الدروز في إسرائيل بين أزمة الهوية وحساب النفس
في مركز للشرطة الإسرائيلية بمدينة نهاريا شمال إسرائيل، في سبتمبر/ أيلول 2003، شاب ينفجر بالبكاء وهو مكبل بالسلاسل بينما يقتاده شرطي إسرائيلي في الطريق من الملهى الليلي وحتى المركز بعد أن باءت كل محاولاته بالفشل للاستفسار من الشرطي الذي ألقي القبض عليه عن الأسباب التي دفعته للإقدام على مثل هذا الإجراء ضده.. الشرطي أبلغ رؤساءه أنه ألقي القبض على هذا الشاب بعد أن سمعه يتحدث خلال هاتفه النقال باللغة العربية، فظن أنه ناشط فلسطيني يعتزم تفجير نفسه وسط نزلاء الملهى، فألقي القبض عليه للتحقيق معه.. وسرعان ما أطلق سراح هذا الشاب "العربي"، بعد أن تبين أنه قائد لأحد أكثر ألوية المشاة في الجيش الإسرائيلي حرفية وتميزا. إنه العقيد عماد فارس، الدرزي، الذي كان يقود لواء "جفعاتي". عندئذ، هذا اللواء الذي أوكل إليه مهمة قمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في قطاع غزة. فعندما تنقل وسائل الاعلام الإسرائيلية نبأ عملية اقتحام، أو قتل، أو تدمير للمنازل، قام بها جيش الاحتلال في قطاع غزة، فبشكل تلقائي يعرف أن لواء "جفعاتي"، بقيادة العقيد "عماد فارس" هو الذي نفذها.
هذا الشاب الذي تجاوز سن 36 بقليل، لم تشفع له خدمته في صفوف الجيش الإسرائيلي طوال 18 عاما، فيقاد إلى مركز الشرطة الإسرائيلية لتلفظه بكلمات عربية في مكان كل من يتحدث فيه العربية يثير الشبهات.
وما بين سبتمبر/ أيلول 2003 ويونيو/ حزيران 2009 لم تزدد أوضاع الطائفة الدرزية في إسرائيل إلا سوءا، ولم تزدد أزمة الهوية التي يعيشها الدروز في إسرائيل إلا عمقا، فالأنباء الواردة من هناك تقول إن نحو 800 متظاهر من الدروز تجمعوا أمام مقر رئيس الوزراء "بنيامين نتانياهو" للتنديد بعدم قيام الحكومة باستثمارات كافية في مناطقهم في شمال البلاد. واندلعت مواجهات بين المتظاهرين والشرطة عمد خلالها المتظاهرون إلى رشق عناصر الشرطة بالبيض، ورددوا هتافات بالعبرية والعربية، بينها "العدالة للدروز واليهود" و"لا للعنصرية".
هذان الحادثان يجسدان أحد أعراض أزمة الهوية المتفاقمة التي يعيشها آلاف العرب الفلسطينيين من أبناء الطائفة الدرزية في الدولة العبرية. فمن ناحية يؤدي الدروز كل "الواجبات" التي يؤديها اليهود لدولة إسرائيل، وعلى رأسها الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي مع كل ما يقتضيه ذلك من التصادم مع أبناء شعبهم، ومن ناحية ثانية تتعامل الدولة العبرية مع الدروز كما تتعامل مع بقية العرب الفلسطينيين (فلسطينيي 48) الذين يعيشون داخل الخط الأخضر في كل ما يتعلق بـ"حقوق المواطنة"، مع كل ما يعنيه هذا من إجحاف على كل المستويات.
جذور الأزمة.. بن جوريون والدروز
يقول د. محمود محارب في دراسة أعدها حول السلوك الانتخابى للدروز خلال انتخابات الكنيست الأخيرة في فبراير/ شباط 2009 في إسرائيل.
يقول "لقد صاغ دافيد بن جوريون، مؤسس إسرائيل، استراتيجية إسرائيل تجاه العرب الدروز. وانبثق عن هذه الاستراتيجية سياسة مثابرة سعت إلى خلق ورعاية هوية عرقية ودينية درزية منفصلة عن العرب والمسلمين، وتنظيم الدروز على أسس عرقية ودينية منفصلة عن العرب. ومن أجل تحقيق هذه الاستراتيجية فضلت إسرائيل ومؤسساتها المختلفة _ وخاصة نظام الحكم العسكري، الذي فرض على العرب منذ قيام إسرائيل وحتى سنة 1966 _ العرب الدروز عن بقية العرب داخل الخط الأخضر. وتمثل تفضيل الدروز عن بقية العرب في مختلف نشاطات السلطة الإسرائيلية. ولم يكن ذلك يعني بأي حال أن إسرائيل ساوت في سياستها ما بين العرب الدروز ومواطنيها اليهود، فقد استمرت إٍسرائيل في اتباع سياسة التمييز العنصري ضد العرب الدروز، بالمقارنة مع مواطنيها اليهود وصادرت قسما كبيرا من أراضي الدروز وأقامت عليها مستوطنات للمهاجرين اليهود، ولكنها في الوقت نفسه اتبعت سياسة تفضيلية تجاه الدروز بالمقارنة مع بقية العرب الآخرين".
ويضيف د. محارب أنه "من أجل تحقيق هدفها الاستراتيجي بخصوص هذا الفصل، اتخذت إسرائيل سلسلة من القرارات في العقود التي تلت تأسيسها، وأبرزها إقامة جهاز قضائي ديني للدروز منفصل عن الجهاز القضائي للمسلمين، وإقامة مجلس ديني للدروز، وفرض التجنيد الإجباري على العرب الدروز وعدم فرضه على العرب الآخرين، وإقامة جهاز تعليمي درزي منفصل عن جهاز التعليم العربي الإسرائيلي".
