معتقل العقيلة "الهولوكوست الإيطالي المنسي" في الصحراء الليبية
"عدد الذين زُجّ بهم من أبناء القبائل بلغ حوالى نصف مليون شخص قتل منهم 130 ألفاً على الأقل"
تحتفظ ذاكرة الشعب الليبي، بخزان ذكريات مؤلم، عن فترة الاستعمار الإيطالي لليبيا، الذي بدأ في عام 1911 وامتد حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، أشدها مرارة وبؤساً، ما يتعلق بمعتقلات العقاب الجماعي، التي أنشأتها القوات الإيطالية، لحصار المقاومة الشعبية وخنقها، في أواخر عشرينيات القرن الماضي.
ويطلق بعض الليبيين على المأساة الوحشية التي وقعت خلف أسلاك المعتقلات الإيطالية، وتحت لهيب الصحراء اللافح، اسم "الهولوكوست" الليبي، لوصف عملية الإبادة الجماعية التي تمت خلفها، في واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية.
أشهر معتقلات الموت والرعب تلك التي نصبها الاستعمار الإيطالي لإخضاع الشعب الليبي كان في قرية العقيلة غرب بنغازي بنحو 280 كيلومتراً، الذي لا تزال آثاره محفورة في وجدان الليبيين وفوق رمال صحرائهم القاسية وفي صفحات أدبهم الشعبي، الذي خلد تلك الجريمة بأكثر من صورة.
ذكريان مؤلمتان عن الحرب والرصاص
العقيلة هي بلدة صغيرة وادعة، تقع جنوب خليج السدرة، الذي يشتهر بمينائه النفطي، بينما تشتهر هي بحدثين تاريخيين، وقعا في النصف الأول من القرن الماضي، حيث كانت مسرحاً لإحدى المعارك الشهيرة في الحرب العالمية الثانية، ضمن حملة الفوهرر هتلر، على شمال أفريقيا، بين جيشه بقيادة القائد الشهير رومل والجيش البريطاني.
معسكر للعقاب الجماعي للقبائل التي كانت تدعم المقاتلين ضد الطليان
بينما تشتهر العقيلة أكثر عند الليبيين بحدث تاريخي آخر، حيث كانت مسرحاً للتنكيل بهم من قبل إيطاليا، التي جعلتها معسكراً للعقاب الجماعي، جمعت فيه قبائل كاملة، كانت تدعم المقاتلين في ليبيا ضدها، من طبرق إلى بنغازي، خصوصاً من كانت تجمعه أي علاقة قربى بالمقاتلين، للضغط عليهم للاستسلام .
جرائم ضد الإنسانية
داخل هذا المعتقل، مارست السلطات الإيطالية أبشع ممارسات الإذلال الممكنة على المحاصرين بداخله، حتى إن تصديق وقوعها لم يكن ليصبح يسيراً، لولا أن الجاني خلد جريمته بالصوت والصورة، حين صورت السلطات الإيطالية أفلاماً عدة عن المعتقل، استخدمت بعد سنوات طويلة، دليل إدانة ضدها في قضية تعويضات رفعتها عليها ليبيا.
وكانت السلطات الليبية، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، قد وثقت شهادات المحظوظين القلائل، الذين تمكنوا من الخروج أحياء من جحيم العقيلة، وتحدث هؤلاء عما كان يدور فيه، من تعذيب وإذلال وتجويع، أدت لمقتل ثلثي من دخلوا المعتقل، وقت إنشائه بين عامي 1928 و1931 .
وكشف هؤلاء الشهود عن إجراءات عقابية صارمة، طُبقت على السجناء في العقيلة، تمثلت في إعدام كل من تأكدت علاقته بالمقاتلين، أو قدم لهم أي نوع من أنواع المساعدة، وعقوبة الجلد لكل من يتخلف عن التمام اليومي، الذي يقام ثلاث مرات يومياً، صباحاً وظهراً ومساءً، أو يخالف التعليمات أو ينشر دعاية ضد السلطات الإيطالية.
وذكروا أن تلك السلطات أجبرتهم على القيام بأعمال السخرة، مثل تفريغ حمولة السفن وإزالة الرمال المتحركة من مكان لآخر وتنظيف الأسطبل وحمل النفايات، وكان أشدها قساوة استخدامهم لشق الطريق الساحلي قرب العقيلة ورصفها، قائلين إنهم كانوا يعملون نصف اليوم في الصحراء، مقابل حفنة من الشعير أو كسرة من الخبز، ومن كان يقع مغمىً عليه من الإجهاد، يجلد غالباً حتى الموت.
وسط هذه الظروف والممارسات المؤلمة، كان من الطبيعي أن تنتشر أمراض كثيرة، بين القبائل التي حشرت في خيام خلف الأسلاك الشائكة، مثل السل والشلل والعمى والعاهات المستديمة، وأن يدفن في رمال المعتقل الوحشي، ما بين 18 إلى 20 ألف ليبي، من مجموع 30 ألفاً، قادتهم أقدارهم إليه، بحسب الإحصاءات المتوافرة .
سلسلة من معسكرات الموت
ويقول الباحث الليبي إسماعيل الفلاح، عن تلك الواقعة المؤلمة في تاريخ البلاد، "لم يكن معتقل العقيلة الوحيد الذي أنشأته روما لحصار المقاومة الشعبية، التي يقودها عمر المختار، بل كان ضمن سلسلة من المعتقلات، التي أنشئت في المنطقة الممتدة من غرب بنغازي إلى سرت، في أماكن تعرف بالطبيعة القاسية والمناخ الصحراوي".
ويضيف "كانت هذه المعتقلات جزءاً من خطة إيطالية لدفع المقاتلين الليبيين إلى الاستسلام وإنهاء المقاومة. بدأت بإنشاء سياج فاصل من الأسلاك الشائكة على جزء كبير من الحدود مع مصر، لمنع وصول الإمدادات إلى عمر المختار ومن معه، لإخماد المقاومة في برقة، التي كانت آخر جزء في ليبيا رفض إلقاء السلاح وإنهاء المقاومة للاستعمار الإيطالي".
ويؤكد الفلاح أنه "بحسب البيانات والإحصاءات الخاصة بهذا الملف، والتي أعدت في فترة حكم القذافي لليبيا، فإن عدد الذين زُجّ بهم في هذه المعتقلات، من أبناء القبائل الليبية، بلغ حوالى نصف مليون شخص قتل منهم 130 ألفاً على الأقل".
قدمت روما اعتذاراً علنياً لليبيا
قصيدة "ما بي مرض"
وكانت قصيدة "ما بي مرض"، للشاعر الشعبي الليبي رجب بوحويش، من قبيلة المنفة، وهي قبيلة عمر المختار القائد الشهير، من أهم أسباب تخليد هذه المأساة التراجيدية، في ذاكرة الليبيين ووجدانهم، وهي قصيدة دونت بالتفصيل ما وقع من جرائم، في معتقل العقيلة .
ويقول مقطع القصيدة وهو باللهجة العامية الليبية "ما بي مرض غير دار العقيلة... وحبس القبيلة... وبعد الجبا من بلاد الوصيلة".
وتعني لا يوجد مرض أشد من الوجود في معتقل العقيلة، وحبس القبيلة على مسافة بعيدة من أراضيها ومرابعها .
وتخلد القصيدة، أسماءً كثيرة من الذين قتلوا في العقيلة، وما تعرضوا له من إذلال وتعذيب، وتكشف في بعض أبياتها، حتى عن انتهاكات ضد الأطفال والنساء، اللواتي تعرض بعضهن للاغتصاب، بحسب الشاعر قائلاً:
ما بي مرض غير سمع السّوايا... ومنع الغوايا... وفقدة اللي قبل كانوا سمايا
وربط النساوين طرحى عرايا... بسبلة قليلة... يديروا لهن جرم ما فيه قيلة.
وفي هذا البيت صورة محزنة، يقول الشاعر فيها، إنه لا يوجد مرض أشد، من سمع السيئات عن موت شرفاء القبائل تحت التعذيب، وطرح النساء وربطهن عاريات على الأرض، بأعذار مختلقة، لينفذ عقاب الاغتصاب عليهن، من قبل الجنود الطليان .
وتعتبر هذه القصيدة، من عيون الأدب الشعبي الليبي وأشهرها، وحوّلت إلى مسرحيات تراجيدية على رقعة المسرح الليبي، وعارضها عدد كبير من الشعراء في البلاد.
اعتذار روما
وبتاريخ 30 أغسطس (آب) 2008، قدمت روما اعتذاراً علنياً لليبيا عن فترة استعمارها لها، وما ارتكب خلالها من جرائم ضد الإنسانية، يتقدمها مجزرة معتقل العقيلة، والتزمت بحسب اتفاقها مع نظام القذافي في ذلك الوقت، بدفع خمسة مليارات دولار لطرابلس، على مدى 25 عاماً على سبيل التعويض عن الحقبة الاستعمارية التي استمرت 40 عاماً .
وإثر توقيع الاتفاق، ألقى رئيس وزراء إيطاليا السابق سيلفيو برلسكوني كلمة، اعتذر فيها باسمه وباسم الشعب الايطالي، عن "الجراح الغائرة التي سببها الاستعمار للشعب الليبي".
لكن هذه المشاريع لم تكتمل ولم ينجز منها إلا القليل بعد سقوط نظام معمر القذافي على يد الثورة الليبية في عام 2011 .
على الرغم من أن فترة الاستعمار هذه، طويت في كتاب التاريخ الليبي، قبل أكثر من 80 عاماً، إلا أن بعض صفحاته التي تنضح بدماء من رحلوا على يد جنود روما، تبقى قابلة ومرشحة للفتح، في مقبل الأيام، لتسوية الحساب وتعويض المتضريين، من القمع والتنكيل اللذين مورسا بشكل ممنهج عليهم
بقلم زايد هدية
منقول
معتقل العقيلة "الهولوكوست الإيطالي المنسي" في الصحراء الليبية
تحتفظ ذاكرة الشعب الليبي، بخزان ذكريات مؤلم، عن فترة الاستعمار الإيطالي لليبيا، الذي بدأ في عام 1911 وامتد حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، أشدها مرارة وبؤساً، ما يتعلق بمعتقلات العقاب الجماعي، التي أنشأتها القوات الإيطالية، لحصار المقاومة الشعبية وخنقها، في أواخر عشرينيات القرن الماضي. ويطلق...
www.independentarabia.com
التعديل الأخير: