه لمقابلة وزير الخارجية الأمريكي، و أن اللقاء قد تم فعلا يومي 03 و 04 نوفمبر، و الأمر يتعلق بدون أدنى شك، بمسألة انتقال السلطة في إسبانيا، و أيضا بالصحراء الإسبانية (1)، و بما أن قاصدي مرباح لم يكن له أي سلطة على مسعود زغار، طلب من الرئيس بومدين الإذن في الاتصال بزغار، للتأكد من صحة المعلومات، و الحصول على مزيد من التفاصيل عن هذه القضية، التي أن صحت تحاليل مصالح الأمن العسكري، فهي مؤامرة مكتملة الأركان تحاك في الخفاء ضد الجزائر.
بعد مغادرة قاصدي مرباح لمكتب الرئيس بومدين، طلب هذا الأخير من عبد المجيد علاهم، أن يتصل عن طريق القنوات المعتادة بمسعود زغار، و يكلفه بتحري قضية المبعوث الإسباني الموفد سرا للولايات المتحدة، و أن يوافيه بالرد في أقرب وقت ممكن، كما طلب من علاهم الاتصال بوزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة الذي كان في مهمة خارج البلاد، يؤمره فيها العودة فورا للجزائر، دون تحديد سبب الاستدعاء، و هذه كانت إشارة سرية بين بومدين و بوتفليقة، ليفهم وزير الخارجية أن القضية مستعجلة جدا.
بعد بضعة أيام من ذلك التاريخ، وصل مسعود زغار لمطار الدار البيضاء، قادما من العاصمة الاسبانية مدريد، التي قضى فيها 48 ساعة، بحجة القيام بعملية مراقبة عادية لبعض ممتلكاته فيها، ثم توجه للجزائر العاصمة أين وجد في انتظاره الرائد قاصدي مرباح، الذي اصطحبه مباشرة لمقر رئاسة مجلس الوزراء، أين كان الرئيس بومدين في انتظاره على أحر من الجمر.
عند وصول مسعود زغار، لمقر رئاسة مجلس الوزراء، وجد في انتظاره زيادة على الرئيس بومدين، كل من وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة، و الدكتور محمد أمير الأمين العام لرئاسة مجلس الوزراء، بينما وصل المدير المركزي للأمن العسكري الرائد قاصدي مرباح، رفقة زغار لينضموا لمن كان في انتظارهما، قصد استبيان تفاصيل الزيارة السرية التي قام بها موفد ولي العهد الإسباني الأمير خوان كارلوس، الذي تولى إدارة شؤون اسبانيا، بعد أن دخل الدكتاتور فرانشيسكو فرانكو في غيبوبة للمرة الثانية على التوالي (2).
بعد تبادل جمل الترحيب و السلام على بعضهم، قدم مسعود زغار تقريرا شفهيا جاء فيه، أنه بتاريخ 21 آوت 1975، صدر عن كتابة الدولة الأمريكية للشؤون الخارجية، تعليمة موجه لوكالة الاستخبارات المركزية، قصد الشروع في تنفيذ مخطط استراتيجي سري للغاية، ممول من طرف دولة خليجية، هدفه منع الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء و وادي الذهب، بأي طريقة كانت من الحصول على استقلال الصحراء الغربية، و السبب أن جبهة البوليساريو قوة اشتراكية تابعة للمعسكر الشرقي، و لا يمكن بأي حال من الأحوال للولايات المتحدة الأمريكية، السماح للاتحاد السوفيتي أن يضع قدميه، على أرض غاية في الأهمية و غنية بالفوسفات و الغاز و البترول، و بما أن مملكة إسبانيا تعيش حالة من لا استقرار، تجعلها غير قادرة على المحافظة على مستعمرتها، فمن الأجدر تسليم هذا الإقليم، لأحد أصدقاء الولايات المتحدة، الذي يمكن الاعتماد عليه، في إبقاء هذه المنطقة خارج نطاق النفوذ السوفيتي، و قد وقع الاختيار على الملك الحسن الثاني لسببين رئيسيين هما :
أولا: أن الحسن الثاني لديه أطماع توسعية في المنطقة، و قد تجلى ذلك، من خلال رفع دعوة، لدى محكمة العدل الدولية، بتاريخ 27 سبتمبر 1974، لإبداء الرأي في مغربية الصحراء.
ثانيا: أن الملك الحسن الثاني، شخصية سياسية، قريبة جدا من المعسكر الغربي، و هو في أمس الحاجة لدعم أمريكي و غربي بصفة عامة، لبسط نفوذه على الصحراء الغربية، و بالتالي سيكون من السهل منحه الصحراء مقابل التزامه بتسخير مواردها، و موقعها لخدمة المعسكر الغربي.
كما أشار مسعود زغار أنه بتاريخ 03 نوفمبر 1975، وصل للعاصمة الأمريكية واشنطن موفد من ولي العهد الإسباني خوان كارلوس، الذي التقى في نفس اليوم وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر، ثم التقيا للمرة الثانية في اليوم الموالي 04 نوفمبر 1975، و جرت الجلستان بحضور نائب كاتب الدولة للشؤون الخارجية المكلف بأوروبا و آسيا آرثر هيرتمان(راجع الصورة المرفقة رقم 01)، أما موفد الأمير خوان كارلوس لم يكن سوى صديقه الوفي و المخلص رجل الأعمال إمانيال بارادو كولون كارفجال(راجع الصورة المرفقة رقم 02)، و كان الأمير خوان كارلوس يكلف هذا الرجل تحديدا بكل اتصالاته السرية، من باب الصداقة التي تربط الرجلين، و الثقة العمياء التي يحضا بها إمانيال بارادو لدى الأمير خوان كارلوس، و قد أبلغ إمانيال بارادو وزير خارجية أمريكا، مخاوف الأمير خوان من مغبة قيام حرب بين إسبانيا و المغرب، مما قد يؤثر سلبا على توليه السلطة، بعد وفاة الجنرال فرانكو الذي يعاني المرض، و هو في غيبوبة للمرة الثانية على التوالي، و أبلغ الموفد الإسباني مضيفه هنري كيسنجر أن هناك شبه اتفاق بين الأمير خوان كارلوس و الملك المغربي الحسن الثاني، على تسليم الصحراء الغربية للمغرب و موريتانيا، مقابل الإبقاء على للامتيازات الإسبانية في المنطقة كما هي، إلا أن هذا الاتفاق لا يمكن أن يجسد على أرض الواقع بدون رعاية أمريكية، فالجيش الإسباني لن يقبل بمغادرة الصحراء الغربية إثر هزيمة عسكرية، و أن أي تدخل عسكري مغربي في الصحراء سيواجهه الجيش الإسباني بعنف، مما يعني أن المنطقة كلها ستنفجر إذا نفذ الملك الحسن الثاني تهديداته باجتياح الصحراء الغربية، و الحل الوحيد الذي يحفظ للجيش الإسباني ماء وجهه هو أن يجتاح الصحراء مواطنين مغاربة مدنيين و عزل لا يحملون معهم أي نوع من الأسلحة، على أن يتوقف زحفهم عند بلوغ مراكز تواجد الجيش الإسباني، الذي لن يفتح النار عليهم، و يتم حل المسألة بعد ذلك، عن طريق اتفاق تتنازل فيه إسبانيا عن الصحراء الغربية، لكل من المغرب و موريتانيا (3).
أزال تقرير مسعود زغار كل الشكوك أمام الرئيس بومدين، الذي لم يبقى له أدنى شك في صحة المعلومات المتوفرة لدى مصالح الأمن العسكري الجزائرية، فالجزائر أصبحت مستهدفه، و هناك فعلا مخطط سري لضرب الجزائر و استنزاف قدراتها، من خلال جرها لحرب طاحنة، مع المملكة المغربية و موريتانيا، فالجزائر إذا لن تواجه المغرب و موريتانيا، بل ستواجه من خلفهما، كل من إسرائيل و أمريكا و فرنسا، مما يجعل القضية صعبة و خطيرة جدا.
طلب الرئيس بومدين من بوتفليقة تقديم رأيه في الموضوع، فالقضية و إن كانت عسكرية و إستخباراتية، فهي تقع ضمن مجال اخصاص الخارجية الجزائرية، فكان رأي عبد العزيز بوتفليقة أن على الجزائر التعامل بحذر شديد مع المعطيات المتوفرة أمامها، و بما أن المغرب يسعى سرا لتشكيل تحالف ضد الجزائر، مع العم أن ذلك عمل مخالف تماما لنص المادة الخامسة من معاهدة الأخوة و حسن الجوار و التعاون الموقعة بين البلدين بتاريخ 15 يناير 1969 (راجع النسخة المرفقة صورة رقم 03)، فعلى الجزائر أن تعامل بالمثل، و أن توسع هي أيضا قائمة حلفائها، و بالتالي يجب اتخاذ موقف واضح و فاصل فيما يخص، الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء و وادي الذهب، بحيث تمنحها الجزائر كل الاهتمام، و علينا أن نمدها بما يلزم لتقوية صفوفها، كما يجب بسط ستار الرعاية عليها، قصد تحريرها من وصاية العقيد معمر القذافي، فالصحراء الغربية، أرض مجاورة للجزائر، و أي شيء يحدث فيها سيؤثر على الجزائر بطريقة مباشرة، كما أن العقيد معمر القذافي المعروف بعملياته الغير محسوبة العواقب، يمكنه أن ينشئ قوة من المرتزقة الأفارقة، و يزج بهم في المنطقة تحت غطاء جبهة البوليساريو، مما قد يتسبب في خلل داخل هذا التنظيم، الذي يسعى لتحرير أرضه و إنشاء دولة مستقلة خاصة به، فبقاء جبهة البوليساريو مكونة من أبناء الشعب الصحراوي فقط، هو الضامن الوحيد لبقاء الجبهة مستقلة في قراراتها، و أبنائها فقط سيتولون شؤون بلادهم عند تحريرها (4).
جاء تعليق الرائد قاصدي مرباح، موافقا و متمما لما قاله وزير الخارجية عبد العزيز بوتفليقة، و أضاف أن العقيد الليبي قد ارتكب خطأ جسيم في حق الجزائر، حين قام باستعمال الأراضي الجزائرية، لتهريب أسلحة كانت ستستعمل في الإطاحة بالملك الحسن الثاني عام 1973، و أن العلاقات بين الجزائر و المغرب ساءت كثيرا بسبب، تصرفات العقيد القذافي الطائشة، التي يفعلها من وراء ظهورنا، و دون استشارتنا المسبقة، بينما نتحمل نحن عواقبها الوخيمة (5).
عند اختتام الجلسة، قال الرئيس بومدين، إذا كنا متجهين مباشرة نحو حرب مع المغرب، فعلي أن أجمع مجلس الثورة لأناقش هذه القضية مع أعضاءه، و في انتظار ذلك، سيتولى الرائد قاصدي مرباح مهمة ربط الاتصال بقيادات جبهة البوليساريو، بينما سأتفق لاحقا مع بوتفليقة على خطة عمل ننتهجها على الصعيد الخارجي، لإعانة الشعب الصحراوي على استعادة استقلاله، يبقى الجانب الإعلامي سأكلف به الدكتور عميمور، و قد كان قرار تكليف الدكتور عميمور بضبط الجوانب الإعلامية، من باب أنه المستشار الإعلامي للرئيس، فهو إذا أقرب للرئيس و يستطيع الدخول عليه بدون أي بروتوكول، و متى قدر أن الأمر يتطلب إعلام الرئيس بأي طارئ يرد للرئاسة، بينما باقي المسئولين خارج الرئاسة، ملزمون بتقديم طلب لمقابلة الرئيس و المرور بالأمانة العامة أو مدير التشريفات، مما قد يسبب تأخر في معالجة القضايا، و هذا بالتحديد ما أراد الرئيس بومدين تجنبه، زيادة في ثقته الراسخة في قدرات مستشاره الإعلامي، على الوصول لكل شاردة و واردة تخص القضية الصحراوية (6).
عندما غادر الجميع مكتب الرئيس و لم يبقى فيه إلا بومدين و الدكتور محمد أمير، قال بومدين : يضن الحسن الثاني أن موقفي ضعيف جدا، لكنه يجهل تماما أن لي ثلاث رجال، مرباح، عميمور، و زغار، يكفني هؤلاء الثلاثة لأكسب الرهان (7).
يتبع
الهوامش :
(01) تؤكد صحة هذه المعلومات مذكرتان سريتان موجهتان للرئيس الأمريكي، صادرتان عن كاتب الدولة الأمريكي للشؤون الخارجية، تحتوي على مباحثات أجراها هنري كيسنجر بتاريخ 03 و 04 نوفمبر 1975، مع موفد ولي عهد مملكة إسبانيا الأمير خوان كارلوس (الوثيقة الأولى متكونة من 14 صفحة) و (الوثيقة الثانية متكونة من 06 صفحات)، المصدر سجلات وزير الخارجية هنري كيسنجر الأرشيف الوطني الأمريكي وثيقة رقم 5403، الصف 23، مذكرات الخارجية، تصنيف سري. (وثيقة ملحقة رقم 01 و 02).
(02) دخل الدكتاتور الإسباني فرنشيسكو فرانكو في غيبوبة للمرة الثانية بتاريخ 30 أكتوبر 1975، بينما تولى ولي عهد مملكة إسبانيا الأمير خوان كارلوس رئاسة الدولة بالنيابة، وفقا للترتيبات المحددة في الدستور الإسباني، و من نفس اليوم الذي تولى فيه رئاسة الدولة، بدأ يتحرك ليستلم السلطة فور وفاة فرانكو بصفته ملكا دستوريا لإسبانيا. المصدر المذكرة التحليلية للوكالة المركزية للاستخبارات الأمريكية بتاريخ 15 مايو 1975، المتعلقة بمشاكل الخلافة و انتقال السلطة في إسبانيا (وثيقة ملحقة رقم 03).
(03) راجع التقرير السري الصادر عن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بتاريخ 06 نوفمبر 1975 الذي يتحدث عن اتفاق مسبق بين الملك الحسن الثاني و خوان كارلوس ولي عهد مملكة إسبانيا، تمنح من خلاله اسبانيا مستعمرتها القديمة الصحراء الغربية للمملكة المغربية (وثيقة ملحقة رقم 04).
(04) مصدر خاص.
(05) مصدر خاص.
(06) مصدر خاص.
(07) مصدر خاص.
الصور المرفقة :
01- صورة آرثر هيرتمان نائب كاتب الدولة الأمريكي المكلف بأوروبا و آسيا.
02- صورة الملك خوان كارلوس الأول رفقة صديقه رجل الأعمال إمانيال بارادو كولون كارفجال.
03- صورة للصفحة الأولى و الثانية من معاهدة الأخوة و حسن الجوار و التعاون الجزائرية المغربية الموقعة بتاريخ 15 يناير 1969.
04- صورة للدكتور محيي الدين عميمور مع مسعود زغار.