السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،
وبعد:
فإنه ليترآى للجميع من بعيد ضيف مبارك ، يا ثواب من أحسن ضيافته.
هذا الضيف لا يود الطائعون مفارقته ؛ لأنه يقربهم من الله بوعظه لهم ، وكسر شوكة شيطانهم عليهم، فأنعم به من ضيف كريم مبارك.
وضيفنا هو شهر رمضان المبارك ، فمن المستضيف...؟!!! أسأل الله أن يبلغنيه و إياكم ، وأن يجعلنا فيه من العتقاء من النار ومن المقبولين،وأن يختم لنا بخير،وأن يجمعنا مع الحبيب محمد –صلى الله عليه وسلم-في دار مقامته، إن الله على كل شئ قدير.
ومن حسن ضيافتنا لهذا الشهر المبارك: الاستعداد له ، وحسن استقبال مقدمة ركائبه، والمقصود هنا بمقدمة ركائبه : الشهر الذي يغفل عنه كثير من الناس-إلا من رحم الله تعالى-.
ألا وهو شهر شعبان
(شهر القراء كما قال حبيب بن أبي ثابت ،وسلمة بن كهيل وغيرهم -رحمهم الله تعالى-).
أخرج أبو داود والنسائي وغيرهما بسند حسنه الشيخ الألباني-رحم الله الجميع- من حديث أسامة بن زيد-رضي الله عنه- ، قال: قلت يا رسول الله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان،قال:" ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان،وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين،فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".
قال السِّنْدِي-رحمه الله-:قيل وما معنى هذا مع أنه ثبت في الصحيحين أن الله تعالى يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل؟!، قلت(أي السندي):يحتمل أمران:أحدهما:أن أعمال العباد تعرض على الله تعالى كل يوم،ثم تعرض عليه أعمال الجمعة كل اثنين وخميس،ثم تعرض عليه أعمال السنة في شعبان فتعرض عرضا بعد عرض،ولكل عرض حكمة يُطْلِعُ عليها من شاء من خلقه أو يستأثر بها عنده مع أنه تعالى لا يخفى عليه من أعمالهم خافية.
ثانيهما: أن المراد أنها تعرض في اليوم تفصيلا ثم في الجمعة جملة أو بالعكس.
وأخرج البخاري ومسلم-رحمهما الله- في صحيحيهما من حديث عمران بن حصين-رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال له أو لآخر: "أصمت من سرر شعبان". قال:لا . قال:"فإذا أفطرت فصم يومين".
والسرر هنا كما قال جمهور أهل اللغة-رحمهم الله تعالى-هو آخر الشهر، وهو الصحيح.(وستأتي إن شاء الله مسألة حكم تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين).
وهذا الحديث فيه إشارة إلى فضيلة الصوم في شعبان،وأن صوم يوم يعدل صوم يومين في غيره،أخذا من قوله في الحديث:"فصم يومين مكانه" يعني مكان اليوم الذي فوته من صيام شعبان، كما قال الحافظ ابن حجر نقلا عن القرطبي-رحم الله الجميع-.
لذا يستحب أن يكون من عادة الإنسان أن يصوم أواخر كل شهر، فلا يعارضه النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين كما قال الحافظ-رحمه الله- في الفتح،(وستأتي هذه المسألة -بإذن الله تعالى-).
ومن فضائل الصيام في هذا الشهر ما جاء عن أبي داود وغيره
-رحمهم الله- بسند صحيح عن أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها-،قالت: "كان أحب الشهور إليه أن يصوم شعبان ثم يصله برمضان".
وأخرج البخاري ومسلم-رحمهما الله- في صحيحيهما من حديث أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها-قالت:كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر ، ويفطر حتى نقول لا يصـوم ، وما رأيت
رسول الله- صلى الله عليه وسلم-استكمل صيام شهر إلا رمضان ،وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها-(في الصحيحين أيضا):لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم-يصوم شهرا أكثر من شعبان،وكان يصوم شعبان كله ، وكان يقول: "خذوا من العمل ما تطيقون ........".
وفي رواية عند مسلم-رحمه الله-:كان يصوم شعبان إلا قليلا .
قال ابن رجب-رحمه الله-:"قيل في صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان ؛ لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة ، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده ، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته ، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط".
