منذ أن نشأت فكرة إقامة دولة إسرائيل على أرض فلسطين، والولايات المتحدة الأمريكية تقدم لها كل أنواع الدعم المادي والمعنوي، لكي تتفوق على الدول العربية المحيطة بها، وتصبح قوة وأداة تحقق أهداف الغرب في المنطقة، والتي تتحدد في تجزئة العالم العربي بفصل المشرق العربي عن مغربه، ولأن تكون قاعدة متقدمة لردع التهديدات الموجهة للمصالح الأمريكية والغربية، ولتحد من خطر المد الشيوعي في المنطقة. كما اعتبرتها الولايات المتحدة الأمريكية، أحد العناصر الرئيسية لملء الفراغ في الشرق الأوسط طبقاً لمبدأ الرئيس، دوايت ديفيد أيزنهاور Dwight David Eisenhower، الذي أعلنه في 5 يناير 1957، بعد فشله في إقامة حلف بغداد.
لذلك، فإن التعاون العسكري بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، ممتد منذ إنشائها وحتى الآن، سواء من خلال تحقيق المصالح المتبادلة، أو توقيع اتفاقيات غير معلنة، أو من خلال اتفاقيات تحدد بأسلوب دبلوماسي مع إنشاء لجان لمتابعتها، وهذا النوع من الاتفاقيات بدأ منذ عام 1981، وكانت لكل مرحلة انعكاساتها على المنطقة العربية، وعلى العالم.
وقد حرص الرؤساء الأمريكيون باستمرار، أن يكون أمن دولة إسرائيل وبقاؤها، وتفوقها على دول الجوار العربية، إحدى الأسس الرئيسية للسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وفي المقابل، فإن قادة إسرائيل كان لديهم نفس الحرص على تحقيق التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية، الذي بدأ حثيثاً من خلال الضغوط الصهيونية على الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ثم وصل إلى ذروته خلال عقد الستينيات، واستمر بعد ذلك في وتيرة متصاعدة، دون مراعاة لأي متغيرات على المستوى الإقليمي والدولي، أو مراعاة مصالح دول المنطقة، ودون النظر إلى ما يمكن أن تتعرض له المصالح الأمريكية.
وشمل التعاون العسكري كافة الجوانب الإستراتيجية، التي تؤثر على الأمن الوطني لإسرائيل، حيث انعكس هذا التعاون بشدة، على ضمان بقاء إسرائيل نفسها، وأصبح هناك ارتباطاً وثيقاً بين مختلف المؤسسات الأمريكية وإسرائيل، وأصبحت التكنولوجيا الأمريكية المتقدمة، في يد إسرائيل، وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية، هي الدولة الرئيسية في استيراد الأسلحة، والمعدات العسكرية، التي تنتج في إسرائيل، سواء كان ذلك من قبيل تشجيع الصناعات الإسرائيلية، أو التقليل من عجز الميزان التجاري بين الدولتين.
وإذا دققنا النظر في تطور التعاون العسكري بين الدولتين، فالملاحظ أن اللوبي اليهودي داخل الولايات المتحدة الأمريكية، هو صاحب اليد العليا في دفع الإدارة الأمريكية للتعاون مع إسرائيل.
وإذا كانت الاتفاقيات العسكرية، قد صيغت كوثائق تاريخية اعتباراً من أوائل عقد ثمانينيات القرن العشرين، إلا أن التعاون العسكري، لم يتوقف بين أمريكا وإسرائيل، والذي بدأ بضغوط على الدول الغربية لإمداد إسرائيل بالسلاح، ثم شراء صفقات أسلحة بأموال أمريكية لصالح إسرائيل، ثم إمداد إسرائيل بالأسلحة، والتكنولوجيا الأمريكية علناً، ودون أي اعتبار.
أما النتيجة النهائية لهذا التعاون، فهو وجود ثغرة هائلة في التوازن العسكري بين إسرائيل ودول المواجهة العربية، أدت إلى تصاعد صلفها وغرورها، وتحدي الرأي العام العربي، والعالمي فيما تفعله في مواجهة الانتفاضات الفلسطينية، وهو ما لم يكن ليحدث إلا من خلال دعم أمريكي مفرط.
دوافع إقامة العلاقات العسكرية الإسرائيلية ـ الأمريكية وتطورها
لم تبن العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية بين عشية وضحاها، ورغم ما تحمل هذه العلاقة من مفارقات، فهي ما زالت تتقدم. ويعكس واقع التحالف اليوم إفرازات نصف قرن من العلاقات الخاصة بينهما، والتي أسفرت عن قناعة الإدارة الأمريكية بأن تترك إسرائيل تنفذ ما تراه لأنها أدرى بمصالحها، كما تدرك أمريكا، أن مصالحها في المنطقة تصان، وتتحقق عندما يكون لدى إسرائيل حرية الحركة، والقدرة على تهديد وردع جيرانها العرب، لاسيما وأن إسرائيل هي أول وأهم من يساندها في حالة تهديد مصالحها.
ويُعد التعاون الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية، هدفاً إسرائيليا متأصلاً، يرجع إلى بداية الخمسينيات من القرن العشرين، عندما التقى وزير الخارجية الإسرائيلي وقتها، موشي شاريـت Moshé Sharett، مع وزير الدفاع الأمريكي "جورج مارشال" George Marshall، في نيويورك في ديسمبر 1950، حيث طرح شاريت أول أفكار إسرائيلية عن التعاون الإستراتيجي، واتفق مع وزير الدفاع الأمريكي على إعداد مذكرة تفصيلية حول هذا الموضوع، تضمنّت عرضاً لموقف إسرائيل الاقتصادي، والصناعي، على ضوء الحصار العربي المضروب حولها، وطلبت المساعدة الأمريكية في حل تلك المشكلة، مركزّة على أن ما حققه جيش الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، في مجال الدفاع عن دولة ولدت لتوها ضد القوات العربية، يمثّل مؤشراً جيداً على الخدمة التي تستطيع إسرائيل تقديمها للعالم الحر، إذا نمت قدرتها العسكرية.
وثمة دلالة أخرى تشير إلى محاولات إسرائيل المبكرة للتعاون الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهي رسالة وزير الخارجية الأمريكي، "دين أتشيسون" Dean Acheson، إلى السفارة الأمريكية لدى إسرائيل في ديسمبر 1950، والتي تكشف مناشدة إسرائيل لوزيري الخارجية والدفاع الأمريكيين، تقديم مساعدات لدعم الصناعات الحربية الإسرائيلية، وطالبت بأن تؤخذ إسرائيل في الحسبان عند وضع الخطط الغربية للدفاع عن الشرق الأدنى - من خلال إنتاج السلاح في إسرائيل- بما يساعد على تزويد الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية، كتركيا، واليونان، وإمدادها بالسلاح في الوقت المناسب.
ويعود تاريخ علاقات المساعدات العسكرية الرسمية بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، إلى عام 1952، إلا أنها لم تصبح المورد الرئيسي للأسلحة، التي تحصل عليها إسرائيل إلا عام 1967، أما برنامج المساعدات العسكرية الأمريكية السنوي فقد بدأ عقب حرب أكتوبر 1973، واستمر حتى الآن، وقد سبق ذلك تقديم قروض عسكرية أمريكية لإسرائيل، وموافقتها على ضمان بيع الأسلحة إما من مصادر أجنبية، أو من طريقها.
وقد بلغ إجمالي المساعدات العسكرية الإسرائيلية، أكثر من 1.4 مليار دولارا خلال الفترة من عام 1950 حتى عام 1973. ومنذ عام 1973 زادت هذه المساعدات زيادة كبيرة. ومن الواضح أن حجم المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل، قد تأثرت بالأحداث السياسية، وقضية الصراع العربي الإسرائيلي، حيث استقرّ حجم المساعدات عند مليار دولار سنوياً، خلال السنوات المالية 1978 حتى 1980، أما السنة المالية 1977، فقد خصص لها 2.2 مليار دولار، وارتبط ذلك بالانسحاب الإسرائيلي من سيناء. وخلافاً لذلك، فقد زادت المساعدات العسكرية الخارجية في مجال التسلح عن معدلها العام في حالتين:
1. الحالة الأولى: عند إعادة تسليح إسرائيل في أعقاب حرب أكتوبر 1973، حيث بلغت قيمة هذه المساعدات نحو 2.5 مليار دولار في السنة المالية 1974.
2. الحالة الثانية: عندما حصلت إسرائيل على 17 مليار دولار في شكل قروض، خلال السنة المالية "1976"، بعد اتفاق فض الاشتباك الثاني في سيناء.
والواضح أن توجه السياسة الأمريكية نحو إسرائيل، بدأ يتزايد بعد عام 1967، حيث ازدادت مكانة إسرائيل باعتبار أنها تلعب دوراً رئيسياً في إطار المصالح الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط.
وكنتيجة مباشرة للمتغيرات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط بعد حرب أكتوبر 1973 "توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل ـ سقوط شاه إيران ـ الغزو السوفيتي لأفغانستان"، ومنذ بداية الثمانينيات، بدأ شكل التعاون الإستراتيجي بين البلدين يأخذ مساراً متعاظماً.
أولاً: دوافع إقامة العلاقات العسكرية الإسرائيلية ـ الأمريكية
هناك دوافع مشتركة، أو منفصلة، بين كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في إقامة العلاقات الإستراتيجية، تطورت باستمرار إلى الأفضل دون النظر إلى المتغيرات الحادة في العالم وفي المنطقة، ويمكن أن تتلخص في الآتي:
1. إسرائيل
تمثل الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الإستراتيجي الذي ساند إسرائيل في تحقيق مصالحها وأهدافها القومية، سواء على الصعيدين الإقليمي والدولي، من خلال تقوية مكانتها بالمحافل السياسية، والاقتصادية الإقليمية، علاوة على زيادة إمكانياتها الإنتاجية، بالاعتماد على التكنولوجيا الحديثة التي تتيح لها قدرة الاندماج في الأسواق العالمية الآسيوية ـ الأوروبية، ودعم سياستها في التغلغل بالقارة الأفريقية، لتحقيق مصالحها الأمنية والاقتصادية، فضلاً عما تحصل عليه من مكاسب مباشرة في التعامل مع السوق الأمريكي، أو بدول الأمريكتين من خلال الولايات المتحدة الأمريكية.
2. الولايات المتحدة الأمريكية
تشكل إسرائيل أحد أهم ركائز تحقيق أهداف السياسية الأمريكية في الشرق الأوسط، من خلال الدور، الذي تلعبه مع تركيا لشغل الفراغ الإستراتيجي بمنطقة الخليج العربي، وآسيا الصغرى، والقوقاز، سواء لتأمين المصالح البترولية الأمريكية بتلك المناطق، ومواجهة العدائيات المحتملة من جانب إيران والعراق، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، ووسائل إطلاقها، أو لتأمين المصالح الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط، في ظل تنامي الدور الأوروبي المنافس للدور الأمريكي في مستقبل الترتيبات الأمنية في حوض البحر الأبيض المتوسط. إضافة إلى الدور الذي تلعبه إسرائيل في تحقيق المصالح الأمريكية بالقارة الأفريقية، بصفة عامة، والقرن الأفريقي بصفة خاصة.
كما تقوم إسرائيل بدور الوكالة لتحقيق المصالح الأمريكية في كل من الصين، ودول أمريكا اللاتينية، ومناطق أخرى، من خلال تنفيذ أهداف السياسة الأمريكية، في هذه المناطق بعيداً عن الكونجرس الأمريكي.
ويزيد من قوة الدوافع الأمريكية السابقة، حقيقة قوة ضغط اللوبي الصهيوني الأمريكي على مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، سواء في السياسة الخارجية، أو داخل الإدارة الأمريكية، أو الكونجرس الأمريكي.
كما تأتي الدوافع الأمريكية من خلال اهتمامها بأمن إسرائيل، كالتزام أساسي للسياسة الخارجية الأمريكية، فقد أكد الرؤساء الأمريكيون، وأعضاء الكونجرس التزامهم تجاه بقاء إسرائيل، والحفاظ على أمنها، ويتركّز هذا الدعم في ثلاثة اتجاهات رئيسية، تتمثل في الآتي:
أ. الاتجاه الأول: اتجاه سياسي، وإن أخذ اتجاهات أخرى
يتمثل في أن الالتزام الأمريكي تجاه إسرائيل، هو التزام "أخلاقي" يتمثل في أن لليهود حق في أن تكون لهم دولة, بصرف النظر عن تعارض ذلك مع حقوق العرب الفلسطينيين، كما أن إسرائيل تعتبر دولة ديموقراطية تشارك الولايات المتحدة الأمريكية في كثير من قيمها.
ب. الاتجاه الثاني: اتجاه ينبع من السياسة الداخلية المؤثرة على الإدارة الأمريكية
حيث يرجع أسباب الاهتمام الأمريكي بإسرائيل، إلى اعتبارات داخلية أهمها، وجود الجماعات اليهودية التي تعد على درجة عالية من الكفاءة والنشاط، وكذلك ميل الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية إلى إسرائيل، وليس إلى العرب.
ج. الاتجاه الثالث: اتجاه يستند على مصالح وإستراتيجيات الولايات المتحدة الأمريكية
يرتكز هذا الاتجاه في تفسيره للعلاقات الإسرائيلية ـ الأمريكية، على الفكرة الكلاسيكية الخاصة بالمصلحة القومية، بمعنى أن الولايات المتحدة الأمريكية لا ترسل بملايين الدولارات في شكل معونة عسكرية واقتصادية لإسرائيل، لمجرد الشعور بالتزام أخلاقي، أو لسبب ضغوط اللوبي اليهودي، ولكنها تفعل ذلك من منطلق أن إسرائيل تشكل رصيداً إستراتيجيا مهماً لها في منطقة الشرق الأوسط، التي تعتبر من أهم المناطق للمصالح الأمريكية. فقيمة إسرائيل الإستراتيجية، تنبع من كونها الحليف الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في هذه المنطقة، بل إنها يمكن أن تستخدم قواتها لحماية المصالح الأمريكية، وأن تقدم أو تخصص قواعد لعمليات عسكرية أمريكية في المنطقة. وقد ظهر ذلك واضحاً في حرب يونيه 1967، حيث حققت إسرائيل الهدف الأمريكي في إيقاف المد الثوري المصري، والتأثير على مصالح الغرب البترولية في المنطقة، كذلك في أثناء تصاعد الخلافات بين السلطات الأردنية والعناصر الفلسطينية داخلها في سبتمبر 1970، حيث كان تقدم القوات الإسرائيلية في اتجاه الأردن، والذي نفذ بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية بمثابة رادع للتدخل السوري في الأردن، دون أي تدخل من الجانب الأمريكي. وقد أدارت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الأزمة، كحالة لدراسة أبعاد التعاون العسكري الإسرائيلي ـ الأمريكي، على أساس مبادئ أساسية هي:
(1) التأكيد على أن التدخل الإسرائيلي لن يؤدى إلى تصعيد الموقف.
(2) الإعداد لمعاونة إسرائيل عسكرياً إذا ما تصاعد الموقف.
(3) التنسيق الحذر للمطالب العسكرية السياسية لإسرائيل والأردن.
وقد أدّت نتائج الاعتبار السابق إلى نقل انطباع واضح لدى القيادات الأمريكية المتعاقبة، على ضرورة تحقيق تفوق إسرائيل عسكرياً، واقتصاديًا، وتكنولوجياً كقاعدة مسلحة تحمى المصالح الأمريكية والغرب في المنطقة، وكذا التفكير في تحويل إسرائيل كقوة ردع سريع خاضعة لأمريكا، تعمل بتنسيق وتعاون مع البنتاجون، من أجل تحقيق المصالح الأمريكية بالمنطقة.
3. مراحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي وتأثيرها على التعاون العسكري الإسرائيلي ـ الأمريكي
مرت السياسة الأمريكية في إطار التعاون مع إسرائيل، تجاه الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بتطورات عديدة منذ عام 1948، وقد تحددت هذه السياسة نتيجة لعاملين:
الأول: السياسة الأمريكية تجاه المنطقة ككل، والتي كانت من خلال تطور الصراع الدولي والدور المتغير الذي لعبته إسرائيل في إطار المفاهيم الأمريكية للدفاع عن مصالحها السياسية، والإستراتيجية بمنطقة الشرق الأوسط.
الثاني: العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، والتعاطف مع تلك الدولة، والذي يرجع لأسباب تاريخية، ودينية، وإنسانية، الأمر الذي ضمن لإسرائيل قدراً من التأييد الأمريكي لها، حتى عندما كان يبدو هذا التأييد متعارضاً مع المصالح الأمريكية في المنطقة.
هذا وقد مرت علاقات البلدين بعدة مراحل
أ. المرحلة الأولى من عام 1948 حتى عام 1957
شهدت هذه المرحلة سعي الولايات المتحدة الأمريكية، لإدخال دول منطقة الشرق الأوسط ـ ومن بينها مصر ـ في نظام الدفاع الغربي، وذلك في إطار سياسة الاحتواء الأمريكية الموجهة ضد الاتحاد السوفيتي السابق. وكانت السياسة الأمريكية في هذه المرحلة - والتي تتطلب الاقتراب من الدول العربية، ومنها مصر ـ تتصادم مع الاهتمام الأخلاقي والتعاطف مع إسرائيل، مما أدى إلى توتر جزئي في العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، غير أن التصادم قد تفاوت من فترة إلى أخرى.
ب. المرحلة الثانية 1957-1967
تميزت هذه المرحلة بفشل المحاولات الأمريكية، لربط الدول العربية بنظام الدفاع الغربي، وتخليها بالتالي عن هذا الهدف, والسعي بدلاً من ذلك إلى المحافظة على نفوذها في المنطقة، ومحاولة وقف النفوذ السوفيتي فيها، وذلك من خلال سياسة تحقيق الاستقرار وتوازن القوى الإقليمي.
وقد أزال تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عن محاولتها، ربط الدول العربية بنظام الدفاع الغربي مصدراً أساسياً من أسباب التوتر في العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، وأصبح من الممكن لأمريكا أن تنمي الصداقة مع دول عربية إلى جانب إسرائيل، من أجل تحقيق الاستقرار، وتوازن القوى في المنطقة كأحد أهداف السياسة الأمريكية.
ج. المرحلة الثالثة 1967 – 1973
قامت السياسة الأمريكية، بعد وقف إطلاق النار في يونيه 1967، على ضرورة التوصل إلى تسوية للصراع في منطقة الشرق الأوسط، يتحقق من خلالها الأمن الكامل, وضمان بقاء إسرائيل، وليس مجرد العودة إلى ترتيبات الهدنة،على أن تكون هذه التسوية بإرادة أطراف الصراع دون فرضها عليهم، ودون التقيد ببرنامج زمني لهذه التسوية. كما وضعت السياسة الأمريكية في اعتبارها إمكانية قيامها بدور يؤدي إلى توصل الأطراف المختلفة إلى تسوية للصراع، ينبع من الإرادة الأمريكية، وعلاقاتها بدول المنطقة، ويضمن تحقيق المصالح الأمريكية دون التورط في صدام عسكري مع الاتحاد السوفيتي، خاصة إن استمرار الصراع ـ من وجهة النظر الأمريكية ـ سيؤدي إلى صعوبة تنمية العلاقات بين الحكومات العربية، والولايات المتحدة الأمريكية، ويؤثر سلباً على مصالحها.
غير أنه لما كانت الإدارة الأمريكية ـ في ذلك الوقت ـ مهتمة بحصر نفوذ مصر، فإنها كانت تسعى لإيجاد تسوية للصراع من نوع خاص، بحيث يؤدي إلى بقاء نفوذ مصر داخل حدودها، وفي الوقت نفسه التوجه للدول العربية، وإقناعهم بعدم جدوى الاعتماد على مساعدة السوفيت، أو توجيه أي تهديد لإسرائيل. ومن ثم كانت السياسة الأمريكية تقوم على محاولة استثمار انتصار إسرائيل عام 1967، من أجل التوصل إلى تسوية نهائية للصراع.
وبينما استمرت النظرة الأمريكية بشأن تسوية الصراع في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون Richard Nixon، خلال عام 1970، على أساس التسوية الشاملة للصراع، إلا أن الفترة التالية لها وحتى عام 1973، تميزت بظهور منهج جديد للتسوية، يقوم على أساس محاولة تأييد صيغ جديدة مؤقتة لا تصل إلى حد التسوية الشاملة للصراع، وبالتالي تجنب القضايا الأساسية موضع الخلاف التي تعوق مثل هذه التسوية.
وكان الاعتقاد السائد لدى صانعي القرار الأمريكي، خلال الفترة السابقة لحرب أكتوبر 1973، بأنه يمكن ردع احتمال نشوب حرب بين مصر وإسرائيل، وذلك من طريق استمرار ميزان القوى لصالح إسرائيل، وبما يحقق هدف الولايات المتحدة الأمريكية في حماية أمن وسلامة إسرائيل، وفي الوقت نفسه يقلل من تأثير النفوذ السوفيتي في منطقة الشرق الأوسط.
د. المرحلة الرابعة ما بعد نصر أكتوبر 1973
أثبتت حرب أكتوبر 1973، ونتائجها خطأ التقديرات الأمريكية القائلة، بأن الدعم الأمريكي الشامل لإسرائيل يضمن لها التفوق المطلق علي خصمها العربي في كل الظروف, بما يؤدي إلى تحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
وكانت الإدارة الأمريكية ناجحة في استيعاب هذه المفاجأة الضخمة، والعمل على تعديل تصوراتها للموقف، ولإمكانيات التحرك الأمريكي انطلاقا من إدراكها للأبعاد الجديدة للصراع في ضوء نتائج حرب أكتوبر 1973، ومدى تهديدها للمصالح الأمريكية، خاصة فيما يتعلق باحتمالات المواجهة مع الاتحاد السوفيتي، واستخدام العرب لسلاح البترول بفاعلية. ومن ثم كان على الولايات المتحدة الأمريكية، أن تسعى لحل الصراع، والتحرك تجاه القيادة المصرية، وإقناعها بالدور الأمريكي من أجل تحقيق السلام في المنطقة، وقد تبلورت هذه التحركات جميعا بتوقيع معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية في مارس 1979. وهكذا بدأت مرحلة هامة تالية في التعاون الإستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
هـ. المرحلة الخامسة 1974-1981
مع الانغماس الأمريكي المتزايد في شؤون المنطقة العربية عامة، والعلاقات المصرية ـ الإسرائيلية خاصة، وما أدت إليه الوساطة الأمريكية من توقيع معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية عام 1979، كانت هناك متغيرات أخرى شهدتها المنطقة، مثل سقوط شاه إيران في فبراير 1979، والغزو السوفيتي لأفغانستان في 24 ديسمبر 1979، والتي أدت بطبيعة الحال إلى بلورة رؤية أمريكية لأمن المنطقة.
و. المرحلة السادسة، وهي مرحلة التحالف بعد عام 1981
في ظل إدارة الرئيس رونالد ريجان Ronald Reagan، بدأت السياسة الأمريكية تأخذ أبعاداً جديدة تجاه دول المنطقة، مع إعطاء أسبقية مطلقة، وأساسية لقضية المواجهة مع الاتحاد السوفيتي، ومحاولة إقناع دول المنطقة بأن الخطر الأساسي الذي يتهددها هو خطر النفوذ السوفيتي. ومن ثم تحركت الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق هدفين أساسيين:
الأول: محاولة إقناع دول المنطقة بأهمية الحماية الأمريكية لها، وبما يستتبع ذلك من التسليم بضرورة التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة، وضرورة مساهمة دول المنطقة في ترتيبات الأمن، التي تعد لها الولايات المتحدة الأمريكية.
الثاني: إقامة شكل من أشكال التحالف غير المعلن بين محور كامب ديفيد والدول الأخرى، المرتبطة بالسياسة الأمريكية في المنطقة.
ومع فشل الولايات المتحدة الأمريكية في تحقيق هذين الهدفين، مع الدول العربية بالمنطقة، اتجهت لتوقيع اتفاق التعاون الإستراتيجي مع إسرائيل في 29 نوفمبر 1983.
4. المشاكل التي واجهت التحالف
إن التطور المطرد في العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، وصولاً لصيغة التحالف لم يمر دون مشاكل، مثل التجسس المتبادل بين الدولتين، وتدمير السفينة الأمريكية ليبرتي USS Liberity في يونيه 1967، واتهام إسرائيل بفعل ذلك عمداً، وقضايا الفساد، وسوء استخدام المساعدات الأمريكية، إلا أن هذه القضايا لم تقف دون استمرار التحالف ونموه.
يضاف إلى ذلك المعارضة الداخلية الأمريكية، للمساعدات الضخمة التي تقدم لإسرائيل، وقد جاء ذلك على لسان أحد أبرز ممثلي الحزب الجمهوري الأسبق بوب دول Bob Dole. كذلك كان هناك التغيير السلبي في صورة إسرائيل كمجتمع للحرية، والديموقراطية، بعد غزو لبنان، وأحداث الانتفاضة الفلسطينية، إلا أن هذا التغيير قد أضرّ بمصالح إسرائيل وصورتها أمام العالم والإدارة الأمريكية، كما أضر بمصالح اليهود الأمريكيين، وقدرتهم على ممارسة ضغوط على الإدارة الأمريكية، وخصوصاً مع الخوف اليهودي من أثر الأصولية المسيحية من وجهة النظر الإسرائيلية، التي لا ترى أو تهتم ألا بمسألة عودة المسيح فقط.
ثانياً: تطور العلاقات الإسرائيلية ـ الأمريكية
قبل الخوض في الموضوع، لابد من تفهم حقيقة العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، التي توجهت باستمرار لصالح إسرائيل، دون النظر لمصالح دول المنطقة أو حسن الجوار، أو دون مراعاة مسؤولية دولة كبرى تجاه أمن المنطقة ككل، ولكنها نظرت لأمن إسرائيل وبقائها على أنه التزام أدبي وإستراتيجي. وربما يتضح ذلك من خلال قراءة ديموجرافية، حيث إن اليهود الأمريكيين يمثلون نسبة 2.5% من الشعب الأمريكي، طبقاً لإحصائيات عام 1995، كذلك فأنهم يمثلون 43.5% من يهود العالم، بينما يمثل تعداد اليهود في إسرائيل نفسها حوالي 32.8% فقط من يهود العالم. وتسيطر منظمة "الإيباك"[1] AIPAC على مقدرات السياسة الأمريكية منذ الثلث الأول من القرن العشرين، وتضع مصالح إسرائيل، في مقدمة السياسة الأمريكية، وتمثل أكبر آليات "لوبي الضغط" على الإدارة الأمريكية منذ ذلك الحين, وحتى الآن. ويزيد من قدرة تلك المنظمة في الضغط على الحكومة الأمريكية، أن تصنيف اليهود في أمريكا، يغاير تماما التصنيفات الأخرى، حيث إن معظمهم من أصحاب رؤوس الأموال، أو من العاملين في وسائل الإعلام، أو من أصحاب النفوذ المسيطرين على مجريات الأمور، وللدلالة على ذلك فإن الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس بيل كلينتون Bill Clinton خلال فترة الرئاسة الثانية، كان بين أعضائها أربعة وزراء يهود، يمثلون نسبة 25% من إجمالي الحكومة، كما تتولى 55 شخصية يهودية، وظائف رئيسية في البيت الأبيض، والحكومة، على رأسهم مستشار الأمن القومي "صامويل بيرجر"Samuel Berger، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية، ورئيس البنك المركزي، كما كان هناك 13 مستشاراً ومساعداً للرئيس كلينتون من اليهود. كذلك فإن عدد السفراء الأمريكيين اليهود في دول العالم بلغ 44 سفيرا، منهم السفير الأمريكي في مصر "دانييل كيرتز".
1. الإيباك كعامل مؤثر لصالح إسرائيل
ربما يكون بداية انعكاس التعاون الإستراتيجي بصورة فاعلة، من خلال "الإيباك" كانت عام 1950، وهي التي دفعت الدماء في عروق اقتصاد الدولة العبرية، حيث حصلت على مبلغ 60 مليار دولاراً تعويضات من ألمانيا، بفضل ذكاء "ناحوم جولدمان"، زعيم المنظمة الصهيونية العالمية في ذلك الوقت. وهذا المبلغ بحساب تلك المرحلة الزمنية يعادل ما يزيد عن تريليون دولار بالحسابات الاقتصادية الحالية[2]. وكان انعكاس تلك المساعدات أن أقامت إسرائيل بنية تحتية حديثة، لم تتكلف منها سنتاً واحداً، في الوقت الذي كانت فيه الدول العربية، وخصوصاً دول الطوق ترزح تحت نير الاستعمار وتتآكل بنيتها التحتية دون إصلاح أي خلل فيها، وبالتالي, فإن التفوق الإسرائيلي في البنية التحتية، وفي دخل الفرد، وفي التقدم التقني والفني، قد بدأ فعلا منذ تلك اللحظة[3].
وهناك عامل سياسي آخر، تبرز أهميته في سيطرة اللوبي اليهودي على الانتخابات الأمريكية من أجل ضمان دعم الإدارة الأمريكية القادمة لصالح إسرائيل. ويحصر المفكر الفرنسي "روجيه جارودي"، بعضاً من نماذج السيطرة الصهيونية على الانتخابات الأمريكية قائلاً:
"كان الرئيس هاري ترومان Harry Truman، هو الأكثر صراحة للتعبير عن هذا الوضع، عندما صرح أمام مجموعة من الدبلوماسيين عام 1946، قائلاً: آسف أيها السادة، ولكن علىَّ أن أستجيب لمئات الآلاف من البشر الذين ينتظرون فوز الصهيونية، فليس لدي آلاف العرب من بين ناخبي"، ويعني ذلك اعتراف الرئيس ترومان بتأثير اللوبي الصهيوني على مسار السياسة الأمريكية في المستقبل وحاليا، وربما إذا كان هناك لوبي عربي، لتغير الموقف من أساسه. والملاحظ أن هذا التصريح كان عام 1946، أي قبل إعلان الدولة الصهيونية.
ويذكر روجيه جارودي كذلك، أن رئيس الوزراء البريطاني "كليمنت أتلي" Clement Attlee أكد أن السياسة الأمريكية في فلسطين، يشكلها الصوت الانتخابي اليهودي، والإعانات المقدمة من العديد من الشركات اليهودية الكبرى.
ويذكر أيضاً أن الجماعات اليهودية، استطاعت عام 1960، أن توضح للسيناتور "جون كيندي" John Kennedy، أن موقف أيزنهاور من حرب 1956، كان خاطئاً، لأنه لم يراع مصلحة إسرائيل، وأخذ كيندي بتلك النصيحة، عندما اختير مرشحا للحزب الديموقراطي، وحصل على نصف مليون دولار لحملته الانتخابية من اليهود، وعلى 80% من أصواتهم، وعين "كلوتزسنسك" رئيس مؤتمر الرابطات اليهودية في أمريكا مستشارا له في حملته الانتخابية لكسب أصوات اليهود، وفي أعقاب فوز "كيندي" في الانتخابات، ذهب إليه ديفيد بن جوريون David Ben-Gurion في واشنطن في ربيع عام 1961، حيث بادره كيندي في أول مقابلة "أعرف أنني انتخبت بفضل أصوات اليهود الأمريكيين وأنا أدين لهم بانتخابي، أرجو أن تبادرني بالنصيحة: ماذا أفعل من أجل الشعب اليهودي؟!!
وفي أعقاب مقتل جون كيندي، جاء الرئيس ليندون جونسون Lyndon Johnson، ليذهب في علاقاته مع إسرائيل لأبعد من ذلك بكثير، حيث كان مفرطاً في عشق إسرائيل، حتى أن أحد الدبلوماسيين الإسرائيليين كتب:"لقد فقدنا صديقا كبيرا (يعني كيندي)، ولكننا وجدنا أفضل منه، إنه جونسون، وهو أفضل صديق عرفته إسرائيل في البيت الأبيض".
ونفذ جونسون فعلا كل ما طلبته إسرائيل، وعبّر ليفي أشكول Levi Eshkol، رئيس الوزراء الإسرائيلي لصحيفة دافار في 6 أبريل 1966، عن ذلك بقوله: "يجب أن يفهم الجميع أن الوقت الذي كان فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، يضطر إلى دخول البيت الأبيض من الباب الخلفي قد انقضى، فإن الباب الأمامي للبيت الأبيض، أصبح الآن مفتوحا على مصراعيه لإسرائيل. كما أن جونسون، هو الذي ساند إسرائيل في حرب الأيام الستة في يونيه 1967 بقوة وبشكل علني، ووضع الأسس في اعتبار إسرائيل حليفاً رئيسيا للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط. ومنذ عهد جونسون، فإن 99% من اليهود الأمريكيين يدافعون عن إسرائيل على اعتبار أنها جزء لا يتجزأ من الولايات المتحدة الأمريكية، وسادت بينهم الشعارات "أن تكون يهوديا اليوم، يعني أن تكون مرتبطا بإسرائيل". واستحق ليندون جونسون، الذي أكد الانتماء بين اليهود في أمريكا، ودولة إسرائيل أن يطلق عليه، أنه أفضل صديق، عرفته الدولة العبرية في البيت الأبيض.
وعندما زارت جولدا مائير Golda Meir الولايات المتحدة الأمريكية عام 1969، شبهها الرئيس ريتشارد نيكسون، بأنها "ديبورا التوراتية"، وسلّم لها صفقة هائلة من طائرات الفانتوم وسكاي هوك.
وفي أثناء حرب أكتوبر 1973، أحرز "لوبي الكابيتول اليهودي" نصراً كبيراً، بالتعجيل بتسليح إسرائيل بما قيمته أكثر من ملياري دولار، بحجة مكافحة اللوبي العربي المنافس[4].
وحشدت الإيباك جهودها، في عهد الرئيس جيرالد فورد Gerald Ford، وحصلت على توقيع 76 عضوًا في مجلس الشيوخ الأمريكي في 21 مايو 1975، لمطالبة الرئيس فورد بدعم إسرائيل بصفقة مماثلة لما تسلمته عام 1973.
أما جيمي كارتر Jimmy Carter، فتذكر له مقولته في معبد "إليزابيث"، في ولاية نيوجرسي عام 1976، عندما كان يخاطب جمعاً من اليهود خلال حملته الانتخابية: "إنني أعبد نفس الرب مثلكم، ونحن المعمادانيون، ندرس نفس التوراة مثلكم، وختم قوله.. إن بقاء إسرائيل على قيد الحياة، هو واجب أخلاقي!!" وكان كارتر قد حصل في عام 1976 على 67% من أصوات اليهود، ولكنه في عام 1980، لم يحصل إلا على 45% فقط، لأنه باع طائرات عسكرية لمصر، والمملكة العربية السعودية.
أما الرئيس "رونالد ريجان"، فقد نظر بعمق إلى تأثير اللوبي اليهودي، لذلك فقد فاز في انتخابات عام 1980، وبعدها مباشرة منح إسرائيل معونات فورية قيمتها ستمائة مليون دولار وشجعها على تدمير المفاعل النووي العراقي في السابع من يونيه 1981. وأعطى الضوء الأخضر لغزو لبنان في الخامس من يونيه 1982. كما كان ريجان هو أول من وقع "اتفاقيات إستراتيجية مع إسرائيل"، وأول من منح إسرائيل تكنولوجيا متقدمة في الصناعات العسكرية، بل سار إلى أبعد من ذلك عندما أشركها في برنامج حرب النجوم الأمريكي.
أما الرئيس جورج بوش George Bush, فقد تطورت الاتفاقيات الإستراتيجية في عهده، وأصدر مبادرته، بحظر تكنولوجيا التسليح المتقدمة عن دول الشرق الأوسط عدا إسرائيل. ومع ذلك فَقَدَ أصوات اليهود في إعادة انتخابه عام 1992، نظرا لجهوده في تحقيق السلام في الشرق الأوسط، التي لم تكن تريدها إسرائيل.
أما الرئيس بيل كلينتون، كان أكثر الرؤساء الأمريكيين تعاطفاً مع إسرائيل، وأول رئيس أمريكي يلقي خطابا أمام الكنيست الإسرائيلي، وأول من حشد زعماء العالم في مؤتمر دولي لبحث ما سماه "الإرهاب ضد إسرائيل". وفي عهده صدر قرار الكونجرس عام 1995، لنقل مقر السفارة الأمريكية إلي القدس[5]. وحصلت إسرائيل في عهده على تكنولوجيا متطورة في مجال التسليح، جعلت منها خامس دول العالم في الصناعات العسكرية المتقدمة. وقد استغلت إسرائيل هذا التقدم في بيع التكنولوجيا الأمريكية نفسها، من خلال صناعات حربية إسرائيلية، وهو ما أثار حفيظة الإدارة الأمريكية، وجعلها تضغط لإيقاف صفقة الطائرات "الفالكون" المزودة بأجهزة متقدمة في مجال الاستطلاع، والإنذار إلى الصين، والهند في منتصف عام 2000.
وفي الوقت نفسه، فإن الحزب الديموقراطي في انتخابات نوفمبر 2000، آثر أن يرشح نائبا للرئيس من اليهود المتشددين، وهو السيناتور "جوزيف ليبرمان"، حتى يستميل أصوات اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية لصالح الحزب. ويعد هذا الترشيح أول سابقة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، لأنه يثير احتمال تولي يهودي متشدد لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، في حالة نجاح الحزب في الانتخابات، والوفاة المفاجئة للرئيس المنتخب.
وما سبق يوضح العلاقة الحقيقية بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، والتي يبني على أساسها الاتفاقيات الإستراتيجية، التي بدأت منذ قيامها، في صورة اتفاقيات غير معلنة، أو دعم مادي وأدبي. ولكن تلك العلاقة تطورت اعتباراً من بداية عقد الثمانينيات لتصبح اتفاقيات مكتوبة، ومصدق عليها من الأجهزة التنفيذية، والتشريعية للدولتين.
2. مراحل تطور العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية وصولاً لصيغة التحالف الإستراتيجي
مرّت العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية بعدة مراحل، وتأثرت بعدة عوامل، أهمها شخصية، وخلفية الرؤساء المتعاقبين على الإدارة الأمريكية, بالإضافة إلى المتغيرات التي حدثت بالمنطقة والتي أثرت على المصالح الأمريكية وأمن إسرائيل. ومع تطور الوضع الدولي، والظروف الإقليمية، فقد تعاون كل من هاري ترومان، ودوايت أيزنهاور مع كل من إسرائيل والعرب، إلا أن ترومان بفضل صداقته مع وايزمان، فقد أدت إلى إحداث تقارب بينه وبين إسرائيل.
في حين أن خبرة الدولة الإسرائيلية في التعامل مع أيزنهاور مختلفة تماماً، فرغم خلفيته العسكرية، وعلمه بفظائع النازي ضد اليهود في أوروبا، فقد كان أكثر تشدداً في تعامله معهما. ويعكس هذا موقفه من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، حين اقترفت إسرائيل خطأً كبيراً، من خلال انضمامها لدول العدوان دون الحصول على الضوء الأخضر من الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم ذلك، فإن أهمية إسرائيل في الإستراتيجية الأمريكية لاحتواء الشيوعية، تنبع من خلال دورها في موازنة النفوذ الشيوعي في أفريقيا الحساسة لأي تدخل خارجي بعد طول فترة الاستعمار، وقد ساهمت هذه الأهمية في استمرار التفاعل عبر قناة الاستخبارات بين الدولتين، رغم فشل مشاريع السلام، والخلاف حول قضية اللاجئين، ومسألة توريد السلاح، وتعليق المساعدات.
أما كيندي وجونسون، فقد تعاملا مع إسرائيل كصديق وشريك. ففي ظل إدارة كيندي تحولت العلاقات لصيغة أقرب لتعهد قومي، حيث جرى التأكيد على أهمية التعايش السلمي بين العرب وإسرائيل، التي تملك الموارد الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والقادرة على الدفاع عن نفسها حيث تحوّلت إسرائيل لمشروع أمريكي، أو قاعدة للنفوذ والقوة للولايات المتحدة داخل الشرق الأوسط. ورغم الخلاف حول مسألة اللاجئين الفلسطينيين وغيرها، فإن دور اليهود في انتخابات كيندي، ثم أزمة الصواريخ الكوبية، أدت إلى إبراز دور إسرائيل الإستراتيجي لخدمة المصالح الأمريكية، وبدأ الحديث عن فكرة الشراكة، مع تطور ملحوظ في حجم المساعدات، وصفقات التسليح.
وقد كان للتفاعل الشخصي الإيجابي، بين جونسون وأشكول، دور مهم، كما أن تطور ظروف الحرب الباردة، واهتمام جونسون بها، وإجادة إسرائيل في تقديم ورسم دورها كحليف إستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، داخل المنطقة المنقادة ـ بزعامة مصر ـ للمعسكر الشرقي، ساهم ذلك في توطيد ودعم العلاقات الإسرائيلية ـ الأمريكية، هذا بالإضافة لتأكيد إسرائيل على نفسها كمجتمع مفتوح قريب من الثقافة الأمريكية، وواحة الديموقراطية، بحيث تحوّلت إسرائيل خلال الستينيات لمعبود الرأي العام الأمريكي. وخلال هذه الفترة قفزت المعونة الأمريكية لإسرائيل إلى 130 مليون دولار، مع إهداء إسرائيل أسلحة هجومية عام 1965، وأخيراً توقيع أول مذكرة تفاهم بخصوص التسليح والبحث العلمي عام 1967. وفي ذات الوقت، فقد ساهمت حرب 1967 في التحسن المطرد في صورة وموقف إسرائيل، حيث تلاشت المخاوف من احتمال سقوط الدولة الإسرائيلية، وبدا للعيان أن إسرائيل تقبل بالسلام في حين يرفضه العرب، من خلال اللاءات الثلاثة الشهيرة[6]. وهنا اعتبرت إسرائيل نفسها حرة في بناء حقائق جديدة على الأراضي المحتلة بعد عام 1967، حيث ضمّت القدس الشرقية، وشرعت في بناء المستوطنات، رغم معارضة الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تقدم على فعل شيء.
ومثلت مرحلة نيكسون وفورد أولى خطوات التحول الرسمي بصيغة التحالف الإستراتيجي، حيث أصبحت بالنسبة للولايات المتحدة هي الشريك المناسب, أما مقابل الشراكة، فقد تمثل في معونات، وقروض، وأسلحة، وضمانات عسكرية قدرت بـ 1.15 مليار دولار. وبرغم أن حرب أكتوبر 1973 قد أخلّت بمصداقية إسرائيل، إلا أنها لم تمنعها من التوسل وطلب المساعدات الأمريكية العسكرية، والاقتصادية العاجلة.
وكان لحرب أكتوبر 1973 أثرها في صعود اليمين بزعامة مناحم بيجن Manchem Begin، وفي المقابل فإن كارتر باهتمامه الشديد بمسألة حقوق الإنسان، ومسألة اللاجئين الفلسطينيين، ومعارضته لتجارة السلاح، وخلفيته الدينية، كل هذا جعل منه شريكاً غير مناسب، ومثيراً للقلق الإسرائيلي، بالإضافة لاستعداده الدائم للضغط على إسرائيل لإتمام الانسحاب، وتحقيق السلام مع مصر. ورغم التعويضات الأمريكية لإسرائيل، فإن فترة رئاسة جيمي كارتر مثّلث من وجهة نظر إسرائيل ويهود أمريكا ضرورة العمل على إسقاطه، أو على الأقل عدم منحه الأصوات اليهودية عندما تقدم لترشيح نفسه للمرة الثانية عام 1980. كما ساعد على إسقاطه الغزو السوفيتي لأفغانستان، والثورة الإيرانية، بالإضافة لأزمة الرهائن في طهران. كذلك فإن فترتي رئاسة ريجان مثلتا مرحلة ذهبية في مسار العلاقات الإسرائيلية-الأمريكية، حيث جاء رونالد ريجان للسلطة بعد أن حصل على 40% من أصوات اليهود، وهي نسبة مرتفعة بالنسبة للحزب الجمهوري. ورغم المعارضة الشديدة التي قادتها إسرائيل لصفقة "الأواكس" للمملكة العربية السعودية، والغارة الإسرائيلية على المفاعل العراقي، وعدم اقتناع إسرائيل بالعائد السياسي والعسكري من توقيع مذكرة التفاهم الإستراتيجي عام 1981، إلا أن هذا لا ينفي أن التحالف أصبح رسمياً وموثقاً. ورغم تشوّه صورة إسرائيل تحت ضغط فظائع الغزو الإسرائيلي للبنان، إلا أن هذا لم يمنع الإدارة الأمريكية من مكافأة إسرائيل من خلال اتفاقية التجارة الحرة التي أنعشت الاقتصاد الإسرائيلي، ثم توقيع اتفاق 1983، وتجديد التحالف عام 1988، مع نمو قوة منظمة "الإيباك" بعد صفقة الأواكس. كل هذا جعل من ريجان الشريك المناسب لإسرائيل سياسياً، وعسكرياً، واقتصاديًا، حيث أصبح الترابط بين الاقتصاد الأمريكي والإسرائيلي في أقوى صوره، وتنامي حجم المساعدات الأمريكية لإسرائيل بشقيها العسكري، والاقتصادي، إضافة إلى الاستثمارات الأمريكية في إسرائيل، خاصة من المؤسسات اليهودية الأمريكية.
3. المراحل الزمنية للتعاون العسكري
ارتبطت علاقات التعاون العسكري بنشأة وتطور قيام الدولة العبرية، كما ساهمت الظروف الإقليمية والدولية المحيطة بكل مرحلة، في تشكيل دوافع وأهداف كل منهما تجاه هذا التعاون، وذلك على النحو التالي:
أ. المرحلة الأولى "حقبة الخمسينيات"
اقتصرت العلاقات فيها على الدعم السياسي، والاقتصادي الأمريكي لإسرائيل، ارتباطاً بالرغبة الأمريكية في تحقيق المصالحة بين الديانتين المسيحية واليهودية، وتعويض اليهود عن سنوات المعاناة والتعذيب النازي لهم، بوطن قومي، مع الحرص الأمريكي على تجنب ردود الفعل العربية السلبية تجاه مصالحها بالشرق الأوسط، حال تقديم الدعم العسكري لإسرائيل.
ب. المرحلة الثانية "حقبة الستينيات والسبعينيات"
شهدت بداية التعاون العسكري بين البلدين عقب حرب يونيه 1967، من خلال صفقة الطائرات "سكاي هوك"، وصواريخ دفاع جوي "هوك" الأمريكية لإسرائيل، إضافة إلى توقيع أول مذكرة تفاهم للتعاون في مجال البحث، والتطوير، وبيع السلاح الإسرائيلي لأمريكا. وارتبط هذا الدعم والتعاون في إطار ضغط من اللوبي الصهيوني داخل الولايات المتحدة الأمريكية، لدفع الإدارة الأمريكية إلى التدخل لحماية الديموقراطية في إسرائيل، من العداء العربي المرتبط بالدول الشيوعية. هذا بالإضافة إلى الرغبة الأمريكية في التعرف على تكنولوجيا التسليح الشرقية، من خلال الأسلحة التي استولت عليها إسرائيل من الدول العربية في حرب 1967.
ج. المرحلة الثالثة "حقبة الثمانينيات"
مثلّث هذه المرحلة الانطلاقة الحقيقية للتعاون الإستراتيجي بين البلدين، حيث وقّعت عام 1981، أول اتفاقية للتعاون الإستراتيجي بينهما، وما أعقبها من بروتوكولات، للتعاون في مختلف المجالات تحت إشراف لجان عمل مشتركة من الجانبين، ثم انضمام إسرائيل لمبادرة الدفاع الإستراتيجي الأمريكية عام 1986.
د. المرحلة الرابعة "حقبة التسعينيات"
اكتسبت هذه المرحلة أهمية خاصة، ارتباطاً بواقع تأثيرها على الترتيبات الأمنية في الشرق الأوسط بعد حرب الخليج الثانية 1990/1991، علاوة على المتغيرات العالمية، التي أدت إلى تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار الشيوعية في دول أوروبا الشرقية، وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى وحيدة في العالم، ومن ثم سيطرتها على النظام العالمي الجديد، ومن ثم الهيمنة الأمريكية على منابع البترول في الخليج العربي، ووجودها العسكري فيه. وجاءت مسيرة السلام بين العرب وإسرائيل بعد مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991، لكي تحصل إسرائيل على نتائج هذا السلام، وهو أمر ساهم في ترسيخ وضعها كحليف إستراتيجي رئيسي لتحقيق الإستراتيجية الأمنية ـ طبقاً للتصور الأمريكي ـ في الشرق الأوسط، من منطلق وحدة المصالح، في مواجهة العدائيات المشتركة لمصالح كل منهما في المنطقة.
لذلك، فإن التعاون العسكري بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، ممتد منذ إنشائها وحتى الآن، سواء من خلال تحقيق المصالح المتبادلة، أو توقيع اتفاقيات غير معلنة، أو من خلال اتفاقيات تحدد بأسلوب دبلوماسي مع إنشاء لجان لمتابعتها، وهذا النوع من الاتفاقيات بدأ منذ عام 1981، وكانت لكل مرحلة انعكاساتها على المنطقة العربية، وعلى العالم.
وقد حرص الرؤساء الأمريكيون باستمرار، أن يكون أمن دولة إسرائيل وبقاؤها، وتفوقها على دول الجوار العربية، إحدى الأسس الرئيسية للسياسة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، وفي المقابل، فإن قادة إسرائيل كان لديهم نفس الحرص على تحقيق التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية، الذي بدأ حثيثاً من خلال الضغوط الصهيونية على الإدارات الأمريكية المتعاقبة، ثم وصل إلى ذروته خلال عقد الستينيات، واستمر بعد ذلك في وتيرة متصاعدة، دون مراعاة لأي متغيرات على المستوى الإقليمي والدولي، أو مراعاة مصالح دول المنطقة، ودون النظر إلى ما يمكن أن تتعرض له المصالح الأمريكية.
وشمل التعاون العسكري كافة الجوانب الإستراتيجية، التي تؤثر على الأمن الوطني لإسرائيل، حيث انعكس هذا التعاون بشدة، على ضمان بقاء إسرائيل نفسها، وأصبح هناك ارتباطاً وثيقاً بين مختلف المؤسسات الأمريكية وإسرائيل، وأصبحت التكنولوجيا الأمريكية المتقدمة، في يد إسرائيل، وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية، هي الدولة الرئيسية في استيراد الأسلحة، والمعدات العسكرية، التي تنتج في إسرائيل، سواء كان ذلك من قبيل تشجيع الصناعات الإسرائيلية، أو التقليل من عجز الميزان التجاري بين الدولتين.
وإذا دققنا النظر في تطور التعاون العسكري بين الدولتين، فالملاحظ أن اللوبي اليهودي داخل الولايات المتحدة الأمريكية، هو صاحب اليد العليا في دفع الإدارة الأمريكية للتعاون مع إسرائيل.
وإذا كانت الاتفاقيات العسكرية، قد صيغت كوثائق تاريخية اعتباراً من أوائل عقد ثمانينيات القرن العشرين، إلا أن التعاون العسكري، لم يتوقف بين أمريكا وإسرائيل، والذي بدأ بضغوط على الدول الغربية لإمداد إسرائيل بالسلاح، ثم شراء صفقات أسلحة بأموال أمريكية لصالح إسرائيل، ثم إمداد إسرائيل بالأسلحة، والتكنولوجيا الأمريكية علناً، ودون أي اعتبار.
أما النتيجة النهائية لهذا التعاون، فهو وجود ثغرة هائلة في التوازن العسكري بين إسرائيل ودول المواجهة العربية، أدت إلى تصاعد صلفها وغرورها، وتحدي الرأي العام العربي، والعالمي فيما تفعله في مواجهة الانتفاضات الفلسطينية، وهو ما لم يكن ليحدث إلا من خلال دعم أمريكي مفرط.
دوافع إقامة العلاقات العسكرية الإسرائيلية ـ الأمريكية وتطورها
لم تبن العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية بين عشية وضحاها، ورغم ما تحمل هذه العلاقة من مفارقات، فهي ما زالت تتقدم. ويعكس واقع التحالف اليوم إفرازات نصف قرن من العلاقات الخاصة بينهما، والتي أسفرت عن قناعة الإدارة الأمريكية بأن تترك إسرائيل تنفذ ما تراه لأنها أدرى بمصالحها، كما تدرك أمريكا، أن مصالحها في المنطقة تصان، وتتحقق عندما يكون لدى إسرائيل حرية الحركة، والقدرة على تهديد وردع جيرانها العرب، لاسيما وأن إسرائيل هي أول وأهم من يساندها في حالة تهديد مصالحها.
ويُعد التعاون الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية، هدفاً إسرائيليا متأصلاً، يرجع إلى بداية الخمسينيات من القرن العشرين، عندما التقى وزير الخارجية الإسرائيلي وقتها، موشي شاريـت Moshé Sharett، مع وزير الدفاع الأمريكي "جورج مارشال" George Marshall، في نيويورك في ديسمبر 1950، حيث طرح شاريت أول أفكار إسرائيلية عن التعاون الإستراتيجي، واتفق مع وزير الدفاع الأمريكي على إعداد مذكرة تفصيلية حول هذا الموضوع، تضمنّت عرضاً لموقف إسرائيل الاقتصادي، والصناعي، على ضوء الحصار العربي المضروب حولها، وطلبت المساعدة الأمريكية في حل تلك المشكلة، مركزّة على أن ما حققه جيش الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، في مجال الدفاع عن دولة ولدت لتوها ضد القوات العربية، يمثّل مؤشراً جيداً على الخدمة التي تستطيع إسرائيل تقديمها للعالم الحر، إذا نمت قدرتها العسكرية.
وثمة دلالة أخرى تشير إلى محاولات إسرائيل المبكرة للتعاون الإستراتيجي مع الولايات المتحدة الأمريكية، وهي رسالة وزير الخارجية الأمريكي، "دين أتشيسون" Dean Acheson، إلى السفارة الأمريكية لدى إسرائيل في ديسمبر 1950، والتي تكشف مناشدة إسرائيل لوزيري الخارجية والدفاع الأمريكيين، تقديم مساعدات لدعم الصناعات الحربية الإسرائيلية، وطالبت بأن تؤخذ إسرائيل في الحسبان عند وضع الخطط الغربية للدفاع عن الشرق الأدنى - من خلال إنتاج السلاح في إسرائيل- بما يساعد على تزويد الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية، كتركيا، واليونان، وإمدادها بالسلاح في الوقت المناسب.
ويعود تاريخ علاقات المساعدات العسكرية الرسمية بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، إلى عام 1952، إلا أنها لم تصبح المورد الرئيسي للأسلحة، التي تحصل عليها إسرائيل إلا عام 1967، أما برنامج المساعدات العسكرية الأمريكية السنوي فقد بدأ عقب حرب أكتوبر 1973، واستمر حتى الآن، وقد سبق ذلك تقديم قروض عسكرية أمريكية لإسرائيل، وموافقتها على ضمان بيع الأسلحة إما من مصادر أجنبية، أو من طريقها.
وقد بلغ إجمالي المساعدات العسكرية الإسرائيلية، أكثر من 1.4 مليار دولارا خلال الفترة من عام 1950 حتى عام 1973. ومنذ عام 1973 زادت هذه المساعدات زيادة كبيرة. ومن الواضح أن حجم المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل، قد تأثرت بالأحداث السياسية، وقضية الصراع العربي الإسرائيلي، حيث استقرّ حجم المساعدات عند مليار دولار سنوياً، خلال السنوات المالية 1978 حتى 1980، أما السنة المالية 1977، فقد خصص لها 2.2 مليار دولار، وارتبط ذلك بالانسحاب الإسرائيلي من سيناء. وخلافاً لذلك، فقد زادت المساعدات العسكرية الخارجية في مجال التسلح عن معدلها العام في حالتين:
1. الحالة الأولى: عند إعادة تسليح إسرائيل في أعقاب حرب أكتوبر 1973، حيث بلغت قيمة هذه المساعدات نحو 2.5 مليار دولار في السنة المالية 1974.
2. الحالة الثانية: عندما حصلت إسرائيل على 17 مليار دولار في شكل قروض، خلال السنة المالية "1976"، بعد اتفاق فض الاشتباك الثاني في سيناء.
والواضح أن توجه السياسة الأمريكية نحو إسرائيل، بدأ يتزايد بعد عام 1967، حيث ازدادت مكانة إسرائيل باعتبار أنها تلعب دوراً رئيسياً في إطار المصالح الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط.
وكنتيجة مباشرة للمتغيرات التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط بعد حرب أكتوبر 1973 "توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل ـ سقوط شاه إيران ـ الغزو السوفيتي لأفغانستان"، ومنذ بداية الثمانينيات، بدأ شكل التعاون الإستراتيجي بين البلدين يأخذ مساراً متعاظماً.
أولاً: دوافع إقامة العلاقات العسكرية الإسرائيلية ـ الأمريكية
هناك دوافع مشتركة، أو منفصلة، بين كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية في إقامة العلاقات الإستراتيجية، تطورت باستمرار إلى الأفضل دون النظر إلى المتغيرات الحادة في العالم وفي المنطقة، ويمكن أن تتلخص في الآتي:
1. إسرائيل
تمثل الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف الإستراتيجي الذي ساند إسرائيل في تحقيق مصالحها وأهدافها القومية، سواء على الصعيدين الإقليمي والدولي، من خلال تقوية مكانتها بالمحافل السياسية، والاقتصادية الإقليمية، علاوة على زيادة إمكانياتها الإنتاجية، بالاعتماد على التكنولوجيا الحديثة التي تتيح لها قدرة الاندماج في الأسواق العالمية الآسيوية ـ الأوروبية، ودعم سياستها في التغلغل بالقارة الأفريقية، لتحقيق مصالحها الأمنية والاقتصادية، فضلاً عما تحصل عليه من مكاسب مباشرة في التعامل مع السوق الأمريكي، أو بدول الأمريكتين من خلال الولايات المتحدة الأمريكية.
2. الولايات المتحدة الأمريكية
تشكل إسرائيل أحد أهم ركائز تحقيق أهداف السياسية الأمريكية في الشرق الأوسط، من خلال الدور، الذي تلعبه مع تركيا لشغل الفراغ الإستراتيجي بمنطقة الخليج العربي، وآسيا الصغرى، والقوقاز، سواء لتأمين المصالح البترولية الأمريكية بتلك المناطق، ومواجهة العدائيات المحتملة من جانب إيران والعراق، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، ووسائل إطلاقها، أو لتأمين المصالح الأمريكية بمنطقة الشرق الأوسط، في ظل تنامي الدور الأوروبي المنافس للدور الأمريكي في مستقبل الترتيبات الأمنية في حوض البحر الأبيض المتوسط. إضافة إلى الدور الذي تلعبه إسرائيل في تحقيق المصالح الأمريكية بالقارة الأفريقية، بصفة عامة، والقرن الأفريقي بصفة خاصة.
كما تقوم إسرائيل بدور الوكالة لتحقيق المصالح الأمريكية في كل من الصين، ودول أمريكا اللاتينية، ومناطق أخرى، من خلال تنفيذ أهداف السياسة الأمريكية، في هذه المناطق بعيداً عن الكونجرس الأمريكي.
ويزيد من قوة الدوافع الأمريكية السابقة، حقيقة قوة ضغط اللوبي الصهيوني الأمريكي على مراكز صنع القرار في الولايات المتحدة الأمريكية، سواء في السياسة الخارجية، أو داخل الإدارة الأمريكية، أو الكونجرس الأمريكي.
كما تأتي الدوافع الأمريكية من خلال اهتمامها بأمن إسرائيل، كالتزام أساسي للسياسة الخارجية الأمريكية، فقد أكد الرؤساء الأمريكيون، وأعضاء الكونجرس التزامهم تجاه بقاء إسرائيل، والحفاظ على أمنها، ويتركّز هذا الدعم في ثلاثة اتجاهات رئيسية، تتمثل في الآتي:
أ. الاتجاه الأول: اتجاه سياسي، وإن أخذ اتجاهات أخرى
يتمثل في أن الالتزام الأمريكي تجاه إسرائيل، هو التزام "أخلاقي" يتمثل في أن لليهود حق في أن تكون لهم دولة, بصرف النظر عن تعارض ذلك مع حقوق العرب الفلسطينيين، كما أن إسرائيل تعتبر دولة ديموقراطية تشارك الولايات المتحدة الأمريكية في كثير من قيمها.
ب. الاتجاه الثاني: اتجاه ينبع من السياسة الداخلية المؤثرة على الإدارة الأمريكية
حيث يرجع أسباب الاهتمام الأمريكي بإسرائيل، إلى اعتبارات داخلية أهمها، وجود الجماعات اليهودية التي تعد على درجة عالية من الكفاءة والنشاط، وكذلك ميل الرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية إلى إسرائيل، وليس إلى العرب.
