قصـــــة إعطـــــاب أول دبابـــــة أبرامــــز علــــى أرض المعركــــة
قرأت الكثير من الكتب الإنكليزية حول تاريخ معارك الدبابات في العالم والشرق الأوسط على وجه التحديد، لكن غالبا ما كنت أصدم بنتائج تلك المعارك خصوصاً عندما يكون العرب أحد أطرافها، وأجد تشويش متعمد من الكتاب الغربيين وهم يعرضون تفاصيل ونتائج تلك المعارك، مما يعقد من مهمة البحث وتحري المعلومات وفرز الدقيق منها عن المغلوط !!!
واحد من أهم الكتب وأكثرها موثوقية حول معارك الدبابات في حرب الخليج الأولى 1991 هو كتاب "النصر المؤكد: الجيش الأمريكي في حرب الخليج" Certain Victory: The US Army in the Gulf War للكاتب "روبرت سكيلس" Robert H. Scales وهو لواء متقاعد في الجيش الأمريكي وقائد سابق في كلية حرب الجيش الأمريكي (الكاتب نشر أولاً في العام 1994 وتناول سيرة حرب الخليج العام 1991).
هذا الكتاب قمت بشرائة من موقع أمازون وتوليت ترجمته بالكامل وهو للأمانة دقيق في وصفه لمجريات بعض معارك الدبابات الأمريكية العراقية، ومن ضمن ما يرويه الكاتب قصة دبابات Abrams تعرضت لأضرار جدية ومؤكدة نتيجة ضربات مباشرة من دبابات T-72 عراقية !!! واحدة من تلك القصص تتعلق بإعطاب أول دبابة Abrams أمريكية على أرض المعركة وذلك خلال اشتباكات جرى في تاريخ 26 فبراير 1991 قبل منتصف الليل بقليل مع إحدى وحدات فرق الحرس الجمهوري المدرعة المنسحبة للشمال (فرقة توكلنا على الله Tawakalna Ala Allah).
في الحقيقة، عند اندلاع حرب الخليج وعملية عاصفة الصحراء العام 1991، القوات العراقية كانت تستند في معظم وحداتها المدرعة على دبابات روسية متقادمة نسبياً من نوع T-54 وT-55 وT-62، وكذلك دبابات T-59 وT-69 الصينية، بالإضافة إلى دبابات متقدمة من نوع T-72. هذه الدبابات في المجمل كانت مدعومة بالمئات من عربات نقل الجنود المدرعة من نوع BMP-1/2 وعربات القتال الأخرى. قوات التحالف البرية نظرت إلى دبابات T-72 على أنها الخطر الوحيد الذي يمكن أن يشكل تهديد حقيقي لوجودها في ساحة المعركة، خصوصاً وأن الجيش العراقي كان يمتلك نحو 1000 دبابة T-72M وT-72M1 من كلتا المصانع السوفيتية والبولندية. هذه الدبابات تركزت في معظمها لدى الفرق المدرعة التابعة لقيادة قوات الحرس الجمهوري republican guards (تشكيل في القوات المسلحة العراقية تأسس في منتصف الستينات واستمر حتى العام 2003، وكان يتكون من فيلقين كل منهما يضم ثلاث فرق، أي بمجموع ستة فرق هي: بغداد، المدينة المنورة، عدنان، نبوخذ نصر، النداء، حمورابي).
قصة إعطاب دبابة Abrams الأولى والتي حملت الترميز Delta 24 جرت كما ذكرت سابقا في تاريخ 26 فبراير 1991. هذه الدبابة كانت تتبع الفرقة المدرعة الأولى/السرية D وهي بقيادة الرقيب أول "أنتوني ستيد" Anthony Steede. تحدث ستيد عن اندهاشه بداية العمليات من مشاهدة الكثير من الأهداف المعادية في المحيط خلال عملية التقدم السريع لوحدته المدرعة وذكر في تعليقه "اضطررنا للقتال في معركة متقاربة الأهداف. وخلال مناورتنا حول العربات والدبابات والمخابئ العراقية المحترقة، نحن فقدنا أربع دبابات نتيجة نيران العدو".. كما أضاف "الانفجارات الثانوية المتلاحقة والناتجة عن العربات العراقية المشتعلة قذفت الشظايا والحطام بكل الاتجاهات وكما أن أعمدة اللهب ارتفعت فإن سقف الدخان الأسود هو الآخر علا في السماء".
أطلقت دبابة ستيد عدد ستة قذائف من سلاحها الرئيس على أهداف منفصلة وصفت بأنها دبابات T-72 وعربات BMP عراقية وأصابتها جميعا. بعدها بلحظات، الدبابة واجهت هجمات متتالية بطلقات المدافع الرشاشة والمقذوفات العاملة بالدفع الصاروخي RPG لكن دون التسبب بأضرار جدية!! خلال ساعات الظلام، العراقيون كانوا يطلقون النار بغزارة باتجاه ومضات فوهات مدافع الدبابات الأمريكية التي كانت تطلق نيرانها أثناء الحركة. توقفت Delta 24 وأخذ قائدها ستيد في إدارة برج دبابته لمسح واستكشاف المنطقة المحيطة بمنظاره الحراري thermal sight.
العربات العراقية المحترقة جعلت ساحة المعركة المظلمة تسطع مرة أخرى، حيث أخفق منظاره الحراري بشكل مؤقت في تمييز بعض الأهداف، وهي حالة تعرف ببريق الصورة أو "العتمة البيضاء" white out (حالة رافقت أنظمة الجيل الأول من كاشفات الإشعاع تحت الأحمر infrared detectors. فعند تعرض هذه الكاشفات إلى المصادر تحت الحمراء القوية والكثيفة، فإن الصورة الظاهرة على شاشة عرض ستكون بيضاء كلياً للمشاهد ولا يمكن تحديد تفاصيله).
قائد سريته النقيب "دانا بيترد" Dana Pittard، أبرق إليه بأن بعض العراقيين كانوا يستسلمون إلى قواته وطلب منه المساعدة في جمعهم. ستيد شاهد بنفسه مجموعة من الجنود العراقيين وهم يقفون بالقرب من عربة BMP تحترق على مسافة مئات الأمتار من موقعه، لكنه كان يأمل أن يتم التعامل معهم من قبل المشاة لأنهم أفضل تجهيزاً واستعداداً لمعالجة هذا الوضع. ومع الاقتراب أكثر من عربة BMP المشتعلة، وقف الجنود العراقيين سوية بشكل متجهم ومتخوف، حيث طلب منهم قائدهم إلغاء السلاح مع التلويح بشريط أبيض دليل الاستسلام. دبابة ستيد توقفت قليلاً هي الأخرى أمام هذا المشهد تنفيذاً لأمر قائد السرية.
هذه الظروف الميدانية سمحت لدبابة T-72 بالتحرك خلسة والاتجاه مباشرة إلى مؤخرة الجانب الأيسر للدبابة Delta 24 وسط الدبابات والعربات العراقية المحترقة. وما هي إلا لحظات حتى باغتت الدبابة العراقية غير المرئية هدفها وسددت بسلاحها الرئيس من مسافة مقدرة ببضع مئات الأمتار قذيفة شديدة الانفجار مضادة للدبابات HEAT على دبابة ستيد، ليضرب المقذوف جزئ الدبابة الأكثر ضعفاً وهو حلقة البرج turret ring (التقرير الرسمي تحدث عن ذخيرة شحنة مشكلة ضربت تجهيز NBC، واستطاع نفاث الشحنة اختراق الهيكل فوق الجنزير والعبور لمقصورة الطاقم ليضرب الخزان الهيدروليكي، وتفقد الدبابة طاقتها الكهربائية وضغطها الهيدروليكي hydraulic pressure وتتوقف معها عن الحركة). المشهد المنظور بالنسبة لمدفعي الدبابة T-72 كان أكثر من مثالي والهدف يقف في وضع جانبي حيث البرج يمتد على طول الهيكل!!
يصف ستيد ما حدث بعد ذلك بالقول "مع وميض براق وساخن استغرق نحو النصف ثانية، قذيفة الدبابة العراقية من عيار 125 ملم التي استطاعت النفاذ إلى مقصور الطاقم.. الضغط المفرط وموجات الاهتزاز الناتجة عن ثقب صفائح الدرع نتج عنها قذفي للخارج مثل غطاء الفلين الذي ينتزع من فوهة القنينة bottle cork".
مدفعي الدبابة "جون براون" John Brown قذف هو الآخر بقوة نحو الخلف وتلقفت سيقانه ضغط الانفجار، بحيث تسببت قطع وشظايا معدنية متطايرة في انتزاع اللحم عن عظامه. سقط ستيد بقوة على صندوق التخزين stowage box الخارجي المثبت على الجانب الأيمن من البرج. هو أصيب بالذهول من شدة الهجوم لكنه كان لا يزال حياً، حيث بدأ في تحسس ذراعيه وسيقانه وجسمه الذي بدا أنه سليم من الإصابة رغم أحساس الألم والخدر الذي انتابه!! حمل ستيد نفسه مرة أخرى بعناء وتوجه نحو كوته السقفية أعلى البرج لمساعدة رفاقه.
جاهد ستيد للنزول إلى الدبابة من خلال كوته السقفية. هو شاهد ملقم المدفع العريف "جيمس كوغلر" James Kugler الذي غطاه وجهه السواد وهو يحاول بشكل عبثي الخروج من مقعده. أمسك ستيد ببزة كوغلر وسحبه بجهد كبير خارج البرج، ثم أنزله بقوة إلى الأرض ليشاهد براون وهو مستلقي بالقرب من الجنزير. ستيد وسائق الدبابة "ستيفن هورتن" Steven Howerton، حملا كوغلر وبراون إلى مسافة آمنة بعيداً عن دبابتهما المعطوبة.
حاول ستيد الإبقاء على الاتصال الإذاعي مع وحدته عن طريق الكيبل الطويل للخوذة CVC. وبعد طول انتظار، هو شاهد دبابة Abrams أخرى على مسافة 200 م عن موضعهم التي بادرت إلى نجدتهم وطلب عربة الإسعاف لإنقاذ الجرحى. بعد التقاطه وأفراد طاقمه، أستطاع ستيد مشاهدة دبابة T-72 التي تسببت بالهجوم وكانت مدمرة تماما وهي تقف عند المقدمة اليسرى على مسافة 400 م من دبابته.
صورة غلاف كتاب "النصر المؤكد: الجيش الأمريكي في حرب الخليج"
المرفقات
التعديل الأخير: