هذا العنوان ليس موقفاً، بل هو قراءة موضوعية لوضع العراق المحاصر بين انتمائه وتكوينه العربيين،
والنفوذ الإيراني الممذهب والمتغلغل في ثنايا النسيج الاجتماعي الطائفي والمناطقي العراقي.
صحيح أن رئيس الحكومة محمد شياع السوداني المنتمي إلى فريق "الإطار التنسيقي" القائم حول
تركيبة ميليشيات "الحشد الشعبي" الموالية للنفوذ الإيراني يؤكد في الآونة الأخيرة عدم حاجة
العراق إلى قوات قتالية أجنبية، متماهياً بذلك مع دعوات فصائل "الحشد الشعبي" وأحزاب
"الإطار التنسيقي" التي تدار استراتيجياً من قبل "فيلق القدس". لكنّ للأمر وجهاً آخر مختلفاً.
ففي لقاء عقده مؤخراً مع قادة وزارتي الداخلية والدفاع و"الحشد الشعبي" الذي ينتمي إلى تركيبة
القوات المسلحة دون أن يتبع لها فعلياً، قال إن بلاده لم تعد في حاجة إلى قوات قتالية أجنبية،
بمعنى آخر إلى قوات أميركية مرابطة على الأرض العراقية، مستنداً إلى تقرير قدمه الأمين العام
للأمم المتحدة أنطونيو غوتييريش إلى مجلس الأمن معلناً فيه: "إن عدد مسلحي تنظيم "داعش"
في العراق وسوريا تقلص إلى ما يقرب 6 آلاف مقاتل".
لكن ما غاب عن تقديرات السوداني أن دور القوات الأجنبية، أي الأميركية في العراق، والنفوذ الأميركي
فيه يستبطن وظيفة أخرى غير قتال تنظيم "داعش"، ألا وهي إقامة توازن بالحد الأدنى مع النفوذ الإيراني
المهمين هيمنةً كبيرةً على المكوّن الشيعي العراقي، وبالتالي على الحكومة العراقية، والقوات المسلحة،
إضافة إلى ميليشيات "الحشد الشعبي" المموّلة من الدولة العراقية، وقد ارتفع عدد المنتسبين والمتمتعين
برواتب حكومية أكثر من 250 ألف عنصر. والتوازن الذي نتحدث عنه في العراق لا يمكن إلا للأميركيين أن يقيموه،
ويدافعوا عنه لمنع استفراد الإيرانيين بالساحة العراقية وتحويل البلاد إلى محمية إيرانية خالصة، وخاضعة لهم بالكامل.
-
فالسيطرة الأميركية على موارد العراق المالية، ووجهة إنفاق الدولة، وتسليح القوات المسلحة الرسمية
(غير "الحشد الشعبي") مسألة حيوية، حالت وتحول دون الاستتباع التام للقرار الإيراني. وثمة شرائح عراقية
واسعة ترفض خروج الأميركيين من البلاد، وتركها بيد "فيلق القدس" والفصائل الولائية العاملة لحساب طهران
، لا سيما أن تحرير ثلث العراق من تنظيم "داعش" تميز بقيام فصائل "الحشد الشعبي" بعمليات تطهير طائفي
في المناطق الوسطى من البلاد ذات الغالبية السنّية، وقتل فيها عشرات الآلاف من المواطنين الآمنين
الذي جرى الاقتصاص منهم لأسباب طائفية تحت شعار محاربة الإرهاب وتنظيم "داعش". ومن المعلوم
أنه لولا الدعم العسكري للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لما تحررت الموصل، ولما تمكن الجيش
ولا "الحشد الشعبي" من حسم المعركة من دون تكبد خسائر هائلة بالعتاد والرجال. وربما ما انهزم تنظيم
"داعش" قبل أعوام وأعوام.
-
غير أن الأهم من "داعش"، ومحاربة الإرهاب، تبقى حماية البقية الباقية من التنوع العراقي،
ومعها البقية الباقية من الهوامش العراقية الوطنية التي لم تسقط بعد بقبضة النفوذ الإيراني.
فإقليم كردستان العراق سيكون مهدداً بالسحق فيما لو خرج الأميركيون في المدى المنظور.
كما أن ما تبقى من هوامش الدولة العراقية لا تملك بمواجهة التمدد الإيراني سوى هذا الوجود
الأميركي والتحالف الدولي، أكان في المؤسسات، أو في معادلة التنوع الطائفي، أو حتى
في معادلة الاعتراض داخل الطائفة الشيعية على الهيمنة الإيرانية المتعددة الطبقات.
إن مسالة بقاء الأميركيين في العراق، مرتبطة في جانب آخر بالتوازن في المنطقة. بحيث إنها
تكمل حلقة الوجود الأميركي في سوريا الذي يبقى حتى إشعار آخر جزءاً من التوازنات الدولية
المطلوبة في الإقليم التي تحول دون استكمال إيران وضع يدها على المشرق العربي من بغداد
إلى بيروت. من هنا ستبقى خطب المسؤولين العراقيين، أكان رئيس الوزراء الحالي محمد شياع
السوداني أو غيره، شعارات غير قابلة للتطبيق العملي. وسيبقى الأميركيون على الأرض،
لأن بقاءهم حاجة استراتيجية أميركية وغربية، مثلما هو حاجة عراقية داخلية. غير ذلك
مجرد كلام للاستهلاك السياسي والشعبي!
Source