الظاهرة العسكرية بإفريقيا السوداء: قراءة جديدة
هو عنوان لكتاب ألّفه مولود حمروش رئيس الحكومة في فترة الرئيس الشاذلي بن جديد (من سبتمبر 1989 إلى جوان 1991)، أصدره سنة 1981 عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع؛ والعنوان أصلا رسالة ماجستير ناقشها في سنة 1977 تحت إشراف الدكتور عمار بوحوش، وحاول من خلالها وصف ودراسة وتحليل أسباب الانقلابات العسكرية في إفريقيا، واهتم على الخصوص بدول جنوب الصحراء أو ما يعرف بدول الساحل التي تكاثرت بها الانقلابات العسكرية منذ استقلالها، آخرها الانقلاب العسكري الذي حدث بجمهورية النيجر.
نحاول من خلال هذا المقال الإجابة عن سؤال محوري، يتمثل فيما إذا كانت مقاربة حمروش للظاهرة العسكرية في إفريقيا السوداء لازالت سارية المفعول بعد أكثر من أربعين سنة من مناقشة رسالته السابقة الذكر، أم أنّ ثمة متغيرات حدثت على الساحة الإقليمية والدولية غيّرت الرؤية لهذه الظاهرة، وشكّلت أسبابا أخرى دفعت ولا تزال تدفع العسكريين إلى كرسي السلطة أمام هشاشة وضعف السلطة المدنية.
1- نبذة عن الانقلابات العسكرية بإفريقيا ومقارنتها بالقارات الأخرى
شهدت بلدان إفريقيا منذ استقلالها إلى يومنا هذا حوالي 215 محاولة انقلاب نجحت منها 109. البداية كانت مع ثورة الضباط في مصر سنة 1952 حيث تمّ من خلالها إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، وذاك ما يميزها عن باقي الانقلابات العسكرية بإفريقيا السوداء. ثاني بلد إفريقي عرف محاولة انقلاب عسكري ولم ينجح هو بلد عربي أيضا يتمثل في السودان، وكان ذلك سنة 1955، أي قبل الانفصال عن مصر وإعلان الاستقلال، بينما نجح الانقلاب العسكري في سنة 1958 الذي قاده الفريق إبراهيم عبود. نشير إلى أنّ السودان عرف -من استقلاله سنة 1956 إلى يومنا هذا- 17 محاولة انقلاب -وهو رقم قياسي في إفريقيا- نجحت منها 6، آخرها هو الانقلاب الذي قاده الفريق الأول عبد الفتاح برهان في سنة 2021. ويعتبر السودان من البلدان العربية والإفريقية الأقل استقرارا سياسيا لأسباب تاريخية واثنية وسياسية واقتصادية متباينة.
أما آخر انقلاب عسكري تعرفه القارة الإفريقية فهو الذي حدث مؤخرا بالنيجر كما سبق الذكر، والذي قاده الجنرال تياني قائد الحرس الرئاسي ضد الرئيس محمد بازوم. وكانت النيجر قد عرفت من قبل 7 محاولة انقلاب نجحت منها 4، وكان ذلك في سنوات 1974، و1996، و1999، و2010.
على العموم، من بين 54 دولة إفريقية عضوة في الأمم المتحدة، 45 دولة عرفت انقلابا ناجحا أو محاولة انقلاب، أغلبها وقع بالسودان (17 محاولة انقلاب)، وبورندي (11 محاولة انقلاب) وغانا (10 محاولة انقلاب) وسيراليون (10 محاولة انقلاب) وجزر القمر (9 محاولة انقلاب)، وبوركينافاسو (9 محاولة انقلاب) ونيجريا (8 محاولة انقلاب)، ومالي (8 محاولة انقلاب) والتشاد (7 محاولة انقلاب)، وموريتانيا (7 محاولة انقلاب) وجمهورية الكونغو (7 محاولة انقلاب). نلاحظ أنّ أغلب هذه الدول، إما كانت مستعمرات فرنسية كدول غرب إفريقية على غرار مالي والنيجر والتشاد وبوركينافاسو، أو مستعمرات بريطانية كنيجريا وغانا، وإما مستعمرات بلجيكية كبورندي والكونغو. نشير إلى أنّ المستعمرات البرتغالية عرفت استقرارا نسبيا حيث لم تعرف جزر الأخضر أي محاولة انقلاب، فيما عرفت الموزمبيق وأنغولا محاولة واحدة في سنتي 1975 و1977 باءت بالفشل، وعرفت ساوتمي وبرانسيب محاولتين، نجحت في إحداها سنة 2003، فيما عرفت غينيا بيساو 8 محاولات انقلاب، نجحت في أربع. هذا يعني أنّ طبيعة المستعمر القديم له يد في الانقلابات العسكرية، لكن ثمة أسباب أخرى يجب البحث عنها وكشفها لتفسير هذه الظاهرة العسكرية.
مقارنة مع القارات الأخرى، نجد أن القارة الإفريقية هي الأقل استقرارا بـ 215 محاولة انقلاب منها 109 ناجحة. وتأتي في المرتبة الثانية أمريكا اللاتينية بـ 146 محاولة انقلاب، منها 76 ناجحة، ثم تليها القارة الآسيوية بما فيها البلدان العربية بالشرق الأوسط بـ 109 محاولة انقلاب، منها 58 ناجحة. نشير أنّ منطقة الشرق الأوسط -أي البلدان العربية- عرفت لوحدها 44 محاولة انقلاب، منها 21 ناجحة، أغلبها بالعراق وسوريا. أما أوروبا، فقد عرفت في نفس الفترة 17 محاولة انقلاب، منها 9 ناجحة جرت بالبرتغال وفرنسا (محاولتان بسبب الثورة الجزائرية) واسبانيا واليونان وتركيا باعتبارها دولة أوروبية.
2- مقاربة مولود حمروش للظاهرة العسكرية بإفريقيا السوداء
لاحظ مولود حمروش أنّ ظاهرة الانقلابات العسكرية تكاثرت في الفترة الممتدة من 1960 -وهي سنة استقلال معظم الدول الإفريقية- إلى غاية سنة 1977 وهي سنة مناقشة رسالته لنيل دبلوم الماجستير. ففي هذه الفترة شهدت إفريقيا ما يقارب من 75 محاولة انقلاب، نجحت منها 38، وقد جرت أغلب المحاولات الانقلابية بوسط إفريقيا مست كل من مالي والنيجر وبوركينافاسو والبنين والكونغو والطوغو ونيجريا وغانا وأوغندا والتشاد...إلخ.
بادئ ذي بدء، يرى حمروش أنّ أغلب الجيوش الإفريقية هي صنيعة الاستعمار الأوروبي خاصة الفرنسي والبريطاني. واستثنى من ذلك الجيوش الثورية أو البلدان التي عرفت ثورات ضد المستعمر حيث تحولت الحركات التحررية إلى جيوش وطنية على غرار الجزائر والمستعمرات البرتغالية كأنغولا والموزنبيق وغينيا بيساو. وقد ساهمت هذه الجيوش الإفريقية في خدمة الاستعمار كما كان عليه الحال في الجزائر، إذ لجأت فرنسا الاستعمارية إلى استعمال عدة فرق عسكرية إفريقية في حربها ضد الثوار الجزائريين. ويرى حمروش أنّ هذه الميزة الاستعمارية للجيوش الإفريقية هي التي دفعت القادة الأفارقة إلى تكوين جيوش وطنية للتخلص من هيمنة الاستعمار، لكن يسرد أيضا سببا خارجيا يتمثل في أزمة الزئير والتي أصبحت تسمى بجمهورية الكونغو الديمقراطية، والتي شهدت أحداثا دامية بعد الاستقلال تطلّب تدخل الأمم المتحدة لحفظ الأمن وحماية البلد من الانقسام. كما كان لمشاكل الحدود الموروثة عن الاستعمار دافعا لتكوين جيش وطني نظامي يحمي حدود البلد، ناهيك عن الانشقاقات العرقية والإثنية التي لم يراعيها الاستعمار في رسم الحدود، فولدت حروبا أهلية إثنية لازالت مستمرة إلى يومنا هذا في عدّة بلدان إفريقية.
ويرجع مولود حمروش أسباب الانقلابات العسكرية والتموقع السياسي للجيوش الوطنية إلى ضعف البنية الاجتماعية والسياسية للمجتمعات الإفريقية، فالدول الإفريقية التي حازت الاستقلال هي دول مصطنعة في مؤتمر برلين لسنة 1884 أين تم تقسيم الكعكعة الإفريقية بين القوى الأوروبية الكبرى، وذلك بغض النظر عن التركيبات الاجتماعية والإثنية للمجتمعات الإفريقية. كما تعرف هذه المجتمعات تناقضات جمّة ما بين النخبة المستفيدة من مزايا التعليم الاستعماري وعامة الشعب القابعة في الجهل، كما تشهد فروقات كبيرة ما بين ساكنة المدن والأرياف، وبين الحداثيين والتقليديين، وبين السلطة والمحكومين. كما تعرف هذه الدول هشاشة اقتصادية انعكس سلبيا على المستوى المعيشي للشعوب الإفريقية. هذه الوضعية والتناقضات المجتمعية ولّدت حسب حمروش عنفا اجتماعيا غالبا ما يتحول إلى حروب أهلية، وهو الأمر الذي يدفع بالجيوش الإفريقية إلى التدخل لفك النزاع والحفاظ على الوحدة الوطنية. ويرى حمروش أنّ الشعوب الإفريقية أمست تحبذ هذه الانقلابات نفسيا نظرا للأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعرفها هذه الدول.
هذا باختصار ملخص مقاربة حمروش لفهم الظاهرة العسكرية في إفريقيا، فهل مازالت مقاربته السياسية والاجتماعية والاقتصادية صالحة لفهم هذه الظاهرة، أم أن ثمة متغيرات حدثت بالقارة تستوجب مقاربات جديدة لفك لغز هذه الانقلابات العسكرية؟
3- الظاهرة العسكرية بإفريقيا برؤية جديدة
أشرنا إلى أنّ رسالة حمروش ناقشها في سنة 1977، وقد عرفت إفريقيا من هذه السنة إلى يومنا هذا (46 سنة) حوالي 140 محاولة انقلاب، أي بمعدل 3 انقلابات كل سنة، نجحت منها 71، وهو عدد هائل يتطلب أدوات ومناهج لتحليل وفهم الظاهرة.
بغض النظر عن الأسباب الداخلية التي شرحها حمروش بإسهاب في رسالته، يجب وضع هذه الانقلابات في سياقها الدولي لفهم الظاهرة سياسيا. وعليه نحاول تقسيم هذه المحاولات الانقلابية إلى ثلاث مراحل وهي:
* فترة 1977-1990: وهي المرحلة التي عرفت فيها استمرار الحرب الباردة ما بين القطبين؛
* فترة 1990-2010: وهي مرحلة الهيمنة الأمريكية؛
* فترة 2010-2023: وهي مرحلة عودة الدب الروسي ودخول التنين الصيني إلى مسرح أحداث إفريقيا.
3-1 فترة 1977-1990: استمرار الحرب الباردة ما بين القطبين
الصراع السوفيتي-الأمريكي تجسّد ميدانيا في إفريقيا، وقد أظهرت أمريكا منذ اندلاع الحرب الباردة رغبتها في استقلال الدول الإفريقية بطريقة سلسة وناعمة حتى لا تقع فريسة بيد السوفيات في حالة اندلاع حروب تحريرية يدعهما الاتحاد السوفيتي، وهو الأمر الذي حدث مع المستعمرات البرتغالية على الخصوص. لذلك مارست أمريكا ضغوطا دبلوماسية واقتصادية على الاستعمار الأوروبي لتحرير الدول والحفاظ على الهيمنة الغربية للقارة الإفريقية.
عرفت إفريقيا خلال هذه الفترة 54 محالة انقلاب، نجحت منها 29؛ وجرت بـ 17 دولة منها الفرنكوفونية ومنها الأنكلوسكسونية. بعض من هذه الانقلابات تتجلى فيها رائحة الصراع الدولي ما بين القطبين، كما هو عليه الحال في انقلاب إثيوبيا الذي حدث في سنة 1977، وجزر القمر في سنة 1978، وغينيا بيساو في 1980، والسودان في 1985.
3-2 فترة 1990-2010: مرحلة الهيمنة الأمريكية
تجسّدت الهيمنة الأمريكية على العالم بعد سقوط جدار برلين في سنة 1989 وزوال الاتحاد السوفيتي في نهاية 1991. ولم تهتم أمريكا خلال بداية هذه الفترة بالقارة الإفريقية، وتركت الأمر لحلفائها التقليديين ونعني بهما فرنسا وبريطانيا المستعمران التقليديان للقارة، حيث انصب اهتمام أمريكا على الشرق الأوسط نظرا لتعقد الأوضاع بعد غزو العراق للكويت. وقد ساد الاعتقاد حينئذ أنّ القارة الإفريقية ستشهد استقرارا سياسيا بنهاية الحرب الباردة، إلا أنّ العدد الهائل من محاولات الانقلاب التي حدثت خلال هذه الفترة تكذب هذا التوقع. وهكذا فقد عرفت القارة خلال هذه المدة ما يقارب من 62 محاولات انقلاب نجحت منها 25؛ وجرت بـ 17 دولة، منها 3 بكل من النيجر وسيراليون و2 بكل من ليزوتو وموريتانيا.
ويصعب تحديد أسباب هذه الانقلابات في غياب الصراع الدولي على القارة خلال هذه الفترة، الأمر الذي يستدعي البحث عن أسباب داخلية لها علاقة بالصراع على السلطة ما بين النخب الحاكمة، وكذا هشاشة الأنظمة السياسية المدنية وضعف الاقتصاد الوطني وهو ما يتطلب العودة إلى مقاربة حمروش لفهم الظاهرة العسكرية المستمرة في القارة الإفريقية.
نشير إلى أنّ القارة الإفريقية عرفت خلال نهاية هذه الفترة، خاصة ابتداء من سنة 2000 بروز "الحركات الجهادية" في كل من بلدان الساحل ونيجريا والقرن الإفريقي.
3-3 فترة 2010-2023: عودة الدب الروسي ودخول التنين الصيني إلى مسرح أحداث إفريقيا.
بدأت الهيمنة الأمريكية تتقلص في العالم عموما وإفريقيا خصوصا بعد رجوع الاتحاد الروسي إلى مسرح الأحداث الدولية، ومنافسة الغرب واسترجاع نفوذه على مناطق عدة التي خسرها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. كما عرفت هذه الفترة بروز الصين كقوة اقتصادية ناعمة في القارة الإفريقية، حيث أصبحت في زمن قياسي الشريك الاقتصادي الثالث لإفريقيا بعد أمريكا وفرنسا.
استغلت أمريكا انتشار "الحركات الجهادية" في إفريقيا واتخاذها ذريعة لسياستها الجديدة المتمثلة في الحرب على الإرهاب العابر للقارات، فأنشأت ما يسمى "بالقيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا" والمعروف اختصارا "بأفريكوم"، وذلك في سنة 2007، كما سعت إلى إنشاء قواعد عسكرية بدول إفريقية منها جيبوتي وأوغندا والسنغال وساوتومي وبرانسيب. هذا التوسع العسكري الأمريكي في القارة الإفريقية، وعودة الدب الروسي إلى المنطقة عن طريق فصيله الخاص "جيش فاغنر"، والهجوم الاقتصادي الناعم للتنين الصيني لم يرق للاستعمار القديم، وخاصة فرنسا التي بدأت تفقد الكثير من نفوذها الكلاسيكي في القارة لا سيما في غرب إفريقيا، كما حدث لها مؤخرا في جمهوريتي مالي وبوركينافاسو اللتان طلبتا رسميا إجلاء القوات الفرنسية من البلد، ويحدث لها حاليا مع جمهورية النيجر.
هذا الصراع الدولي على القارة، قد يفسر نسبيا استمرار الظاهرة العسكرية فيها. ففي خلال هذه الفترة، عرفت إفريقيا ما يقارب من 23 محاولات انقلاب، نجحت منها 14. وقد مست أغلب هذه الانقلابات الناجحة البلدان الواقعة جنوب الصحراء الكبرى ونعني بها كل من مالي التي عرفت ثلاث انقلابات خلال هذه الفترة، وبوركينافاسو والنيجر والتشاد والسودان. كما تعتبر سنة 2021 العام الذي شهد فيه 6 محاولات انقلاب، منها أربع ناجحة بكل من السودان ومالي والتشاد وغينيا.
خاتمة
مما سبق، يتبين أنّ مقاربة حمروش لا تزال نسبيا صالحة لتفسير ظاهرة الانقلابات في إفريقيا السوداء، فالثابت في المجتمعات الإفريقية هو استمرار تدهور الاقتصاد الوطني بسبب غياب برجوازية وطنية خلاقة، واستغلال الثروات الوطنية من قبل الشركات المتعددة الجنسيات. كما لم تتمكن هذه الدول من بناء مجتمع مدني متماسك يضم مختلف الإثنيات، الأمر الذي يعرضه إلى خطر الحروب الأهلية، وهذا ما يدفع غالبا الجيوش الإفريقية إلى احتلال الساحة السياسية وبمباركة من المواطنين، كما حدث مع الانقلاب الأخير بالنيجر.
إلّا أنّ ثمة متغيرات حدثت خلال العقود الأخيرة يجب أخذها في الحسبان في تفسير الظاهرة. فالجيوش الإفريقية عرفت قيادات من جيل جديد لا علاقة له مع بقايا الجيش الموروث عن الحقبة الاستعمارية، حتى وإن البعض من الضباط هم خريجي المدارس الغربية. كما أن تكالب القوى الكبرى على ثروات إفريقية وظهور "الحركات الجهادية" والمنظمات الإجرامية العالمية بالمنطقة متغيران أساسيان يجب أخذه في الحسبان لتحليل هذه الظاهرة العسكرية.
ملاحظة: للمقال مصادر عديدة.
هو عنوان لكتاب ألّفه مولود حمروش رئيس الحكومة في فترة الرئيس الشاذلي بن جديد (من سبتمبر 1989 إلى جوان 1991)، أصدره سنة 1981 عن الشركة الوطنية للنشر والتوزيع؛ والعنوان أصلا رسالة ماجستير ناقشها في سنة 1977 تحت إشراف الدكتور عمار بوحوش، وحاول من خلالها وصف ودراسة وتحليل أسباب الانقلابات العسكرية في إفريقيا، واهتم على الخصوص بدول جنوب الصحراء أو ما يعرف بدول الساحل التي تكاثرت بها الانقلابات العسكرية منذ استقلالها، آخرها الانقلاب العسكري الذي حدث بجمهورية النيجر.
نحاول من خلال هذا المقال الإجابة عن سؤال محوري، يتمثل فيما إذا كانت مقاربة حمروش للظاهرة العسكرية في إفريقيا السوداء لازالت سارية المفعول بعد أكثر من أربعين سنة من مناقشة رسالته السابقة الذكر، أم أنّ ثمة متغيرات حدثت على الساحة الإقليمية والدولية غيّرت الرؤية لهذه الظاهرة، وشكّلت أسبابا أخرى دفعت ولا تزال تدفع العسكريين إلى كرسي السلطة أمام هشاشة وضعف السلطة المدنية.
1- نبذة عن الانقلابات العسكرية بإفريقيا ومقارنتها بالقارات الأخرى
شهدت بلدان إفريقيا منذ استقلالها إلى يومنا هذا حوالي 215 محاولة انقلاب نجحت منها 109. البداية كانت مع ثورة الضباط في مصر سنة 1952 حيث تمّ من خلالها إلغاء الملكية وإعلان الجمهورية، وذاك ما يميزها عن باقي الانقلابات العسكرية بإفريقيا السوداء. ثاني بلد إفريقي عرف محاولة انقلاب عسكري ولم ينجح هو بلد عربي أيضا يتمثل في السودان، وكان ذلك سنة 1955، أي قبل الانفصال عن مصر وإعلان الاستقلال، بينما نجح الانقلاب العسكري في سنة 1958 الذي قاده الفريق إبراهيم عبود. نشير إلى أنّ السودان عرف -من استقلاله سنة 1956 إلى يومنا هذا- 17 محاولة انقلاب -وهو رقم قياسي في إفريقيا- نجحت منها 6، آخرها هو الانقلاب الذي قاده الفريق الأول عبد الفتاح برهان في سنة 2021. ويعتبر السودان من البلدان العربية والإفريقية الأقل استقرارا سياسيا لأسباب تاريخية واثنية وسياسية واقتصادية متباينة.
أما آخر انقلاب عسكري تعرفه القارة الإفريقية فهو الذي حدث مؤخرا بالنيجر كما سبق الذكر، والذي قاده الجنرال تياني قائد الحرس الرئاسي ضد الرئيس محمد بازوم. وكانت النيجر قد عرفت من قبل 7 محاولة انقلاب نجحت منها 4، وكان ذلك في سنوات 1974، و1996، و1999، و2010.
على العموم، من بين 54 دولة إفريقية عضوة في الأمم المتحدة، 45 دولة عرفت انقلابا ناجحا أو محاولة انقلاب، أغلبها وقع بالسودان (17 محاولة انقلاب)، وبورندي (11 محاولة انقلاب) وغانا (10 محاولة انقلاب) وسيراليون (10 محاولة انقلاب) وجزر القمر (9 محاولة انقلاب)، وبوركينافاسو (9 محاولة انقلاب) ونيجريا (8 محاولة انقلاب)، ومالي (8 محاولة انقلاب) والتشاد (7 محاولة انقلاب)، وموريتانيا (7 محاولة انقلاب) وجمهورية الكونغو (7 محاولة انقلاب). نلاحظ أنّ أغلب هذه الدول، إما كانت مستعمرات فرنسية كدول غرب إفريقية على غرار مالي والنيجر والتشاد وبوركينافاسو، أو مستعمرات بريطانية كنيجريا وغانا، وإما مستعمرات بلجيكية كبورندي والكونغو. نشير إلى أنّ المستعمرات البرتغالية عرفت استقرارا نسبيا حيث لم تعرف جزر الأخضر أي محاولة انقلاب، فيما عرفت الموزمبيق وأنغولا محاولة واحدة في سنتي 1975 و1977 باءت بالفشل، وعرفت ساوتمي وبرانسيب محاولتين، نجحت في إحداها سنة 2003، فيما عرفت غينيا بيساو 8 محاولات انقلاب، نجحت في أربع. هذا يعني أنّ طبيعة المستعمر القديم له يد في الانقلابات العسكرية، لكن ثمة أسباب أخرى يجب البحث عنها وكشفها لتفسير هذه الظاهرة العسكرية.
مقارنة مع القارات الأخرى، نجد أن القارة الإفريقية هي الأقل استقرارا بـ 215 محاولة انقلاب منها 109 ناجحة. وتأتي في المرتبة الثانية أمريكا اللاتينية بـ 146 محاولة انقلاب، منها 76 ناجحة، ثم تليها القارة الآسيوية بما فيها البلدان العربية بالشرق الأوسط بـ 109 محاولة انقلاب، منها 58 ناجحة. نشير أنّ منطقة الشرق الأوسط -أي البلدان العربية- عرفت لوحدها 44 محاولة انقلاب، منها 21 ناجحة، أغلبها بالعراق وسوريا. أما أوروبا، فقد عرفت في نفس الفترة 17 محاولة انقلاب، منها 9 ناجحة جرت بالبرتغال وفرنسا (محاولتان بسبب الثورة الجزائرية) واسبانيا واليونان وتركيا باعتبارها دولة أوروبية.
2- مقاربة مولود حمروش للظاهرة العسكرية بإفريقيا السوداء
لاحظ مولود حمروش أنّ ظاهرة الانقلابات العسكرية تكاثرت في الفترة الممتدة من 1960 -وهي سنة استقلال معظم الدول الإفريقية- إلى غاية سنة 1977 وهي سنة مناقشة رسالته لنيل دبلوم الماجستير. ففي هذه الفترة شهدت إفريقيا ما يقارب من 75 محاولة انقلاب، نجحت منها 38، وقد جرت أغلب المحاولات الانقلابية بوسط إفريقيا مست كل من مالي والنيجر وبوركينافاسو والبنين والكونغو والطوغو ونيجريا وغانا وأوغندا والتشاد...إلخ.
بادئ ذي بدء، يرى حمروش أنّ أغلب الجيوش الإفريقية هي صنيعة الاستعمار الأوروبي خاصة الفرنسي والبريطاني. واستثنى من ذلك الجيوش الثورية أو البلدان التي عرفت ثورات ضد المستعمر حيث تحولت الحركات التحررية إلى جيوش وطنية على غرار الجزائر والمستعمرات البرتغالية كأنغولا والموزنبيق وغينيا بيساو. وقد ساهمت هذه الجيوش الإفريقية في خدمة الاستعمار كما كان عليه الحال في الجزائر، إذ لجأت فرنسا الاستعمارية إلى استعمال عدة فرق عسكرية إفريقية في حربها ضد الثوار الجزائريين. ويرى حمروش أنّ هذه الميزة الاستعمارية للجيوش الإفريقية هي التي دفعت القادة الأفارقة إلى تكوين جيوش وطنية للتخلص من هيمنة الاستعمار، لكن يسرد أيضا سببا خارجيا يتمثل في أزمة الزئير والتي أصبحت تسمى بجمهورية الكونغو الديمقراطية، والتي شهدت أحداثا دامية بعد الاستقلال تطلّب تدخل الأمم المتحدة لحفظ الأمن وحماية البلد من الانقسام. كما كان لمشاكل الحدود الموروثة عن الاستعمار دافعا لتكوين جيش وطني نظامي يحمي حدود البلد، ناهيك عن الانشقاقات العرقية والإثنية التي لم يراعيها الاستعمار في رسم الحدود، فولدت حروبا أهلية إثنية لازالت مستمرة إلى يومنا هذا في عدّة بلدان إفريقية.
ويرجع مولود حمروش أسباب الانقلابات العسكرية والتموقع السياسي للجيوش الوطنية إلى ضعف البنية الاجتماعية والسياسية للمجتمعات الإفريقية، فالدول الإفريقية التي حازت الاستقلال هي دول مصطنعة في مؤتمر برلين لسنة 1884 أين تم تقسيم الكعكعة الإفريقية بين القوى الأوروبية الكبرى، وذلك بغض النظر عن التركيبات الاجتماعية والإثنية للمجتمعات الإفريقية. كما تعرف هذه المجتمعات تناقضات جمّة ما بين النخبة المستفيدة من مزايا التعليم الاستعماري وعامة الشعب القابعة في الجهل، كما تشهد فروقات كبيرة ما بين ساكنة المدن والأرياف، وبين الحداثيين والتقليديين، وبين السلطة والمحكومين. كما تعرف هذه الدول هشاشة اقتصادية انعكس سلبيا على المستوى المعيشي للشعوب الإفريقية. هذه الوضعية والتناقضات المجتمعية ولّدت حسب حمروش عنفا اجتماعيا غالبا ما يتحول إلى حروب أهلية، وهو الأمر الذي يدفع بالجيوش الإفريقية إلى التدخل لفك النزاع والحفاظ على الوحدة الوطنية. ويرى حمروش أنّ الشعوب الإفريقية أمست تحبذ هذه الانقلابات نفسيا نظرا للأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعرفها هذه الدول.
هذا باختصار ملخص مقاربة حمروش لفهم الظاهرة العسكرية في إفريقيا، فهل مازالت مقاربته السياسية والاجتماعية والاقتصادية صالحة لفهم هذه الظاهرة، أم أن ثمة متغيرات حدثت بالقارة تستوجب مقاربات جديدة لفك لغز هذه الانقلابات العسكرية؟
3- الظاهرة العسكرية بإفريقيا برؤية جديدة
أشرنا إلى أنّ رسالة حمروش ناقشها في سنة 1977، وقد عرفت إفريقيا من هذه السنة إلى يومنا هذا (46 سنة) حوالي 140 محاولة انقلاب، أي بمعدل 3 انقلابات كل سنة، نجحت منها 71، وهو عدد هائل يتطلب أدوات ومناهج لتحليل وفهم الظاهرة.
بغض النظر عن الأسباب الداخلية التي شرحها حمروش بإسهاب في رسالته، يجب وضع هذه الانقلابات في سياقها الدولي لفهم الظاهرة سياسيا. وعليه نحاول تقسيم هذه المحاولات الانقلابية إلى ثلاث مراحل وهي:
* فترة 1977-1990: وهي المرحلة التي عرفت فيها استمرار الحرب الباردة ما بين القطبين؛
* فترة 1990-2010: وهي مرحلة الهيمنة الأمريكية؛
* فترة 2010-2023: وهي مرحلة عودة الدب الروسي ودخول التنين الصيني إلى مسرح أحداث إفريقيا.
3-1 فترة 1977-1990: استمرار الحرب الباردة ما بين القطبين
الصراع السوفيتي-الأمريكي تجسّد ميدانيا في إفريقيا، وقد أظهرت أمريكا منذ اندلاع الحرب الباردة رغبتها في استقلال الدول الإفريقية بطريقة سلسة وناعمة حتى لا تقع فريسة بيد السوفيات في حالة اندلاع حروب تحريرية يدعهما الاتحاد السوفيتي، وهو الأمر الذي حدث مع المستعمرات البرتغالية على الخصوص. لذلك مارست أمريكا ضغوطا دبلوماسية واقتصادية على الاستعمار الأوروبي لتحرير الدول والحفاظ على الهيمنة الغربية للقارة الإفريقية.
عرفت إفريقيا خلال هذه الفترة 54 محالة انقلاب، نجحت منها 29؛ وجرت بـ 17 دولة منها الفرنكوفونية ومنها الأنكلوسكسونية. بعض من هذه الانقلابات تتجلى فيها رائحة الصراع الدولي ما بين القطبين، كما هو عليه الحال في انقلاب إثيوبيا الذي حدث في سنة 1977، وجزر القمر في سنة 1978، وغينيا بيساو في 1980، والسودان في 1985.
3-2 فترة 1990-2010: مرحلة الهيمنة الأمريكية
تجسّدت الهيمنة الأمريكية على العالم بعد سقوط جدار برلين في سنة 1989 وزوال الاتحاد السوفيتي في نهاية 1991. ولم تهتم أمريكا خلال بداية هذه الفترة بالقارة الإفريقية، وتركت الأمر لحلفائها التقليديين ونعني بهما فرنسا وبريطانيا المستعمران التقليديان للقارة، حيث انصب اهتمام أمريكا على الشرق الأوسط نظرا لتعقد الأوضاع بعد غزو العراق للكويت. وقد ساد الاعتقاد حينئذ أنّ القارة الإفريقية ستشهد استقرارا سياسيا بنهاية الحرب الباردة، إلا أنّ العدد الهائل من محاولات الانقلاب التي حدثت خلال هذه الفترة تكذب هذا التوقع. وهكذا فقد عرفت القارة خلال هذه المدة ما يقارب من 62 محاولات انقلاب نجحت منها 25؛ وجرت بـ 17 دولة، منها 3 بكل من النيجر وسيراليون و2 بكل من ليزوتو وموريتانيا.
ويصعب تحديد أسباب هذه الانقلابات في غياب الصراع الدولي على القارة خلال هذه الفترة، الأمر الذي يستدعي البحث عن أسباب داخلية لها علاقة بالصراع على السلطة ما بين النخب الحاكمة، وكذا هشاشة الأنظمة السياسية المدنية وضعف الاقتصاد الوطني وهو ما يتطلب العودة إلى مقاربة حمروش لفهم الظاهرة العسكرية المستمرة في القارة الإفريقية.
نشير إلى أنّ القارة الإفريقية عرفت خلال نهاية هذه الفترة، خاصة ابتداء من سنة 2000 بروز "الحركات الجهادية" في كل من بلدان الساحل ونيجريا والقرن الإفريقي.
3-3 فترة 2010-2023: عودة الدب الروسي ودخول التنين الصيني إلى مسرح أحداث إفريقيا.
بدأت الهيمنة الأمريكية تتقلص في العالم عموما وإفريقيا خصوصا بعد رجوع الاتحاد الروسي إلى مسرح الأحداث الدولية، ومنافسة الغرب واسترجاع نفوذه على مناطق عدة التي خسرها بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. كما عرفت هذه الفترة بروز الصين كقوة اقتصادية ناعمة في القارة الإفريقية، حيث أصبحت في زمن قياسي الشريك الاقتصادي الثالث لإفريقيا بعد أمريكا وفرنسا.
استغلت أمريكا انتشار "الحركات الجهادية" في إفريقيا واتخاذها ذريعة لسياستها الجديدة المتمثلة في الحرب على الإرهاب العابر للقارات، فأنشأت ما يسمى "بالقيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا" والمعروف اختصارا "بأفريكوم"، وذلك في سنة 2007، كما سعت إلى إنشاء قواعد عسكرية بدول إفريقية منها جيبوتي وأوغندا والسنغال وساوتومي وبرانسيب. هذا التوسع العسكري الأمريكي في القارة الإفريقية، وعودة الدب الروسي إلى المنطقة عن طريق فصيله الخاص "جيش فاغنر"، والهجوم الاقتصادي الناعم للتنين الصيني لم يرق للاستعمار القديم، وخاصة فرنسا التي بدأت تفقد الكثير من نفوذها الكلاسيكي في القارة لا سيما في غرب إفريقيا، كما حدث لها مؤخرا في جمهوريتي مالي وبوركينافاسو اللتان طلبتا رسميا إجلاء القوات الفرنسية من البلد، ويحدث لها حاليا مع جمهورية النيجر.
هذا الصراع الدولي على القارة، قد يفسر نسبيا استمرار الظاهرة العسكرية فيها. ففي خلال هذه الفترة، عرفت إفريقيا ما يقارب من 23 محاولات انقلاب، نجحت منها 14. وقد مست أغلب هذه الانقلابات الناجحة البلدان الواقعة جنوب الصحراء الكبرى ونعني بها كل من مالي التي عرفت ثلاث انقلابات خلال هذه الفترة، وبوركينافاسو والنيجر والتشاد والسودان. كما تعتبر سنة 2021 العام الذي شهد فيه 6 محاولات انقلاب، منها أربع ناجحة بكل من السودان ومالي والتشاد وغينيا.
خاتمة
مما سبق، يتبين أنّ مقاربة حمروش لا تزال نسبيا صالحة لتفسير ظاهرة الانقلابات في إفريقيا السوداء، فالثابت في المجتمعات الإفريقية هو استمرار تدهور الاقتصاد الوطني بسبب غياب برجوازية وطنية خلاقة، واستغلال الثروات الوطنية من قبل الشركات المتعددة الجنسيات. كما لم تتمكن هذه الدول من بناء مجتمع مدني متماسك يضم مختلف الإثنيات، الأمر الذي يعرضه إلى خطر الحروب الأهلية، وهذا ما يدفع غالبا الجيوش الإفريقية إلى احتلال الساحة السياسية وبمباركة من المواطنين، كما حدث مع الانقلاب الأخير بالنيجر.
إلّا أنّ ثمة متغيرات حدثت خلال العقود الأخيرة يجب أخذها في الحسبان في تفسير الظاهرة. فالجيوش الإفريقية عرفت قيادات من جيل جديد لا علاقة له مع بقايا الجيش الموروث عن الحقبة الاستعمارية، حتى وإن البعض من الضباط هم خريجي المدارس الغربية. كما أن تكالب القوى الكبرى على ثروات إفريقية وظهور "الحركات الجهادية" والمنظمات الإجرامية العالمية بالمنطقة متغيران أساسيان يجب أخذه في الحسبان لتحليل هذه الظاهرة العسكرية.
ملاحظة: للمقال مصادر عديدة.