قِمّة الإتقان
إعداد: الدكتور أحمد مُحمَّد زين المنّاوي
القسم الأول
إعداد: الدكتور أحمد مُحمَّد زين المنّاوي
القسم الأول
هل تخيّلت كوكب الأرض يومًا قائدًا لمركبة في الفضاء؟! إنها تشبه قائد المركبة بالفعل.. لأنها تأتي بالأفعال نفسها خلال سيرها في الفضاء!!
فلو كنت تقود سيارتك في ممر جبلي موحل تتخلله على اليمين وعلى اليسار وديان سحيقة، كيف سيكون حالك حينما تمر بمنطقة بها هاوية وتخشى انزلاق السيارة نتيجة للوحل، ألا تسير ببطء شديد؟!
وعندما تمر بمكان ليس به هاوية ألا تسير بسرعة خوفًا من أن تقع بين براثن الوحل العنيد؟ أنت لك عقل أنعم اللَّه تعالى به عليك لتفكِّر به..
فكيف تسلك الكرة الأرضية نفس ذلك السلوك وليس لها عقل؟!
لتعرف الإجابة عن هذا السؤال تدبّر هذه الآية من سورة النحل..
{ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)} [النحل]
فهذه الآية الكريمة تتحدث في الجزء الأوّل منها عن استقرار الأرض الذي أنعم اللَّه تعالى به على البشر، حيث يقول سبحانه وتعالى: ومن نعمه عليكم أيها الناس أن ألقى في الأرض رواسي، وهي جمع راسية، وهي الثوابت في الأرض من الجبال، حتى لا تميد بكم الأرض، أي حتى لا تضطرب وتتمايل بكم وهي متحرّكة بسرعة. وفي لفظ { تَمِيدَ بِكُمْ } في هذه الآية إشارة واضحة إلى حركة الأرض وعدم ثباتها.
ولاستقرار الأرض وعدم ميدها واضطرابها معانٍ كثيرة تتعلّق بتسارع حركة الأرض وتباطئها عند مسيرها حول الشمس، إذ إن الأرض تسير حول الشمس في مسار "إهليلجي"، أي بيضوي، ولهذا الشكل قُطران معروفان هما: القطر الأصغر، والقطر الأعظم، فإذا وصلت الأرض إلى أولهما (القطر الأصغر) قلَّت المسافة بينها وبين الشمس، وبذلك فإنها تزيد من سرعتها خوفًا من أن تنجذب إلى الشمس، فتتبخَّر في ثانية واحدة، أما إذا وصلت إلى ثانيهما (القطر الأعظم) فإنها تخفض من سرعتها خوفًا من أن تفلت من مسارها حول الشمس. ويؤكد هذا المعنى الآيات الثلاث التالية من سور لقمان والأنبياء والنمل على التوالي:
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)}
{ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)}
{ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)}
هذه الآية العظيمة، والقرآن كلّه عظيم، تسأل هؤلاء المعرضين الذين جحدوا نعم اللَّه: مَن الذي جعل لهم الأرض قرارًا أي مكانًا يستقرون فيه؟ ومن الذي خلق هذه الأنهار؟ ومن الذي خلق الجبال؟ ومن الذي جعل البرزخ الكيميائي بين البحار؟ وكل هذه الحقائق العلمية لم تكن مكتشفة زمن نزول القرآن، وعلى الرغم من ذلك أمر اللَّه هؤلاء أن يفكروا فيها ليدركوا الأسرار الخفية وراءها.
وعن استقرار الأرض، فإن لاستقرار الأرض معاني كثيرة تؤخذ من قوله: { أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارا }، ومن هذه المعاني أي "من ذا الذي جعل الأرض مستقرةً؟"، يستقرُّ عليها البناءُ ولا يتداعى، ويسير على ظهرها الناس والدواب بسهولة وبثبات. ومن معاني القرار أن اللَّه عزّ وجلّ خلق في الأرض نظام الجاذبية، فجعل كل شيء على سطحها ينجذب إليها؛ فكوكب الأرض يمتاز بجاذبية محددة مناسبة للحياة المستقرة، فلو كانت هذه الجاذبية أقل مما هي عليه (مثل القمر)؛ لطار الإنسان في الهواء، أما لو كانت الجاذبية أكبر مما هي عليه (مثل المشتري)؛ لالتصق الإنسان بالأرض ولم يعد قادرًا على الحركة عليها! لكل ذلك يقول العلماء: "إن الأرض هي الكوكب الوحيد الذي جاء تصميمه مناسبًا تمامًا للحياة المريحة والمستقرة، وحجم الأرض وكتلتها وبعدها عن الشمس وسرعة دورانها حول نفسها وحول الشمس مناسب جدًّا للحياة، ولو أن حجم الأرض أو كتلتها أو بعدها عن الشمس أو سرعة دورانها كانت أكبر بقليل أو أصغر بقليل لاختلت الحياة على ظهرها".
ولا نحس بنعمة الجاذبية إلا عندما نغادر الأرض! وهذا ما يشكو منه رواد الفضاء، فإن الذي يعيش في الفضاء بعيدًا عن جاذبية الأرض يجد أن أبسط الأشياء سوف تختل، ويقول الباحثون إن مجرد الحياة في الفضاء تعتبر موتًا بطيئًا! فمن يذهب إلى الفضاء يعاني أمراضًا كثيرة مثل الغثيان وصعود الدم للأعلى في الجسد بدلًا من الأسفل وبالتالي انتفاخ الوجه، أما العظام فتفقد جزءًا من الكالسيوم، وبالتالي فإن الذي يعيش في الفضاء يُصاب بنخر العظام، بل يفقد من كتلة عظامه كل سنة أكثر من 20 في المئة.
ونتيجة عدم الاستقرار وغياب الجاذبية فإن الدورة الدموية ستضطرب وتتشكل حصيات في الكلية، وسوف تضمر العضلات، ويتباطأ تقلص الأمعاء ما يعوق هضم الطعام، وسوف يرتفع لديه ضغط الدم، وتتسارع نبضات قلبه؛ ما يسبب له مشاكل في نظام عمل القلب، تبقى لعدة أشهر حتى بعد عودته إلى الأرض.
وسوف يختلف إيقاع الجسم الطبيعي بسبب فقدان طلوع الشمس وغروبها، فالظلام يخيم على كل شيء في الفضاء، وبالتالي سوف تختل دورة الجسم ونظامه ولا يعود قادرًا على فعل شيء، كما أن الأشعة الكونية القاتلة سوف تؤثر فيه وتسبب أذًى لجهازه العصبي، وقد يُصاب بأورام خبيثة نتيجة هذه الإشعاعات.
ويعاني من يفقد الجاذبية ويعيش في الفضاء قلة النوم، لأنه فقد الجاذبية التي تجعل رأسه مستقرًا على الفراش أثناء النوم، فهو يحس أنه يسبح في سائل ما، ولذلك لا يتمكن من النوم إلا بصعوبة. وسوف يضعف لديه نظام المناعة، وهذا يمكِّن أي فيروس من السيطرة على جسده، ومن المحتمل أن يُصاب بأي مرض بما في ذلك السرطان!
ولذلك فإن اللَّه تعالى وصف لنا هذا الإحساس عندما وصف الأرض بأنها كالمهد بالنسبة إلى الإنسان، والمهد هو السرير الذي ينام فيه الطفل ويستقر، حيث يقول تعالى:
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)} [الزخرف]
سبحان اللَّه، برغم أن الأرض تدور حول نفسها بسرعةٍ، تبلغ عند خط الاستواء ألفًا وستمئة كيلومتر في الساعة، وتدور حول الشمس بسرعةٍ، قدَّرها العلماء بثلاثين كيلومترًا في الثانية الواحدة، فإن الأرض تظل مستقرة استقرارًا تامًّا؛ ولو اهتزت الأرض قيد أنْمُلةٍ لتصدَّعت الأبنية وانهارت، والدليل على ذلك الزلازل التي لو أحدثت اهتزازًا طفيفًا لثوانٍ معدودات، لتحولت مدينة بأكملها إلى أنقاض ورُكام! فهل يستطيع الإنسان أن يصنع مركبةً لا تهتز أبدًا؟ من الذي باستطاعته أن يجعل الأرض مستقرة غير الخالق العظيم سبحانه وتعالى؟!
نعم، تدور الأرض بمن عليها من مخلوقات جامدة وحية، في دورتها اليومية حول محورها، ودورتها السنوية حول الشمس، ولهذا السبب تبدو لنا الجبال وكأنها ثابتة، بينما هي في حقيقة الأمر تدور مع الأرض. فجميع الأجسام التي تخضع لجاذبية الأرض ومنها الجبال والبحار والغلاف الجوي وغيرها، تشترك مع الأرض في دورتها اليومية حول محورها، ودورتها السنوية حول الشمس.
في الحقيقة فإن الذين يطرحون فكرة ثبات الأرض لم يطلعوا جيدًا على مبادئ علم الفلك ومن أهمها: قانون التجاذب الكوني، وهو القانون الذي نفسر به تماسك الكون وعدم انهياره وعدم حدوث تصادمات تؤدي إلى زوال الكون، وهذا ما أشار إليه القرآن:
{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر]
فاللَّه عزّ وجلّ يمسك هذا الكون، وسخّر من أجل ذلك قانونًا لا يختل أبدًا وهو: قانون التجاذب الكوني. وينبغي للإنسان العاقل أن يعتبر ويتعظ بهذه الآيات القرآنية والكونية العظيمة، وأن يستشعر قدرة اللَّه في هذه الآيات، كما عليه أن يستشعر رحمة اللَّه تعالى بعباده، ويشكر نعمته في جعله الأرض ممهدة مستقرة صالحة للحياة. فإذا كان المكذبون بهذا القرآن لا يؤمنون بالنقل ليتهم يستخدمون العقل ويتأملون في هذه الآيات!
فماذا تقول لهم عقولهم في ذلك؟ ومن ذا الذي أخبر مُحمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلّم- بذلك؟ حينئذٍ يصبح لا مجال للمجادلة والدخول مع المكذبين في تحدٍّ؛ فالحق أصبح أوضح من أن يُدلَّ عليه، فها هو القرآن يتحدّى به اللَّه أساطين العلوم والأقمار الاصطناعية بل وما لم يكتشفه العلماء بعد.
إن الحقائق العلمية التي تشتمل عليها هذه الآيات كفيلة بأن تجعل كل من يتأمّلها يصل إلى يقين تام مفاده أن اللَّه الذي خلق هذا الكون هو الذي أخبر مُحمَّدًا صلى اللَّه عليه وسلّم بهذه الحقائق العلمية التي لا يمكن لأحد في زمانه أن يعلم ولا حتى جزءًا يسيرًا منها؛ أفلا يكفي هذا لمن له عقل أن يذعن ويؤمن بأن هذا القرآن هو من عند اللَّه حفظه من كل تحريف أو تبديل لكي يبقى حجة بالغة وبرهانًا ساطعًا للناس بأن هناك ربًّا خالقًا خلق الخلق وأرسل لهم الرسل وأنزل عليهم الكتب التي ختمها بهذا القرآن العظيم وأمرهم لما فيه سعادتهم في الدارين
ومن الآيات القرآنية التي تشير بوضوح إلى حركة الأرض قوله تعالى في سورة النمل:
{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)}
إن القرآن العظيم يزخر بالآيات والإشارات العلمية الكونية التي إذا ما تدبرها عاقل يعيش في هذا العصر وعنده بعض الإلمام بعلوم العصر الحديث، فإنه لا مناص إلا أن يعترف بأن هذا القرآن لا يمكن أن يكون إلَّا من عند الله عزّ وجلّ.
إن مثل هذه الآيات تحتوي على حقائق علمية لم تكن معروفة من قبل البشر في العصر الذي نزل فيه القرآن بل لم يتمكن البشر من كشفها إلا بعد مرور ما يزيد على ألف عام من نزول القرآن الكريم. فقد ورد في هذه الآية حقيقة علمية بالغة الأهمية لا يمكن للبشر أن يكتشفوها بحواسهم المجردة أبدًا بل يحتاج إثباتها إلى طرق غير مباشرة، وذلك بالاعتماد على المنهج الاستقرائي.
إن الحقيقة الكبرى التي أوردتها هذه الآية هي ما يسميه العلماء اليوم مبدأ نسبية الحركة الذي مفاده أن الشيء الذي يبدو للمراقب ساكنًا قد لا يكون كذلك بل قد يكون متحركًا والشيء الذي يبدو أنه يتحرك بسرعة بطيئة قد تكون سرعته عالية جدًّا.
إن هذه الآية التي أمامك وقد نزلت قبل ما يزيد على أربعة عشر قرنًا من الزمان لها قصب السبق في تقرير حقيقة نسبية الحركة، فالآية تتحدث بكل وضوح عن ظاهرة عجيبة وهي أن الناظر إلى الجبال تبدو له جامدة أي ساكنة ولكنها في حقيقة الأمر ليست كذلك بل إنها في حركة دائبة.
لقد سبق لكفار قريش أن اتهموا سيدنا مُحمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- بالجنون وعلى الأغلب أن فرحتهم كانت غامرة عندما نزلت هذه الآية، حيث إنهم وجدوا فيها -على حسب زعمهم- ما يثبت هذا الجنون، فلا بدّ من أنهم قالوا للناس كيف تصدقون هذا الرجل الذي يقول إن هذه الجبال الراسخة الثابتة تتحرك كما تتحرك السحب في السماء!
ولا عجب من موقف العرب هذا فالكنيسة المسيحية قامت بعد مرور ألف عام من نزول القرآن الكريم بمحاكمة علماء أمثال كوبرنيكوس وبرونو وكيبلر وجاليليو فسجنت بعضهم وأحرقت بعضهم الآخر لمجرد قولهم إن الأرض ليست مركز الكون بل إنها كوكب من كواكب كثيرة تدور حول الشمس وهي تكمل دورتها مرة كل عام وتدور كذلك حول محورها مرة كل 24 ساعة.
وعلى العاقل أن يتساءل عندما يتدبر هذه الآية عن المصلحة التي سيجنيها محمد -صلى الله عليه وسلم- لو كان هذا القرآن من تأليفه من تصريحه بهذه الحقيقة العجيبة التي لا يمكن لعقول البشر أن تستوعبها بل سيقابلونها بالرفض والتكذيب والسخرية.
وإذا كان ركاب الطائرة على صغر حجمها وعلى مدى قربها من الأرض لا يكادون يحسون بحركة هذه الطائرة فإن سكان الأرض أولى بمثل هذا الشعور فهم يرون الأرض ساكنة تمام السكون ولا يوجد فيها ما يوحي بأنها تتحرك أبدًا.
ولهذا السبب فقد بقي البشر حتى بداية القرن السادس عشر الميلادي يعتقدون أن الأرض هي مركز هذا الكون وأن جميع ما فيه من أجرام تتحرك حولها وهي ثابتة لا تتحرك أبدًا كما توحي بذلك حواسهم.
يقول الشيخ الشعراوي رحمه اللَّه في خواطره حول هذه الآية: إننا عندما نقرأ هذه الآية ونحن نرى أمامنا الجبال ثابتة جامدة لا تتحرك نتعجّب، لأن الله سبحانه وتعالى يقول { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً }، ومعنى ذلك أن رؤيتنا للجبال ليست رؤية يقينية، ولكن هناك شيء خلقه الله سبحانه وتعالى وخفي عن أبصارنا.. فما دمنا نحسب فليست هذه هي الحقيقة، أيّ إن ما نراه من ثبات الجبال وعدم حركتها ليس حقيقة كونية، وإنما إتقان من الله سبحانه وتعالى وطلاقة قدرة الخالق الذي قال لنا إن هذه الجبال الثابتة تمر أمامكم مرّ السحاب! ولماذا استخدم الحق سبحانه وتعالى حركة السحب وهو يصف لنا تحرك الجبال؟ لأن السحب ليست ذاتية الحركة، فهي لا تتحرك من مكان إلى آخر بقدرتها الذاتية، بل لا بدّ من أن تتحرك بقوة الرياح، ولو سكنت الرياح لبقيت السحب في مكانها بلا حركة، وكذلك الجبال!
إن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعرف أن الجبال ليس لها حركة ذاتية، أي إنها لا تنتقل بذاتيتها من مكان إلى آخر.. وبما أن الجبال موجودة فوق الأرض، فلا توجد قوة تحرك الجبال إلا إذا كانت الأرض نفسها تتحرك ومعها الجبال التي فوق سطحها. وهكذا تبدو الجبال أمامنا ثابتة لأنها لا تغير مكانها، ولكنها في الوقت نفسه تتحرك، لأن الأرض تدور حول نفسها والجبال جزء من الأرض، فهي تدور معها تمامًا كما تحرك الريح السحاب.
وقوله تعالى في الآية السابقة: { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً }، ومعناه تظنها جامدة لا تتحرّك، يفيد أن ذلك في الدنيا، وليس الآخرة، لأن كل شيء في الآخرة يقين وليس ظنًا، وكذلك امتنان اللَّه عزّ وجلّ بكمال صنعته في قوله: { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } يؤكد أن ذلك في الدنيا، لأنه سبحانه وتعالى لا يمتنُّ بصنعته يوم القيامة، وإنما يمتنّ علينا ببيان دلائل قدرته وعلمه هنا في الدنيا. كما أن الآخرة ليست مما يمهل الناظر بالاعتبار بشيء أو تذكيره بشيء من حكمة الخلق وبديع الصنعة، سواء كان من الأنبياء أو من غيرهم، لأن أمر الآخرة أكبر من ذلك، ولن يلفت انتباه الناس حركة الجبال أو سكونها. ولذلك لا يمكن حمل هذه الآية على أن ذلك يقع عند قيام الساعة وفساد الكون وخروجه عن متعاهد النظام، حيث هو نقض وهدم وليس صنعًا وإتقانًا. كما أن الجبال سوف تُزلزل وتُدك مع قيام الساعة، وسوف تكون كالعهن المنفوش، أي إنه لن تكون هناك جبال حتى نظنها جامدة لا تتحرّك، وذلك بيّن في قوله تعالى في سورة الحاقة:
{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)}
وفي قوله تعالى: { فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً }، ذهب المفسرون أنهما (أي الأرض والجبال) فُتّتتا وكُسرتا، أو دُقتا، أو مدتا مد الأديم، أو بسطتا بسطة واحدة، ومنه اندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره. وأيًّا كان المعنى الذي ذهبوا إليه فإن مصير الجبال إلى الدكّ والزوال.
إن الإثبات المباشر بأن الأرض في حركة دائبة حول محورها وحول الشمس لا يمكن أن يتم من قبل البشر وهم يعيشون على سطحها فلا بد لهم من الخروج خارج نطاقها للوقوف على مرجع إسناد جديد ليتأكدوا من مثل هذه الحركة، وهذا ما تم بالفعل في عصرنا هذا حيث تمت مشاهدة الأرض وهي تدور حول محورها من قبل رواد الفضاء وهم على القمر أو من قبل كاميرات المركبات الفضائية التي أرسلت للفضاء الخارجي.
ولذلك فإن الحقيقة الأولى التي نستخلصها من الآية هي أن الناظر إلى الجبال يظن أنها جامدة أي ساكنة لا تتحرك أبدًا وهذه حقيقة لا ريب فيها أبدًا فلا يمكن لأحد من البشر أن يحس بحركة الأرض ولا يمكن لهم كذلك قياس سرعتها بأي جهاز مهما بلغ تعقيد تركيبه.
أما الحقيقة الثانية فهي التأكيد أن الجبال ليست ساكنة بل هي متحركة لقوله تعالى : { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } وهذه هي الحقيقة التي لم يتمكن البشر من اكتشافها إلا بعد مرور ما يقرب من ألف عام من ذكر القرآن الكريم لها.
إن اختيار الجبال كمثال للتدليل على حركة الأرض هو اختيار في غاية الحكمة فلو راقب مشاهد حركة الأرض من على ظهر القمر أو من على ظهر مركبة فضائية فإن الجبال البارزة من سطح الأرض هي وحدها التي تكشف عن حركة الأرض حول محورها ففي غياب علامات واضحة على سطح الأرض فإنه من الصعب اكتشاف مثل هذه الحركة.
ولكي يوضح الله سبحانه وتعالى للبشر كيف يمكن للشيء أن يبدو ساكنًا في أعين الناظر له وهو في الحقيقة في حركة دائمة ضرب لهم مثلًا في ظاهرة مماثلة وهي حركة السحاب في السماء.
إن السحاب إذا ما كان متصلًا ومتجانسًا وليس على شكل قطع ويغطي مساحة واسعة من السماء فإنه من الصعب جدًّا على الناظر إليه أن يحس بحركته أبدًا برغم أن الرياح تسوقه بسرعات عالية.
وحتى في حالة السحاب الرقيق الذي تتخلله فتحات تنفذ من خلالها أشعة الشمس فإن الناظر إليه يرى الشمس تتحرك بسرعة عالية من خلفه بينما يبدو السحاب ساكنًا لا يتحرك.
وحتى المثال الذي ضربه الله سبحانه وتعالى لتقريب معنى نسبية الحركة في حركة الجبال إلى أذهان البشر وهو حركة السحاب يؤكد هذا المبدأ أيضًا فإذا ما أراد شخص أن يشرح لشخص آخر مبدأ نسبية الحركة فخير مثال يمكن أن يستشهد به هو حركة السحاب.
وعلى هذا فإن هذه الآية توضح مبدأ نسبية الحركة من خلال ظاهرتين: ظاهرة يمكن للبشر التأكد منها بأنفسهم بطريقة مباشرة وهي حركة السحاب في السماء حيث من السهل لأي شخص من خلال مراقبة أنواع السحب المختلفة أن يتأكد من حركتها بطرق مختلفة برغم أنه يراها ساكنة لا تتحرك.
أما الظاهرة الثانية وهي حركة الجبال فإنه من المستحيل إثباتها بشكل مباشر ونحن نقف على سطح الأرض ويتطلب إثباتها طرقًا غير مباشرة كما شرحنا ذلك سابقًا ولذلك شبّه الله حركة الجبال بحركة السحاب لكي تستوعبها عقول البشر. إن مرور الجبال مر السحاب هو كناية واضحة عن دوران الأرض حول محورها، لأن الغلاف الهوائي للأرض الذي يتحرك فيه السحاب مرتبط بالأرض بوساطة الجاذبية وحركته منضبطة مع حركة الأرض، وكذلك حركة السحاب فيه، فإذا مرت الجبال مر السحاب كان في ذلك إشارة ضمنية إلى حركة الأرض التي تمر كما يمر السحاب. وكما أن السحاب لا يمر من تلقاء نفسه وإنما من خلال حركة الرياح، فإن الجبال لا تمر مرورًا ذاتيًّا وإنما من خلال حركة الأرض.
وهكذا فلكل حقيقة علمية في هذا القرآن زمن تتحقَّق فيه، فإذا تجلّى الحدث ماثلًا للعيان أشرقت المعاني وتألَّقت، وتطابقت دلالات الألفاظ والتراكيب مع الحقائق العلمية التي أصبحت ماثلة للناس عيانًا بيانًا، وبذلك تتجدَّد مُعجزات القرآن وعجائبه على طول الزمان جيلًا بعد جيل.
فماذا لو خرج مُحمَّد –صلى اللَّه عليه وسلّم- وقال للناس إن الأرض ليست ثابتة وإنما تدور حول نفسها؟! من كان سيبقى من المسلمين؟ ألم يرتدّ كثير من المسلمين بسبب حادثة الإسراء بعد أن ضاقت عقولهم عن استيعاب حقيقتها؟ ألم يقل المشركون إن مُحمَّدًا –صلى اللَّه عليه وسلّم- مجنون! الآن وبعد ما يزيد على أربعة عشر قرنًا من الزمان نأتي ونفهم هذه الآية، بغير الفهم الذي فهمه الصحابة والتابعون -رضوان اللَّه عليهم- والآن هذه الآية تقول لنا بكل وضوح إن الأرض ليست ثابتة وإن الجبال التي هي رمز القوة والصلابة ليست جامدة وإنما تتحرك بحركة الأرض تمامًا كما تتحرك الرياح بحركة السحاب!
والآن لنتدبّر هذه الآية:
{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)} [النمل]
توقّفوا عند قوله تعالى عن نفسه: { الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ }!!
كلمة { أَتْقَنَ } لم ترد في القرآن كلّه إلا في هذا الموضع فقط!
آخر حرف من أحرف كلمة { أَتْقَنَ } هو الحرف رقم 50 من بداية الآية!
ومجموع الترتيب الهجائي لأحرف كلمة { أَتْقَنَ } = 50
وتكرّرت أحرف كلمة (أتقن) في هذه الآية 21 مرّة.
مجموع العددين 21 + 50 يساوي 71
كلمة { أَتْقَنَ } في هذه الآية يأتي ترتيبها بعد 49771 كلمة من بداية المصحف!
والعدد 49771 يساوي 71 × 701
العدد 71 هو عدد حروف الآية نفسها!
مزيد من التأكيد..
كلمة { أَتْقَنَ } هي الكلمة رقم 1087 من بداية سورة النمل.
1087 عدد أوّليّ ترتيبه في قائمة الأعداد الأوّليّة رقم 181
181 عدد أوّليّ ترتيبه في قائمة الأعداد الأوّليّة رقم 42
والعدد 42 يساوي 21 + 21
21 هو تكرار أحرف كلمة { أَتْقَنَ } في هذه الآية!
ومن بعد كلمة { أَتْقَنَ } حتى نهاية الآية نفسها 21 حرفًا..
ومن بعد كلمة { أَتْقَنَ } حتى نهاية سورة النمل 73 كلمة..
73 عدد أوّليّ ترتيبه في قائمة الأعداد الأوّليّة رقم 21
تأمّلوا هذا الإتقان المحكم في نظم حروف القرآن وكلماته!
حقًّا.. إنه الله الذي أتقن كل شيء!
سبحانك ربّي!! تأمّلوا كيف يضبط القرآن إيقاع المسارات الرقمية كلها في آن واحد!
مسارات قصيرة المدى قادمة من بداية الآية أو نهايتها..
مسارات متوسطة المدى قادمة من بداية السورة أو نهايتها..
مسارات بعيدة المدى قادمة من بداية المصحف أو نهايته..
مسارات على قائمة الحروف الهجائية..
مسارات أخرى على قائمة الأعداد الأوّليّة..
كل هذه المسارات تلتقي وتتعانق في عقدة رقمية واحدة!
من دون أن تتعارض أو تتناقض! حقًّا.. إنه الله الذي أتقن كل شيء!
كلمة { أَتْقَنَ } وردت في القرآن مرّة واحدة وفي هذه الآية..
{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)} [النمل]
هذه الآية عدد حروفها 71 حرفًا..
وهناك 42 آية تحديدًا عدد حروف كل منها 71 حرفًا.
فتأمّلوا كيف عدنا إلى العدد 42 نفسه من طريق آخر!
بل تأمّلوا هذا الإتقان في هاتين الآيتين من سورة النمل نفسها..
{ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)}
{ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)}
عدد حروف كل آية من الآيتين 42 حرفًا..42 = 21 + 21
تكرّرت أحرف { أَتْقَنَ } في الآيتين 21 مرّة!
21 هو مجموع كلمات الآيتين! ومجموع رقمي الآيتين = 71
ما رأيكم في هذا الإتقان المحكم؟!
مزيد من الإتقان.. تأمّلوا أطول آية في سورة النمل نفسها..
{ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)}
تكرّرت أحرف { أَتْقَنَ } في هذه الآية 42 مرّة..
سبحانه الذي أتقن كل شيء!
كلمة { أَتْقَنَ } وردت في القرآن مرّة واحدة في الآية 88 من سورة النمل وتكرّرت أحرف كلمة (أتقن) فيها 21 مرّة!
وهناك آية واحدة فقط رقمها 21 وتكرّرت أحرف كلمة { أَتْقَنَ } فيها 21 مرّة..
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)} [الشورى]
عدد حروف هذه الآية هو 84 حرف، ويساوي 21 × 4
وسورة الشورى التي وردت فيها هذه الآية ترتيبها رقم 42، ويساوي 21 × 2
هندسة رقمية قرآنية عجيبة!
يتبع القسم الثاني والأخير
فلو كنت تقود سيارتك في ممر جبلي موحل تتخلله على اليمين وعلى اليسار وديان سحيقة، كيف سيكون حالك حينما تمر بمنطقة بها هاوية وتخشى انزلاق السيارة نتيجة للوحل، ألا تسير ببطء شديد؟!
وعندما تمر بمكان ليس به هاوية ألا تسير بسرعة خوفًا من أن تقع بين براثن الوحل العنيد؟ أنت لك عقل أنعم اللَّه تعالى به عليك لتفكِّر به..
فكيف تسلك الكرة الأرضية نفس ذلك السلوك وليس لها عقل؟!
لتعرف الإجابة عن هذا السؤال تدبّر هذه الآية من سورة النحل..
{ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)} [النحل]
فهذه الآية الكريمة تتحدث في الجزء الأوّل منها عن استقرار الأرض الذي أنعم اللَّه تعالى به على البشر، حيث يقول سبحانه وتعالى: ومن نعمه عليكم أيها الناس أن ألقى في الأرض رواسي، وهي جمع راسية، وهي الثوابت في الأرض من الجبال، حتى لا تميد بكم الأرض، أي حتى لا تضطرب وتتمايل بكم وهي متحرّكة بسرعة. وفي لفظ { تَمِيدَ بِكُمْ } في هذه الآية إشارة واضحة إلى حركة الأرض وعدم ثباتها.
ولاستقرار الأرض وعدم ميدها واضطرابها معانٍ كثيرة تتعلّق بتسارع حركة الأرض وتباطئها عند مسيرها حول الشمس، إذ إن الأرض تسير حول الشمس في مسار "إهليلجي"، أي بيضوي، ولهذا الشكل قُطران معروفان هما: القطر الأصغر، والقطر الأعظم، فإذا وصلت الأرض إلى أولهما (القطر الأصغر) قلَّت المسافة بينها وبين الشمس، وبذلك فإنها تزيد من سرعتها خوفًا من أن تنجذب إلى الشمس، فتتبخَّر في ثانية واحدة، أما إذا وصلت إلى ثانيهما (القطر الأعظم) فإنها تخفض من سرعتها خوفًا من أن تفلت من مسارها حول الشمس. ويؤكد هذا المعنى الآيات الثلاث التالية من سور لقمان والأنبياء والنمل على التوالي:
{ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)}
{ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)}
{ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)}
هذه الآية العظيمة، والقرآن كلّه عظيم، تسأل هؤلاء المعرضين الذين جحدوا نعم اللَّه: مَن الذي جعل لهم الأرض قرارًا أي مكانًا يستقرون فيه؟ ومن الذي خلق هذه الأنهار؟ ومن الذي خلق الجبال؟ ومن الذي جعل البرزخ الكيميائي بين البحار؟ وكل هذه الحقائق العلمية لم تكن مكتشفة زمن نزول القرآن، وعلى الرغم من ذلك أمر اللَّه هؤلاء أن يفكروا فيها ليدركوا الأسرار الخفية وراءها.
وعن استقرار الأرض، فإن لاستقرار الأرض معاني كثيرة تؤخذ من قوله: { أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارا }، ومن هذه المعاني أي "من ذا الذي جعل الأرض مستقرةً؟"، يستقرُّ عليها البناءُ ولا يتداعى، ويسير على ظهرها الناس والدواب بسهولة وبثبات. ومن معاني القرار أن اللَّه عزّ وجلّ خلق في الأرض نظام الجاذبية، فجعل كل شيء على سطحها ينجذب إليها؛ فكوكب الأرض يمتاز بجاذبية محددة مناسبة للحياة المستقرة، فلو كانت هذه الجاذبية أقل مما هي عليه (مثل القمر)؛ لطار الإنسان في الهواء، أما لو كانت الجاذبية أكبر مما هي عليه (مثل المشتري)؛ لالتصق الإنسان بالأرض ولم يعد قادرًا على الحركة عليها! لكل ذلك يقول العلماء: "إن الأرض هي الكوكب الوحيد الذي جاء تصميمه مناسبًا تمامًا للحياة المريحة والمستقرة، وحجم الأرض وكتلتها وبعدها عن الشمس وسرعة دورانها حول نفسها وحول الشمس مناسب جدًّا للحياة، ولو أن حجم الأرض أو كتلتها أو بعدها عن الشمس أو سرعة دورانها كانت أكبر بقليل أو أصغر بقليل لاختلت الحياة على ظهرها".
ولا نحس بنعمة الجاذبية إلا عندما نغادر الأرض! وهذا ما يشكو منه رواد الفضاء، فإن الذي يعيش في الفضاء بعيدًا عن جاذبية الأرض يجد أن أبسط الأشياء سوف تختل، ويقول الباحثون إن مجرد الحياة في الفضاء تعتبر موتًا بطيئًا! فمن يذهب إلى الفضاء يعاني أمراضًا كثيرة مثل الغثيان وصعود الدم للأعلى في الجسد بدلًا من الأسفل وبالتالي انتفاخ الوجه، أما العظام فتفقد جزءًا من الكالسيوم، وبالتالي فإن الذي يعيش في الفضاء يُصاب بنخر العظام، بل يفقد من كتلة عظامه كل سنة أكثر من 20 في المئة.
ونتيجة عدم الاستقرار وغياب الجاذبية فإن الدورة الدموية ستضطرب وتتشكل حصيات في الكلية، وسوف تضمر العضلات، ويتباطأ تقلص الأمعاء ما يعوق هضم الطعام، وسوف يرتفع لديه ضغط الدم، وتتسارع نبضات قلبه؛ ما يسبب له مشاكل في نظام عمل القلب، تبقى لعدة أشهر حتى بعد عودته إلى الأرض.
وسوف يختلف إيقاع الجسم الطبيعي بسبب فقدان طلوع الشمس وغروبها، فالظلام يخيم على كل شيء في الفضاء، وبالتالي سوف تختل دورة الجسم ونظامه ولا يعود قادرًا على فعل شيء، كما أن الأشعة الكونية القاتلة سوف تؤثر فيه وتسبب أذًى لجهازه العصبي، وقد يُصاب بأورام خبيثة نتيجة هذه الإشعاعات.
ويعاني من يفقد الجاذبية ويعيش في الفضاء قلة النوم، لأنه فقد الجاذبية التي تجعل رأسه مستقرًا على الفراش أثناء النوم، فهو يحس أنه يسبح في سائل ما، ولذلك لا يتمكن من النوم إلا بصعوبة. وسوف يضعف لديه نظام المناعة، وهذا يمكِّن أي فيروس من السيطرة على جسده، ومن المحتمل أن يُصاب بأي مرض بما في ذلك السرطان!
ولذلك فإن اللَّه تعالى وصف لنا هذا الإحساس عندما وصف الأرض بأنها كالمهد بالنسبة إلى الإنسان، والمهد هو السرير الذي ينام فيه الطفل ويستقر، حيث يقول تعالى:
{ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)} [الزخرف]
سبحان اللَّه، برغم أن الأرض تدور حول نفسها بسرعةٍ، تبلغ عند خط الاستواء ألفًا وستمئة كيلومتر في الساعة، وتدور حول الشمس بسرعةٍ، قدَّرها العلماء بثلاثين كيلومترًا في الثانية الواحدة، فإن الأرض تظل مستقرة استقرارًا تامًّا؛ ولو اهتزت الأرض قيد أنْمُلةٍ لتصدَّعت الأبنية وانهارت، والدليل على ذلك الزلازل التي لو أحدثت اهتزازًا طفيفًا لثوانٍ معدودات، لتحولت مدينة بأكملها إلى أنقاض ورُكام! فهل يستطيع الإنسان أن يصنع مركبةً لا تهتز أبدًا؟ من الذي باستطاعته أن يجعل الأرض مستقرة غير الخالق العظيم سبحانه وتعالى؟!
نعم، تدور الأرض بمن عليها من مخلوقات جامدة وحية، في دورتها اليومية حول محورها، ودورتها السنوية حول الشمس، ولهذا السبب تبدو لنا الجبال وكأنها ثابتة، بينما هي في حقيقة الأمر تدور مع الأرض. فجميع الأجسام التي تخضع لجاذبية الأرض ومنها الجبال والبحار والغلاف الجوي وغيرها، تشترك مع الأرض في دورتها اليومية حول محورها، ودورتها السنوية حول الشمس.
في الحقيقة فإن الذين يطرحون فكرة ثبات الأرض لم يطلعوا جيدًا على مبادئ علم الفلك ومن أهمها: قانون التجاذب الكوني، وهو القانون الذي نفسر به تماسك الكون وعدم انهياره وعدم حدوث تصادمات تؤدي إلى زوال الكون، وهذا ما أشار إليه القرآن:
{ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)} [فاطر]
فاللَّه عزّ وجلّ يمسك هذا الكون، وسخّر من أجل ذلك قانونًا لا يختل أبدًا وهو: قانون التجاذب الكوني. وينبغي للإنسان العاقل أن يعتبر ويتعظ بهذه الآيات القرآنية والكونية العظيمة، وأن يستشعر قدرة اللَّه في هذه الآيات، كما عليه أن يستشعر رحمة اللَّه تعالى بعباده، ويشكر نعمته في جعله الأرض ممهدة مستقرة صالحة للحياة. فإذا كان المكذبون بهذا القرآن لا يؤمنون بالنقل ليتهم يستخدمون العقل ويتأملون في هذه الآيات!
فماذا تقول لهم عقولهم في ذلك؟ ومن ذا الذي أخبر مُحمَّدًا -صلى اللَّه عليه وسلّم- بذلك؟ حينئذٍ يصبح لا مجال للمجادلة والدخول مع المكذبين في تحدٍّ؛ فالحق أصبح أوضح من أن يُدلَّ عليه، فها هو القرآن يتحدّى به اللَّه أساطين العلوم والأقمار الاصطناعية بل وما لم يكتشفه العلماء بعد.
إن الحقائق العلمية التي تشتمل عليها هذه الآيات كفيلة بأن تجعل كل من يتأمّلها يصل إلى يقين تام مفاده أن اللَّه الذي خلق هذا الكون هو الذي أخبر مُحمَّدًا صلى اللَّه عليه وسلّم بهذه الحقائق العلمية التي لا يمكن لأحد في زمانه أن يعلم ولا حتى جزءًا يسيرًا منها؛ أفلا يكفي هذا لمن له عقل أن يذعن ويؤمن بأن هذا القرآن هو من عند اللَّه حفظه من كل تحريف أو تبديل لكي يبقى حجة بالغة وبرهانًا ساطعًا للناس بأن هناك ربًّا خالقًا خلق الخلق وأرسل لهم الرسل وأنزل عليهم الكتب التي ختمها بهذا القرآن العظيم وأمرهم لما فيه سعادتهم في الدارين
ومن الآيات القرآنية التي تشير بوضوح إلى حركة الأرض قوله تعالى في سورة النمل:
{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)}
إن القرآن العظيم يزخر بالآيات والإشارات العلمية الكونية التي إذا ما تدبرها عاقل يعيش في هذا العصر وعنده بعض الإلمام بعلوم العصر الحديث، فإنه لا مناص إلا أن يعترف بأن هذا القرآن لا يمكن أن يكون إلَّا من عند الله عزّ وجلّ.
إن مثل هذه الآيات تحتوي على حقائق علمية لم تكن معروفة من قبل البشر في العصر الذي نزل فيه القرآن بل لم يتمكن البشر من كشفها إلا بعد مرور ما يزيد على ألف عام من نزول القرآن الكريم. فقد ورد في هذه الآية حقيقة علمية بالغة الأهمية لا يمكن للبشر أن يكتشفوها بحواسهم المجردة أبدًا بل يحتاج إثباتها إلى طرق غير مباشرة، وذلك بالاعتماد على المنهج الاستقرائي.
إن الحقيقة الكبرى التي أوردتها هذه الآية هي ما يسميه العلماء اليوم مبدأ نسبية الحركة الذي مفاده أن الشيء الذي يبدو للمراقب ساكنًا قد لا يكون كذلك بل قد يكون متحركًا والشيء الذي يبدو أنه يتحرك بسرعة بطيئة قد تكون سرعته عالية جدًّا.
إن هذه الآية التي أمامك وقد نزلت قبل ما يزيد على أربعة عشر قرنًا من الزمان لها قصب السبق في تقرير حقيقة نسبية الحركة، فالآية تتحدث بكل وضوح عن ظاهرة عجيبة وهي أن الناظر إلى الجبال تبدو له جامدة أي ساكنة ولكنها في حقيقة الأمر ليست كذلك بل إنها في حركة دائبة.
لقد سبق لكفار قريش أن اتهموا سيدنا مُحمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- بالجنون وعلى الأغلب أن فرحتهم كانت غامرة عندما نزلت هذه الآية، حيث إنهم وجدوا فيها -على حسب زعمهم- ما يثبت هذا الجنون، فلا بدّ من أنهم قالوا للناس كيف تصدقون هذا الرجل الذي يقول إن هذه الجبال الراسخة الثابتة تتحرك كما تتحرك السحب في السماء!
ولا عجب من موقف العرب هذا فالكنيسة المسيحية قامت بعد مرور ألف عام من نزول القرآن الكريم بمحاكمة علماء أمثال كوبرنيكوس وبرونو وكيبلر وجاليليو فسجنت بعضهم وأحرقت بعضهم الآخر لمجرد قولهم إن الأرض ليست مركز الكون بل إنها كوكب من كواكب كثيرة تدور حول الشمس وهي تكمل دورتها مرة كل عام وتدور كذلك حول محورها مرة كل 24 ساعة.
وعلى العاقل أن يتساءل عندما يتدبر هذه الآية عن المصلحة التي سيجنيها محمد -صلى الله عليه وسلم- لو كان هذا القرآن من تأليفه من تصريحه بهذه الحقيقة العجيبة التي لا يمكن لعقول البشر أن تستوعبها بل سيقابلونها بالرفض والتكذيب والسخرية.
وإذا كان ركاب الطائرة على صغر حجمها وعلى مدى قربها من الأرض لا يكادون يحسون بحركة هذه الطائرة فإن سكان الأرض أولى بمثل هذا الشعور فهم يرون الأرض ساكنة تمام السكون ولا يوجد فيها ما يوحي بأنها تتحرك أبدًا.
ولهذا السبب فقد بقي البشر حتى بداية القرن السادس عشر الميلادي يعتقدون أن الأرض هي مركز هذا الكون وأن جميع ما فيه من أجرام تتحرك حولها وهي ثابتة لا تتحرك أبدًا كما توحي بذلك حواسهم.
يقول الشيخ الشعراوي رحمه اللَّه في خواطره حول هذه الآية: إننا عندما نقرأ هذه الآية ونحن نرى أمامنا الجبال ثابتة جامدة لا تتحرك نتعجّب، لأن الله سبحانه وتعالى يقول { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً }، ومعنى ذلك أن رؤيتنا للجبال ليست رؤية يقينية، ولكن هناك شيء خلقه الله سبحانه وتعالى وخفي عن أبصارنا.. فما دمنا نحسب فليست هذه هي الحقيقة، أيّ إن ما نراه من ثبات الجبال وعدم حركتها ليس حقيقة كونية، وإنما إتقان من الله سبحانه وتعالى وطلاقة قدرة الخالق الذي قال لنا إن هذه الجبال الثابتة تمر أمامكم مرّ السحاب! ولماذا استخدم الحق سبحانه وتعالى حركة السحب وهو يصف لنا تحرك الجبال؟ لأن السحب ليست ذاتية الحركة، فهي لا تتحرك من مكان إلى آخر بقدرتها الذاتية، بل لا بدّ من أن تتحرك بقوة الرياح، ولو سكنت الرياح لبقيت السحب في مكانها بلا حركة، وكذلك الجبال!
إن الله سبحانه وتعالى يريدنا أن نعرف أن الجبال ليس لها حركة ذاتية، أي إنها لا تنتقل بذاتيتها من مكان إلى آخر.. وبما أن الجبال موجودة فوق الأرض، فلا توجد قوة تحرك الجبال إلا إذا كانت الأرض نفسها تتحرك ومعها الجبال التي فوق سطحها. وهكذا تبدو الجبال أمامنا ثابتة لأنها لا تغير مكانها، ولكنها في الوقت نفسه تتحرك، لأن الأرض تدور حول نفسها والجبال جزء من الأرض، فهي تدور معها تمامًا كما تحرك الريح السحاب.
وقوله تعالى في الآية السابقة: { تَحْسَبُهَا جَامِدَةً }، ومعناه تظنها جامدة لا تتحرّك، يفيد أن ذلك في الدنيا، وليس الآخرة، لأن كل شيء في الآخرة يقين وليس ظنًا، وكذلك امتنان اللَّه عزّ وجلّ بكمال صنعته في قوله: { صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } يؤكد أن ذلك في الدنيا، لأنه سبحانه وتعالى لا يمتنُّ بصنعته يوم القيامة، وإنما يمتنّ علينا ببيان دلائل قدرته وعلمه هنا في الدنيا. كما أن الآخرة ليست مما يمهل الناظر بالاعتبار بشيء أو تذكيره بشيء من حكمة الخلق وبديع الصنعة، سواء كان من الأنبياء أو من غيرهم، لأن أمر الآخرة أكبر من ذلك، ولن يلفت انتباه الناس حركة الجبال أو سكونها. ولذلك لا يمكن حمل هذه الآية على أن ذلك يقع عند قيام الساعة وفساد الكون وخروجه عن متعاهد النظام، حيث هو نقض وهدم وليس صنعًا وإتقانًا. كما أن الجبال سوف تُزلزل وتُدك مع قيام الساعة، وسوف تكون كالعهن المنفوش، أي إنه لن تكون هناك جبال حتى نظنها جامدة لا تتحرّك، وذلك بيّن في قوله تعالى في سورة الحاقة:
{ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14)}
وفي قوله تعالى: { فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً }، ذهب المفسرون أنهما (أي الأرض والجبال) فُتّتتا وكُسرتا، أو دُقتا، أو مدتا مد الأديم، أو بسطتا بسطة واحدة، ومنه اندك سنام البعير إذا انفرش في ظهره. وأيًّا كان المعنى الذي ذهبوا إليه فإن مصير الجبال إلى الدكّ والزوال.
إن الإثبات المباشر بأن الأرض في حركة دائبة حول محورها وحول الشمس لا يمكن أن يتم من قبل البشر وهم يعيشون على سطحها فلا بد لهم من الخروج خارج نطاقها للوقوف على مرجع إسناد جديد ليتأكدوا من مثل هذه الحركة، وهذا ما تم بالفعل في عصرنا هذا حيث تمت مشاهدة الأرض وهي تدور حول محورها من قبل رواد الفضاء وهم على القمر أو من قبل كاميرات المركبات الفضائية التي أرسلت للفضاء الخارجي.
ولذلك فإن الحقيقة الأولى التي نستخلصها من الآية هي أن الناظر إلى الجبال يظن أنها جامدة أي ساكنة لا تتحرك أبدًا وهذه حقيقة لا ريب فيها أبدًا فلا يمكن لأحد من البشر أن يحس بحركة الأرض ولا يمكن لهم كذلك قياس سرعتها بأي جهاز مهما بلغ تعقيد تركيبه.
أما الحقيقة الثانية فهي التأكيد أن الجبال ليست ساكنة بل هي متحركة لقوله تعالى : { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } وهذه هي الحقيقة التي لم يتمكن البشر من اكتشافها إلا بعد مرور ما يقرب من ألف عام من ذكر القرآن الكريم لها.
إن اختيار الجبال كمثال للتدليل على حركة الأرض هو اختيار في غاية الحكمة فلو راقب مشاهد حركة الأرض من على ظهر القمر أو من على ظهر مركبة فضائية فإن الجبال البارزة من سطح الأرض هي وحدها التي تكشف عن حركة الأرض حول محورها ففي غياب علامات واضحة على سطح الأرض فإنه من الصعب اكتشاف مثل هذه الحركة.
ولكي يوضح الله سبحانه وتعالى للبشر كيف يمكن للشيء أن يبدو ساكنًا في أعين الناظر له وهو في الحقيقة في حركة دائمة ضرب لهم مثلًا في ظاهرة مماثلة وهي حركة السحاب في السماء.
إن السحاب إذا ما كان متصلًا ومتجانسًا وليس على شكل قطع ويغطي مساحة واسعة من السماء فإنه من الصعب جدًّا على الناظر إليه أن يحس بحركته أبدًا برغم أن الرياح تسوقه بسرعات عالية.
وحتى في حالة السحاب الرقيق الذي تتخلله فتحات تنفذ من خلالها أشعة الشمس فإن الناظر إليه يرى الشمس تتحرك بسرعة عالية من خلفه بينما يبدو السحاب ساكنًا لا يتحرك.
وحتى المثال الذي ضربه الله سبحانه وتعالى لتقريب معنى نسبية الحركة في حركة الجبال إلى أذهان البشر وهو حركة السحاب يؤكد هذا المبدأ أيضًا فإذا ما أراد شخص أن يشرح لشخص آخر مبدأ نسبية الحركة فخير مثال يمكن أن يستشهد به هو حركة السحاب.
وعلى هذا فإن هذه الآية توضح مبدأ نسبية الحركة من خلال ظاهرتين: ظاهرة يمكن للبشر التأكد منها بأنفسهم بطريقة مباشرة وهي حركة السحاب في السماء حيث من السهل لأي شخص من خلال مراقبة أنواع السحب المختلفة أن يتأكد من حركتها بطرق مختلفة برغم أنه يراها ساكنة لا تتحرك.
أما الظاهرة الثانية وهي حركة الجبال فإنه من المستحيل إثباتها بشكل مباشر ونحن نقف على سطح الأرض ويتطلب إثباتها طرقًا غير مباشرة كما شرحنا ذلك سابقًا ولذلك شبّه الله حركة الجبال بحركة السحاب لكي تستوعبها عقول البشر. إن مرور الجبال مر السحاب هو كناية واضحة عن دوران الأرض حول محورها، لأن الغلاف الهوائي للأرض الذي يتحرك فيه السحاب مرتبط بالأرض بوساطة الجاذبية وحركته منضبطة مع حركة الأرض، وكذلك حركة السحاب فيه، فإذا مرت الجبال مر السحاب كان في ذلك إشارة ضمنية إلى حركة الأرض التي تمر كما يمر السحاب. وكما أن السحاب لا يمر من تلقاء نفسه وإنما من خلال حركة الرياح، فإن الجبال لا تمر مرورًا ذاتيًّا وإنما من خلال حركة الأرض.
وهكذا فلكل حقيقة علمية في هذا القرآن زمن تتحقَّق فيه، فإذا تجلّى الحدث ماثلًا للعيان أشرقت المعاني وتألَّقت، وتطابقت دلالات الألفاظ والتراكيب مع الحقائق العلمية التي أصبحت ماثلة للناس عيانًا بيانًا، وبذلك تتجدَّد مُعجزات القرآن وعجائبه على طول الزمان جيلًا بعد جيل.
فماذا لو خرج مُحمَّد –صلى اللَّه عليه وسلّم- وقال للناس إن الأرض ليست ثابتة وإنما تدور حول نفسها؟! من كان سيبقى من المسلمين؟ ألم يرتدّ كثير من المسلمين بسبب حادثة الإسراء بعد أن ضاقت عقولهم عن استيعاب حقيقتها؟ ألم يقل المشركون إن مُحمَّدًا –صلى اللَّه عليه وسلّم- مجنون! الآن وبعد ما يزيد على أربعة عشر قرنًا من الزمان نأتي ونفهم هذه الآية، بغير الفهم الذي فهمه الصحابة والتابعون -رضوان اللَّه عليهم- والآن هذه الآية تقول لنا بكل وضوح إن الأرض ليست ثابتة وإن الجبال التي هي رمز القوة والصلابة ليست جامدة وإنما تتحرك بحركة الأرض تمامًا كما تتحرك الرياح بحركة السحاب!
والآن لنتدبّر هذه الآية:
{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)} [النمل]
توقّفوا عند قوله تعالى عن نفسه: { الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ }!!
كلمة { أَتْقَنَ } لم ترد في القرآن كلّه إلا في هذا الموضع فقط!
آخر حرف من أحرف كلمة { أَتْقَنَ } هو الحرف رقم 50 من بداية الآية!
ومجموع الترتيب الهجائي لأحرف كلمة { أَتْقَنَ } = 50
وتكرّرت أحرف كلمة (أتقن) في هذه الآية 21 مرّة.
مجموع العددين 21 + 50 يساوي 71
كلمة { أَتْقَنَ } في هذه الآية يأتي ترتيبها بعد 49771 كلمة من بداية المصحف!
والعدد 49771 يساوي 71 × 701
العدد 71 هو عدد حروف الآية نفسها!
مزيد من التأكيد..
كلمة { أَتْقَنَ } هي الكلمة رقم 1087 من بداية سورة النمل.
1087 عدد أوّليّ ترتيبه في قائمة الأعداد الأوّليّة رقم 181
181 عدد أوّليّ ترتيبه في قائمة الأعداد الأوّليّة رقم 42
والعدد 42 يساوي 21 + 21
21 هو تكرار أحرف كلمة { أَتْقَنَ } في هذه الآية!
ومن بعد كلمة { أَتْقَنَ } حتى نهاية الآية نفسها 21 حرفًا..
ومن بعد كلمة { أَتْقَنَ } حتى نهاية سورة النمل 73 كلمة..
73 عدد أوّليّ ترتيبه في قائمة الأعداد الأوّليّة رقم 21
تأمّلوا هذا الإتقان المحكم في نظم حروف القرآن وكلماته!
حقًّا.. إنه الله الذي أتقن كل شيء!
سبحانك ربّي!! تأمّلوا كيف يضبط القرآن إيقاع المسارات الرقمية كلها في آن واحد!
مسارات قصيرة المدى قادمة من بداية الآية أو نهايتها..
مسارات متوسطة المدى قادمة من بداية السورة أو نهايتها..
مسارات بعيدة المدى قادمة من بداية المصحف أو نهايته..
مسارات على قائمة الحروف الهجائية..
مسارات أخرى على قائمة الأعداد الأوّليّة..
كل هذه المسارات تلتقي وتتعانق في عقدة رقمية واحدة!
من دون أن تتعارض أو تتناقض! حقًّا.. إنه الله الذي أتقن كل شيء!
كلمة { أَتْقَنَ } وردت في القرآن مرّة واحدة وفي هذه الآية..
{ وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88)} [النمل]
هذه الآية عدد حروفها 71 حرفًا..
وهناك 42 آية تحديدًا عدد حروف كل منها 71 حرفًا.
فتأمّلوا كيف عدنا إلى العدد 42 نفسه من طريق آخر!
بل تأمّلوا هذا الإتقان في هاتين الآيتين من سورة النمل نفسها..
{ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23)}
{ وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48)}
عدد حروف كل آية من الآيتين 42 حرفًا..42 = 21 + 21
تكرّرت أحرف { أَتْقَنَ } في الآيتين 21 مرّة!
21 هو مجموع كلمات الآيتين! ومجموع رقمي الآيتين = 71
ما رأيكم في هذا الإتقان المحكم؟!
مزيد من الإتقان.. تأمّلوا أطول آية في سورة النمل نفسها..
{ قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)}
تكرّرت أحرف { أَتْقَنَ } في هذه الآية 42 مرّة..
سبحانه الذي أتقن كل شيء!
كلمة { أَتْقَنَ } وردت في القرآن مرّة واحدة في الآية 88 من سورة النمل وتكرّرت أحرف كلمة (أتقن) فيها 21 مرّة!
وهناك آية واحدة فقط رقمها 21 وتكرّرت أحرف كلمة { أَتْقَنَ } فيها 21 مرّة..
{ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21)} [الشورى]
عدد حروف هذه الآية هو 84 حرف، ويساوي 21 × 4
وسورة الشورى التي وردت فيها هذه الآية ترتيبها رقم 42، ويساوي 21 × 2
هندسة رقمية قرآنية عجيبة!
يتبع القسم الثاني والأخير