ج. الاتجاه الثالث: اتجاه يستند على مصالح وإستراتيجيات الولايات المتحدة الأمريكية
يرتكز هذا الاتجاه في تفسيره للعلاقات الإسرائيلية ـ الأمريكية، على الفكرة الكلاسيكية الخاصة بالمصلحة القومية، بمعنى أن الولايات المتحدة الأمريكية لا ترسل بملايين الدولارات في شكل معونة عسكرية واقتصادية لإسرائيل، لمجرد الشعور بالتزام أخلاقي، أو لسبب ضغوط اللوبي اليهودي، ولكنها تفعل ذلك من منطلق أن إسرائيل تشكل رصيداً إستراتيجيا مهماً لها في منطقة الشرق الأوسط، التي تعتبر من أهم المناطق للمصالح الأمريكية. فقيمة إسرائيل الإستراتيجية، تنبع من كونها الحليف الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في هذه المنطقة، بل إنها يمكن أن تستخدم قواتها لحماية المصالح الأمريكية، وأن تقدم أو تخصص قواعد لعمليات عسكرية أمريكية في المنطقة. وقد ظهر ذلك واضحاً في حرب يونيه 1967، حيث حققت إسرائيل الهدف الأمريكي في إيقاف المد الثوري المصري، والتأثير على مصالح الغرب البترولية في المنطقة، كذلك في أثناء تصاعد الخلافات بين السلطات الأردنية والعناصر الفلسطينية داخلها في سبتمبر 1970، حيث كان تقدم القوات الإسرائيلية في اتجاه الأردن، والذي نفذ بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية بمثابة رادع للتدخل السوري في الأردن، دون أي تدخل من الجانب الأمريكي. وقد أدارت الولايات المتحدة الأمريكية هذه الأزمة، كحالة لدراسة أبعاد التعاون العسكري الإسرائيلي ـ الأمريكي، على أساس مبادئ أساسية هي:
(1) التأكيد على أن التدخل الإسرائيلي لن يؤدى إلى تصعيد الموقف.
(2) الإعداد لمعاونة إسرائيل عسكرياً إذا ما تصاعد الموقف.
(3) التنسيق الحذر للمطالب العسكرية السياسية لإسرائيل والأردن.
وقد أدّت نتائج الاعتبار السابق إلى نقل انطباع واضح لدى القيادات الأمريكية المتعاقبة، على ضرورة تحقيق تفوق إسرائيل عسكرياً، واقتصاديًا، وتكنولوجياً كقاعدة مسلحة تحمى المصالح الأمريكية والغرب في المنطقة، وكذا التفكير في تحويل إسرائيل كقوة ردع سريع خاضعة لأمريكا، تعمل بتنسيق وتعاون مع البنتاجون، من أجل تحقيق المصالح الأمريكية بالمنطقة.
3. مراحل الصراع العربي ـ الإسرائيلي وتأثيرها على التعاون العسكري الإسرائيلي ـ الأمريكي
مرت السياسة الأمريكية في إطار التعاون مع إسرائيل، تجاه الصراع العربي ـ الإسرائيلي، بتطورات عديدة منذ عام 1948، وقد تحددت هذه السياسة نتيجة لعاملين:
الأول: السياسة الأمريكية تجاه المنطقة ككل، والتي كانت من خلال تطور الصراع الدولي والدور المتغير الذي لعبته إسرائيل في إطار المفاهيم الأمريكية للدفاع عن مصالحها السياسية، والإستراتيجية بمنطقة الشرق الأوسط.
الثاني: العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، والتعاطف مع تلك الدولة، والذي يرجع لأسباب تاريخية، ودينية، وإنسانية، الأمر الذي ضمن لإسرائيل قدراً من التأييد الأمريكي لها، حتى عندما كان يبدو هذا التأييد متعارضاً مع المصالح الأمريكية في المنطقة.
هذا وقد مرت علاقات البلدين بعدة مراحل
أ. المرحلة الأولى من عام 1948 حتى عام 1957
شهدت هذه المرحلة سعي الولايات المتحدة الأمريكية، لإدخال دول منطقة الشرق الأوسط ـ ومن بينها مصر ـ في نظام الدفاع الغربي، وذلك في إطار سياسة الاحتواء الأمريكية الموجهة ضد الاتحاد السوفيتي السابق. وكانت السياسة الأمريكية في هذه المرحلة - والتي تتطلب الاقتراب من الدول العربية، ومنها مصر ـ تتصادم مع الاهتمام الأخلاقي والتعاطف مع إسرائيل، مما أدى إلى توتر جزئي في العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، غير أن التصادم قد تفاوت من فترة إلى أخرى.
ب. المرحلة الثانية 1957-1967
تميزت هذه المرحلة بفشل المحاولات الأمريكية، لربط الدول العربية بنظام الدفاع الغربي، وتخليها بالتالي عن هذا الهدف, والسعي بدلاً من ذلك إلى المحافظة على نفوذها في المنطقة، ومحاولة وقف النفوذ السوفيتي فيها، وذلك من خلال سياسة تحقيق الاستقرار وتوازن القوى الإقليمي.
وقد أزال تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عن محاولتها، ربط الدول العربية بنظام الدفاع الغربي مصدراً أساسياً من أسباب التوتر في العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، وأصبح من الممكن لأمريكا أن تنمي الصداقة مع دول عربية إلى جانب إسرائيل، من أجل تحقيق الاستقرار، وتوازن القوى في المنطقة كأحد أهداف السياسة الأمريكية.
ج. المرحلة الثالثة 1967 – 1973
قامت السياسة الأمريكية، بعد وقف إطلاق النار في يونيه 1967، على ضرورة التوصل إلى تسوية للصراع في منطقة الشرق الأوسط، يتحقق من خلالها الأمن الكامل, وضمان بقاء إسرائيل، وليس مجرد العودة إلى ترتيبات الهدنة،على أن تكون هذه التسوية بإرادة أطراف الصراع دون فرضها عليهم، ودون التقيد ببرنامج زمني لهذه التسوية. كما وضعت السياسة الأمريكية في اعتبارها إمكانية قيامها بدور يؤدي إلى توصل الأطراف المختلفة إلى تسوية للصراع، ينبع من الإرادة الأمريكية، وعلاقاتها بدول المنطقة، ويضمن تحقيق المصالح الأمريكية دون التورط في صدام عسكري مع الاتحاد السوفيتي، خاصة إن استمرار الصراع ـ من وجهة النظر الأمريكية ـ سيؤدي إلى صعوبة تنمية العلاقات بين الحكومات العربية، والولايات المتحدة الأمريكية، ويؤثر سلباً على مصالحها.
غير أنه لما كانت الإدارة الأمريكية ـ في ذلك الوقت ـ مهتمة بحصر نفوذ مصر، فإنها كانت تسعى لإيجاد تسوية للصراع من نوع خاص، بحيث يؤدي إلى بقاء نفوذ مصر داخل حدودها، وفي الوقت نفسه التوجه للدول العربية، وإقناعهم بعدم جدوى الاعتماد على مساعدة السوفيت، أو توجيه أي تهديد لإسرائيل. ومن ثم كانت السياسة الأمريكية تقوم على محاولة استثمار انتصار إسرائيل عام 1967، من أجل التوصل إلى تسوية نهائية للصراع.
وبينما استمرت النظرة الأمريكية بشأن تسوية الصراع في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون Richard Nixon، خلال عام 1970، على أساس التسوية الشاملة للصراع، إلا أن الفترة التالية لها وحتى عام 1973، تميزت بظهور منهج جديد للتسوية، يقوم على أساس محاولة تأييد صيغ جديدة مؤقتة لا تصل إلى حد التسوية الشاملة للصراع، وبالتالي تجنب القضايا الأساسية موضع الخلاف التي تعوق مثل هذه التسوية.
وكان الاعتقاد السائد لدى صانعي القرار الأمريكي، خلال الفترة السابقة لحرب أكتوبر 1973، بأنه يمكن ردع احتمال نشوب حرب بين مصر وإسرائيل، وذلك من طريق استمرار ميزان القوى لصالح إسرائيل، وبما يحقق هدف الولايات المتحدة الأمريكية في حماية أمن وسلامة إسرائيل، وفي الوقت نفسه يقلل من تأثير النفوذ السوفيتي في منطقة الشرق الأوسط.
د. المرحلة الرابعة ما بعد نصر أكتوبر 1973
أثبتت حرب أكتوبر 1973، ونتائجها خطأ التقديرات الأمريكية القائلة، بأن الدعم الأمريكي الشامل لإسرائيل يضمن لها التفوق المطلق علي خصمها العربي في كل الظروف, بما يؤدي إلى تحقيق الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط.
وكانت الإدارة الأمريكية ناجحة في استيعاب هذه المفاجأة الضخمة، والعمل على تعديل تصوراتها للموقف، ولإمكانيات التحرك الأمريكي انطلاقا من إدراكها للأبعاد الجديدة للصراع في ضوء نتائج حرب أكتوبر 1973، ومدى تهديدها للمصالح الأمريكية، خاصة فيما يتعلق باحتمالات المواجهة مع الاتحاد السوفيتي، واستخدام العرب لسلاح البترول بفاعلية. ومن ثم كان على الولايات المتحدة الأمريكية، أن تسعى لحل الصراع، والتحرك تجاه القيادة المصرية، وإقناعها بالدور الأمريكي من أجل تحقيق السلام في المنطقة، وقد تبلورت هذه التحركات جميعا بتوقيع معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية في مارس 1979. وهكذا بدأت مرحلة هامة تالية في التعاون الإستراتيجي بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
هـ. المرحلة الخامسة 1974-1981
مع الانغماس الأمريكي المتزايد في شؤون المنطقة العربية عامة، والعلاقات المصرية ـ الإسرائيلية خاصة، وما أدت إليه الوساطة الأمريكية من توقيع معاهدة السلام المصرية ـ الإسرائيلية عام 1979، كانت هناك متغيرات أخرى شهدتها المنطقة، مثل سقوط شاه إيران في فبراير 1979، والغزو السوفيتي لأفغانستان في 24 ديسمبر 1979، والتي أدت بطبيعة الحال إلى بلورة رؤية أمريكية لأمن المنطقة.
و. المرحلة السادسة، وهي مرحلة التحالف بعد عام 1981
في ظل إدارة الرئيس رونالد ريجان Ronald Reagan، بدأت السياسة الأمريكية تأخذ أبعاداً جديدة تجاه دول المنطقة، مع إعطاء أسبقية مطلقة، وأساسية لقضية المواجهة مع الاتحاد السوفيتي، ومحاولة إقناع دول المنطقة بأن الخطر الأساسي الذي يتهددها هو خطر النفوذ السوفيتي. ومن ثم تحركت الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق هدفين أساسيين:
الأول: محاولة إقناع دول المنطقة بأهمية الحماية الأمريكية لها، وبما يستتبع ذلك من التسليم بضرورة التواجد العسكري الأمريكي في المنطقة، وضرورة مساهمة دول المنطقة في ترتيبات الأمن، التي تعد لها الولايات المتحدة الأمريكية.
الثاني: إقامة شكل من أشكال التحالف غير المعلن بين محور كامب ديفيد والدول الأخرى، المرتبطة بالسياسة الأمريكية في المنطقة.
ومع فشل الولايات المتحدة الأمريكية في تحقيق هذين الهدفين، مع الدول العربية بالمنطقة، اتجهت لتوقيع اتفاق التعاون الإستراتيجي مع إسرائيل في 29 نوفمبر 1983.
4. المشاكل التي واجهت التحالف
إن التطور المطرد في العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية، وصولاً لصيغة التحالف لم يمر دون مشاكل، مثل التجسس المتبادل بين الدولتين، وتدمير السفينة الأمريكية ليبرتي USS Liberity في يونيه 1967، واتهام إسرائيل بفعل ذلك عمداً، وقضايا الفساد، وسوء استخدام المساعدات الأمريكية، إلا أن هذه القضايا لم تقف دون استمرار التحالف ونموه.
يضاف إلى ذلك المعارضة الداخلية الأمريكية، للمساعدات الضخمة التي تقدم لإسرائيل، وقد جاء ذلك على لسان أحد أبرز ممثلي الحزب الجمهوري الأسبق بوب دول Bob Dole. كذلك كان هناك التغيير السلبي في صورة إسرائيل كمجتمع للحرية، والديموقراطية، بعد غزو لبنان، وأحداث الانتفاضة الفلسطينية، إلا أن هذا التغيير قد أضرّ بمصالح إسرائيل وصورتها أمام العالم والإدارة الأمريكية، كما أضر بمصالح اليهود الأمريكيين، وقدرتهم على ممارسة ضغوط على الإدارة الأمريكية، وخصوصاً مع الخوف اليهودي من أثر الأصولية المسيحية من وجهة النظر الإسرائيلية، التي لا ترى أو تهتم ألا بمسألة عودة المسيح فقط.
ثانياً: تطور العلاقات الإسرائيلية ـ الأمريكية
قبل الخوض في الموضوع، لابد من تفهم حقيقة العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، التي توجهت باستمرار لصالح إسرائيل، دون النظر لمصالح دول المنطقة أو حسن الجوار، أو دون مراعاة مسؤولية دولة كبرى تجاه أمن المنطقة ككل، ولكنها نظرت لأمن إسرائيل وبقائها على أنه التزام أدبي وإستراتيجي. وربما يتضح ذلك من خلال قراءة ديموجرافية، حيث إن اليهود الأمريكيين يمثلون نسبة 2.5% من الشعب الأمريكي، طبقاً لإحصائيات عام 1995، كذلك فأنهم يمثلون 43.5% من يهود العالم، بينما يمثل تعداد اليهود في إسرائيل نفسها حوالي 32.8% فقط من يهود العالم. وتسيطر منظمة "الإيباك"[1] AIPAC على مقدرات السياسة الأمريكية منذ الثلث الأول من القرن العشرين، وتضع مصالح إسرائيل، في مقدمة السياسة الأمريكية، وتمثل أكبر آليات "لوبي الضغط" على الإدارة الأمريكية منذ ذلك الحين, وحتى الآن. ويزيد من قدرة تلك المنظمة في الضغط على الحكومة الأمريكية، أن تصنيف اليهود في أمريكا، يغاير تماما التصنيفات الأخرى، حيث إن معظمهم من أصحاب رؤوس الأموال، أو من العاملين في وسائل الإعلام، أو من أصحاب النفوذ المسيطرين على مجريات الأمور، وللدلالة على ذلك فإن الإدارة الأمريكية في عهد الرئيس بيل كلينتون Bill Clinton خلال فترة الرئاسة الثانية، كان بين أعضائها أربعة وزراء يهود، يمثلون نسبة 25% من إجمالي الحكومة، كما تتولى 55 شخصية يهودية، وظائف رئيسية في البيت الأبيض، والحكومة، على رأسهم مستشار الأمن القومي "صامويل بيرجر"Samuel Berger، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية، ورئيس البنك المركزي، كما كان هناك 13 مستشاراً ومساعداً للرئيس كلينتون من اليهود. كذلك فإن عدد السفراء الأمريكيين اليهود في دول العالم بلغ 44 سفيرا، منهم السفير الأمريكي في مصر "دانييل كيرتز".
1. الإيباك كعامل مؤثر لصالح إسرائيل
ربما يكون بداية انعكاس التعاون الإستراتيجي بصورة فاعلة، من خلال "الإيباك" كانت عام 1950، وهي التي دفعت الدماء في عروق اقتصاد الدولة العبرية، حيث حصلت على مبلغ 60 مليار دولاراً تعويضات من ألمانيا، بفضل ذكاء "ناحوم جولدمان"، زعيم المنظمة الصهيونية العالمية في ذلك الوقت. وهذا المبلغ بحساب تلك المرحلة الزمنية يعادل ما يزيد عن تريليون دولار بالحسابات الاقتصادية الحالية[2]. وكان انعكاس تلك المساعدات أن أقامت إسرائيل بنية تحتية حديثة، لم تتكلف منها سنتاً واحداً، في الوقت الذي كانت فيه الدول العربية، وخصوصاً دول الطوق ترزح تحت نير الاستعمار وتتآكل بنيتها التحتية دون إصلاح أي خلل فيها، وبالتالي, فإن التفوق الإسرائيلي في البنية التحتية، وفي دخل الفرد، وفي التقدم التقني والفني، قد بدأ فعلا منذ تلك اللحظة[3].
وهناك عامل سياسي آخر، تبرز أهميته في سيطرة اللوبي اليهودي على الانتخابات الأمريكية من أجل ضمان دعم الإدارة الأمريكية القادمة لصالح إسرائيل. ويحصر المفكر الفرنسي "روجيه جارودي"، بعضاً من نماذج السيطرة الصهيونية على الانتخابات الأمريكية قائلاً:
"كان الرئيس هاري ترومان Harry Truman، هو الأكثر صراحة للتعبير عن هذا الوضع، عندما صرح أمام مجموعة من الدبلوماسيين عام 1946، قائلاً: آسف أيها السادة، ولكن علىَّ أن أستجيب لمئات الآلاف من البشر الذين ينتظرون فوز الصهيونية، فليس لدي آلاف العرب من بين ناخبي"، ويعني ذلك اعتراف الرئيس ترومان بتأثير اللوبي الصهيوني على مسار السياسة الأمريكية في المستقبل وحاليا، وربما إذا كان هناك لوبي عربي، لتغير الموقف من أساسه. والملاحظ أن هذا التصريح كان عام 1946، أي قبل إعلان الدولة الصهيونية.
ويذكر روجيه جارودي كذلك، أن رئيس الوزراء البريطاني "كليمنت أتلي" Clement Attlee أكد أن السياسة الأمريكية في فلسطين، يشكلها الصوت الانتخابي اليهودي، والإعانات المقدمة من العديد من الشركات اليهودية الكبرى.
ويذكر أيضاً أن الجماعات اليهودية، استطاعت عام 1960، أن توضح للسيناتور "جون كيندي" John Kennedy، أن موقف أيزنهاور من حرب 1956، كان خاطئاً، لأنه لم يراع مصلحة إسرائيل، وأخذ كيندي بتلك النصيحة، عندما اختير مرشحا للحزب الديموقراطي، وحصل على نصف مليون دولار لحملته الانتخابية من اليهود، وعلى 80% من أصواتهم، وعين "كلوتزسنسك" رئيس مؤتمر الرابطات اليهودية في أمريكا مستشارا له في حملته الانتخابية لكسب أصوات اليهود، وفي أعقاب فوز "كيندي" في الانتخابات، ذهب إليه ديفيد بن جوريون David Ben-Gurion في واشنطن في ربيع عام 1961، حيث بادره كيندي في أول مقابلة "أعرف أنني انتخبت بفضل أصوات اليهود الأمريكيين وأنا أدين لهم بانتخابي، أرجو أن تبادرني بالنصيحة: ماذا أفعل من أجل الشعب اليهودي؟!!
وفي أعقاب مقتل جون كيندي، جاء الرئيس ليندون جونسون Lyndon Johnson، ليذهب في علاقاته مع إسرائيل لأبعد من ذلك بكثير، حيث كان مفرطاً في عشق إسرائيل، حتى أن أحد الدبلوماسيين الإسرائيليين كتب:"لقد فقدنا صديقا كبيرا (يعني كيندي)، ولكننا وجدنا أفضل منه، إنه جونسون، وهو أفضل صديق عرفته إسرائيل في البيت الأبيض".
ونفذ جونسون فعلا كل ما طلبته إسرائيل، وعبّر ليفي أشكول Levi Eshkol، رئيس الوزراء الإسرائيلي لصحيفة دافار في 6 أبريل 1966، عن ذلك بقوله: "يجب أن يفهم الجميع أن الوقت الذي كان فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، يضطر إلى دخول البيت الأبيض من الباب الخلفي قد انقضى، فإن الباب الأمامي للبيت الأبيض، أصبح الآن مفتوحا على مصراعيه لإسرائيل. كما أن جونسون، هو الذي ساند إسرائيل في حرب الأيام الستة في يونيه 1967 بقوة وبشكل علني، ووضع الأسس في اعتبار إسرائيل حليفاً رئيسيا للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط. ومنذ عهد جونسون، فإن 99% من اليهود الأمريكيين يدافعون عن إسرائيل على اعتبار أنها جزء لا يتجزأ من الولايات المتحدة الأمريكية، وسادت بينهم الشعارات "أن تكون يهوديا اليوم، يعني أن تكون مرتبطا بإسرائيل". واستحق ليندون جونسون، الذي أكد الانتماء بين اليهود في أمريكا، ودولة إسرائيل أن يطلق عليه، أنه أفضل صديق، عرفته الدولة العبرية في البيت الأبيض.
وعندما زارت جولدا مائير Golda Meir الولايات المتحدة الأمريكية عام 1969، شبهها الرئيس ريتشارد نيكسون، بأنها "ديبورا التوراتية"، وسلّم لها صفقة هائلة من طائرات الفانتوم وسكاي هوك.
وفي أثناء حرب أكتوبر 1973، أحرز "لوبي الكابيتول اليهودي" نصراً كبيراً، بالتعجيل بتسليح إسرائيل بما قيمته أكثر من ملياري دولار، بحجة مكافحة اللوبي العربي المنافس[4].
وحشدت الإيباك جهودها، في عهد الرئيس جيرالد فورد Gerald Ford، وحصلت على توقيع 76 عضوًا في مجلس الشيوخ الأمريكي في 21 مايو 1975، لمطالبة الرئيس فورد بدعم إسرائيل بصفقة مماثلة لما تسلمته عام 1973.
أما جيمي كارتر Jimmy Carter، فتذكر له مقولته في معبد "إليزابيث"، في ولاية نيوجرسي عام 1976، عندما كان يخاطب جمعاً من اليهود خلال حملته الانتخابية: "إنني أعبد نفس الرب مثلكم، ونحن المعمادانيون، ندرس نفس التوراة مثلكم، وختم قوله.. إن بقاء إسرائيل على قيد الحياة، هو واجب أخلاقي!!" وكان كارتر قد حصل في عام 1976 على 67% من أصوات اليهود، ولكنه في عام 1980، لم يحصل إلا على 45% فقط، لأنه باع طائرات عسكرية لمصر، والمملكة العربية السعودية.
أما الرئيس "رونالد ريجان"، فقد نظر بعمق إلى تأثير اللوبي اليهودي، لذلك فقد فاز في انتخابات عام 1980، وبعدها مباشرة منح إسرائيل معونات فورية قيمتها ستمائة مليون دولار وشجعها على تدمير المفاعل النووي العراقي في السابع من يونيه 1981. وأعطى الضوء الأخضر لغزو لبنان في الخامس من يونيه 1982. كما كان ريجان هو أول من وقع "اتفاقيات إستراتيجية مع إسرائيل"، وأول من منح إسرائيل تكنولوجيا متقدمة في الصناعات العسكرية، بل سار إلى أبعد من ذلك عندما أشركها في برنامج حرب النجوم الأمريكي.
أما الرئيس جورج بوش George Bush, فقد تطورت الاتفاقيات الإستراتيجية في عهده، وأصدر مبادرته، بحظر تكنولوجيا التسليح المتقدمة عن دول الشرق الأوسط عدا إسرائيل. ومع ذلك فَقَدَ أصوات اليهود في إعادة انتخابه عام 1992، نظرا لجهوده في تحقيق السلام في الشرق الأوسط، التي لم تكن تريدها إسرائيل.
أما الرئيس بيل كلينتون، كان أكثر الرؤساء الأمريكيين تعاطفاً مع إسرائيل، وأول رئيس أمريكي يلقي خطابا أمام الكنيست الإسرائيلي، وأول من حشد زعماء العالم في مؤتمر دولي لبحث ما سماه "الإرهاب ضد إسرائيل". وفي عهده صدر قرار الكونجرس عام 1995، لنقل مقر السفارة الأمريكية إلي القدس[5]. وحصلت إسرائيل في عهده على تكنولوجيا متطورة في مجال التسليح، جعلت منها خامس دول العالم في الصناعات العسكرية المتقدمة. وقد استغلت إسرائيل هذا التقدم في بيع التكنولوجيا الأمريكية نفسها، من خلال صناعات حربية إسرائيلية، وهو ما أثار حفيظة الإدارة الأمريكية، وجعلها تضغط لإيقاف صفقة الطائرات "الفالكون" المزودة بأجهزة متقدمة في مجال الاستطلاع، والإنذار إلى الصين، والهند في منتصف عام 2000.
