إكسير الحياة / إعداد: د. أحمد مُحمَّد زين المنّاوي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
23,817
التفاعل
19,641 125 0
إكسير الحياة

إعداد: الدكتور أحمد مُحمَّد زين المنّاوي



يقول الله تعالى في محكم تنزيله:

{ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)} [الأنبياء]

الماء سر الحياة ومبتغى الجميع، ولا يُذكر الماء إلا وسؤال كبير بحجم محيطات الأرض وبحارها يفرض نفسه بقوّة: لماذا يستهل علماء الفضاء دراساتهم في الكواكب الأخرى بالبحث عن الماء ومن ثم يبحثون عن بقية العناصر الأخرى للحياة؟!
ألا تكفي الآية التي تتصدّر هذا المقال للإجابة عن هذا السؤال؟!
الماء من أشهر المركبات الكيميائية، وكل من درس أبجديات علم الكيمياء يعلم أن جزيء الماء يتكوّن من ذرتي هيدروجين وذرة أوكسجين، وترتبط هذه الذرات الثلاث بعضها مع بعض برابطتين تشكلان فيما بينهما زاوية قدرها 105 درجات، ما نتج منه أن جزيء الماء له قطبان كهربائيان يحمل أحدهما شحنتين موجبتين، ويحمل الآخر شحنة سالبة واحدة مكافئة، كما يعدّ الماء أشهر مذيب يعرفه الإنسان، ويدخل في كل الأنشطة الحيوية في الخليّة الحيّة في الحيوان والنبات.
هذه معلومات بسيطة يعرفها كل من درس أصول الكيمياء عن الماء، ولكن ربما لا يعلم الكثيرون أن العلماء حتى الآن يستبعدون تمامًا إمكانية تحضير الماء من هذين الغازين، لأن الهيدروجين غاز سريع الاشتعال والأكسجين يساعد على الاشتعال، وكل ما نحتاجه مع هذين العنصرين مجرد شرارة صغيرة ونكون بذلك قد صنعنا انفجارًا قاتلًا وقنبلة كبرى يختلف حجمها وحجم دمارها حسب كمية الماء المطلوب تصنيعه! هذا هو بالضبط ما حدث في كارثة منطاد هيندينبيرغ (Hindenburg) المشهورة في عام 1937..

تأمل تكوين جسمك ووظائف أعضائه! إن كل العمليات التي يقوم بها جسمك خلال اليوم، يسيطر الماء على معظمها، ويمثل أهمية كبيرة لإتمامها. لا يعني هذا القول إن الأمر يقتصر فقط على بني البشر؛ إذ يتعداهم إلى كل الكائنات الحية من حيوانات ونباتات. تلخيص الأهمية العظمى للماء الذي يمثل معجزة في حد ذاته، لا يتعدى خمس كلمات فقط من القرآن العظيم:

{ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } !

وأهمية الماء لا تتمثّل فقط في تلك العمليات الحيوية الظاهرة للعيان من أكل وشرب وغيرها، حيث ظل الناس حينًا من الدهر يعتقدون ذلك، وإنما يساعد شرب الماء في المحافظة على حجم السوائل وكميتها في جسم الإنسان، وأن الاختلال في ذلك يفضي إلى الموت، ولكن الأكثر أهمية هو عملية التوازن والثبات في كمية الماء داخل جسم الكائن الحي. ولا تقتصر فائدة هذا السائل الحيوي للكائنات الحية على ملء الفراغ وحسب، وإنما هو سائل شديد التفاعلية، له خواص كيميائية تختلف عن كل السوائل الأخرى، ولهذه الخواص أهمية قصوى في كل التفاعلات الحيوية التي تحدث داخل الخلية، وتلك الخواص هي التي تحدد كل الخواص البيولوجية للمواد العضوية الكيميائية الأخرى، مثل البروتينات والأحماض النووية وأغشية الخلايا والريبوسومات وغيرها من التراكيب؛ وعليه نجد أن تغير نسب الماء قد يدمر كل التفاعلات الكيميائية، وبالتالي الوظائف الحيوية للخلية.
فجميع الأنشطة الحياتية وتفاعلاتها المتعددة من التغذية إلى الإخراج، ومن النمو إلى التكاثر، لا تتم في غيبة الماء بدءًا من التمثيل الغذائي‏،‏ وتبادل المحاليل بين الخلايا بعضها ببعض‏،‏ وبينها وبين المسافات الفاصلة بينها‏،‏ وذلك بوساطة الخاصية الشعرية للمحاليل المائية التي تعمل من خلال جذر الخلايا‏،‏ وانتهاءً ببناء الخلايا والأنسجة الجديدة ما يعين على النمو والتكاثر‏،‏ وقبل ذلك وبعده التخلص من سموم الجسم وفضلاته عن طريق مختلف صور الإفرازات والاخراجات.‏
هذا بالإضافة إلى ما يقوم به الماء من أدوار أساسية في عمليات بلع الطعام‏،‏ وهضمه‏،‏ وتمثيله‏،‏ ونقله‏،‏ وتوزيعه‏،‏ ونقل كلٍ من الفيتامينات‏،‏ والهرمونات‏،‏ وعناصر المناعة‏،‏ ونقل الأوكسجين إلى جميع أجزاء الجسم‏،‏ وإخراج السموم والنفايات إلى خارج الجسم‏،‏ وحفظ حرارة الجسم ورطوبته وما يقدم لذلك أو يترتب عليه من العمليات الحيوية‏،‏ وعلى ذلك فلا يمكن للحياة أن تقوم بغير الماء أبدًا،‏ فمن الكائنات الحية ما يمكنه الاستغناء كلية عن أوكسجين الهواء‏،‏ ولكن لا يوجد كائن حي واحد يمكنه الاستغناء عن الماء كلية‏.
فالماء أعظم مذيب يعرفه الإنسان، ولذلك يشكل الوسط المذيب للعديد من العناصر والمركبات التي يقوم بنقلها من تربة وصخور الأرض إلى مختلف أجزاء النبات‏،‏ ومن الطعام إلى مختلف أجزاء جسم كلٍ من الإنسان والحيوان‏،‏ وذلك بما له من درجة عالية من اللزوجة والتوتر السطحي‏،‏ وخاصية شعرية فائقة‏.
فبالإضافة إلى منافعه العديدة وفي مقدمتها أنه منظم لدرجة حرارة الجسم‏ بما له من سعة حرارية كبيرة‏،‏ ومنظم لضغط الدم‏،‏ ولدرجات الحموضة‏،‏ فإن نقصه يؤدي إلى تعطش الخلايا واضطراب عملها‏،‏ وتيبس الأنسجة‏،‏ وتلاصق المفاصل‏،‏ وتجلط الدم وتخثره‏،‏ ويوشك الكائن الحي على الهلاك، ولذلك فإن أعراض نقص الماء بالجسم الحي خطيرة للغاية‏،‏ فإذا فقد الإنسان على سبيل المثال ‏1%‏ من ماء جسده أحس بالظمأ‏،‏ وإذا ارتفعت نسبة فقد الماء إلى ‏5%‏ جف حلقه ولسانه‏،‏ وصعب نطقه‏،‏ وتغضن جلده‏،‏ وأصيب بانهيار تام‏،‏ فإذا زادت النسبة المفقودة على ‏10%‏ أشرف الإنسان على الهلاك‏.
عندما ينقطع إمداد الماء عن أهل بلدة ما لساعات معدودة تتحول حياتهم إلى عذاب لا يُطاق، فكيف يكون الحال لو خلت حياتهم تمامًا من الماء؟ وهل ستكون لهم حياة في الأساس لنتساءل عنها؟ لا يمكن لأي كائن حي أن يستغني عن الماء، لأنه العنصر الوحيد الذي لا غنى عنه ولا بديل له، وهو المصدر الحيوي الذي بانقطاعه تتوقف كل صور الحياة في هذا الكون، وكل الكائنات الحية خلقها الله عزّ وجلّ من الماء، ولا تستمر حياتها إلا باستمرار وجود الماء.
إن وجود الماء سابق على وجود جميع الخلائق وهو أمر ورد في دراسات علوم الأرض؛ التي أثبتت أن الخالق سبحانه وتعالى أعد الأرض وهيأها لاستقبال الحياة خلال فترة طويلة تقدر بنحو 4.6‏ مليار سنة، هي عمر الأرض، التي تعد من أغنى كواكب المجموعة الشمسية بالماء، إذ يغطي الماء في زماننا الراهن نحو ‏71‏% من مساحة سطح الأرض المقدرة بنحو ‏510‏ ملايين كيلومتر مربع،‏ وتشغل مساحة اليابسة نحو ‏29‏% فقط من تلك المساحة، بينما تقدر كميته على سطحها بنحو ‏1.4‏ مليار كيلومتر مكعب‏،‏ وهو رقم برغم ضخامته فهو لا يساوي شيئًا عند مقارنته بمخزون المياه الجوفية في باطن الأرض‏، أضف إلى ذلك الغطاء الجليدي الذي يغطي قطبي الأرض‏‏ وسفوح الجبال.‏

تقول النظريات العلمية لنشوء الحياة إن كل أنماط الحياة بدءًا بالنباتية ثم الحيوانية نشأت من الماء وفي الماء أولًا ثم خرجت لاحقًا لليابسة. وجو الأرض لم يكن به في بادئ الأمر أوكسجين على الإطلاق، وإنما نشأ وتراكم تدريجيًّا في الغلاف الجوي للأرض، بعد نشوء الحياة نتيجة لعملية التمثيل الضوئي للنباتات البدائية الموجودة في مياه المحيطات التي كانت تغمر الأرض حينذاك، أي أن غاز الأوكسجين المهم جدًّا في كل شيء حي هو نتاج لعمليات بيولوجية تمت في الماء وبوساطة الكائنات المائية البدائية. فإن كان هذا آخر ما توصَّل له العلماء عن الماء، فإن أوّل ما يتوصَّل إليه دارس القرآن أن هذه الدراسات لم تأت بجديد، بل تشير إلى حقائق أوردها القرآن قبل ما يزيد على أربعة عشر قرنًا من الزمان.
إن ذكر الماء في كتاب الله بمفرداته ومكوناته من البحار والأنهار والسحاب يدل على عظم أثره في حياة البشرية، هذا السائل المبارك هو أغلى ما تملك الإنسانية لاستمرار حياتها، أدرك ذلك الناس كلهم، كبيرهم وصغيرهم، عالمهم وجاهلهم، حاضرهم وباديهم، عرفوه في استعمالاتهم وتجاربهم وعلومهم، إن خف كان سحابًا، وإن ثقل كان غيثًا ثجاجًا، وإن سخن كان بخارًا، وإن برد كان ندًى وثلجًا وبردًا، تجري به الجداول والأنهار، وتتفجر منه العيون والآبار، وتختزنه تجاويف الأرض والبحار، فسبحان واهب الأرزاق وخالق الماء.
لقد كان البشر في غفلة تامة عن حقيقة الماء وخصائصه الفيزيائية والكيميائية وآثاره في حياة جميع الكائنات الحيّة، وكل ذلك قد يسّر الله عزّ وجلّ للبشر إدراكه في العصور المتأخرة، فظهر لهم حقيقة ما دلّت عليه النص القرآني الكريم: وجعلنا من الماء كل شيء حي!
ورد لفظ‏ (‏ماء‏)‏ في القران الكريم 63‏ مرة‏،‏ وجاءت أوّل إشارة إلى الماء في القرآن في هذه الآية:

{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوْا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُوْنَ (22)} [البقرة]

حيث إن الوحي نزل من السماء كما نزل هذا الماء من السماء، وأن الوحي حياة للقلوب، كما أن الماء حياة للأرض ومن عليها، ولكن الأمر غير ذلك تمامًا،
إذا تأمّلت جميع المواضع التي ورد فيها ذكر الماء في القرآن، فسوف يلفت انتباهك صفات متعدِّدة وأنواع مختلفة للماء، وردت جميعها في القرآن، فتجد أولًا ماء الأمطار الذي ينزل من السماء إلى الأرض، فتنتفع به ومن عليها، ويجري في مسالك معروفة كالأنهار والوديان والينابيع وغيرها، والماء السلسبيل، وهو ماء في غاية السلاسة، يسهل مروره في الحلق من شدة العذوبة، والماء الفرات أي الشديد العذوبة، وماء الشرب بشكل عام، والماء المبـارك الذي يحيي الأرض وينبت الزرع وينشر الخير، والماء الطهور وهو العذب الطيب، والماء المسكوب الملطِّف للأرض ويعطي الإحساس بالراحة للعين، والماء المعين الذي يسيل ويسهل الحصول عليه والانتفاع به، والماء الغـدق الوفير، والماء الثجاج وهو السيل، وماء الأرض الذي خلق معها وهو في دورة ثابتة حتى قيام الساعة، وفي مواضع أخرى يصف الماء بأنه غير آسن أي غير متغيّر الرائحة، والماء الغور الذي يذهب في الأرض ويغيب فيها فلا ينتفع منه، والماء المغيض وهو الذي نزل في الأرض وغاب فيها، وماء مـدين وهو ماء البئر التي وردها موسى –عليه السلام- والماء السراب الذي يحسبه الظمآن ماءً، والماء المنهـمر أي المتدفق بغزاره من السماء فيهلك الزرع والحرث، والماء الأجاج أي شديد الملوحة، وتجده يصفه بالماء المهين وهو الضعيف والحقير ويقصد به ماء الرجل لعدم تحمّل مكوّناته للعوامل الخارجية، ويصفه في موضع آخر بالماء الدافق لأنه يخرج في دفقات، والماء الصديد وهو شراب أهل جهنم، والماء الحميم أي شديد السخونة والغليان، وماء المهل وهو الماء الذي يشوي الوجوه من شدّة غليانه.
وبشكل عام، فإن هناك 23 نوعًا مختلفًا من المياه ورد ذكرها في القرآن!
ما بين تفاعل المادَّة وتكامل الروح تبدّدت محاولات العلماء في صناعة قطرة ماء واحدة -برغم علمهم التامِّ بحقيقة أنَّ التفاعل الكيميائي يعني تأثير عنصر في آخر- بسبب جهلهم للسرِّ الربَّاني الكامن وراء الرابط الكيميائي بين ذرتي الأوكسجين والهيدروجين. وهذا إعجاز مدهش في القدرة!! فالماء والقرآن إكسيرا الحياة.
--------------------------------------------------------
المصادر:
أوّلًا: القرآن الكريم.

ثانيًا: المصادر الأخرى:
• الطراونة، سليمان (2000)؛ الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.. الكون والماء؛ عمان: دار الفرقان للنشر والتوزيع.
• المصلح، عبد الله بن عبد العزيز (2014)؛ الإعجاز العلمي في القرآن والسنّة؛ رابطة العالم الإسلامي: الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنّة.
• المنّاوي، أحمد مُحمَّد زين (2015)؛ قطوف الإيمان من عجائب إحصاء القرآن؛ طريق القرآن للنشر.
• النجار، زغلول راغب مُحمَّد (2008)؛ الأرض في القرآن الكريم؛ بيروت: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع.
• مونسيما، جون كلوفر وآخرون (د. ت.)؛ الله يتجلّى في عصر العلم؛ (الدمرداش عبد المجيد سرحان، مترجم)؛ بيروت: دار القلم للطباعة والنشر والتوزيع.

بتصرف وتلخيص عن موقع طريق القرآن
 
عودة
أعلى