وحسب تقرير أعده المكتب المركزي للإحصاء فى إسرائيل نشر مؤخرا، فإن عدد العرب الدروز داخل الخط الأخضر في نهاية عام 2008 بلغ 100 ألف درزي، أي 7.1 % من عدد سكان إسرائيل البالغ 7.2 مليون نسمة يعيشون في 17 بلدة. ويعيش 66500 منهم في 11 بلدة عربية درزية بالكامل، بينما يعيش 33500 منهم في 6 بلدات عربية "مختلطة" تتراوح نسبة العرب الدروز فيها ما بين 15 % و60 %.
وبلغ عدد ذوي حق الاقتراع من بين الدروز 62 ألفا. تنافس على أصواتهم في انتخابات الكنيست الأخيرة الأحزاب الإسرائيلية من ناحية، وحزبا التجمع الوطني الديمقراطي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة من ناحية أخرى.
بينما يعيش نحو 18 ألف فى مرتفعات هضبة الجولان السورية المحتلة. ويبلغ العدد الإجمالي للدروز نحو 300 ألف نسمة يتوزعون بين سوريا ولبنان وإسرائيل.
مناهج تربوية خاصة
عملت الدولة العبرية على قتل انتماء الدروز للعروبة والشعب الفلسطيني، فهي لا تعتبر الدروز عربا ولا فلسطينيين، وقد تواطأت قيادة الدروز التقليدية مع الدولة العبرية في ذلك. وأصبحت القيادات الدرزية تشدد على أن الدروز اسرائيليين وكفى.
لكن لم تقتصر جهودها من أجل سلخ الدروز نهائيا عن قوميتهم العربية على التأثير فقط على القيادات التقليدية، بل قاموا بإعداد خطة منهجية لقتل روح الانتماء بأسس تربوية محددة الأهداف، فألزموا الطلاب الدروز بتلقي مناهج تربوية خاصة، غير تلك التي يتلقاها بقية الطلاب العرب.
وكما يقول الصحفي الفلسطيني "هشام نفاع"، فإن هذه المناهج تهدف إلى خلق الشعور لدى الطالب الدرزي بأنه ينتمي إلى طائفة مستقلة ولا يربطها بالعرب والفلسطينيين أي رابط. فقد درس هؤلاء الطلاب التاريخ الدرزي الذي يركز على العلاقة التاريخية الخاصة بين الدروز وإسرائيل.
ومع أن العربية لغة الدروز، فقد لقنوهم ما يسمى بالأدب الدرزي، وكل هذا من أجل تعميق الشعور باستقلالية الهوية الدرزية. ويواصل "نفاع" قائلاً "لقد وصل الاستخفاف بوعي الدروز إلى درجة أن أعدوا لهم مناهج خاصة بالعلوم والطبيعة، فتجد "كيمياء الدروز"، و"فيزياء للدروز"…الخ.
الخدمة الإلزامية بالجيش
في عام 1956 أصدر أول رئيس وزراء إسرائيلي "دافيد بن جورويون" قرارا بصفته وزيرا للدفاع آنذاك يلزم أبناء الطائفة الدرزية بالخدمة الإجبارية في الجيش الإسرائيلي. ومنذ ذلك الوقت والشباب الدرزي يخدم في معظم وحدات الجيش الإسرائيلي المقاتلة.
تفرض الخدمة الإلزامية على جميع الشباب الدرزي، باستثناء الذين تفرغوا للعبادة منهم، شأنهم شأن الشباب المتدينين "الحريديم" وبعد انقضاء مدة الخدمة الإلزامية التي تمتد إلى 3 سنوات، يواصل معظم الشباب الدرزي لدوافع اقتصادية الخدمة في الجيش. ويخدم الدروز بشكل خاص في ألوية المشاة المختارة المقاتلة. وقد وصل عدد كبير منهم نسبيا إلى رتب عالية في الجيش، من أبرزهم الجنرال "يوسف مشلف" الذي شغل منصب منسق شئون الضفة الغربية وقطاع غزة في وزارة الدفاع الإسرائيلية حتى عام 2005، وقد سبق له أن شغل منصب قائد الجبهة الداخلية.
وإلى جانب الخدمة في الجيش، ينخرط الدروز في أفرع الشرطة الإسرائيلية المختلفة، وخاصة في شرطة "حرس الحدود". ولزيادة الشعور بالكراهية والحقد المتبادل بين الدروز وبقية أبناء الشعب الفلسطيني، فقد تم استخدام الكثير من الشباب الدرزي في الخدمة في هذا الفرع بالتحديد حيث إن شرطة "حرس الحدود" كانت ومازال لها اليد الطولى في قمع الفلسطينيين، حيث تنص التعليمات الصادرة لأفراد "حرس الحدود"، على التعامل بشكل مهين وحتى سادي مع الفلسطينيين.
واللافت للنظر أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية تستعين بخدمات الدروز في المحاولات لتجنيد عملاء لها من بين الفلسطينيين، إلى جانب قيامهم بالتجسس على الدول العربية. ففي أواسط الثمانينيات من القرن الـ20 أصدر الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية بيانا أكدوا فيه أن عددا من الممرضين الدروز الذين يعملون في السجون يربطون استعدادهم لتقديم الخدمات الطبية للمرضى من الأسرى وبين موافقة هؤلاء على التعاون مع المخابرات الإسرائيلية بحيث يتجسسوا على إخوانهم من قادة الأسرى.
إلى جانب ذلك، فإن عددا من الدروز الذين يعملون على المعابر الحدودية التي تفصل الضفة الغربية وقطاع غزة عن إسرائيل يساومون الفلسطينيين على منحهم التصاريح اللازمة لدخول إسرائيل، بحيث يتم ربط منح التصاريح بالموافقة على التعامل مع المخابرات الإسرائيلية.
الممارسات المشينة للجنود الدروز ضد إخوانهم من فلسطينيي الضفة الغربية دفعت حركات المقاومة الفلسطينية إلى حد التهديد بتنفيذ عمليات تفجير في قلب التجمعات السكانية الدرزية.
أما التجسس على الدول العربية وتنظيم شبكات تجسس فيها فيعتبر "عزام عزام" الذي حكم عليه بالسجن 15 عامآ فى مصر لاتهامه بالتخابر لصالح إسرائيل في مصر أحد أمثلتها.
حلف الشيطان مع إسرائيل
والسؤال الذى يتبادر لذهن كل عربى.. لماذا وافق الدروز على الانسلاخ عن هويتهم، والتنكر لعروبتهم وبني جلدتهم.. أليسوا عربا؟ أليسوا ضمن طوائف الشعب الفلسطيني الذي ذاق من صنوف القتل والتنكيل والتشريد على أيدي جلاديه الإسرائيليين ما لم يذقه شعب آخر؟ وكيف استطاعت إسرائيل أن تقنع الدروز بعقد حلف الدم هذا معها؟
يقول "سليمان الناطور" وهو كاتب وأديب درزي من ذوي التوجهات الوطنية والعروبية "إن هذا يعود لكون الدروز أقلية هامشية، أعتقد قادتها التقليديون أن هذا يتطلب منهم البحث عن جهة أجنبية تمنحهم الحماية من أجل البقاء".
ويضيف أن "الخلافات المذهبية بين الفلسطينيين في ذلك الوقت لعبت دورا كبيرا في خلق هذا الواقع، فالطائفة الدرزية هي طائفة مذهبية صغيرة تعيش في وسط إسلامي كبير لم يكن يرضى عن طقوسها وعاداتها الدينية، الأمر الذي تولد عنه احتكاكات، شعر الدروز على أثرها، بحاجة إلى من يدعمهم في مواجهة الأغلبية الإسلامية".
ويواصل الناطور قوله إن أقطاب الحركة الصهيونية فطنوا إلى حقيقة الخلافات المذهبية بين الدروز وباقي العرب الفلسطينيين، فعملوا على تعميق هذه الخلافات وأقاموا معهم علاقات حميمة، وقد برز من بين القادة الصهاينة في هذا المجال "أبا حوشن" رئيس بلدية حيفا، في ذلك الوقت الذي أقنع الكثيرين من الدروز بالتعاون مع المنظمات الصهيونية العسكرية قبل الإعلان عن الدولة العبرية وخصوصا "الهاجناة".
ولكن بعد إقامة الدولة العبرية، صادرت إسرائيل معظم الأراضي التي تعود للدروز، فحرموا من مصدر رزقهم الوحيد وهو الزراعة، وبذلك وجد الدروز في الخدمة في الجيش الإسرائيلي مصدرا للرزق، حتى أن الكثيرين من القيادات الدرزية قد وقعت في العام 1955 على عريضة تطالب الحكومة الإسرائيلية بفرض الخدمة الإجبارية على الدروز، وهذا ما تحقق في العام التالي.
ويقول د. "محمود محارب" كان العرب الدروز عند قيام إسرائيل في حالة من التخلف والفقر، ولا يزيد عددهم عن 13800 نسمة، يعيشون على الزراعة البدائية والرعاية. ففي خمسينيات القرن الـ20 كان 60 % من العرب الدروز يعملون في مجال الزراعة البدائية الموسمية، التي تدر دخلا قليلا، وانخفض هذا الرقم في السبعينات إلى 20 %، وفي أواسط التسعينيات إلى 3 %.
ويتضح من دراسة أجريت في العام 1995 أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية كانت في أوائل التسعينيات هي المشغل الأكبر للعرب الدروز، حيث عملوا بعد إنهاء الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش الدائم وحرس الحدود والشرطة ودائرة السجون.
د. "أسعد غانم" المحاضر في جامعة حيفا يعتبر أن الحالة الدرزية تجسد أقصى درجات الضياع الوطني والقومي. فالدروز في إسرائيل تحدوا أبناء شعبهم وأمتهم من أجل الحصول على امتيازات مادية قد تحققها خدمتهم في الجيش، لكنهم وجدوا أنفسهم ضحايا لنفس السياسة العنصرية التي يتعرض لها سائر العرب في إسرائيل.
ويحمل الصحفي "هشام نفاع" على قيادة الطائفة الدرزية التي قادت أبنائها إلى هذا الواقع البائس. ويتساءل "ترى لو حدث سلام بين إسرائيل والدول العربية، فماذا سيقول دروز إسرائيل لإخوانهم الدورز في الجولان وسوريا ولبنان؟!". ويضيف أن "خدمة الشباب الدرزي في الجيش الإسرائيلي عار يلطخ شرف كل الدروز أينما كانوا وحيثما حلوا".
تفرقة عنصرية
وتؤكد الإحصاءات الرسمية الإسرائيلية نفسها أن هناك تفاوتا شاسعا بين معدل الدخل السنوي لليهود والدروز، فمعدل دخل الفرد الشهري في بلدة "معلوت" اليهودية على سبيل المثال يصل إلى 12 ألف شيكل (2800 دولار)، بينما لا يتجاوز ألفي شيكل لدى جارتها البلدة الدرزية "حورفيش".
وعلى الرغم من الشعارات الذائفة التي ترفعها الدولة العبرية عن المساواة والعدالة بين جميع مواطنيها في الحقوق والواجبات، وعلى الرغم من خدمة الدروز لعشرات السنين في صفوف الجيش الإسرائيلي، أثبتوا خلالها إخلاصهم للدولة اليهودية، إلا أن هيئة أركان الجيش ترفض تجنيدهم في بعض أفرع الجيش مثل سلاح الجو، أو الاستخبارات العسكرية، أو صفوف المخابرات العامة. ويؤكد المعلق العسكري لصحيفة "هاارتس" "زئيف شيف" أن المؤسسة العسكرية فى إسرئيل لازالت تتعامل مع الدروز بصفتهم عربا.
وعندما سأل أحد الصحفيين الحاخام "مائير كهانا" الزعيم الروحي لحركة "كاخ" المتطرفة، التي تدعو إلى طرد جميع العرب إلى خارج حدود فلسطين "هل تطالب بطرد أبناء الطائفة الدرزية من إسرائيل على الرغم من خدمتهم في الجيش الإسرائيلي؟"، فرد كهانا بكل ثقة "نعم، ولكننا سنحرص على توفير حافلات مكيفة لهم أثناء الطرد".
حساب النفس
إلا أن السياسة الإسرائيلية بحق العرب الدروز لم تمر دون مقاومة من جانبهم، وخاصة ضد قرار فرض التجنيد الإلزامي عليهم. فقد عارض وواجه الكثيرون من الوطنيين العرب الدروز السياسات الإسرائيلية للحكومات المتعاقبة ولا يزالون.
وعلى الرغم من أن هذه المواجهة لم تمتلك مقومات النجاح بالكامل، فقبضة أجهزة الدولة الإسرائيلية على العرب الدروز كانت ولا تزال قوية ومحكمة، حيث اتبعت سياسة العصا والجزرة بحقهم ونجحت إلى حد بعيد في تغذية وإذكاء الصراعات الداخلية بين الوجهاء العرب الدروز، وقمعت بمنهجية كل الذين قاوموا السياسات الإسرائيلية، وخاصة أولئك الذين كافحوا ضد سياسة التجنيد الإلزامي. إلا أن الإنصاف يقتضى الإشارة إلى محاولات بذلها بعض الدروز ذوى التوجهات القومية العروبية للإفلات من قبضة الدولة العبرية.
فقد أقيمت "لجنة المبادرة الدرزية العربية" في العام 1972، ويتزعمها الشيخ "جمال معدى" وهي واحدة من 3 تنظيمات تمارس نشاطات معارضة للخدمة الإلزامية بالجيش الإسرائيلى، كذلك تنشط في هذا المجال حركة "المعروفيون الأحرار التي أقيمت خلال الانتفاضة الأخيرة في سبتمبر/ أيلول 2000 بقيادة الزعيم الدرزي "سعيد نفاع" عضو الكنيست الإسرائيلى عن حزب التجمع الوطني الديمقراطي (حزب عربي) وتأخذ الحركات المختلفة على نفسها مسئولية تغيير قانون الخدمة العسكرية الإلزامية للدروز، الذي أصبح ساري المفعول في عام 1956 وتحويله إلى خدمة اختيارية.
كما أن المنظمات والجمعيات واللجان الدرزية الأهلية التي تشجع رفض خدمة الشباب الدرزى في الجيش الإسرائيلي تتزايد في الآونة الأخيرة وتعمل بشكل معلن.
ويبدو أن عملية حساب النفس الجادة والعميقة في أوساط الشباب الدرزي قد أثمرت، ففي مطلع مارس/ آذار 2009، أصيبت دوائر صنع القرار في الدولة العبرية والقيادة الدرزية التقليدية المتواطئة معها بالصدمة جراء الكشف عن نتائج دراسة أجرتها لجنة المبادرة الدرزية العربية، وتبين من خلالها أن 40 % من الشباب الدرزي يرفضون أداء الخدمة العسكرية الإلزامية في صفوف جيش الاحتلال.
وأكدت الدراسة التي اعتمدت على استطلاع رأي واسع في صفوف الشباب الدرزي، أنهم على استعداد للتصريح بأنهم عرب فلسطينيين ويرفضون الخدمة العسكرية، مع كل ما يترتب على ذلك من اعتقال في سجون الشرطة العسكرية لجيش الاحتلال.
وحسب الدراسة فإنه يمكن في كل أسبوع العثور في السجون العسكرية على 30 سجينا درزيا رافضا للخدمة العسكرية و30 متهربا من صفوف الجيش لأسباب مبدئية أو ضميرية أو اقتصادية. ويتم الإفراج عن 5 إلى 10 سجناء دروز شهريا.
ونظرا لعنصرية مؤسسات القضاء في الدولة العبرية، فإن قادة الحركات الوطنية في أوساط الدروز يدرسون فكرة التوجه إلى المحكمة الدولية في لاهاي، وإقحام المجتمع الدولي في قضيتهم، فكل دول العالم لا تلزم الأقليات فيها بالخدمة العسكرية، خاصة إذا كان القتال ضد شعبهم المحتل.
وسائل الإعلام الإسرائيلية هي الأخرى تتواطأ مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في عدم تغطية رفض الخدمة الإلزامية في صفوف الشباب الدرزى، حتى لا تتسع الظاهرة بل والتقليل من شأنها وتصويرها على أنها مجرد اشتباكات مع الشرطة الإسرائيلية لا أكثر.
في مركز للشرطة الإسرائيلية بمدينة نهاريا شمال إسرائيل، في سبتمبر/ أيلول 2003، شاب ينفجر بالبكاء وهو مكبل بالسلاسل بينما يقتاده شرطي إسرائيلي في الطريق من الملهى الليلي وحتى المركز بعد أن باءت كل محاولاته بالفشل للاستفسار من الشرطي الذي ألقي القبض عليه عن الأسباب التي دفعته للإقدام على مثل هذا الإجراء ضده.. الشرطي أبلغ رؤساءه أنه ألقي القبض على هذا الشاب بعد أن سمعه يتحدث خلال هاتفه النقال باللغة العربية، فظن أنه ناشط فلسطيني يعتزم تفجير نفسه وسط نزلاء الملهى، فألقي القبض عليه للتحقيق معه.. وسرعان ما أطلق سراح هذا الشاب "العربي"، بعد أن تبين أنه قائد لأحد أكثر ألوية المشاة في الجيش الإسرائيلي حرفية وتميزا. إنه العقيد عماد فارس، الدرزي، الذي كان يقود لواء "جفعاتي". عندئذ، هذا اللواء الذي أوكل إليه مهمة قمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في قطاع غزة. فعندما تنقل وسائل الاعلام الإسرائيلية نبأ عملية اقتحام، أو قتل، أو تدمير للمنازل، قام بها جيش الاحتلال في قطاع غزة، فبشكل تلقائي يعرف أن لواء "جفعاتي"، بقيادة العقيد "عماد فارس" هو الذي نفذها.
هذا الشاب الذي تجاوز سن 36 بقليل، لم تشفع له خدمته في صفوف الجيش الإسرائيلي طوال 18 عاما، فيقاد إلى مركز الشرطة الإسرائيلية لتلفظه بكلمات عربية في مكان كل من يتحدث فيه العربية يثير الشبهات.
وما بين سبتمبر/ أيلول 2003 ويونيو/ حزيران 2009 لم تزدد أوضاع الطائفة الدرزية في إسرائيل إلا سوءا، ولم تزدد أزمة الهوية التي يعيشها الدروز في إسرائيل إلا عمقا، فالأنباء الواردة من هناك تقول إن نحو 800 متظاهر من الدروز تجمعوا أمام مقر رئيس الوزراء "بنيامين نتانياهو" للتنديد بعدم قيام الحكومة باستثمارات كافية في مناطقهم في شمال البلاد. واندلعت مواجهات بين المتظاهرين والشرطة عمد خلالها المتظاهرون إلى رشق عناصر الشرطة بالبيض، ورددوا هتافات بالعبرية والعربية، بينها "العدالة للدروز واليهود" و"لا للعنصرية".
هذان الحادثان يجسدان أحد أعراض أزمة الهوية المتفاقمة التي يعيشها آلاف العرب الفلسطينيين من أبناء الطائفة الدرزية في الدولة العبرية. فمن ناحية يؤدي الدروز كل "الواجبات" التي يؤديها اليهود لدولة إسرائيل، وعلى رأسها الخدمة الإلزامية في الجيش الإسرائيلي مع كل ما يقتضيه ذلك من التصادم مع أبناء شعبهم، ومن ناحية ثانية تتعامل الدولة العبرية مع الدروز كما تتعامل مع بقية العرب الفلسطينيين (فلسطينيي 48) الذين يعيشون داخل الخط الأخضر في كل ما يتعلق بـ"حقوق المواطنة"، مع كل ما يعنيه هذا من إجحاف على كل المستويات.
جذور الأزمة.. بن جوريون والدروز
يقول د. محمود محارب في دراسة أعدها حول السلوك الانتخابى للدروز خلال انتخابات الكنيست الأخيرة في فبراير/ شباط 2009 في إسرائيل.
يقول "لقد صاغ دافيد بن جوريون، مؤسس إسرائيل، استراتيجية إسرائيل تجاه العرب الدروز. وانبثق عن هذه الاستراتيجية سياسة مثابرة سعت إلى خلق ورعاية هوية عرقية ودينية درزية منفصلة عن العرب والمسلمين، وتنظيم الدروز على أسس عرقية ودينية منفصلة عن العرب. ومن أجل تحقيق هذه الاستراتيجية فضلت إسرائيل ومؤسساتها المختلفة _ وخاصة نظام الحكم العسكري، الذي فرض على العرب منذ قيام إسرائيل وحتى سنة 1966 _ العرب الدروز عن بقية العرب داخل الخط الأخضر. وتمثل تفضيل الدروز عن بقية العرب في مختلف نشاطات السلطة الإسرائيلية. ولم يكن ذلك يعني بأي حال أن إسرائيل ساوت في سياستها ما بين العرب الدروز ومواطنيها اليهود، فقد استمرت إٍسرائيل في اتباع سياسة التمييز العنصري ضد العرب الدروز، بالمقارنة مع مواطنيها اليهود وصادرت قسما كبيرا من أراضي الدروز وأقامت عليها مستوطنات للمهاجرين اليهود، ولكنها في الوقت نفسه اتبعت سياسة تفضيلية تجاه الدروز بالمقارنة مع بقية العرب الآخرين".
ويضيف د. محارب أنه "من أجل تحقيق هدفها الاستراتيجي بخصوص هذا الفصل، اتخذت إسرائيل سلسلة من القرارات في العقود التي تلت تأسيسها، وأبرزها إقامة جهاز قضائي ديني للدروز منفصل عن الجهاز القضائي للمسلمين، وإقامة مجلس ديني للدروز، وفرض التجنيد الإجباري على العرب الدروز وعدم فرضه على العرب الآخرين، وإقامة جهاز تعليمي درزي منفصل عن جهاز التعليم العربي الإسرائيلي".
وحسب تقرير أعده المكتب المركزي للإحصاء فى إسرائيل نشر مؤخرا، فإن عدد العرب الدروز داخل الخط الأخضر في نهاية عام 2008 بلغ 100 ألف درزي، أي 7.1 % من عدد سكان إسرائيل البالغ 7.2 مليون نسمة يعيشون في 17 بلدة. ويعيش 66500 منهم في 11 بلدة عربية درزية بالكامل، بينما يعيش 33500 منهم في 6 بلدات عربية "مختلطة" تتراوح نسبة العرب الدروز فيها ما بين 15 % و60 %.
وبلغ عدد ذوي حق الاقتراع من بين الدروز 62 ألفا. تنافس على أصواتهم في انتخابات الكنيست الأخيرة الأحزاب الإسرائيلية من ناحية، وحزبا التجمع الوطني الديمقراطي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة من ناحية أخرى.
بينما يعيش نحو 18 ألف فى مرتفعات هضبة الجولان السورية المحتلة. ويبلغ العدد الإجمالي للدروز نحو 300 ألف نسمة يتوزعون بين سوريا ولبنان وإسرائيل.
مناهج تربوية خاصة
عملت الدولة العبرية على قتل انتماء الدروز للعروبة والشعب الفلسطيني، فهي لا تعتبر الدروز عربا ولا فلسطينيين، وقد تواطأت قيادة الدروز التقليدية مع الدولة العبرية في ذلك. وأصبحت القيادات الدرزية تشدد على أن الدروز اسرائيليين وكفى.
لكن لم تقتصر جهودها من أجل سلخ الدروز نهائيا عن قوميتهم العربية على التأثير فقط على القيادات التقليدية، بل قاموا بإعداد خطة منهجية لقتل روح الانتماء بأسس تربوية محددة الأهداف، فألزموا الطلاب الدروز بتلقي مناهج تربوية خاصة، غير تلك التي يتلقاها بقية الطلاب العرب.
وكما يقول الصحفي الفلسطيني "هشام نفاع"، فإن هذه المناهج تهدف إلى خلق الشعور لدى الطالب الدرزي بأنه ينتمي إلى طائفة مستقلة ولا يربطها بالعرب والفلسطينيين أي رابط. فقد درس هؤلاء الطلاب التاريخ الدرزي الذي يركز على العلاقة التاريخية الخاصة بين الدروز وإسرائيل.
ومع أن العربية لغة الدروز، فقد لقنوهم ما يسمى بالأدب الدرزي، وكل هذا من أجل تعميق الشعور باستقلالية الهوية الدرزية. ويواصل "نفاع" قائلاً "لقد وصل الاستخفاف بوعي الدروز إلى درجة أن أعدوا لهم مناهج خاصة بالعلوم والطبيعة، فتجد "كيمياء الدروز"، و"فيزياء للدروز"…الخ.
الخدمة الإلزامية بالجيش
في عام 1956 أصدر أول رئيس وزراء إسرائيلي "دافيد بن جورويون" قرارا بصفته وزيرا للدفاع آنذاك يلزم أبناء الطائفة الدرزية بالخدمة الإجبارية في الجيش الإسرائيلي. ومنذ ذلك الوقت والشباب الدرزي يخدم في معظم وحدات الجيش الإسرائيلي المقاتلة.
تفرض الخدمة الإلزامية على جميع الشباب الدرزي، باستثناء الذين تفرغوا للعبادة منهم، شأنهم شأن الشباب المتدينين "الحريديم" وبعد انقضاء مدة الخدمة الإلزامية التي تمتد إلى 3 سنوات، يواصل معظم الشباب الدرزي لدوافع اقتصادية الخدمة في الجيش. ويخدم الدروز بشكل خاص في ألوية المشاة المختارة المقاتلة. وقد وصل عدد كبير منهم نسبيا إلى رتب عالية في الجيش، من أبرزهم الجنرال "يوسف مشلف" الذي شغل منصب منسق شئون الضفة الغربية وقطاع غزة في وزارة الدفاع الإسرائيلية حتى عام 2005، وقد سبق له أن شغل منصب قائد الجبهة الداخلية.
وإلى جانب الخدمة في الجيش، ينخرط الدروز في أفرع الشرطة الإسرائيلية المختلفة، وخاصة في شرطة "حرس الحدود". ولزيادة الشعور بالكراهية والحقد المتبادل بين الدروز وبقية أبناء الشعب الفلسطيني، فقد تم استخدام الكثير من الشباب الدرزي في الخدمة في هذا الفرع بالتحديد حيث إن شرطة "حرس الحدود" كانت ومازال لها اليد الطولى في قمع الفلسطينيين، حيث تنص التعليمات الصادرة لأفراد "حرس الحدود"، على التعامل بشكل مهين وحتى سادي مع الفلسطينيين.
واللافت للنظر أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية تستعين بخدمات الدروز في المحاولات لتجنيد عملاء لها من بين الفلسطينيين، إلى جانب قيامهم بالتجسس على الدول العربية. ففي أواسط الثمانينيات من القرن الـ20 أصدر الأسرى الفلسطينيون في السجون الإسرائيلية بيانا أكدوا فيه أن عددا من الممرضين الدروز الذين يعملون في السجون يربطون استعدادهم لتقديم الخدمات الطبية للمرضى من الأسرى وبين موافقة هؤلاء على التعاون مع المخابرات الإسرائيلية بحيث يتجسسوا على إخوانهم من قادة الأسرى.
إلى جانب ذلك، فإن عددا من الدروز الذين يعملون على المعابر الحدودية التي تفصل الضفة الغربية وقطاع غزة عن إسرائيل يساومون الفلسطينيين على منحهم التصاريح اللازمة لدخول إسرائيل، بحيث يتم ربط منح التصاريح بالموافقة على التعامل مع المخابرات الإسرائيلية.
الممارسات المشينة للجنود الدروز ضد إخوانهم من فلسطينيي الضفة الغربية دفعت حركات المقاومة الفلسطينية إلى حد التهديد بتنفيذ عمليات تفجير في قلب التجمعات السكانية الدرزية.
أما التجسس على الدول العربية وتنظيم شبكات تجسس فيها فيعتبر "عزام عزام" الذي حكم عليه بالسجن 15 عامآ فى مصر لاتهامه بالتخابر لصالح إسرائيل في مصر أحد أمثلتها.
حلف الشيطان مع إسرائيل
والسؤال الذى يتبادر لذهن كل عربى.. لماذا وافق الدروز على الانسلاخ عن هويتهم، والتنكر لعروبتهم وبني جلدتهم.. أليسوا عربا؟ أليسوا ضمن طوائف الشعب الفلسطيني الذي ذاق من صنوف القتل والتنكيل والتشريد على أيدي جلاديه الإسرائيليين ما لم يذقه شعب آخر؟ وكيف استطاعت إسرائيل أن تقنع الدروز بعقد حلف الدم هذا معها؟
يقول "سليمان الناطور" وهو كاتب وأديب درزي من ذوي التوجهات الوطنية والعروبية "إن هذا يعود لكون الدروز أقلية هامشية، أعتقد قادتها التقليديون أن هذا يتطلب منهم البحث عن جهة أجنبية تمنحهم الحماية من أجل البقاء".
ويضيف أن "الخلافات المذهبية بين الفلسطينيين في ذلك الوقت لعبت دورا كبيرا في خلق هذا الواقع، فالطائفة الدرزية هي طائفة مذهبية صغيرة تعيش في وسط إسلامي كبير لم يكن يرضى عن طقوسها وعاداتها الدينية، الأمر الذي تولد عنه احتكاكات، شعر الدروز على أثرها، بحاجة إلى من يدعمهم في مواجهة الأغلبية الإسلامية".
ويواصل الناطور قوله إن أقطاب الحركة الصهيونية فطنوا إلى حقيقة الخلافات المذهبية بين الدروز وباقي العرب الفلسطينيين، فعملوا على تعميق هذه الخلافات وأقاموا معهم علاقات حميمة، وقد برز من بين القادة الصهاينة في هذا المجال "أبا حوشن" رئيس بلدية حيفا، في ذلك الوقت الذي أقنع الكثيرين من الدروز بالتعاون مع المنظمات الصهيونية العسكرية قبل الإعلان عن الدولة العبرية وخصوصا "الهاجناة".
ولكن بعد إقامة الدولة العبرية، صادرت إسرائيل معظم الأراضي التي تعود للدروز، فحرموا من مصدر رزقهم الوحيد وهو الزراعة، وبذلك وجد الدروز في الخدمة في الجيش الإسرائيلي مصدرا للرزق، حتى أن الكثيرين من القيادات الدرزية قد وقعت في العام 1955 على عريضة تطالب الحكومة الإسرائيلية بفرض الخدمة الإجبارية على الدروز، وهذا ما تحقق في العام التالي.
ويقول د. "محمود محارب" كان العرب الدروز عند قيام إسرائيل في حالة من التخلف والفقر، ولا يزيد عددهم عن 13800 نسمة، يعيشون على الزراعة البدائية والرعاية. ففي خمسينيات القرن الـ20 كان 60 % من العرب الدروز يعملون في مجال الزراعة البدائية الموسمية، التي تدر دخلا قليلا، وانخفض هذا الرقم في السبعينات إلى 20 %، وفي أواسط التسعينيات إلى 3 %.
ويتضح من دراسة أجريت في العام 1995 أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية كانت في أوائل التسعينيات هي المشغل الأكبر للعرب الدروز، حيث عملوا بعد إنهاء الخدمة العسكرية الإلزامية في الجيش الدائم وحرس الحدود والشرطة ودائرة السجون.
د. "أسعد غانم" المحاضر في جامعة حيفا يعتبر أن الحالة الدرزية تجسد أقصى درجات الضياع الوطني والقومي. فالدروز في إسرائيل تحدوا أبناء شعبهم وأمتهم من أجل الحصول على امتيازات مادية قد تحققها خدمتهم في الجيش، لكنهم وجدوا أنفسهم ضحايا لنفس السياسة العنصرية التي يتعرض لها سائر العرب في إسرائيل.
ويحمل الصحفي "هشام نفاع" على قيادة الطائفة الدرزية التي قادت أبنائها إلى هذا الواقع البائس. ويتساءل "ترى لو حدث سلام بين إسرائيل والدول العربية، فماذا سيقول دروز إسرائيل لإخوانهم الدورز في الجولان وسوريا ولبنان؟!". ويضيف أن "خدمة الشباب الدرزي في الجيش الإسرائيلي عار يلطخ شرف كل الدروز أينما كانوا وحيثما حلوا".
تفرقة عنصرية
وتؤكد الإحصاءات الرسمية الإسرائيلية نفسها أن هناك تفاوتا شاسعا بين معدل الدخل السنوي لليهود والدروز، فمعدل دخل الفرد الشهري في بلدة "معلوت" اليهودية على سبيل المثال يصل إلى 12 ألف شيكل (2800 دولار)، بينما لا يتجاوز ألفي شيكل لدى جارتها البلدة الدرزية "حورفيش".
وعلى الرغم من الشعارات الذائفة التي ترفعها الدولة العبرية عن المساواة والعدالة بين جميع مواطنيها في الحقوق والواجبات، وعلى الرغم من خدمة الدروز لعشرات السنين في صفوف الجيش الإسرائيلي، أثبتوا خلالها إخلاصهم للدولة اليهودية، إلا أن هيئة أركان الجيش ترفض تجنيدهم في بعض أفرع الجيش مثل سلاح الجو، أو الاستخبارات العسكرية، أو صفوف المخابرات العامة. ويؤكد المعلق العسكري لصحيفة "هاارتس" "زئيف شيف" أن المؤسسة العسكرية فى إسرئيل لازالت تتعامل مع الدروز بصفتهم عربا.
وعندما سأل أحد الصحفيين الحاخام "مائير كهانا" الزعيم الروحي لحركة "كاخ" المتطرفة، التي تدعو إلى طرد جميع العرب إلى خارج حدود فلسطين "هل تطالب بطرد أبناء الطائفة الدرزية من إسرائيل على الرغم من خدمتهم في الجيش الإسرائيلي؟"، فرد كهانا بكل ثقة "نعم، ولكننا سنحرص على توفير حافلات مكيفة لهم أثناء الطرد".
حساب النفس
إلا أن السياسة الإسرائيلية بحق العرب الدروز لم تمر دون مقاومة من جانبهم، وخاصة ضد قرار فرض التجنيد الإلزامي عليهم. فقد عارض وواجه الكثيرون من الوطنيين العرب الدروز السياسات الإسرائيلية للحكومات المتعاقبة ولا يزالون.
وعلى الرغم من أن هذه المواجهة لم تمتلك مقومات النجاح بالكامل، فقبضة أجهزة الدولة الإسرائيلية على العرب الدروز كانت ولا تزال قوية ومحكمة، حيث اتبعت سياسة العصا والجزرة بحقهم ونجحت إلى حد بعيد في تغذية وإذكاء الصراعات الداخلية بين الوجهاء العرب الدروز، وقمعت بمنهجية كل الذين قاوموا السياسات الإسرائيلية، وخاصة أولئك الذين كافحوا ضد سياسة التجنيد الإلزامي. إلا أن الإنصاف يقتضى الإشارة إلى محاولات بذلها بعض الدروز ذوى التوجهات القومية العروبية للإفلات من قبضة الدولة العبرية.
فقد أقيمت "لجنة المبادرة الدرزية العربية" في العام 1972، ويتزعمها الشيخ "جمال معدى" وهي واحدة من 3 تنظيمات تمارس نشاطات معارضة للخدمة الإلزامية بالجيش الإسرائيلى، كذلك تنشط في هذا المجال حركة "المعروفيون الأحرار التي أقيمت خلال الانتفاضة الأخيرة في سبتمبر/ أيلول 2000 بقيادة الزعيم الدرزي "سعيد نفاع" عضو الكنيست الإسرائيلى عن حزب التجمع الوطني الديمقراطي (حزب عربي) وتأخذ الحركات المختلفة على نفسها مسئولية تغيير قانون الخدمة العسكرية الإلزامية للدروز، الذي أصبح ساري المفعول في عام 1956 وتحويله إلى خدمة اختيارية.
كما أن المنظمات والجمعيات واللجان الدرزية الأهلية التي تشجع رفض خدمة الشباب الدرزى في الجيش الإسرائيلي تتزايد في الآونة الأخيرة وتعمل بشكل معلن.
ويبدو أن عملية حساب النفس الجادة والعميقة في أوساط الشباب الدرزي قد أثمرت، ففي مطلع مارس/ آذار 2009، أصيبت دوائر صنع القرار في الدولة العبرية والقيادة الدرزية التقليدية المتواطئة معها بالصدمة جراء الكشف عن نتائج دراسة أجرتها لجنة المبادرة الدرزية العربية، وتبين من خلالها أن 40 % من الشباب الدرزي يرفضون أداء الخدمة العسكرية الإلزامية في صفوف جيش الاحتلال.
وأكدت الدراسة التي اعتمدت على استطلاع رأي واسع في صفوف الشباب الدرزي، أنهم على استعداد للتصريح بأنهم عرب فلسطينيين ويرفضون الخدمة العسكرية، مع كل ما يترتب على ذلك من اعتقال في سجون الشرطة العسكرية لجيش الاحتلال.
وحسب الدراسة فإنه يمكن في كل أسبوع العثور في السجون العسكرية على 30 سجينا درزيا رافضا للخدمة العسكرية و30 متهربا من صفوف الجيش لأسباب مبدئية أو ضميرية أو اقتصادية. ويتم الإفراج عن 5 إلى 10 سجناء دروز شهريا.
ونظرا لعنصرية مؤسسات القضاء في الدولة العبرية، فإن قادة الحركات الوطنية في أوساط الدروز يدرسون فكرة التوجه إلى المحكمة الدولية في لاهاي، وإقحام المجتمع الدولي في قضيتهم، فكل دول العالم لا تلزم الأقليات فيها بالخدمة العسكرية، خاصة إذا كان القتال ضد شعبهم المحتل.
وسائل الإعلام الإسرائيلية هي الأخرى تتواطأ مع الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة في عدم تغطية رفض الخدمة الإلزامية في صفوف الشباب الدرزى، حتى لا تتسع الظاهرة بل والتقليل من شأنها وتصويرها على أنها مجرد اشتباكات مع الشرطة الإسرائيلية لا أكثر.