فلسفة القوات الجوية الحديثة
----------------------------------
-----------------
من المتعارف عليه أنه على الرغم من أن القوات الجوية لا تكسب الحرب بمفردها لكن، في نفس الوقت، لا يمكن كسب الحرب بدونها. ومن هنا تأتي أهمية الفلسفة التي تقوم عليها القوات الجوية، والتي تبنى على عدة عوامل، من أهمها طبيعة وحجم التهديدات التي تواجهها الدول، حجم المهام المنتظرة للقوات الجوية وطبيعتها، الموقف الاقتصادي للدول، البيئة السياسية واستراتيجية الدول. كما تنعكس فلسفة القوات الجوية، بلا شك، على كافة المعايير التي يقاس من خلالها مدى قوة سلاح الجو، ومن أهمها: عدد ونوعية الطائرات، عدد وكفاءة الطيارين وأماكن التدريب، حالة الصيانة وقطع الغيار والذخائر، القواعد الجوية والمطارات، أسلوب القيادة والسيطرة ومدى الترابط مع القوات الأخرى وعلى رأسها القوات البرية، قواعد وطرق التموين بالوقود والذخائر، الحليف أو الداعم وإمكانيات تعويض الخسائر والحدود لذلك والزمن اللازم.
يؤثر كل ذلك في الميزة التشغيلية للقوات الجوية وهي القدرة على اكتشاف الخصم وردعه وهزيمته قبل أن يتمكن من فعل الشيء نفسه، وذلك من خلال تحسين الخصائص الرئيسية للقوة الجوية، مثل الارتفاع والسرعة والمدى. وتحسين هذه الخصائص بشكل مستدام، إلى جانب اتخاذ القرارات الفعالة والقيادة والسيطرة مما يسهل تحقيق الميزة التشغيلية. وفي ظل التوترات والمخاوف الجيواستراتيجية الحالية، وزيادة حدة المنافسة الاستراتيجية، وزيادة التوترات أو الصراعات المباشرة في مناطق متعددة من العالم في المحيطين الهادئ والهندي والشرق الأوسط وأوروبا، وصعود المنظمات المتطرفة العنيفة، والسلوك العدواني والتوسعي للعديد من الخصوم، يتطلب الأمر من الجيوش الكبرى أكثر من أي وقت مضى قوات قتالية قادرة على التدخل على نطاق عالمي واسع، وتوفير دعم قتالي رشيق. يضاف إلى ذلك أنه لم يعد أحد في مأمن بعد بظهور أسلحة بعيدة المدى تفوق سرعتها سرعة الصوت، وباستغلال بيئة المعلومات، في المجال الفضائي والمجال السيبراني. وهذه الحقيقة تزيد من أهمية فلسفة تهدف لاكتساب قدرات الكشف والردع والدفاع وقدرة القوات الجوية على هزيمة الخصوم.
................
أهم مبادئ فلسفة القوات الجوية الحديثة
--------------
الجمع بين القدرة على الدعم والقدرة على القيام بعمليات مستقلة حاسمة:
اهم فلسفة التي تقوم عليها القوات الجوية تستند بالأساس إلى الفلسفة التي يقوم عليها الجيش الذي تعمل من خلاله، والتي يتحدد من خلالها الدور المنوط بالقوات الجوية: هل الدور يأتي في إطار الحرب التكاملية المتمركزة حول الدعم الجوّي للقوات الأخرى وعلى رأسها القوات البريّة، وتحقيق التفوق الجوّي السريع على أرض المعركة ضمن إطار عقيدة «المناورة الهجومية»؟ أم أنه يأتي في إطار استخدام القوّة الجوية أكثر في عمليات مستقلة بحد ذاتها، أي بعيداً عن الدور التقليدي بدعم القوات البرية والبحرية؟ أم أن القوات الجوية يجب أن تعد للقيام بالدورين على حسب الحاجة؟
نظر الكولنيل الأمريكي جون واردن لضرب وتدمير مركز الثّقل في مجتمعات الخصم من خلال استهداف: قيادة العدو، قواته العسكريّة، وقدراته الصّناعيّة، وبُنيتة التّحتية والبشر. كما يقول واردن إن الاستخدام الأنجع هو ضرب كلّ تلك الأهداف لإضعاف الإرادة القتالية لدى الخصم، وذلك مع التّركيز على القيادة، والتي إن تمّ القضاء عليها، يتم شلُّ بقية البُنية العسكريّة، وخلق حالة من الفوضى في قدرات القيادة والتّحكم، ما يؤدي إلى انهيار العدوّ واستسلامه. وقد تلاقت نظرية «واردن» مع التّطور التّكنولوجي في الأسلحة، وخاصةً القذائف الذكيّة، ومع التّطور في البُنية المعلوماتية العسكريّة، وهو الأمر الذي أدى إلى فلسفات تنظر لإمكانية الحسم العسكريّ بواسطة القوّة الجوّية فقط في بعض السياقات لتحقق ما استشرفه «جيليو دوهيه العسكري الإيطالي بأنه سيأتي يوم يُجبر فيه الخصوم على الخضوع فقط بقوة القوات الجوية ومن دون خوض عمليات برية أو بحرية.
الوصول لأبعد مدى: توسيع مجال تحرك القوات الجوية:
يلخص الجنرال أليكسوس غرينكويتش قائد القوات الجوية التاسعة وقائد التشكيل الجوي للقوات المشتركة في القيادة المركزية الأمريكية في جنوب غرب آسيا مهمة القوات الجوية للولايات المتحدة في الطيران والقتال والفوز والقدرة على توفير القوة الجوية في أي مكان وفي أي وقت. إن قدرة الولايات المتحدة على نشر قوة قتالية كبيرة بسرعة، مثل سرب التفوق الجوي من الجيل الخامس، في الشرق الأوسط، هي طمأنة لشركائنا الإقليميين. على الرغم من أن هناك عدداً أقل من القوات المتمركزة على الأرض مقارنة بالسنوات السابقة، إلا أننا نحتفظ بالقدرة على جلب قوات إضافية بسرعة من خارج المنطقة عند الضرورة.
على الرغم من تقليص القوات الأمريكية في مناطق متعددة في العالم، فإنها حافظت على شبكة من القواعد الجوية في مختلف أرجاء العالم، تمكنها من نشر مجموعة كبيرة من الطائرات في أي مكان في العالم بسرعة. وعلاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة طورت نظاماً لوجستياً عالمياً مستداماً لقواتها الجوية المتمركزة في قواعدها حول العالم. وفي بحث حول العمليات الجوية الأمريكية، ناقش المحللون العسكريون الصينيون الاستفادة من التجربة الأمريكية والبناء عليها في تطوير قواتها الجوية بما يتناسب مع طموحاتها الجيوسياسية.
ومع استمرار مصالح الصين الاقتصادية والأمنية بالتوسع إلى ما يتجاوز حدودها المباشرة، كلف القادة الصينيون القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي تطوير قدرات استراتيجية لدعم وحماية أنشطتها البحرية بعيدة المدى خصوصاً في المحيط الهادئ. وفي خطاب ألقاه قائد القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي ما شياو تيان عام 2015 صرح بأن التوسع الاقتصادي للصين والعمليات العسكرية غير الحربية للصين تنمو يوماً بعد يوم، وسيكون من الضروري إدراك الحاجة الملحة إلى الاستعداد للصراع العسكري البحري بشكل صحيح، كما أن التوسع الجيوسياسي للصين في العالم يتطلب من جيش التحرير الشعبي في نهاية المطاف تكييف فلسفته، خصوصاً الجوية، لتطوير قدرات تتناسب مع مهمات جديدة في بيئات غير متوقعة وغير مؤكدة. وفي هذا السياق يمكن أن نفهم دخول حاملة الطائرات الصينية شاندونغ لمضيق تايوان أكثر من مرة خلال الأشهر القليلة الماضية والخشية التايوانية واليابانية بتوسيع الصين مجال تحرك قواتها الجوية. وقد أطلقت الصين في عام 2022 أول حاملة طائرات مصممة ومصنعة محلياً، ستكون قادرة على نشر ما يصل إلى 70 طائرة، بما في ذلك مقاتلات J-15 ومروحيات Z-9C المضادة للغواصات تلك الفلسفة الجديد أقلقت قائد قيادة القتال الجوي الأمريكي الذي حذر من أن الترسانة العسكرية الصينية دخلت «منطقة خطيرة» و»إن البنية العسكرية التي يبنونها اليوم للدفاع عن مصالحهم مصممة لإيقاع عدد أكبر من الضحايا في الثلاثين ساعة الأولى من أي حرب مستقبلية، وذلك سيكون أكثر مما شهدناه من ضحايا في الثلاثين عاماً الماضية في الشرق الأوسط». كما صرح البنتاغون أن الصين تعمل على تطوير أفضل مقاتلات الشبح، وأسراب الطائرات المأهولة وغير المأهولة بالإضافة إلى نشر قدرات قتالية جوية أكثر نضجاً وتطوير مجموعة من المركبات الجوية بدون طيار، بدءاً من الوحدات المحمولة إلى الطائرات الكبيرة من فئة RQ-4 Global Hawk الأمريكية.
----------------------------------
«الجو» و«الفضاء:
تعمل القوة الجوية، بطبيعتها، في الجو لتتخطى العوائق الطبيعية والحدود، وهي على خلاف القوة البرية والبحرية، لا يمكنها الاحتفاظ بالأرض. وتاريخياً، فإن الجزء من الغلاف الجوي على ارتفاع 25-125 كم تم استغلاله عسكرياً، أما المركبات الفضائية والأقمار الصناعية فتحلق على ارتفاعات أعلى من ذلك، والآن هناك أسلحة تتخطي هذا الارتفاع مثل المركبات الفرط صوتية والمركبات الجوية بدون طيار والتي تعمل بالطاقة الشمسية، وسيشهد المستقبل المزيد من الطائرات الفضائية والطائرات الموجهة التي ستسد الفجوة بين الجو والفضاء التي وجدت في القرن العشرين، وربما يشهد المستقبل القريب المزيد من المركبات القادرة على اخترق الغلاف الجوي والطيران بسرعات عالية والقيام بعمليات حربية لا تستطيع معظم وسائل الدفاعات الجوية الحالية «باستثناء أنظمة الدفاع المضادة للصواريخ البالستية» التعامل معها. وفي هذا السياق غيرت القوات الجوية الفرنسية عام 2020 اسمها لسلاح الجو والفضاء الفرنسي، بعد عام واحد فقط من إنشائها لقيادة الفضاء، والتي تم إنشاؤها في 3 سبتمبر 2019. وقال رئيس أركان القوات الجوية والفضائية الجنرال فيليب لافين حينها «والذي بعد ذلك بعام تم تعينه قائداً لقيادة التحول في الناتو»: «يجب على الطيارين اليوم أن ينظروا إلى أعلى، وأبعد، نحو الفضاء، هذا المجال الجديد من المواجهة الذي هو استراتيجي للغاية وبشكل متزايد».
----------
السيطرة على الطيف الكهرومغنـاطيسي أو على الأقل تأمينه العملياتي أمام القوات الجوية:
.......
تُعير القوات الجوية للقوى العالمية اهتماماً متزايداً، للحاجة إلى السيطرة على الطيف الكهرومغناطيسي أو على الأقل تأمينه أمام عملياتها، حيث تعد حرية العمل في الطيف الكهرومغناطيسي شرطاً أساسياً للعمليات الجوية وسرعتها ودقتها، فهو الذي يُمَكِّن نظام الملاحة والإنترنت اللاسلكي والبلوتوث وبالتالي العمليات العسكرية برمتها. فعلى سبيل المثال تتخوف الولايات المتحدة الأمريكية من الاستثمار المتزايد لمعاهد الأبحاث التابعة أو القريبة من جيش التحرير الشعبي الصيني في أسلحة الطاقة التي تنتج نبضاً كهرومغناطيسياً قوياً لتحييد الأنظمة الإلكترونية داخل نصف قطرها الفعال. تعرف تلك الأسلحة بأنها أجهزة ميكروويف عالي الطاقة. وتشير الأدبيات الصينية الحديثة إلى تطبيقات مختلفة لأجهزة الموجات الدقيقة عالية الطاقة القادرة على إغلاق الرادارات المعادية وأنظمة التشويش والأنظمة الإلكترونية للطائرات المهاجمة والصواريخ المضادة للإشعاع، كما يمكن استخدامها كسلاح مضاد للأقمار الصناعية وذلك بتحطيم الأنظمة الإلكترونية الحساسة للأقمار الصناعية. كما ينص الموقع الإلكتروني للقوات الجوية الملكية الكندية على أن القدرات الفضائية جزء لا يتجزأ من ساحة عملياتها، وأن الوصول الكامل إلى الفضاء والحرية في إجراء العمليات فيه رغم التزاحم والتنافس والتنازع عليه أمر ضروري. وينص موقع سلاح الجو الملكي الكندي، على أن الوصول إلى الطيف الكهرومغناطيسي واستغلاله من دون عوائق يعد أمراً ضرورياً لإجراء عملياته العسكرية، وأنه يتوجب عليها أن تنجح في البيئات الكهرومغناطيسية المتنازع عليها بما يتجاوز الحرب الإلكترونية التقليدية أو حتى السيبرانية، وذلك من خلال تطوير تقنيات مرنة ومتطورة بشكل مستدام وقابلة للتكيف على العمل في بيئة ذات درجة عالية من التداخل الكهرومغناطيسي.
مقاربة أكثر تكاملية مع القوات الجوية وأنظمة الدفاع الجوي والصاروخي الحليفة:
يقول في هذا الصدد الجنرال أليكسوس غرينكويتش قائد القوات الجوية التاسعة وقائد التشكيل الجوي للقوات المشتركة في القيادة المركزية الأمريكية في جنوب غرب آسيا إن تكامل القوات الجوية وأنظمة الدفاع الجوي والصاروخي الإقليمية أصبح ضرورة أكثر من أي وقت مضى، «حيث يضمن ذلك الاستفادة من قدرات الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي نشرت أصول دفاع جوي في المنطقة والقدرات الدفاعية القوية للدول الإقليمية. الهدف هو إنشاء إطار عمل شامل يربط هذه القدرات معاً، مما يخلق صورة تشغيل موحدة. هذا التكامل ضروري لضمان عمليات دفاعية قوية وفعالة. ولتحقيق هذا التكامل، تعد الحلول التقنية ضرورية، بما في ذلك أنظمة الرادار وشبكات الكمبيوتر وأنظمة الاتصالات التي يمكنها التواصل بشكل فعال مع بعضها بعضاً. بالإضافة إلى ذلك، فهو يعتمد على استعداد بين حلفائنا وشركائنا لتبادل المعلومات والاستخبارات، فمن خلال تشكيل هيكل دفاعي إقليمي متماسك، يمكننا المساهمة في استقرار أكبر في المنطقة على المدى الطويل».
في ساحة أخرى من ساحات التوترات الدولية والصراعات الدولية، أعرب رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا عن قلقه، في شهر نوفمبر الماضي، إزاء الطلعات الجوية المشتركة الأخيرة لقاذفات القنابل الصينية والروسية فوق المياه قرب بلاده، محذراً من أن اليابان تواجه بيئة أمنية صعبة ومعقدة.
دمج التقنيات الناشئة لضمان الميزة التشغيلية للقوات الجوية في المستقبل:
الفلسفة التي تقوم عليها القوات الجوية الملكية الكندية على سبيل المثال تنظر إلى أن تتطور قدرات سلاح الجو الملكي الكندي بسرعة لضمان الميزة التشغيلية (القدرة على اكتشاف الخصم وردعه وهزيمته قبل أن يتمكن من فعل الشيء نفسه) في المجال الجوي والفضاء، وذلك بدمج التقنيات الناشئة والتطوير التكنولوجي المستمر لما يمثله ذلك في حماية السيادة الكندية وبناء قدرات استكشافية ذات مصداقية وتمكين القوات الجوية الملكية الكندية من الاندماج مع القوة المشتركة للقوات المسلحة الكندية وقوات أقرب الحلفاء لكندا.
ومما لا شك فيه أن التقنيات الناشئة تخلق بيئة تتطلب ابتكاراً دفاعياً سريعاً وذا صلة. ومن الضروري أن نستفيد من هذه التقنيات لخلق قدرات جديدة وتعزيز أمن الدول، لذا تعمل القوات الجوية الكندية على الاستفادة من تكنلوجيا الأنظمة المستقلة وغير المأهولة والذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والأنظمة السحابية وأجهزة الاستشعار والتقنيات المبتكرة الأخرى، وذلك للحفاظ على ميزة تشغيلية في المستقبل، لما ستمثله تلك التقنيات من زيادة كبيرة في القدرات في المجالات الحيوية للقوات الجوية الحديثة، بما في ذلك القيادة والسيطرة، الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، وكذلك معالجة واستغلال ونشر البيانات المجمعة من المنصات الجوية والفضائية.
تنظر فلسفة القوات الجوية الملكية الكندية إلى أن الاستفادة من هذه التقنيات ستمكنها من سرعة اتخاذ القرار وزيادة جودة القرارات المتعلقة بتنفيذ العمليات، وتحسين الاستدامة من خلال تطبيق البيانات والتحليلات، وتحسين أنظمة ومنهجيات تدريب الطيارين، وتوظيفهم بشكل أفضل، وهكذا تبسيط العمليات أو أتمتة المهام. وستمكن هذه التقنيات أيضاً القوات الجوية الملكية الكندية من النظر في تطبيق العمل الجماعي بين الإنسان والآلة في قطاعات معينة، مثل المركبات الجوية المأهولة وغير المأهولة، من أجل زيادة التأثيرات التشغيلية مع تحسين تكاليف التصنيع والاستحواذ.
من جانب آخر، بدأت القوات الجوية الأمريكية تستخدم الذكاء الاصطناعي لمساعدتها في تخصيص الموارد والتنبؤ بالكيفية التي يمكن بها لقرار واحد أن يعيد تشكيل برنامجها وميزانيتها. على سبيل المثال، إذا أضاف قادة القوات الجوية سرباً آخر من طائرات F–35، يمكن لمنصة تخصيص الموارد المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تسلط الضوء فوراً، ليس فقط على التكاليف المباشرة للقرار، بل أيضاً على آثاره على الأفراد والقواعد وتوافر الطائرات والأبعاد الأخرى المهمة.
القدرة على العمل بكفاءة في بيئة من المخاطر: في هذا الصدد صرّح مساعد نائب رئيس أركان القوات الجوية الأمريكية، توماس لوهيد، في شهر نوفمبر الماضي، بأن قواعد القوات الجوية الأمريكية في جميع أنحاء العالم ستواجه خطر التعرض للهجمات في المستقبل أكبر بكثير مما كانت عليه خلال الحرب الباردة. وأشار إلى أن الجيش الأمريكي تعلم كيفية منع مثل هذه الهجمات، بحسب قوله. وذلك لتوفُّر أنظمة دفاعٍ جوي متعدِّد الطبقات في بعض الدول تشمل أسلحة ليزرية مضادَّة للتهديدات الجويةِ المختلفة، من بينها المسيرات، ويمكن لها أيضاً اعتراضُ الأقمار الصناعية، مثل نظام «بيريسيفت» الروسي.
كما أعادت صور حديثة لأربع مقاتلات تابعة للقوات الجوية الصينية من طرازJ-16، التكهنات بشأن ما يُحتمل أن يكون الصاروخ جو–جو الأبعد مدى في العالم PL-XX، والذي شوهد مدمجاً في مقاتلتين من، بحسب الرواية الأمريكية. ويقدر مدى هذا الصاروخ بـ500 كيلومتر، أو أبعد، ما يجعله الصاروخ جو – جو الأبعد مدى في العالم، بفارق كبير عما يليه، ما يمكنه من تحييد أصول جوية مهمة، مثل طائرات الإنذار المبكر، والتحكم المحمول جواً من طرازي E-3 وE-7، وطائرة التزويد بالوقود في الجو KC-135. وهو ما سيقوض «على نحو خَطِر» على سبيل المثال عمل القوات الجوية الأمريكية في منطقة المحيط الهادئ.
...............
دمج تغير المناخ في نهج القدرة الجوية:
أصبح تأثير تغير المناخ على أداء أو عمر أنظمة الأسلحة الجوية من المعلوم بالضرورة، فيمكن على سبيل المثال أن تؤدي درجات الحرارة المرتفعة المتزايدة في مسارح معينة للعمليات إلى إتلاف المحركات أو التشويش على الأجهزة الإلكترونية، والتأثير على قدرة حمل الطائرات ورحلاتها أو تشكل مخاطر على تخزين الذخيرة. كما يتطلب نشر وعمل القوات الجوية في الفضاءات الصعبة مثل الفضاءات القطبية أيضاً تكييف بعض المعدات. على هذا النحو، وتسعى الفلسفات الجوية الحديثة لتحديد المخاطر المناخية وتأثيراتها على الظروف التشغيلية من أجل ضمان أداء وموثوقية المعدات والبرامج التكنولوجية وتطوير قدرات مقاتليها لدمج تغير المناخ في نهج القدرة للمعدات ولجنودها.
وفي هذا الصدد، أعلنت القوات الجوية الأمريكية أنها ستستثمر 235 مليون دولار لمساعدة شركة تصنيع ناشئة، وهي شركة «جيت زيرو»، في بناء طائرة ببدن مدمج الأجنحة لتقليل استهلاك الوقود والانبعاثات مع نطاق أوسع وكفاءة أكبر.
وفي نهاية عام 2022 أصدرت القوات الجوية الأمريكية، خطة عمل بشأن المناخ من أهم أهدافها إنشاء قواعد عسكرية، تعمل على تحقيق هدف صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2046. كما تفصل الخطة كيف ستحتاج القوات الجوية الأمريكية إلى تحقيق التكيف في عملياتها مع تغير المناخ، وعلى الأخص داخل البنية التحتية لقواعدها ومصادر الطاقة الخاصة بها، ومن أجل تحقيق هذا الهدف خصصت الخطة ميزانية تقدر بـ 36 مليون دولار عام 2023، مع زيادة 100 مليون دولار سنوياً حتى نهاية عام 2026.
............................................
...........
الخاتمة
ألقت هذه الدراسة المكثفة الضوء على أهم معالم فلسفة القوات الجوية الحديثة، وهي: الجمع بين القدرة على الدعم والقدرة على القيام بعمليات مستقلة حاسمة، الوصول لأبعد مدى: توسيع مجال تحرك القوات الجوية، وصل «الجو» و«الفضاء»، السيطرة على الطيف الكهرومغنـاطيسي أو على الأقل تأمينه العملياتي أمام القوات الجوية، مقاربة أكثر تكاملية مع القوات الجوية وأنظمة الدفاع الجوي والصاروخي الحليفة، دمج التقنيات الناشئة لضمان الميزة التشغيلية للقوات الجوية في المستقبل، القدرة على العمل بكفاءة في بيئة من المخاطر وعدم اليقين، دمج تغير المناخ في نهج القدرة الجوية. وكما أشرنا، تتفق الأدبيات حول موضوع القوات الجوية على أنه لا انتصار بدونها في ساحة الحرب الحديثة وأنها القوة القادرة على شن هجمات متوازية لخلق تأثيرات تكتيكية وعملياتية واستراتيجية في نفس الوقت. ومع ذلك، تختلف تلك الأدبيات فيما يتعلق بالأهداف الأكثر فعالية في خلق التأثيرات المرغوبة، وما هي التأثيرات الأكثر استهدافاً، وبأي آليات سيتم تحقيقها. وقد لا يتم أبداً الاتفاق على إجابات واحدة على مثل هذه التساؤلات أبداً، وربما يكون هذا أفضل. فقد استفادت فلسفات استراتيجيات القوات الجوية دائماً من الدراسات المتعارضة والنقاش الفكري المستدام لتوليد المقترحات والحلول ومقاربات التطوير ربما أكثر من أي سلاح آخر في الجيش.
.....................
-----------------
من المتعارف عليه أنه على الرغم من أن القوات الجوية لا تكسب الحرب بمفردها لكن، في نفس الوقت، لا يمكن كسب الحرب بدونها. ومن هنا تأتي أهمية الفلسفة التي تقوم عليها القوات الجوية، والتي تبنى على عدة عوامل، من أهمها طبيعة وحجم التهديدات التي تواجهها الدول، حجم المهام المنتظرة للقوات الجوية وطبيعتها، الموقف الاقتصادي للدول، البيئة السياسية واستراتيجية الدول. كما تنعكس فلسفة القوات الجوية، بلا شك، على كافة المعايير التي يقاس من خلالها مدى قوة سلاح الجو، ومن أهمها: عدد ونوعية الطائرات، عدد وكفاءة الطيارين وأماكن التدريب، حالة الصيانة وقطع الغيار والذخائر، القواعد الجوية والمطارات، أسلوب القيادة والسيطرة ومدى الترابط مع القوات الأخرى وعلى رأسها القوات البرية، قواعد وطرق التموين بالوقود والذخائر، الحليف أو الداعم وإمكانيات تعويض الخسائر والحدود لذلك والزمن اللازم.
يؤثر كل ذلك في الميزة التشغيلية للقوات الجوية وهي القدرة على اكتشاف الخصم وردعه وهزيمته قبل أن يتمكن من فعل الشيء نفسه، وذلك من خلال تحسين الخصائص الرئيسية للقوة الجوية، مثل الارتفاع والسرعة والمدى. وتحسين هذه الخصائص بشكل مستدام، إلى جانب اتخاذ القرارات الفعالة والقيادة والسيطرة مما يسهل تحقيق الميزة التشغيلية. وفي ظل التوترات والمخاوف الجيواستراتيجية الحالية، وزيادة حدة المنافسة الاستراتيجية، وزيادة التوترات أو الصراعات المباشرة في مناطق متعددة من العالم في المحيطين الهادئ والهندي والشرق الأوسط وأوروبا، وصعود المنظمات المتطرفة العنيفة، والسلوك العدواني والتوسعي للعديد من الخصوم، يتطلب الأمر من الجيوش الكبرى أكثر من أي وقت مضى قوات قتالية قادرة على التدخل على نطاق عالمي واسع، وتوفير دعم قتالي رشيق. يضاف إلى ذلك أنه لم يعد أحد في مأمن بعد بظهور أسلحة بعيدة المدى تفوق سرعتها سرعة الصوت، وباستغلال بيئة المعلومات، في المجال الفضائي والمجال السيبراني. وهذه الحقيقة تزيد من أهمية فلسفة تهدف لاكتساب قدرات الكشف والردع والدفاع وقدرة القوات الجوية على هزيمة الخصوم.
................
أهم مبادئ فلسفة القوات الجوية الحديثة
--------------
الجمع بين القدرة على الدعم والقدرة على القيام بعمليات مستقلة حاسمة:
اهم فلسفة التي تقوم عليها القوات الجوية تستند بالأساس إلى الفلسفة التي يقوم عليها الجيش الذي تعمل من خلاله، والتي يتحدد من خلالها الدور المنوط بالقوات الجوية: هل الدور يأتي في إطار الحرب التكاملية المتمركزة حول الدعم الجوّي للقوات الأخرى وعلى رأسها القوات البريّة، وتحقيق التفوق الجوّي السريع على أرض المعركة ضمن إطار عقيدة «المناورة الهجومية»؟ أم أنه يأتي في إطار استخدام القوّة الجوية أكثر في عمليات مستقلة بحد ذاتها، أي بعيداً عن الدور التقليدي بدعم القوات البرية والبحرية؟ أم أن القوات الجوية يجب أن تعد للقيام بالدورين على حسب الحاجة؟
نظر الكولنيل الأمريكي جون واردن لضرب وتدمير مركز الثّقل في مجتمعات الخصم من خلال استهداف: قيادة العدو، قواته العسكريّة، وقدراته الصّناعيّة، وبُنيتة التّحتية والبشر. كما يقول واردن إن الاستخدام الأنجع هو ضرب كلّ تلك الأهداف لإضعاف الإرادة القتالية لدى الخصم، وذلك مع التّركيز على القيادة، والتي إن تمّ القضاء عليها، يتم شلُّ بقية البُنية العسكريّة، وخلق حالة من الفوضى في قدرات القيادة والتّحكم، ما يؤدي إلى انهيار العدوّ واستسلامه. وقد تلاقت نظرية «واردن» مع التّطور التّكنولوجي في الأسلحة، وخاصةً القذائف الذكيّة، ومع التّطور في البُنية المعلوماتية العسكريّة، وهو الأمر الذي أدى إلى فلسفات تنظر لإمكانية الحسم العسكريّ بواسطة القوّة الجوّية فقط في بعض السياقات لتحقق ما استشرفه «جيليو دوهيه العسكري الإيطالي بأنه سيأتي يوم يُجبر فيه الخصوم على الخضوع فقط بقوة القوات الجوية ومن دون خوض عمليات برية أو بحرية.
الوصول لأبعد مدى: توسيع مجال تحرك القوات الجوية:
يلخص الجنرال أليكسوس غرينكويتش قائد القوات الجوية التاسعة وقائد التشكيل الجوي للقوات المشتركة في القيادة المركزية الأمريكية في جنوب غرب آسيا مهمة القوات الجوية للولايات المتحدة في الطيران والقتال والفوز والقدرة على توفير القوة الجوية في أي مكان وفي أي وقت. إن قدرة الولايات المتحدة على نشر قوة قتالية كبيرة بسرعة، مثل سرب التفوق الجوي من الجيل الخامس، في الشرق الأوسط، هي طمأنة لشركائنا الإقليميين. على الرغم من أن هناك عدداً أقل من القوات المتمركزة على الأرض مقارنة بالسنوات السابقة، إلا أننا نحتفظ بالقدرة على جلب قوات إضافية بسرعة من خارج المنطقة عند الضرورة.
على الرغم من تقليص القوات الأمريكية في مناطق متعددة في العالم، فإنها حافظت على شبكة من القواعد الجوية في مختلف أرجاء العالم، تمكنها من نشر مجموعة كبيرة من الطائرات في أي مكان في العالم بسرعة. وعلاوة على ذلك، فإن الولايات المتحدة طورت نظاماً لوجستياً عالمياً مستداماً لقواتها الجوية المتمركزة في قواعدها حول العالم. وفي بحث حول العمليات الجوية الأمريكية، ناقش المحللون العسكريون الصينيون الاستفادة من التجربة الأمريكية والبناء عليها في تطوير قواتها الجوية بما يتناسب مع طموحاتها الجيوسياسية.
ومع استمرار مصالح الصين الاقتصادية والأمنية بالتوسع إلى ما يتجاوز حدودها المباشرة، كلف القادة الصينيون القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي تطوير قدرات استراتيجية لدعم وحماية أنشطتها البحرية بعيدة المدى خصوصاً في المحيط الهادئ. وفي خطاب ألقاه قائد القوات الجوية لجيش التحرير الشعبي ما شياو تيان عام 2015 صرح بأن التوسع الاقتصادي للصين والعمليات العسكرية غير الحربية للصين تنمو يوماً بعد يوم، وسيكون من الضروري إدراك الحاجة الملحة إلى الاستعداد للصراع العسكري البحري بشكل صحيح، كما أن التوسع الجيوسياسي للصين في العالم يتطلب من جيش التحرير الشعبي في نهاية المطاف تكييف فلسفته، خصوصاً الجوية، لتطوير قدرات تتناسب مع مهمات جديدة في بيئات غير متوقعة وغير مؤكدة. وفي هذا السياق يمكن أن نفهم دخول حاملة الطائرات الصينية شاندونغ لمضيق تايوان أكثر من مرة خلال الأشهر القليلة الماضية والخشية التايوانية واليابانية بتوسيع الصين مجال تحرك قواتها الجوية. وقد أطلقت الصين في عام 2022 أول حاملة طائرات مصممة ومصنعة محلياً، ستكون قادرة على نشر ما يصل إلى 70 طائرة، بما في ذلك مقاتلات J-15 ومروحيات Z-9C المضادة للغواصات تلك الفلسفة الجديد أقلقت قائد قيادة القتال الجوي الأمريكي الذي حذر من أن الترسانة العسكرية الصينية دخلت «منطقة خطيرة» و»إن البنية العسكرية التي يبنونها اليوم للدفاع عن مصالحهم مصممة لإيقاع عدد أكبر من الضحايا في الثلاثين ساعة الأولى من أي حرب مستقبلية، وذلك سيكون أكثر مما شهدناه من ضحايا في الثلاثين عاماً الماضية في الشرق الأوسط». كما صرح البنتاغون أن الصين تعمل على تطوير أفضل مقاتلات الشبح، وأسراب الطائرات المأهولة وغير المأهولة بالإضافة إلى نشر قدرات قتالية جوية أكثر نضجاً وتطوير مجموعة من المركبات الجوية بدون طيار، بدءاً من الوحدات المحمولة إلى الطائرات الكبيرة من فئة RQ-4 Global Hawk الأمريكية.
----------------------------------
«الجو» و«الفضاء:
تعمل القوة الجوية، بطبيعتها، في الجو لتتخطى العوائق الطبيعية والحدود، وهي على خلاف القوة البرية والبحرية، لا يمكنها الاحتفاظ بالأرض. وتاريخياً، فإن الجزء من الغلاف الجوي على ارتفاع 25-125 كم تم استغلاله عسكرياً، أما المركبات الفضائية والأقمار الصناعية فتحلق على ارتفاعات أعلى من ذلك، والآن هناك أسلحة تتخطي هذا الارتفاع مثل المركبات الفرط صوتية والمركبات الجوية بدون طيار والتي تعمل بالطاقة الشمسية، وسيشهد المستقبل المزيد من الطائرات الفضائية والطائرات الموجهة التي ستسد الفجوة بين الجو والفضاء التي وجدت في القرن العشرين، وربما يشهد المستقبل القريب المزيد من المركبات القادرة على اخترق الغلاف الجوي والطيران بسرعات عالية والقيام بعمليات حربية لا تستطيع معظم وسائل الدفاعات الجوية الحالية «باستثناء أنظمة الدفاع المضادة للصواريخ البالستية» التعامل معها. وفي هذا السياق غيرت القوات الجوية الفرنسية عام 2020 اسمها لسلاح الجو والفضاء الفرنسي، بعد عام واحد فقط من إنشائها لقيادة الفضاء، والتي تم إنشاؤها في 3 سبتمبر 2019. وقال رئيس أركان القوات الجوية والفضائية الجنرال فيليب لافين حينها «والذي بعد ذلك بعام تم تعينه قائداً لقيادة التحول في الناتو»: «يجب على الطيارين اليوم أن ينظروا إلى أعلى، وأبعد، نحو الفضاء، هذا المجال الجديد من المواجهة الذي هو استراتيجي للغاية وبشكل متزايد».
----------
السيطرة على الطيف الكهرومغنـاطيسي أو على الأقل تأمينه العملياتي أمام القوات الجوية:
.......
تُعير القوات الجوية للقوى العالمية اهتماماً متزايداً، للحاجة إلى السيطرة على الطيف الكهرومغناطيسي أو على الأقل تأمينه أمام عملياتها، حيث تعد حرية العمل في الطيف الكهرومغناطيسي شرطاً أساسياً للعمليات الجوية وسرعتها ودقتها، فهو الذي يُمَكِّن نظام الملاحة والإنترنت اللاسلكي والبلوتوث وبالتالي العمليات العسكرية برمتها. فعلى سبيل المثال تتخوف الولايات المتحدة الأمريكية من الاستثمار المتزايد لمعاهد الأبحاث التابعة أو القريبة من جيش التحرير الشعبي الصيني في أسلحة الطاقة التي تنتج نبضاً كهرومغناطيسياً قوياً لتحييد الأنظمة الإلكترونية داخل نصف قطرها الفعال. تعرف تلك الأسلحة بأنها أجهزة ميكروويف عالي الطاقة. وتشير الأدبيات الصينية الحديثة إلى تطبيقات مختلفة لأجهزة الموجات الدقيقة عالية الطاقة القادرة على إغلاق الرادارات المعادية وأنظمة التشويش والأنظمة الإلكترونية للطائرات المهاجمة والصواريخ المضادة للإشعاع، كما يمكن استخدامها كسلاح مضاد للأقمار الصناعية وذلك بتحطيم الأنظمة الإلكترونية الحساسة للأقمار الصناعية. كما ينص الموقع الإلكتروني للقوات الجوية الملكية الكندية على أن القدرات الفضائية جزء لا يتجزأ من ساحة عملياتها، وأن الوصول الكامل إلى الفضاء والحرية في إجراء العمليات فيه رغم التزاحم والتنافس والتنازع عليه أمر ضروري. وينص موقع سلاح الجو الملكي الكندي، على أن الوصول إلى الطيف الكهرومغناطيسي واستغلاله من دون عوائق يعد أمراً ضرورياً لإجراء عملياته العسكرية، وأنه يتوجب عليها أن تنجح في البيئات الكهرومغناطيسية المتنازع عليها بما يتجاوز الحرب الإلكترونية التقليدية أو حتى السيبرانية، وذلك من خلال تطوير تقنيات مرنة ومتطورة بشكل مستدام وقابلة للتكيف على العمل في بيئة ذات درجة عالية من التداخل الكهرومغناطيسي.
مقاربة أكثر تكاملية مع القوات الجوية وأنظمة الدفاع الجوي والصاروخي الحليفة:
يقول في هذا الصدد الجنرال أليكسوس غرينكويتش قائد القوات الجوية التاسعة وقائد التشكيل الجوي للقوات المشتركة في القيادة المركزية الأمريكية في جنوب غرب آسيا إن تكامل القوات الجوية وأنظمة الدفاع الجوي والصاروخي الإقليمية أصبح ضرورة أكثر من أي وقت مضى، «حيث يضمن ذلك الاستفادة من قدرات الولايات المتحدة والدول الأوروبية التي نشرت أصول دفاع جوي في المنطقة والقدرات الدفاعية القوية للدول الإقليمية. الهدف هو إنشاء إطار عمل شامل يربط هذه القدرات معاً، مما يخلق صورة تشغيل موحدة. هذا التكامل ضروري لضمان عمليات دفاعية قوية وفعالة. ولتحقيق هذا التكامل، تعد الحلول التقنية ضرورية، بما في ذلك أنظمة الرادار وشبكات الكمبيوتر وأنظمة الاتصالات التي يمكنها التواصل بشكل فعال مع بعضها بعضاً. بالإضافة إلى ذلك، فهو يعتمد على استعداد بين حلفائنا وشركائنا لتبادل المعلومات والاستخبارات، فمن خلال تشكيل هيكل دفاعي إقليمي متماسك، يمكننا المساهمة في استقرار أكبر في المنطقة على المدى الطويل».
في ساحة أخرى من ساحات التوترات الدولية والصراعات الدولية، أعرب رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا عن قلقه، في شهر نوفمبر الماضي، إزاء الطلعات الجوية المشتركة الأخيرة لقاذفات القنابل الصينية والروسية فوق المياه قرب بلاده، محذراً من أن اليابان تواجه بيئة أمنية صعبة ومعقدة.
دمج التقنيات الناشئة لضمان الميزة التشغيلية للقوات الجوية في المستقبل:
الفلسفة التي تقوم عليها القوات الجوية الملكية الكندية على سبيل المثال تنظر إلى أن تتطور قدرات سلاح الجو الملكي الكندي بسرعة لضمان الميزة التشغيلية (القدرة على اكتشاف الخصم وردعه وهزيمته قبل أن يتمكن من فعل الشيء نفسه) في المجال الجوي والفضاء، وذلك بدمج التقنيات الناشئة والتطوير التكنولوجي المستمر لما يمثله ذلك في حماية السيادة الكندية وبناء قدرات استكشافية ذات مصداقية وتمكين القوات الجوية الملكية الكندية من الاندماج مع القوة المشتركة للقوات المسلحة الكندية وقوات أقرب الحلفاء لكندا.
ومما لا شك فيه أن التقنيات الناشئة تخلق بيئة تتطلب ابتكاراً دفاعياً سريعاً وذا صلة. ومن الضروري أن نستفيد من هذه التقنيات لخلق قدرات جديدة وتعزيز أمن الدول، لذا تعمل القوات الجوية الكندية على الاستفادة من تكنلوجيا الأنظمة المستقلة وغير المأهولة والذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والأنظمة السحابية وأجهزة الاستشعار والتقنيات المبتكرة الأخرى، وذلك للحفاظ على ميزة تشغيلية في المستقبل، لما ستمثله تلك التقنيات من زيادة كبيرة في القدرات في المجالات الحيوية للقوات الجوية الحديثة، بما في ذلك القيادة والسيطرة، الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، وكذلك معالجة واستغلال ونشر البيانات المجمعة من المنصات الجوية والفضائية.
تنظر فلسفة القوات الجوية الملكية الكندية إلى أن الاستفادة من هذه التقنيات ستمكنها من سرعة اتخاذ القرار وزيادة جودة القرارات المتعلقة بتنفيذ العمليات، وتحسين الاستدامة من خلال تطبيق البيانات والتحليلات، وتحسين أنظمة ومنهجيات تدريب الطيارين، وتوظيفهم بشكل أفضل، وهكذا تبسيط العمليات أو أتمتة المهام. وستمكن هذه التقنيات أيضاً القوات الجوية الملكية الكندية من النظر في تطبيق العمل الجماعي بين الإنسان والآلة في قطاعات معينة، مثل المركبات الجوية المأهولة وغير المأهولة، من أجل زيادة التأثيرات التشغيلية مع تحسين تكاليف التصنيع والاستحواذ.
من جانب آخر، بدأت القوات الجوية الأمريكية تستخدم الذكاء الاصطناعي لمساعدتها في تخصيص الموارد والتنبؤ بالكيفية التي يمكن بها لقرار واحد أن يعيد تشكيل برنامجها وميزانيتها. على سبيل المثال، إذا أضاف قادة القوات الجوية سرباً آخر من طائرات F–35، يمكن لمنصة تخصيص الموارد المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تسلط الضوء فوراً، ليس فقط على التكاليف المباشرة للقرار، بل أيضاً على آثاره على الأفراد والقواعد وتوافر الطائرات والأبعاد الأخرى المهمة.
القدرة على العمل بكفاءة في بيئة من المخاطر: في هذا الصدد صرّح مساعد نائب رئيس أركان القوات الجوية الأمريكية، توماس لوهيد، في شهر نوفمبر الماضي، بأن قواعد القوات الجوية الأمريكية في جميع أنحاء العالم ستواجه خطر التعرض للهجمات في المستقبل أكبر بكثير مما كانت عليه خلال الحرب الباردة. وأشار إلى أن الجيش الأمريكي تعلم كيفية منع مثل هذه الهجمات، بحسب قوله. وذلك لتوفُّر أنظمة دفاعٍ جوي متعدِّد الطبقات في بعض الدول تشمل أسلحة ليزرية مضادَّة للتهديدات الجويةِ المختلفة، من بينها المسيرات، ويمكن لها أيضاً اعتراضُ الأقمار الصناعية، مثل نظام «بيريسيفت» الروسي.
كما أعادت صور حديثة لأربع مقاتلات تابعة للقوات الجوية الصينية من طرازJ-16، التكهنات بشأن ما يُحتمل أن يكون الصاروخ جو–جو الأبعد مدى في العالم PL-XX، والذي شوهد مدمجاً في مقاتلتين من، بحسب الرواية الأمريكية. ويقدر مدى هذا الصاروخ بـ500 كيلومتر، أو أبعد، ما يجعله الصاروخ جو – جو الأبعد مدى في العالم، بفارق كبير عما يليه، ما يمكنه من تحييد أصول جوية مهمة، مثل طائرات الإنذار المبكر، والتحكم المحمول جواً من طرازي E-3 وE-7، وطائرة التزويد بالوقود في الجو KC-135. وهو ما سيقوض «على نحو خَطِر» على سبيل المثال عمل القوات الجوية الأمريكية في منطقة المحيط الهادئ.
...............
دمج تغير المناخ في نهج القدرة الجوية:
أصبح تأثير تغير المناخ على أداء أو عمر أنظمة الأسلحة الجوية من المعلوم بالضرورة، فيمكن على سبيل المثال أن تؤدي درجات الحرارة المرتفعة المتزايدة في مسارح معينة للعمليات إلى إتلاف المحركات أو التشويش على الأجهزة الإلكترونية، والتأثير على قدرة حمل الطائرات ورحلاتها أو تشكل مخاطر على تخزين الذخيرة. كما يتطلب نشر وعمل القوات الجوية في الفضاءات الصعبة مثل الفضاءات القطبية أيضاً تكييف بعض المعدات. على هذا النحو، وتسعى الفلسفات الجوية الحديثة لتحديد المخاطر المناخية وتأثيراتها على الظروف التشغيلية من أجل ضمان أداء وموثوقية المعدات والبرامج التكنولوجية وتطوير قدرات مقاتليها لدمج تغير المناخ في نهج القدرة للمعدات ولجنودها.
وفي هذا الصدد، أعلنت القوات الجوية الأمريكية أنها ستستثمر 235 مليون دولار لمساعدة شركة تصنيع ناشئة، وهي شركة «جيت زيرو»، في بناء طائرة ببدن مدمج الأجنحة لتقليل استهلاك الوقود والانبعاثات مع نطاق أوسع وكفاءة أكبر.
وفي نهاية عام 2022 أصدرت القوات الجوية الأمريكية، خطة عمل بشأن المناخ من أهم أهدافها إنشاء قواعد عسكرية، تعمل على تحقيق هدف صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2046. كما تفصل الخطة كيف ستحتاج القوات الجوية الأمريكية إلى تحقيق التكيف في عملياتها مع تغير المناخ، وعلى الأخص داخل البنية التحتية لقواعدها ومصادر الطاقة الخاصة بها، ومن أجل تحقيق هذا الهدف خصصت الخطة ميزانية تقدر بـ 36 مليون دولار عام 2023، مع زيادة 100 مليون دولار سنوياً حتى نهاية عام 2026.
............................................
...........
الخاتمة
ألقت هذه الدراسة المكثفة الضوء على أهم معالم فلسفة القوات الجوية الحديثة، وهي: الجمع بين القدرة على الدعم والقدرة على القيام بعمليات مستقلة حاسمة، الوصول لأبعد مدى: توسيع مجال تحرك القوات الجوية، وصل «الجو» و«الفضاء»، السيطرة على الطيف الكهرومغنـاطيسي أو على الأقل تأمينه العملياتي أمام القوات الجوية، مقاربة أكثر تكاملية مع القوات الجوية وأنظمة الدفاع الجوي والصاروخي الحليفة، دمج التقنيات الناشئة لضمان الميزة التشغيلية للقوات الجوية في المستقبل، القدرة على العمل بكفاءة في بيئة من المخاطر وعدم اليقين، دمج تغير المناخ في نهج القدرة الجوية. وكما أشرنا، تتفق الأدبيات حول موضوع القوات الجوية على أنه لا انتصار بدونها في ساحة الحرب الحديثة وأنها القوة القادرة على شن هجمات متوازية لخلق تأثيرات تكتيكية وعملياتية واستراتيجية في نفس الوقت. ومع ذلك، تختلف تلك الأدبيات فيما يتعلق بالأهداف الأكثر فعالية في خلق التأثيرات المرغوبة، وما هي التأثيرات الأكثر استهدافاً، وبأي آليات سيتم تحقيقها. وقد لا يتم أبداً الاتفاق على إجابات واحدة على مثل هذه التساؤلات أبداً، وربما يكون هذا أفضل. فقد استفادت فلسفات استراتيجيات القوات الجوية دائماً من الدراسات المتعارضة والنقاش الفكري المستدام لتوليد المقترحات والحلول ومقاربات التطوير ربما أكثر من أي سلاح آخر في الجيش.
.....................
فلسفة القوات الجوية الحديثة – مجلة الجندي – مجلة عسكرية ثقافية شهرية
A monthly military and cultural magazine issued by the Ministry of Defense in the United Arab Emirates and interested in publishing studies, research, articles, military, cultural, economic and medical news, and keen to cover the most important military sporting events, and to translate the most...
www.aljundi.ae