وفي الوقت نفسه، فإن الحزب الديموقراطي في انتخابات نوفمبر 2000، آثر أن يرشح نائبا للرئيس من اليهود المتشددين، وهو السيناتور "جوزيف ليبرمان"، حتى يستميل أصوات اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية لصالح الحزب. ويعد هذا الترشيح أول سابقة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، لأنه يثير احتمال تولي يهودي متشدد لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، في حالة نجاح الحزب في الانتخابات، والوفاة المفاجئة للرئيس المنتخب.
وما سبق يوضح العلاقة الحقيقية بين إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، والتي يبني على أساسها الاتفاقيات الإستراتيجية، التي بدأت منذ قيامها، في صورة اتفاقيات غير معلنة، أو دعم مادي وأدبي. ولكن تلك العلاقة تطورت اعتباراً من بداية عقد الثمانينيات لتصبح اتفاقيات مكتوبة، ومصدق عليها من الأجهزة التنفيذية، والتشريعية للدولتين.
2. مراحل تطور العلاقات الأمريكية - الإسرائيلية وصولاً لصيغة التحالف الإستراتيجي
مرّت العلاقات الأمريكية ـ الإسرائيلية بعدة مراحل، وتأثرت بعدة عوامل، أهمها شخصية، وخلفية الرؤساء المتعاقبين على الإدارة الأمريكية, بالإضافة إلى المتغيرات التي حدثت بالمنطقة والتي أثرت على المصالح الأمريكية وأمن إسرائيل. ومع تطور الوضع الدولي، والظروف الإقليمية، فقد تعاون كل من هاري ترومان، ودوايت أيزنهاور مع كل من إسرائيل والعرب، إلا أن ترومان بفضل صداقته مع وايزمان، فقد أدت إلى إحداث تقارب بينه وبين إسرائيل.
في حين أن خبرة الدولة الإسرائيلية في التعامل مع أيزنهاور مختلفة تماماً، فرغم خلفيته العسكرية، وعلمه بفظائع النازي ضد اليهود في أوروبا، فقد كان أكثر تشدداً في تعامله معهما. ويعكس هذا موقفه من العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، حين اقترفت إسرائيل خطأً كبيراً، من خلال انضمامها لدول العدوان دون الحصول على الضوء الأخضر من الولايات المتحدة الأمريكية، ورغم ذلك، فإن أهمية إسرائيل في الإستراتيجية الأمريكية لاحتواء الشيوعية، تنبع من خلال دورها في موازنة النفوذ الشيوعي في أفريقيا الحساسة لأي تدخل خارجي بعد طول فترة الاستعمار، وقد ساهمت هذه الأهمية في استمرار التفاعل عبر قناة الاستخبارات بين الدولتين، رغم فشل مشاريع السلام، والخلاف حول قضية اللاجئين، ومسألة توريد السلاح، وتعليق المساعدات.
أما كيندي وجونسون، فقد تعاملا مع إسرائيل كصديق وشريك. ففي ظل إدارة كيندي تحولت العلاقات لصيغة أقرب لتعهد قومي، حيث جرى التأكيد على أهمية التعايش السلمي بين العرب وإسرائيل، التي تملك الموارد الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والقادرة على الدفاع عن نفسها حيث تحوّلت إسرائيل لمشروع أمريكي، أو قاعدة للنفوذ والقوة للولايات المتحدة داخل الشرق الأوسط. ورغم الخلاف حول مسألة اللاجئين الفلسطينيين وغيرها، فإن دور اليهود في انتخابات كيندي، ثم أزمة الصواريخ الكوبية، أدت إلى إبراز دور إسرائيل الإستراتيجي لخدمة المصالح الأمريكية، وبدأ الحديث عن فكرة الشراكة، مع تطور ملحوظ في حجم المساعدات، وصفقات التسليح.
وقد كان للتفاعل الشخصي الإيجابي، بين جونسون وأشكول، دور مهم، كما أن تطور ظروف الحرب الباردة، واهتمام جونسون بها، وإجادة إسرائيل في تقديم ورسم دورها كحليف إستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية، داخل المنطقة المنقادة ـ بزعامة مصر ـ للمعسكر الشرقي، ساهم ذلك في توطيد ودعم العلاقات الإسرائيلية ـ الأمريكية، هذا بالإضافة لتأكيد إسرائيل على نفسها كمجتمع مفتوح قريب من الثقافة الأمريكية، وواحة الديموقراطية، بحيث تحوّلت إسرائيل خلال الستينيات لمعبود الرأي العام الأمريكي. وخلال هذه الفترة قفزت المعونة الأمريكية لإسرائيل إلى 130 مليون دولار، مع إهداء إسرائيل أسلحة هجومية عام 1965، وأخيراً توقيع أول مذكرة تفاهم بخصوص التسليح والبحث العلمي عام 1967. وفي ذات الوقت، فقد ساهمت حرب 1967 في التحسن المطرد في صورة وموقف إسرائيل، حيث تلاشت المخاوف من احتمال سقوط الدولة الإسرائيلية، وبدا للعيان أن إسرائيل تقبل بالسلام في حين يرفضه العرب، من خلال اللاءات الثلاثة الشهيرة[6]. وهنا اعتبرت إسرائيل نفسها حرة في بناء حقائق جديدة على الأراضي المحتلة بعد عام 1967، حيث ضمّت القدس الشرقية، وشرعت في بناء المستوطنات، رغم معارضة الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تقدم على فعل شيء.
ومثلت مرحلة نيكسون وفورد أولى خطوات التحول الرسمي بصيغة التحالف الإستراتيجي، حيث أصبحت بالنسبة للولايات المتحدة هي الشريك المناسب, أما مقابل الشراكة، فقد تمثل في معونات، وقروض، وأسلحة، وضمانات عسكرية قدرت بـ 1.15 مليار دولار. وبرغم أن حرب أكتوبر 1973 قد أخلّت بمصداقية إسرائيل، إلا أنها لم تمنعها من التوسل وطلب المساعدات الأمريكية العسكرية، والاقتصادية العاجلة.
وكان لحرب أكتوبر 1973 أثرها في صعود اليمين بزعامة مناحم بيجن Manchem Begin، وفي المقابل فإن كارتر باهتمامه الشديد بمسألة حقوق الإنسان، ومسألة اللاجئين الفلسطينيين، ومعارضته لتجارة السلاح، وخلفيته الدينية، كل هذا جعل منه شريكاً غير مناسب، ومثيراً للقلق الإسرائيلي، بالإضافة لاستعداده الدائم للضغط على إسرائيل لإتمام الانسحاب، وتحقيق السلام مع مصر. ورغم التعويضات الأمريكية لإسرائيل، فإن فترة رئاسة جيمي كارتر مثّلث من وجهة نظر إسرائيل ويهود أمريكا ضرورة العمل على إسقاطه، أو على الأقل عدم منحه الأصوات اليهودية عندما تقدم لترشيح نفسه للمرة الثانية عام 1980. كما ساعد على إسقاطه الغزو السوفيتي لأفغانستان، والثورة الإيرانية، بالإضافة لأزمة الرهائن في طهران. كذلك فإن فترتي رئاسة ريجان مثلتا مرحلة ذهبية في مسار العلاقات الإسرائيلية-الأمريكية، حيث جاء رونالد ريجان للسلطة بعد أن حصل على 40% من أصوات اليهود، وهي نسبة مرتفعة بالنسبة للحزب الجمهوري. ورغم المعارضة الشديدة التي قادتها إسرائيل لصفقة "الأواكس" للمملكة العربية السعودية، والغارة الإسرائيلية على المفاعل العراقي، وعدم اقتناع إسرائيل بالعائد السياسي والعسكري من توقيع مذكرة التفاهم الإستراتيجي عام 1981، إلا أن هذا لا ينفي أن التحالف أصبح رسمياً وموثقاً. ورغم تشوّه صورة إسرائيل تحت ضغط فظائع الغزو الإسرائيلي للبنان، إلا أن هذا لم يمنع الإدارة الأمريكية من مكافأة إسرائيل من خلال اتفاقية التجارة الحرة التي أنعشت الاقتصاد الإسرائيلي، ثم توقيع اتفاق 1983، وتجديد التحالف عام 1988، مع نمو قوة منظمة "الإيباك" بعد صفقة الأواكس. كل هذا جعل من ريجان الشريك المناسب لإسرائيل سياسياً، وعسكرياً، واقتصاديًا، حيث أصبح الترابط بين الاقتصاد الأمريكي والإسرائيلي في أقوى صوره، وتنامي حجم المساعدات الأمريكية لإسرائيل بشقيها العسكري، والاقتصادي، إضافة إلى الاستثمارات الأمريكية في إسرائيل، خاصة من المؤسسات اليهودية الأمريكية.
3. المراحل الزمنية للتعاون العسكري
ارتبطت علاقات التعاون العسكري بنشأة وتطور قيام الدولة العبرية، كما ساهمت الظروف الإقليمية والدولية المحيطة بكل مرحلة، في تشكيل دوافع وأهداف كل منهما تجاه هذا التعاون، وذلك على النحو التالي:
أ. المرحلة الأولى "حقبة الخمسينيات"
اقتصرت العلاقات فيها على الدعم السياسي، والاقتصادي الأمريكي لإسرائيل، ارتباطاً بالرغبة الأمريكية في تحقيق المصالحة بين الديانتين المسيحية واليهودية، وتعويض اليهود عن سنوات المعاناة والتعذيب النازي لهم، بوطن قومي، مع الحرص الأمريكي على تجنب ردود الفعل العربية السلبية تجاه مصالحها بالشرق الأوسط، حال تقديم الدعم العسكري لإسرائيل.
ب. المرحلة الثانية "حقبة الستينيات والسبعينيات"
شهدت بداية التعاون العسكري بين البلدين عقب حرب يونيه 1967، من خلال صفقة الطائرات "سكاي هوك"، وصواريخ دفاع جوي "هوك" الأمريكية لإسرائيل، إضافة إلى توقيع أول مذكرة تفاهم للتعاون في مجال البحث، والتطوير، وبيع السلاح الإسرائيلي لأمريكا. وارتبط هذا الدعم والتعاون في إطار ضغط من اللوبي الصهيوني داخل الولايات المتحدة الأمريكية، لدفع الإدارة الأمريكية إلى التدخل لحماية الديموقراطية في إسرائيل، من العداء العربي المرتبط بالدول الشيوعية. هذا بالإضافة إلى الرغبة الأمريكية في التعرف على تكنولوجيا التسليح الشرقية، من خلال الأسلحة التي استولت عليها إسرائيل من الدول العربية في حرب 1967.
ج. المرحلة الثالثة "حقبة الثمانينيات"
مثلّث هذه المرحلة الانطلاقة الحقيقية للتعاون الإستراتيجي بين البلدين، حيث وقّعت عام 1981، أول اتفاقية للتعاون الإستراتيجي بينهما، وما أعقبها من بروتوكولات، للتعاون في مختلف المجالات تحت إشراف لجان عمل مشتركة من الجانبين، ثم انضمام إسرائيل لمبادرة الدفاع الإستراتيجي الأمريكية عام 1986.
د. المرحلة الرابعة "حقبة التسعينيات"
اكتسبت هذه المرحلة أهمية خاصة، ارتباطاً بواقع تأثيرها على الترتيبات الأمنية في الشرق الأوسط بعد حرب الخليج الثانية 1990/1991، علاوة على المتغيرات العالمية، التي أدت إلى تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار الشيوعية في دول أوروبا الشرقية، وانفراد الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى وحيدة في العالم، ومن ثم سيطرتها على النظام العالمي الجديد، ومن ثم الهيمنة الأمريكية على منابع البترول في الخليج العربي، ووجودها العسكري فيه. وجاءت مسيرة السلام بين العرب وإسرائيل بعد مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991، لكي تحصل إسرائيل على نتائج هذا السلام، وهو أمر ساهم في ترسيخ وضعها كحليف إستراتيجي رئيسي لتحقيق الإستراتيجية الأمنية ـ طبقاً للتصور الأمريكي ـ في الشرق الأوسط، من منطلق وحدة المصالح، في مواجهة العدائيات المشتركة لمصالح كل منهما في المنطقة.
التعديل الأخير: