السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
لا أحد يدري متى أو أين ولد( ارنست بولارد) بالتحديد..بل ولا أحد يمكنه أن يجزم بأن هذا هو اسمه الحقيقي.. فعندما ظهر فى المانيا مع بدايات عام 1938م كان شابا شديد الحماس للحزب النازي وأفكاره الجديدة ومؤيدا بشدة لزعيمه (ادولف هتلر) الذى كان حينذاك خطيبا مفوها خلب لب الشعب الالماني وفجر فى كيانه حماسا قويا واحتل مكانة كبيرة فى عقول معظم شباب اوروبا على نحو أقلق قادتها وزعماءها وجعلهم يضعون أيديهم على قلوبهم ويتساءلون عما يمكن أن تأتي به الأيام وقد بدا لهم المستقبل مخيفا وهم يتطلعون اليه عبر مناظير - فاق سوادها شفافيتها. أيامها كان (بولارد) يحمل اسم (رودلف جلين) فى بطاقة عضوية الحزب النازي ويجذب اليه أنظار الجميع بحماسه البالغ وقدرته المدهشة على تكوين العلاقات والصداقات والترويج لمبادئ الحزب.. وكان الطبيعي والحال هكذا أن يجذب اليه أنظار قادة الحزب لأن خطة المرحلة القادمة كانت تحتاج لأمثاله ممن يمكنهم جذب الملايين الى الحرب القادمة والتي من المخطط لها أن تجتاح اوروبا كلها. وذات ليلة وبينما يعود (بولارد) الى منزله الصغير فى أحد ضواحي برلين استوقفه رجل بدين أصلع قائلا : »ألديك بعض الوقت لنتحدث معا فى أمر ما؟ « بدون دهشة أو انزعاج سأله (بولارد): أي أمر؟ مال الرجل نحوه هامسا: أمر يهم المانيا كلها !تطلع اليه (بولارد) بشئ من الهدوء ثم استدار قائلا : تعال !.. أدهش أسلوبه الحاسم الحازم رجل المخابرات الألماني الا أنه تبعه فى صمت وهدوء وما ان استقر بهما المقام في المنزل البسيط المتواضع حتى قال البدين: نريدك معنا فى المرحلة القادمة . تراجع (بولارد) فى مقعده وسأله في هدوء: من أنتم ؟ وماذا تقصد بالمرحلة القادمة؟ ابتسم البدين وبدت عليه علامات الاعجاب بجرأة (بولارد) وهدوئه وقال بلهجة حازمة : دعك من الجزء الثاني من السؤال فلن تحصل على الجواب أبدا .. فى هذه الظروف على الأقل، أما عن الجزء الأول فهذا يجيبك عليه. ثم أخرج من جيب معطفه بطاقة قدمها الى (بولارد) الذى قرأ عليها اسم المخابرات الالمانية فانعقد حاجباه وهو يقول: هل تريدني ان أعمل لحسابكم؟ اتسعت ابتسامة البدين وهو يقول: التعبير الاصح هو أن تعمل معنا ...لقد اختارتك القيادة شخصيا للالتحاق بالمخابرات الألمانية. كان ما يعرضه البدين هو حلم أي شاب الماني فى تلك الفترة والأمر الذى يمكن أن يضحي من أجله بأغلى ما في الوجود لذا فقد كانت دهشة البدين عارمة متفجرة عندما تراجع (بولارد) فى توتر قائلا: أنا مضطر لقبول هذا؟
حدق البدين في وجهه قائلا بلهجة أقرب الى الذهول: اننا نعرض عليك الالتحاق بالمخابرات الألمانية..ألا ترغب فى خدمة بلادك؟ أجابه بولارد فى سرعة: أنا مستعد للتضحية بحياتي نفسها، في سبيل المانيا،ولكن الواقع أن طبيعتي تنفر من الوظائف. هتف البدين: هذه ليست وظيفة عادية.. أجابه فى توتر :ولكنها وظيفة !
مضى شطر طويل من الليل،في محاورة بينهما، بدت وكأنها بلا نهاية ،ولكن البدين انصرف فى نهايتها،وهو أكثر دهشة وحيرة، مؤكدا أنه سينقل الأمر الى رؤسائه،ولكنه عاجز عن استنباط رد فعلهم،ازاء هذا الرفض غير المسبوق، في تاريخ المخابرات الالمانية كلها.
ولكن العجيب ان رؤساءه قد تقبلوا الأمر.. بل وتضاعف اعجابهم بالشاب (بولارد) أيضا.. وبعد أسبوع واحد، كان (بولارد) يجلس بحضرة (هملر)،أخطر رجل فى المانيا النازية بعد (هتلر) نفسه..وعندما انتهت المقابلة، كانت النقاط قد وضعت على الحروف..ولم يلتحق (بولارد) بالمخابرات الالمانية .. بل انه عمل لحسابها..وكان عميلا محل ثقة كبيرة،على نحو لم يحدث من قبل قط.. وخاصة عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية،عام 1939م..فطوال عام كامل، كانت التقارير التى يرسلها (بولارد)،من كل مكان بامتداد الجبهة، تصل الى (هملر) مباشرة، دون المرور بأي شخص آخر !
فى أوئل عام1941م، ونظرا لاجادته التامة للانجليزية، تقرر ارسال (بولارد) الى انجلترا، كجاسوس فوق العادة..وهبط (بولارد) فى انجلترا بمظلة، فى التاسع عشر من فبراير1941م، ومعه كل الاوراق الازمة لانتحال شخصية بائع أحذية ايرلندي.
وفي انجلترا، توالت تقارير (بولارد)، حاملة الكثير من المعلومات ،على نحو أثار دهشة (هتلر) نفسه واعجابه، حتى أنه قرر نقل (بولارد) الى أكثر الجبهات سخونة،فى ذلك الحين.. الى روسيا.. والمدهش ان (بولارد)،كان يجيد الروسية أيضا،وكأنه أحد أبناء موسكو،كما أن شعره الأشقر،وعينيه الزرقاويين،وبشرته البيضاء،المشربة بالحمرة،كانت ستساعده كثيرا على الاندماج فى المجتمع الروسي،فى تلك الفترة التى انقلبت فيها كل الاوضاع رأسا على عقب..وليس أكثر للتدليل على أهمية (بولارد) من أن غواصة المانية قد جازفت بالاقتراب من الشواطئ الانجليزية فى زمن الحرب ،حتى يمكنها التقاط الجاسوس الخطير ،واعادته الى المانيا،ومنها الى موسكو.
وفى اليوم الاول من مايو1941م، سافر (بولارد) الى موسكو..ولكن يبدو أن للتفوق دائما أعداء..فلقد شعر أحد رجال المخابرات الألمانية بالحيرة والشك،ازاء ذلك الشاب،الذى يجيد مهارات ولغات شتى ،وينجح فى بلوغ تلك المكانة الرفيعة،وهو لم يتجاوزالثلاثين بعد..لذا،فقد راح يراجع ملف رودلف جلين (ارنست بولارد) بمنتهى الاهتمام والدقة..وتوالت المفاجآت،على نحو مدهش..وعنيف..ومخيف !..فبطاقة عضوية الحزب النازي كانت مزيفة بمهارة شديدة..و(رودلف جلين) هذا كان اسم شاب آخر،توفي منذ عشر سنوات فى حادث سيارة على الحدود..أما ذلك الذى حمل الاسم (ارنست بولارد)،وحاز ثقة الكبار،فهو شخص مجهول تماما..شخص بلا هوية..ولأن الأمر لايحتمل التأخير،فقد تم نقل كل المعلومات الى (هملر)،الذى صعق بالنبأ، وراجع كل شئ بنفسه مرتين على الأقل،قبل أن يطلب مقابلة (هتلر)،وينقل اليه الأمر كله..وجن جنون الفوهلر(هتلر) الذى شعر وكان الشاب قد صفعه أمام الجميع،وطلب اعادته الى المانيا فورا،على الرغم من أن التقارير،التى كان يرسلها من الجبهة الشرقية ،كانت لها فائدة عظمى آنذاك.
وتلقى (بولارد) أمرعودته الى المانيا،مع معلومات تقول:ان جاسوسا المانيا آخر فى الطريق اليه..ولسبب ما شعر (بولارد) بالخطر،على الرغم من أنه أجاب القيادة بأنه سينتظر قدوم الجاسوس الجديد ليعود فورا الى (برلين).
وصل الجاسوس الألمانى الجديد في موعده بالضبط..ولكنه لم يجد (بولارد) فى انتظاره..بل وجد رجال مكافحة الجاسوسية السوفييت،الذين أطبقوا عليه،وأوقعوا به فى لحظات..أما (بولارد)،فقد اختفى تماما..لم يعد له ادنى اثر،وكأنما انشقت الأرض وابتلعته..وجن جنون القيادة الالمانية أكثر فأكثر،وأطلقت كل جواسيسها تقريبا للبحث عن (بولارد) واعادته..وبأي ثمن..وفى الوقت ذاته،كان الجميع يشعرون بالحيرة،وهم يراجعون ملفه كله..فطوال فترة عمله،لم يرسل (بولارد) معلومة واحدة خاطئة !..ولم يش بجاسوس واحد..باستثناء الاخير..فلماذا خدع الجميع اذن ؟
وقبل أن يتوصل أحد للجواب،ظهر(بولارد) في انجلترا..وفي هذه المرة ،كان يحمل اسم (جون يورك)، مع كل الأوراق الرسمية التي تثبت هويته الجديدة..وفى نفس الوقت،الذي نقل فيه الجواسيس الألمان هذا، كان (بولارد) يجلس فى مكتب المخابرات البريطاني (ام اى 6)،ويعرض عليهم التعاون..واتسعت عيون البريطانيين فى دهشة بالغة،وهو يلقي أمامهم سيلا من المعلومات،بالغة الأهمية والخطورة،عن الجيش الألماني والمخابرات الألمانية،والجواسيس الألمان فى بريطانيا..ولكن كل هذا ملا نفوس البريطانيين بالشك،فقرروا ايداع (بولارد) سجونهم،حتى يتم التحقق من أمره..ولقد استقبل (بولارد) هذا الأمر بهدوء شديد،ودون أن تفارق الابتسامة شفتيه،وطلب منهم الاسراع فى تحرياتهم،لأنه لايطيق حياة السجون طويلا..وكعادتهم فى البحث والتدقيق،راح البريطانيون ينبشون كل شبر فى الأرض،بحثا عن أية معلومة عن (بولارد)..حتى جاء الأمر بمصادفة عجيبة..ومدهشة..ففى أحد الايام،كان ضابط مخابرات فرنسي ،من أولئك الذين فروا بعد الاحتلال الالماني،وانضموا الى المخابرات البريطانية ،يراجع بعض الملفات،عندما وقع بصره على صورة (بولارد)،فهتف بكل دهشة الدنيا:شارل ماذا يفعل هنا؟ سأله زميله البريطاني بنفس الدهشة:هل تعرف هذا الرجل؟ أجابه بسرعة: بالطبع انه (شارل بيير)..واحد من أفضل رجالنا..صعق البريطانيون للجواب،وقال أحدهم مبهورا:رجالكم؟ أتعني أنه كان يعمل لحسابكم؟ أجابه الفرنسي فى حزم:نعم..(شارل) كان يعمل لحسابنا في المانيا، ثم انقطعت أخباره تماما، بعد سقوط باريس. وبكل لهفة ودهشة،أسرعوا الى زنزانة (بولارد)،لمعرفة الحقيقة فى هذا الشأن..وكانت فى انتظارهم مفاجأة أكبر..زنزانة خالية ..ولا أدنى أثر للجاسوس الغامض..وقفز جنون البريطانيين الى ذروته، وانطلقوا ينبشون الأرض،بحثا عن أي أثر للجاسوس الهارب..وفى نفس الوقت، راح فريق منهم يدرس الموقف، ويبحث كيف استخدم خامات بسيطة،من زنزانته وطعامه،لافساد رتاج الزنزانة،ومنع اغلاقه !
وفى تقرير رسمي،قرر الطبيب النفسي التابع لهم، أن درجة ذكاء ( بولارد) تتجاوز المتوسط بأربع درجات،وهذا يجعله فى نفس عبقرية (اينشتاين)..وكالمعتاد،وحتى لا يفسد ملفه،لم يظهر أدنى اثر للجاسوس العبقري، ليس في لندن وحدها،ولكن في اوروبا كلها.
.ومضت سنوات الحرب،وانتصر الحلفاء عام 1945م،وبدأت سلسلة من المحاكمات،واستعاد الجميع أماكنهم و ملفاتهم،و... ومعلوماتهم..وحصل البريطانيون على الملف الكامل للهارب..كانت صورته تحتل مكانها،بابتسامة هادئة،واثقة،وملامح يمكن أن تحمل أية جنسية ممكنة..ملامح فرنسية..انجليزية..المانية..أو حتى روسية.
وفى الملف،كان يحمل اسم (شارل بيير)، من مواليد مارسيليا.. وعلى الرغم من أن (بولارد) قد اختفى تماما، راح البريطانيون يدرسون ويراجعون كل المعلومات ، التى وردت فى ملفه .. وتلقوا صدمة جديدة .. كل المعلومات زائفة ،لا أساس لها من الصحة .. لا يوجد (شارل بييلر) فى مارسيليا..أو حتى في باريس ..أو فرنسا كلها.. وعاد السؤال يطرح نفسه بشدة .. من هو (بولارد) هذا؟ ما حقيقته؟ و هويته؟ وجنسيته؟ وبينما تثير الأسئلة قدرا هائلا من الغموض ،وصل تقرير مخابراتي عاجل من الولايات المتحدة الامريكية ، يقول في اختصار :جون يورك (بولارد) هنا !
أنكر الأمريكيون تماما أن تكون هذه حقيقة، وأبلغوا البريطانيين رسميا أنهم لا يعلمون من (يورك) هذا، وليس لديهم شبيه له، في سجلاتهم وملفاتهم الرسمية.. ولكن البريطانيين لم يصدقوا هذا.. فالعميل الذى أبلغهم بأمر (بولارد)، هو عميل من الطراز الأول، ويحتل موقعا بالغ الحساسية والخطورة، ولا يمكن الشك فيما يرسله قط.. لذا فقد طلبوا منه المزيد.. وجاء التقرير التالي ، ليضع النقاط على الحروف : » لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعمل بكل جهدها ،على قدم وساق،فى تلك الآونة لبناء جهاز المخابرات الأمريكي ،وكانت تحتاج الى كل الكفاآت والخبرات الممكنة ؛لذا فقد استعانت بالأسرى الألمان،من رجال المخابرات السابقين، وبكل من يمكنه افادتهم فى هذا الشأن.. ومن كل هؤلاء كان (بولارد).. قدم نفسه اليهم بالاسم الذى عرف به حتى الان .. (ارنست بولارد).. و لسبب ما ،صدق الأمريكيون كل ما قدمه لهم، واعتمدوا كل اوراقه ومستنداته،وعهدوا اليه بعملية تنشئة وتدريب الجيل الجديد من رجال المخابرات الامريكيين.. ولقد أدى (بولارد) مهمته هذه بمنتهى الدقة .. والبراعة.. و الاتقان.. والسرية أيضا.. فطوال اكثر من عشر سنوات ،لم ينكشف أمره قط ، على الرغم من أنه قد استقر فى واشنطن ، وصنع لنفسه حياة اجتماعية جديدة ، واتصالات قوية كبيرة، مع أعظم عمالقة الاقتصاد والسياسة.
أدرك البريطانيون أنه هناك فعلا.. وأنه يعمل لحساب الأمريكيين.. فحذروهم من أمره .. ولكن لسبب ما كان الأمريكيون يولونه كل ثقتهم ،كما لو أنه يعمل لحسابهم منذ البداية .. أو لانه افرخ بالفعل جيلا قويا عملاقا ،من رجال المخابرات ، كانوا نواة للمخابرات المركزية الأمريكية،التى نالت شهرة واسعة فيما بعد ، واحتلت مكانا على رأس قائمة ذلك العالم السري الغامض المثير.. ولكن ، وكما يحدث دائما، هناك حاسدون .. و غاضبون.. ومرة أخرى ، راح البعض ينبش ملف (بولارد).. وطبقا لذلك الملف ، كان (ارنست بولارد) نصف بولندي ونصف بلجيكي ، ولد فى يوغسلافيا، ونما فى أحضان أمه البلجيكية، بعد أن هجرها زوجها البولندي ، واختفى من يوغو سلافيا كلها.. ولا أحد يدرى لماذا لم تغادر الام البلجيكيه الى وطنها ايضا؟ و لماذا بقت مع ابنها هناك ؟ كل ما أدركه الجميع هو أنه من المستحيل التحقق منها ،بعد أن فعلت الحرب ما فعلته بكل تلك المناطق .. لذا، فقد اضطر الحاسدون والحاقدون والناقمون الى ابتلاعها ، وشرب عشر زجاجات من الصودا لهضمها على مضض.. حتى حدثت مصادفة مدهشة ، لم يتصورها أحد !
ففى نهاية عام 1960م، انشق خبير شفرة سوفييتي ، ولجأ الى الولايات المتحدة الامريكية، حاملا كل أسرار ووثائق الملحق العسكري السوفييتي .. وكانت تلك الوثائق تحوى أسماء كل عملاء روسيا، فى اوروبا وأمريكا.. ولكن بأسماء شفرية مستعارة .. وكان على البريطانيين و الأمريكيين أن يدرسوا كل هذه الأسماء ، فى محاولة لكشف هوياتها الحقيقية .. وسقط عشرات العملاء بالفعل، فى كل أنحاء اوروبا.. ومن بينهم نائب مدير المخابرات البريطانية نفسه.. وبقى جاسوس ، يحمل اسم (سباسكي).. جاسوس يجيد الانجليزية ، والفرنسية ، والالمانية، والروسية.. ويمتاز بقدراته الفائقة على تجاوز أية أسوار.. وأية قيود .. وبمراجعة تواريخ تقارير ذلك الجاسوس، والجهات التى أرسلت منها، وجد الكل رابطة قوية، تربطه بمدير قسم التدريب فى ذلك الحين (ارنست بولارد).. ولكن أحدا لم يمكنه الجزم .. لذا، كان لابد وأن يتم البحث فى تاريخ الجاسوسية السوفيتية كله.. واحتاج هذا الى عام كامل ، قبل أن يندفع رئيس قسم الجاسوسية الداخلية، الى حجرة مدير المخابرات الأمريكية، ويلقى أمامه ملفا صغيرا، قائلا فى انفعال جارف (ايفان توركنيف) !!سأله المدير فى توتر: من هذا؟ شد الرجل قامته ، وأجاب فى صرامة: الاسم الحقيقى للزميل (ارنست بولارد). ولشدة دهشته ، راجع المدير الملف كله بنفسه.. وتضاعفت دهشته ألف مرة .. انه هو بالفعل .. (ارنست بولارد).. الملف يحمل صورته ، ويقول انه (ايفان تورنكيف)، المولود فى (بيتروا جراد)، والذى يعمل لحساب المخابرات السوفييتية، منذ عام 1936م.. ولخطورة الأمر، تم عرضه على الرئيس الأمريكي شخصيا، والذى أصدر أمره بالقاء القبض عليه ومحاكمته، لمعرفة ما يخفيه من أسرار .. ووقع قراره هذا صباح 31 ديسمبر 1961م.. وفى مساء اليوم نفسه ، انقض فريق المخابرات الأمريكية على منزل (بولارد).. وكان ما كان.. لقد حافظ الجاسوس الغامض على ملفه ناصعا.. واختفى دون أثر.. وكما حدث للالمان والبريطانيين من قبلهم، جن جنون الأمريكيين، وراحوا يبحثون عن (بولارد) فى كل مكان.. لا أحد يدري كيف يدرك ما ينتظره.. ولا كيف ينجح فى الفرار دائما، فى الوقت المناسب .. ولكنه فعلها دائما.. وطوال عام كامل ، لم يعثر الأمريكيون على أدنى أثر للرجل.. وخلال ذلك العام، حملت اليهم الأيام والمعلومات مفاجأة، تفجر معها غضبهم ؛ ليفوق دهشتهم ألف مرة.. لقد عمل (بولارد) بالفعل لحساب السوفييت .. ولكن هويته كانت زائفة.. انه لم يكن أبدا (ايفان توركنيف) !!.. ولم يكن قط فى (بيتروا جراد).. ولا فى مدينة سوفييتية أخرى.. ومرة أخرى امتزجت الأوراق .. ونسفت الحيرة الحواجز والحقائق.. وراحت المعلومات تتوالى ، على نحو مذهل.. لقد عمل (بولارد) لحساب كل أجهزة المخابرات الكبرى تقريبا.. وبمنتهى الاخلاص .. والاستمتاع .. ودون هدف واضح معلن.. لم يعمل يوما من أجل مال.. أو مبدأ.. أو عقيدة.. أو حتى امرأة.. بل انه لم يبد قط اهتماما بالنساء، باستثناء مرتين أو ثلاثة.. بصورة عابرة.. كان يبدو وكأن هدفه الوحيد هو أن يغوص فى ذلك العالم.. حتى النخاع.. وأن يحيا دوما فى مغامرة مثيرة غامضة.. أو أن يحفر اسمه فى كتاب تاريخ المخابرات.. ولكن أي اسم؟ (رودلف حلين)؟ (شارل بيير)؟ (جون يورك)؟ (ايفان توركنيف)؟ أم (ارنست بولارد)؟ لا أحد يدري .. حتى يومنا هذا !.. صحيح أنه تواردت أخبار عديدة،حول ظهوره فى موسكو.. و وارسو.. وبرلين الشرقية.. وأكد بعضهم أنه يعمل كمستشار أمني فى بكين.. أو فى الشرق الأوسط.. ولكن ما من خبر واحد تم تأكيده.. وما من معلومة واحدة مؤكدة.. لقد اختفى ( بولارد) هذه المرة الى الأبد، ومحا من خلفه تاريخه كله.. ذلك التاريخ الذى عجزت كل أجهزة المخابرات عن تأكيد حرف واحد منه.. لا أحد يدري أين ذهب (ارنست بولارد).. ولا من أين جاء.. ولكن الكل يدرك أنه سيبقى دوما حالة فريدة بين كل جواسيس العالم.. سيبقى جاسوسا غامضا مجهولا.. و بلا هوية..
النهايـــــــــــــة