تيبازة الجزائرية عاصمة التجارة في عهد الفينيقيين والرومان تستعد للانبعاث من رماد التاريخ
الجزائر- «القدس العربي»: تيبازة أو تيبازا، واحدة من أكثر ولايات (محافظات) وسط الجزائر الشمالي سحرا وجمالا، فهي تمتلئ بكنوز أثرية لا حصر لها وتطل على أروع شواطئ البلاد، ما يجعلها الوجهة السياحية الأبرز في منطقة الوسط، لكن هذا الهدوء الذي عرفته على مدار قرون سيُكسر قريبا بفعل الحركة الهائلة المنتظرة بعد استكمال مشروع ميناء الوسط الذي تراهن عليه الجزائر ليكون بوابة تجارية تربط العالم بعمق أفريقيا.
الزائر لتيبازة التي تغنى بها الأديب العالمي ألبير كامو صاحب جائزة نوبل للأدب، سينتبه حتما للكم الهائل من الآثار الرومانية الموجودة بمختلف مدن الولاية، والتي تشهد على عراقة هذه المنطقة وامتدادها العميق في التاريخ. وما يميز هذه الكنوز أنها مبثوثة في الهواء الطلق، يستطيع أي كان الوصول إليها. وهكذا، تُحقق زيارة تيبازة للسائح الكثير من المتع في وقت قصير، فهو يستطيع التنقل بين الآثار والشواطئ مشيا على الأقدام فقط، ويستطيع صعود الجبال والتخييم في الغابات المحاذية للبحر، وله أن يتجول في مماشي موانئ الولاية الكثيرة التي يوجد بها سمك هو الألذ في منطقة المتوسط، مثلما يباهي بذلك سكانها.
ومن اختار الوصول لتيبازة انطلاقا من العاصمة (تبعد عنها بنحو 60 كيلومترا) فهو حتما سيستعمل الطريق السريع الساحلي الذي يمتاز بجودة بنائه ونقص الاكتظاظ فيه، ما يتيح لراكب السيارة التمتع بزرقة البحر التي لا تنقطع على جانبه الأيمن وخضرة المزارع التي تنبت فيها أجود أنواع الخضر والفواكه من رحم تربتها الخصبة التي تعد لوحدها أعجوبة بصرية، فهي تمتاز بلونها البني المائل نحو الحمرة الذي يمنحها شكلا فريدا ويشير إلى غناها بالعناصر الطبيعية التي تجعل كل ما ينبت عليها زاكيا.
الضريح الملكي الموريتاني
وقبل الوصول قليلا إلى مدينة تيبازة، سيصادف المسافر وهو في الطريق السريع على يساره، ذلك المبنى الدائري الضخم الذي يطلق عليه العامة «مقبرة الرومية» بينما تسميته الرسمية «الضريح الملكي الموريتاني». يشبه هذا الصرح في طريقة بنائه الأهرامات المصرية، فهو مشكل من الحجارة الضخمة المصقولة والتي تم رفعها فوق بعضها البعض لتشكل قبة دائرية عملاقة، يعجز المرء عن إدراك التكنولوجيا التي بنيت بها في ذلك الزمن الغابر، إذ كيف يمكن حمل تلك الحجارة التي تزن الأطنان من دون شاحنات ورفعها إلى هذا العلو الشاهق بدون رافعات؟
تصيبك الدهشة إذا قررت اقتطاع دقائق لنفسك تأملا في هذا المبنى المذهل وما تحيط به من مناظر خلابة على سواحل مدينة تيبازة وجبل شنوة الشاهق. لن يكلف الأمر سوى استعمال محول «سيدي راشد» على الطريق السريع لتكون أمامه في 5 دقائق، وبضعة دنانير جزائرية للسماح لك بالدخول، فهو محمية تراثية مصنفة دوليا. وستجد هناك من يرشدك ويقدم لك المعلومات عن المبنى ومميزاته الهندسية وظروف إنشائه التاريخية والتي لا تسلم من الاختلاف بين المؤرخين، بين من يقول إن أصوله مسيحية ومن يرى أن وجوده أقدم من هذه الديانة.
يعلو الضريح الملكي الموريتاني سطح البحر بمقدار 261 مترًا. يبلغ محيطه 185.5 متر، وقطره 60.9 متر، ويصل ارتفاعه إلى 32.4 متر. يبرز منه في الخارج 60 عمودًا و 4 أبواب. يمكن الدخول إليه عبر باب سفلية ضيقة كانت في السنوات السابقة مفتوحة للسياح. ما يسمح به الآن هو الاقتراب منها فقط والتأمل في داخل الضريح عبر شباك صغير. لن ترى شيئا طبعا لأن الظلام داخله دامس، لكنك ستشعر بهواء بارد ينبعث منه، مهما كان الجو حارا في الخارج. يقول المرشدون إن الضريح من الداخل مصمم بشكل هندسي على قاعدة مربعة ضلعها 63.40 متر وبه عدة قبور يجهل أصحابها.
في محيط الضريح، توجد غابة جميلة مليئة بأشجار الصنوبر الحلبي، يتخذها الزائرون منطقة للتخييم وتنظيم حفلات الشواء على الهواء الطلق. تطل هذه الغابة مباشرة على جبل شنوة الذي يبدو من خلالها كأسد عملاق تداعب الشواطئ أصابع قدميه. مشهد بديع يدفعك للبحث عن أسرار هذا الجبل الذي يتحدث سكان تيبازة عنه بوقار شديد، فهو يمثل رمزا لهويتهم وشاهدا على عراقتهم. يبلغ ارتفاع جبل شنوة 905 متر، ويغطي مساحة حوالي 9000 هكتار، وهو موطن للعرقية الأمازيغية المعروفة باسم الشناوة، فسكان هذه المنطقة يتحدثون لغة مختلفة، تعد خليطا بين اللغة الأمازيغية واللاتينية تعود جذورها إلى عصر الرومان عندما كانوا يتسيدون شمال أفريقيا، لها مصطلحاتها ولكنتها الخاصة التي تجعل نطقهم للعربية مميزا أيضا.
الآثار الرومانية والشواطئ
لم يتبق على الوصول إلى مدينة تيبازة بعد زيارة الضريح الموريتاني، سوى بضعة دقائق بالسيارة، وللداخل إليها خياران إما المدخل الشرقي إذا أراد اكتشاف الميناء والمنطقة الأثرية القريبة منه أو المدخل الغربي إذا رغب في الشواطئ. ليس مفيدا كثيرا الاستعجال في الذهاب للشواطئ، فالآثار الرومانية جديرة حقا بالاستكشاف، كون مدينة تيبازة، تعد بلا شك واحدة من أفضل مواقع هذه الآثار في شمال القارة الأفريقية. يمكن رؤية المدرج الذي شهد العديد من المعارك البحرية في القرنين الرابع والخامس، كما يقول المؤرخون، وهو أحد مراكز الترفيه الرئيسية في البلدة القديمة، ولم يتبق للأسف الكثير من هياكل محيطه الخارجي. يُمكن أيضا التفرج على الجدار الروماني، الذي بناه الرومان لحماية القرية من الهجمات، ويبلغ طوله حوالي 2300 متر، وكان يقع داخل نطاقه المباني الرومانية العامة والمنازل. هناك كذلك، المنطقة المسيحية، التي تحوي على مجمع ديني ومقابر وحمامات، بنيت كلها في القرن الرابع، ويُروى أنه كان أكبر المباني المسيحية في الشمال الأفريقي.
الانتقال نحو الجهة الغربية للمدينة سهل، ويكون إما سيرا على الأقدام أو باستعمال مركبة. وقاصدو هذه المنطقة، سيكون هدفهم بالتأكيد شواطئها الجميلة، وفي مقدمتها مركب مطاريس الذي شيد في عصر الرئيس الراحل الهواري بومدين وكان وجهة سياحية دولية في البحر المتوسط. يحتفظ الجزائريون بكثير من الحنين لتلك الفترة الجميلة التي شهدت إنتاج أفلام كوميدية خالدة مثل فيلم «عطل المفتش الطاهر» الذي صورت أجزاء منه في المركبات السياحية للمدينة ومنها «مطاريس». يحتوي المركب على شاطئ رملي لا متناهي يمتد لثلاثة كيلومترات على الأقل يتقاسمها مع شاطئ شنوة العريق هو الآخر، والذي يعد أبرز وجهة لسكان وسط الجزائر في فصل الصيف.
الاستمرار في المسير غربا باتخاذ طريق شنوة، سيوصل حتما إلى شواطئ أكثر جمالا، أهمها البلج والشاطئ الأزرق، والتي هي في الأساس شواطئ صخرية لكن بها نوع من الرمل الصخري يجعلها مقصدا للعائلات. ويتخذ هواة التخييم والقادمون من المناطق البعيدة عن البحر، هذه الشواطئ في العادة مكانا لإقامتهم خلال فترة الصيف. كما يرتادها بقوة هواة المغامرة والغطس من مرتفعات شاهقة، والباحثون عن متعة التنزه في البحر عبر القوارب، وهي كلها أنشطة تحرك بقوة الاقتصاد الموسمي للمدينة، حيث يتخذ آلاف الشباب من متع البحر مصدر رزق لهم.
قد تنزع المدن العريقة للهدوء في فترات من تاريخها، لكنها لا تموت أبدا وقد تعود لها الحياة في أي لحظة. تيبازة، واحدة من تلك المدن، وكل العمران التاريخي الذي تكتنزه كان مظهرا من مظاهر ازدهارها التجاري في عصور ما قبل التاريخ، فهي من أسسها الفينيقيون كإحدى مستعمراتهم التجارية العديدة في القرن الخامس قبل الميلاد، وأطلقوا عليها تسميتها الحالية التي تعني الممر، لأنها كانت معبرا وممرا للناس بين مدينتي إيكوزيم شرقا (الجزائر) وإيول غربا (شرشال). ثم أصبحت تعرف بقرطاجية. وعندما جاء الرومان حولوها إلى مستعمرة تابعة لهم في عهد الإمبراطور كلاوديوس (41-54 ميلادي) وكانت كذلك مركزا تجاريا كبيرا في الضفة الجنوبية للمتوسط.
واليوم، يبدو أن التاريخ يحاول إعادة نفسه، فالولاية اختيرت لتكون مركز إقامة مشروع ميناء الجزائر الضخم الذي تهدف السلطات من ورائه مضاهاة كبرى الموانئ في منطقة المتوسط والاستفادة من موقع الجزائر الاستراتيجي في ربط الميناء بطريق الوحدة الأفريقية الذي يربط الجزائر بلاغوس في نيجيريا، وبذلك تكون الجزائر بالفعل بوابة حقيقية لأفريقيا، خاصة دول الساحل وجنوب الصحراء التي ليس لها منفذ على البحر، بحيث تكون التجارة في الاتجاهين من وإلى أفريقيا عبر هذا الميناء.
ويمكن لزائر منطقة الحمدانية التي تبعد نحو 20 كيلومترا غرب تيبازة، رؤية تلك اللافتات العملاقة التي تشير إلى المشروع وتلفت إلى أنه عنوان للصداقة الجزائرية الصينية، فطريق الحرير الصيني نحو أفريقيا سيمر من هذا المكان. ولم يأت اختيار هذا المكان عبثا، فهو يتوفر على مياه عميقة تسمح برسو سفن عملاقة كما هو المأمول منه وتحيط به أراض شاسعة يمكن استغلالها في إنشاء مناطق حرة للتبادل التجاري، كما يقع بجانب شبكة طرقات تضمن انسيابية كبيرة في النقل والشحن.
ورغم التأخر المسجل في إنجاز الميناء إلا أن العزم على إنشائه أكيد. وسيكون هذا الصرح بتمويل مشترك جزائري-صيني على أن تضمن استغلاله شركة صينية «موانئ شنغهاي». وسيحوي على 23 رصيفا يسمح بمعالجة 6.5 مليون حاوية و25.7 مليون طن من البضائع سنويا، ما سيجعله محورا للمبادلات على المستوى الإقليمي.
وهذا الميناء سيتوسط الطريق بين مدينتي تيبازة وشرشال التابعة هي الأخرى لمحافظة تيبازة، والتي تعد من أبرز المدن التاريخية في الجزائر، إذ تعود أصولها إلى المملكة النوميدية. وتاريخيا، أخذت هذه المدينة التي تتوفر على متحف به قطع نادرة في كل شمال أفريقيا، أهمية كبيرة في عهد الملك يوبا الثاني النوميدي الذي حولها إلى عاصمة لموريتانيا (القديمة) وغير اسمها إلى قيصرية تكريماً للإمبراطور الروماني أغسطس قيصر. وأصبحت قيصرية، بفعل ذلك، على ما يذكره المؤرخون، مركزاً للثقافة اليونانية والرومانية بها عمران متطور بمقياس ذلك الزمان، ففيها المسرح والحمامات والساحة العمومية والقنوات المائية التي لا تزال بارزة للعيان إلى اليوم.