وهذا الإكثار من الصيام في شهر شعبان يدل على فضيلة هذه العبادة في هذا الشهر ، والمقصود صيام أكثر الشهر،لا كله ،كما هو ظاهر الروايات ، فقد نقل الترمذي عن ابن المبارك أنه جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول صام الشهر كله ، ويقال:قام فلان ليلته أجمع ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره.
والدليل على ذلك ما رواه مسلم-رحمه الله- في صحيحه أن عبد الله بن شقيق-رحمه الله-سأل أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها-:هل كان النبي
-صلى الله عليه وسلم-يصوم شهرا معلوما سوى رمضان؟. قالت: لا والله ،إن صام شهرا معلوما سوى رمضان حتى مضى لوجهه (وفي رواية: حتى مضى لسبيله)ولا أفطره حتى يصيب منه(وفي رواية: ولا أفطره كله حتى يصوم منه)، (وفي رواية: وما رأيته صام شهرا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان).
وأخرج البخاري ومسلم-رحمهما الله-في صحيحيهما من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-قال: ما صام رسول الله-صلى الله عليه وسلم-شهرا كاملا قط غير رمضان............الحديث.
ليلة النصف من شعبان
الاحتفال بليلة النصـف من شعبـان ليس له أصـل في سنـة رسـول الله -صلى الله عليه وسلم-،ولا من فعل أحد من أصحابه ، وما يفعله الناس اليوم من صلاة مخصوصة ،وأذكار معروفة ،وما لحق ذلك من أعمال مخالفة للشرع، كل ذلك من البدع المنكرة.
ولكن اشتهر عن بعض السلف أنهم كانوا يجتهدون في العبادة في هذا اليوم كخالد بن معدان ومكحول ، ومن أهل العلم من خص ذلك بالبيــت دون المسجد كالأوزاعي ،ومنهم من أجـــاز الاجتهاد في تلك الليلة في المسجد كابن راهويه-رحم الله الجميع-.
إذا فالحاصل أن الخلاف منحصر في الاجتهاد في هذه الليلة أو عدمه، والذين رأوا تخصيص هذه الليلة بالعبادة ، اختلفوا في مكان ذلك: أهو في المسجد أم في البيت؟.
أما ما يحصل الآن من الصلوات المخصوصة والأذكار المعلومة فليس له أصل في الكتاب أو السنة أو عمل سلف الأمة-رحمهم الله-.
وأما عن فضيلة هذه الليلة :فالصواب –والعلم عند الله تعالى- أنه لم يصح في فضيلتها حديث عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وقد حكم الإمــام العقيلي في الضعفاء، والبيهقي في شعب الإيمان، وابن العربي في عارضة الأحوذي-رحم الله الجميع-بأن هذه الأحاديث لا يصح منها شئ ،
بل قال ابن العربي-رحمه الله-:وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يساوي سماعه.
وقد صحح العلامة الألباني –رحمه الله- الحديث بمجموع طرقه ،حيث قال في الصحيحة (على حديث:" إن الله يطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن"):حديث صحيح روي عن جماعة من الصحابة من طرق مختلفة يشد بعضها بعضا، وهم معاذ بن جبل ،وأبو ثعلبة الخشني،وعبد الله بن عمرو،وأبو موسى الأشعري،وأبو هريرة وأبو بكر الصديق وعوف بن مالك وعائشة.-رضي الله عن الجميع-.
قلت :إن هذه الطرق لا تقوى للاعتضاد لشدة ضعفها ، وسأفردها في أوراق مستقلة قبل مجيء يوم النصف من شعبان إن شاء الله تعالى.
وقد قال المحدث الألباني-رحمه الله- في تحقيقه لكتاب إصلاح المساجد للقاسمي-رحمه الله-:ولا يلزم من ثبوت هذا الحديث اتخاذ هذه الليلة موسما يجتمع الناس فيه.
قلت:وليس معنى أنه لم يثبت حديث في فضلها، أنه لا يستحب صيام يومها،
قال العلامة ابن رجب الحنبلي-رحمه الله-في لطائف المعارف:أما صيام يوم النصف منه فغير منهي عنه؛فإنه من جملة أيام البيض الغر المندوب إلى صيامها من كل شهر.
قلت فإن ثبت ضعف الحديث فلا يحل الصيام من أجل فضل يوم النصف، وإنما يصام على أنه من جملة الأيام البيض،وهذا هو الأورع خروجا من الخلاف -والعلم عند الله تعالى-.
الصيام بعد منتصف شعبان
أخرج الإمام أحمد في مسنده،وأبو داود والترمذي والنسائي في الكبرى بسند صححه الشيخ الألباني-رحم الله الجميع- عن أبي هريرة
-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:"إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يكون رمضان"، وفي رواية الترمذي-رحمه الله-: "إذا بقي نصف شعبان فلا تصوموا".
قلت وقد اختلف العلماء-رحمهم الله تعالى- في صحة هذا الحديث،فقد صححه الترمذي وابن حبان والحاكم والطحاوي وابن عبد البر-رحم الله الجميع-، وبالرغم من تصحيح الطحاوي-رحمه الله- له فقد قال هو منسوخ،وأكثر العلماء على أنه لا يعمل به.
وقد ضعفه أئمة كبار كأحمد بن حنبل،حيث قال:هو حديث منكر،وكان عبد الرحمن-أي ابن مهدي-لا يحدث به،وحكم بضعف هذا الحديث ابن معين وأبوزرعة والأثرم وأبو داود والخليلي،وقد أشار إلى ضعفه البيهقي -رحم الله الجميع-.
قلت والسند في ظاهره الحسن إلا أن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي-رحمه الله-مختلف فيه من حيث الجملة، وقد خالف حديثه الأحاديث الصحيحة مثل حديث أم المؤمنين عائشة المتقدم:كان يصوم شعبان كله أو إلا قليلا ، وغيره ،لذا لابد أن ننظر في السند والمتن جميعا،فالصواب
-والعلم عند الله تعالى-أن هذا الحديث منكر كما قال الإمام أحمد وغيره -رحمهم الله-.
وعلى قول من قال بصحته فإننا نجمع بين هذه الأحاديث بأن النهي عنه هو أن يكون الرجل مفطرا،فإذا بقي من شعبان شئ أخذ في الصوم،كما نقل الترمذي عن بعض أهل العلم-رحم الله الجميع-، وقيل أن حديث العلاء بن عبد الرحمن –رحمه الله-محمول على من يضعفه الصوم، وقيل النهي من أجل التقوي على صيام رمضان.
قلت: وما نقله التـرمذي-رحمـه الله-أولى إن صح حديث العــلاء -رحمه الله-لما سيأتي في حديث النهي عن تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين-والعلم عند الله تعالى-.
حكم تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين
أخرج البخاري-رحمه الله-في صحيحه من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-مرفوعا:"لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم".
قال ابن حجر-رحمه الله-: أي لا يتقدم رمضان بصوم يوم يعد منه بقصد الاحتياط له،فإن صومه مرتبط بالرؤية فلا حاجة إلى التكلف.....قال العلماء: معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتيـاط لرمضـان،قال الترمذي لما أخرجه: العمل على هذا عند أهل العلم ، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان......ومعنى الاستثناء:أن من كان له ورد فقد أذن له فيه ؛لأنه اعتاده وألفه،وتركُ المألوفِ شديدٌ، وليس ذلك من استقبال رمضان في شئ، ويلتحق بذلك القضاء والنذر لوجوبهما، قال بعض العلماء يستثنى القضاء والنذر بالأدلة القطعية على وجوب الوفاء بهما فلا يبطل القطعي بالظن.أ.هـ كلامه-رحمه الله-.
وأما حديث عمران بن حصين-رضي الله عنه-المتقدم(حديث سرر شعبان) فقد أجاب عنه الخطابي والمازري وغيرهم-رحمهم الله-، فقالوا:
أن هذا الرجل كان معتاد الصيام آخر الشهر أو نذره فتركه لخوفه من الدخول في النهي عن تقدم رمضان، فبين له النبي-صلى الله عليه وسلم-أن الصوم المعتاد لا يدخل في النهي، وإنما ينتهي عنه غير المعتاد.
وقال الحافظ-رحمه الله-في الفتح(وقد تقدم) : يؤخذ من الحديث(حديث السرر)الندب إلى صيام أواخر كل شهر؛ ليكون عادة للمكلف فلا يعارضه النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين،لقوله فيه:"إلا رجلا كان يصوم يوما فليصمه".
وقال أيضا-رحمه الله- : أشار القرطبي إلى أن الحامل لمن حمل سرر الشهر على غير ظاهره......الفرار من المعارضة؛ لنهيه-صلى الله عليه وسلم-عن تقدم رمضان بيوم أو يومين،وقال:الجمع بين الحديثين ممكن بحمل النهي على من ليست له عادة بذلك،وحمل الأمر على من له عادة حملا للمخاطب بذلك على ملازمة عادة الخير حتى لا تنقطع.
ويندرج تحت هذه المسألة مسألة صيام يم الشك،وسأفردها في أوراق مستقلة –إن شاء الله تعالى-.
إذا يتبقى مما وعدتك به تخريج أحاديث فضيلة ليلة النصف من شعبان، ومسألة صيام يوم الشك،وسأسعى جاهدا لكي أسطرها لك ،أسأل الله أن يجعل رسالتي هذه خالصة لوجهه الكريم ، وألا يجـعل لأحـد فيها شيئـا، وأن يهبني غنمها، ويتجاوز لي برحمته عن غرمها.
أخي الحبيب: هذا جهد المقل قد بذلته ،ونقل للأئمة قد جمعته ،رجاء أن أقدم لك خاصة، وشباب الصحوة عامة ما نشد به من أزر بعضنا للوصول إلى هدي نبينا-صلوات الله وسلامه عليه-؛فإن وفقت فيه فلله الحمد والمنة،وإن كان غير ذلك من خلل أو تقصير فمن نفسي ومن الشيطان،وأستغفر الله من ذلك.
وأختم بقول الحريري في ملحته:
وإن تجد عيبا فسد الخللا..............جل من لا عيب فيه وعلا.
وأستودعك الله يا أخي الحبيب على أن ألقاك بما وعدتك به ، وإلى أن نلتقي لا تنساني من صالح دعائك.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ،والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
منقول
وبعد:
فإنه ليترآى للجميع من بعيد ضيف مبارك ، يا ثواب من أحسن ضيافته.
هذا الضيف لا يود الطائعون مفارقته ؛ لأنه يقربهم من الله بوعظه لهم ، وكسر شوكة شيطانهم عليهم، فأنعم به من ضيف كريم مبارك.
وضيفنا هو شهر رمضان المبارك ، فمن المستضيف...؟!!! أسأل الله أن يبلغنيه و إياكم ، وأن يجعلنا فيه من العتقاء من النار ومن المقبولين،وأن يختم لنا بخير،وأن يجمعنا مع الحبيب محمد –صلى الله عليه وسلم-في دار مقامته، إن الله على كل شئ قدير.
ومن حسن ضيافتنا لهذا الشهر المبارك: الاستعداد له ، وحسن استقبال مقدمة ركائبه، والمقصود هنا بمقدمة ركائبه : الشهر الذي يغفل عنه كثير من الناس-إلا من رحم الله تعالى-.
ألا وهو شهر شعبان
(شهر القراء كما قال حبيب بن أبي ثابت ،وسلمة بن كهيل وغيرهم -رحمهم الله تعالى-).
أخرج أبو داود والنسائي وغيرهما بسند حسنه الشيخ الألباني-رحم الله الجميع- من حديث أسامة بن زيد-رضي الله عنه- ، قال: قلت يا رسول الله: لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان،قال:" ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان،وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين،فأحب أن يرفع عملي وأنا صائم".
قال السِّنْدِي-رحمه الله-:قيل وما معنى هذا مع أنه ثبت في الصحيحين أن الله تعالى يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل؟!، قلت(أي السندي):يحتمل أمران:أحدهما:أن أعمال العباد تعرض على الله تعالى كل يوم،ثم تعرض عليه أعمال الجمعة كل اثنين وخميس،ثم تعرض عليه أعمال السنة في شعبان فتعرض عرضا بعد عرض،ولكل عرض حكمة يُطْلِعُ عليها من شاء من خلقه أو يستأثر بها عنده مع أنه تعالى لا يخفى عليه من أعمالهم خافية.
ثانيهما: أن المراد أنها تعرض في اليوم تفصيلا ثم في الجمعة جملة أو بالعكس.
وأخرج البخاري ومسلم-رحمهما الله- في صحيحيهما من حديث عمران بن حصين-رضي الله عنه- أن النبي-صلى الله عليه وسلم-قال له أو لآخر: "أصمت من سرر شعبان". قال:لا . قال:"فإذا أفطرت فصم يومين".
والسرر هنا كما قال جمهور أهل اللغة-رحمهم الله تعالى-هو آخر الشهر، وهو الصحيح.(وستأتي إن شاء الله مسألة حكم تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين).
وهذا الحديث فيه إشارة إلى فضيلة الصوم في شعبان،وأن صوم يوم يعدل صوم يومين في غيره،أخذا من قوله في الحديث:"فصم يومين مكانه" يعني مكان اليوم الذي فوته من صيام شعبان، كما قال الحافظ ابن حجر نقلا عن القرطبي-رحم الله الجميع-.
لذا يستحب أن يكون من عادة الإنسان أن يصوم أواخر كل شهر، فلا يعارضه النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين كما قال الحافظ-رحمه الله- في الفتح،(وستأتي هذه المسألة -بإذن الله تعالى-).
ومن فضائل الصيام في هذا الشهر ما جاء عن أبي داود وغيره
-رحمهم الله- بسند صحيح عن أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها-،قالت: "كان أحب الشهور إليه أن يصوم شعبان ثم يصله برمضان".
وأخرج البخاري ومسلم-رحمهما الله- في صحيحيهما من حديث أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها-قالت:كان رسول الله-صلى الله عليه وسلم- يصوم حتى نقول لا يفطر ، ويفطر حتى نقول لا يصـوم ، وما رأيت
رسول الله- صلى الله عليه وسلم-استكمل صيام شهر إلا رمضان ،وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان.
وفي رواية عنها-رضي الله عنها-(في الصحيحين أيضا):لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم-يصوم شهرا أكثر من شعبان،وكان يصوم شعبان كله ، وكان يقول: "خذوا من العمل ما تطيقون ........".
وفي رواية عند مسلم-رحمه الله-:كان يصوم شعبان إلا قليلا .
قال ابن رجب-رحمه الله-:"قيل في صوم شعبان أن صيامه كالتمرين على صيام رمضان ؛ لئلا يدخل في صوم رمضان على مشقة وكلفة ، بل يكون قد تمرن على الصيام واعتاده ، ووجد بصيام شعبان قبله حلاوة الصيام ولذته ، فيدخل في صيام رمضان بقوة ونشاط".
وهذا الإكثار من الصيام في شهر شعبان يدل على فضيلة هذه العبادة في هذا الشهر ، والمقصود صيام أكثر الشهر،لا كله ،كما هو ظاهر الروايات ، فقد نقل الترمذي عن ابن المبارك أنه جائز في كلام العرب إذا صام أكثر الشهر أن يقول صام الشهر كله ، ويقال:قام فلان ليلته أجمع ولعله قد تعشى واشتغل ببعض أمره.
والدليل على ذلك ما رواه مسلم-رحمه الله- في صحيحه أن عبد الله بن شقيق-رحمه الله-سأل أم المؤمنين عائشة-رضي الله عنها-:هل كان النبي
-صلى الله عليه وسلم-يصوم شهرا معلوما سوى رمضان؟. قالت: لا والله ،إن صام شهرا معلوما سوى رمضان حتى مضى لوجهه (وفي رواية: حتى مضى لسبيله)ولا أفطره حتى يصيب منه(وفي رواية: ولا أفطره كله حتى يصوم منه)، (وفي رواية: وما رأيته صام شهرا كاملا منذ قدم المدينة إلا أن يكون رمضان).
وأخرج البخاري ومسلم-رحمهما الله-في صحيحيهما من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-قال: ما صام رسول الله-صلى الله عليه وسلم-شهرا كاملا قط غير رمضان............الحديث.
ليلة النصف من شعبان
الاحتفال بليلة النصـف من شعبـان ليس له أصـل في سنـة رسـول الله -صلى الله عليه وسلم-،ولا من فعل أحد من أصحابه ، وما يفعله الناس اليوم من صلاة مخصوصة ،وأذكار معروفة ،وما لحق ذلك من أعمال مخالفة للشرع، كل ذلك من البدع المنكرة.
ولكن اشتهر عن بعض السلف أنهم كانوا يجتهدون في العبادة في هذا اليوم كخالد بن معدان ومكحول ، ومن أهل العلم من خص ذلك بالبيــت دون المسجد كالأوزاعي ،ومنهم من أجـــاز الاجتهاد في تلك الليلة في المسجد كابن راهويه-رحم الله الجميع-.
إذا فالحاصل أن الخلاف منحصر في الاجتهاد في هذه الليلة أو عدمه، والذين رأوا تخصيص هذه الليلة بالعبادة ، اختلفوا في مكان ذلك: أهو في المسجد أم في البيت؟.
أما ما يحصل الآن من الصلوات المخصوصة والأذكار المعلومة فليس له أصل في الكتاب أو السنة أو عمل سلف الأمة-رحمهم الله-.
وأما عن فضيلة هذه الليلة :فالصواب –والعلم عند الله تعالى- أنه لم يصح في فضيلتها حديث عن رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، وقد حكم الإمــام العقيلي في الضعفاء، والبيهقي في شعب الإيمان، وابن العربي في عارضة الأحوذي-رحم الله الجميع-بأن هذه الأحاديث لا يصح منها شئ ،
بل قال ابن العربي-رحمه الله-:وليس في ليلة النصف من شعبان حديث يساوي سماعه.
وقد صحح العلامة الألباني –رحمه الله- الحديث بمجموع طرقه ،حيث قال في الصحيحة (على حديث:" إن الله يطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن"):حديث صحيح روي عن جماعة من الصحابة من طرق مختلفة يشد بعضها بعضا، وهم معاذ بن جبل ،وأبو ثعلبة الخشني،وعبد الله بن عمرو،وأبو موسى الأشعري،وأبو هريرة وأبو بكر الصديق وعوف بن مالك وعائشة.-رضي الله عن الجميع-.
قلت :إن هذه الطرق لا تقوى للاعتضاد لشدة ضعفها ، وسأفردها في أوراق مستقلة قبل مجيء يوم النصف من شعبان إن شاء الله تعالى.
وقد قال المحدث الألباني-رحمه الله- في تحقيقه لكتاب إصلاح المساجد للقاسمي-رحمه الله-:ولا يلزم من ثبوت هذا الحديث اتخاذ هذه الليلة موسما يجتمع الناس فيه.
قلت:وليس معنى أنه لم يثبت حديث في فضلها، أنه لا يستحب صيام يومها،
قال العلامة ابن رجب الحنبلي-رحمه الله-في لطائف المعارف:أما صيام يوم النصف منه فغير منهي عنه؛فإنه من جملة أيام البيض الغر المندوب إلى صيامها من كل شهر.
قلت فإن ثبت ضعف الحديث فلا يحل الصيام من أجل فضل يوم النصف، وإنما يصام على أنه من جملة الأيام البيض،وهذا هو الأورع خروجا من الخلاف -والعلم عند الله تعالى-.
الصيام بعد منتصف شعبان
أخرج الإمام أحمد في مسنده،وأبو داود والترمذي والنسائي في الكبرى بسند صححه الشيخ الألباني-رحم الله الجميع- عن أبي هريرة
-رضي الله عنه-قال: قال رسول الله-صلى الله عليه وسلم-:"إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يكون رمضان"، وفي رواية الترمذي-رحمه الله-: "إذا بقي نصف شعبان فلا تصوموا".
قلت وقد اختلف العلماء-رحمهم الله تعالى- في صحة هذا الحديث،فقد صححه الترمذي وابن حبان والحاكم والطحاوي وابن عبد البر-رحم الله الجميع-، وبالرغم من تصحيح الطحاوي-رحمه الله- له فقد قال هو منسوخ،وأكثر العلماء على أنه لا يعمل به.
وقد ضعفه أئمة كبار كأحمد بن حنبل،حيث قال:هو حديث منكر،وكان عبد الرحمن-أي ابن مهدي-لا يحدث به،وحكم بضعف هذا الحديث ابن معين وأبوزرعة والأثرم وأبو داود والخليلي،وقد أشار إلى ضعفه البيهقي -رحم الله الجميع-.
قلت والسند في ظاهره الحسن إلا أن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب الحرقي-رحمه الله-مختلف فيه من حيث الجملة، وقد خالف حديثه الأحاديث الصحيحة مثل حديث أم المؤمنين عائشة المتقدم:كان يصوم شعبان كله أو إلا قليلا ، وغيره ،لذا لابد أن ننظر في السند والمتن جميعا،فالصواب
-والعلم عند الله تعالى-أن هذا الحديث منكر كما قال الإمام أحمد وغيره -رحمهم الله-.
وعلى قول من قال بصحته فإننا نجمع بين هذه الأحاديث بأن النهي عنه هو أن يكون الرجل مفطرا،فإذا بقي من شعبان شئ أخذ في الصوم،كما نقل الترمذي عن بعض أهل العلم-رحم الله الجميع-، وقيل أن حديث العلاء بن عبد الرحمن –رحمه الله-محمول على من يضعفه الصوم، وقيل النهي من أجل التقوي على صيام رمضان.
قلت: وما نقله التـرمذي-رحمـه الله-أولى إن صح حديث العــلاء -رحمه الله-لما سيأتي في حديث النهي عن تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين-والعلم عند الله تعالى-.
حكم تقدم رمضان بصيام يوم أو يومين
أخرج البخاري-رحمه الله-في صحيحه من حديث أبي هريرة-رضي الله عنه-مرفوعا:"لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلا أن يكون رجل كان يصوم صومه فليصم ذلك اليوم".
قال ابن حجر-رحمه الله-: أي لا يتقدم رمضان بصوم يوم يعد منه بقصد الاحتياط له،فإن صومه مرتبط بالرؤية فلا حاجة إلى التكلف.....قال العلماء: معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتيـاط لرمضـان،قال الترمذي لما أخرجه: العمل على هذا عند أهل العلم ، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان......ومعنى الاستثناء:أن من كان له ورد فقد أذن له فيه ؛لأنه اعتاده وألفه،وتركُ المألوفِ شديدٌ، وليس ذلك من استقبال رمضان في شئ، ويلتحق بذلك القضاء والنذر لوجوبهما، قال بعض العلماء يستثنى القضاء والنذر بالأدلة القطعية على وجوب الوفاء بهما فلا يبطل القطعي بالظن.أ.هـ كلامه-رحمه الله-.
وأما حديث عمران بن حصين-رضي الله عنه-المتقدم(حديث سرر شعبان) فقد أجاب عنه الخطابي والمازري وغيرهم-رحمهم الله-، فقالوا:
أن هذا الرجل كان معتاد الصيام آخر الشهر أو نذره فتركه لخوفه من الدخول في النهي عن تقدم رمضان، فبين له النبي-صلى الله عليه وسلم-أن الصوم المعتاد لا يدخل في النهي، وإنما ينتهي عنه غير المعتاد.
وقال الحافظ-رحمه الله-في الفتح(وقد تقدم) : يؤخذ من الحديث(حديث السرر)الندب إلى صيام أواخر كل شهر؛ ليكون عادة للمكلف فلا يعارضه النهي عن تقدم رمضان بيوم أو يومين،لقوله فيه:"إلا رجلا كان يصوم يوما فليصمه".
وقال أيضا-رحمه الله- : أشار القرطبي إلى أن الحامل لمن حمل سرر الشهر على غير ظاهره......الفرار من المعارضة؛ لنهيه-صلى الله عليه وسلم-عن تقدم رمضان بيوم أو يومين،وقال:الجمع بين الحديثين ممكن بحمل النهي على من ليست له عادة بذلك،وحمل الأمر على من له عادة حملا للمخاطب بذلك على ملازمة عادة الخير حتى لا تنقطع.
ويندرج تحت هذه المسألة مسألة صيام يم الشك،وسأفردها في أوراق مستقلة –إن شاء الله تعالى-.
إذا يتبقى مما وعدتك به تخريج أحاديث فضيلة ليلة النصف من شعبان، ومسألة صيام يوم الشك،وسأسعى جاهدا لكي أسطرها لك ،أسأل الله أن يجعل رسالتي هذه خالصة لوجهه الكريم ، وألا يجـعل لأحـد فيها شيئـا، وأن يهبني غنمها، ويتجاوز لي برحمته عن غرمها.
أخي الحبيب: هذا جهد المقل قد بذلته ،ونقل للأئمة قد جمعته ،رجاء أن أقدم لك خاصة، وشباب الصحوة عامة ما نشد به من أزر بعضنا للوصول إلى هدي نبينا-صلوات الله وسلامه عليه-؛فإن وفقت فيه فلله الحمد والمنة،وإن كان غير ذلك من خلل أو تقصير فمن نفسي ومن الشيطان،وأستغفر الله من ذلك.
وأختم بقول الحريري في ملحته:
وإن تجد عيبا فسد الخللا..............جل من لا عيب فيه وعلا.
وأستودعك الله يا أخي الحبيب على أن ألقاك بما وعدتك به ، وإلى أن نلتقي لا تنساني من صالح دعائك.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ،والحمد لله رب العالمين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
منقول
التعديل الأخير: