دعوة للتفكّر / إعداد: د. أحمد مُحمَّد زين المنّاوي

Nabil

خـــــبراء المنتـــــدى
إنضم
19 أبريل 2008
المشاركات
22,781
التفاعل
17,898 114 0
دعوة للتفكّر

إعداد: الدكتور أحمد مُحمَّد زين المنّاوي


تعالج المنظومة الإحصائية القرآنية عددًا كبيرًا جدًّا من المتغيّرات في وقت واحد، فتجد هناك رابطًا وثيقًا بين موقع الآية داخل السورة وموقع السورة في المصحف، وعدد كلمات الآية وعدد حروفها ومواقع كلماتها وحروفها على نطاق الآية نفسها، وعلى نطاق السورة كلها وعلى نطاق القرآن العظيم بشكل عام، وعلاقة الآية ورقمها وكلماتها وحروفها وعدد النقاط على حروفها، وعلامات التشكيل وحركات الحروف بجميع الآيات الأخرى المتصلة بها في المعنى أو المشابهة لها في أي حالة من الحالات، وكل ذلك بميزان دقيق جدًّا، وبرغم ذلك يظل المعنى اللغوي معجزًا.
إن التدبُّر والتفكُّر في آيات اللَّه عزّ وجلّ المنظورة في كونه والمقروءة في كتابه من أفضل العبادات والقربات إلى اللَّه عزّ وجلّ، وهي من أهم وسائل تقوية الإيمان وتمكينه في القلب، قال اللَّه تعالى:

{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُوْنَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيْهِ اخْتِلاَفًا كَثِيْرًا (82)} [النساء]
{ كتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوْ الْأَلْبَابِ (29)} [ص]

وليس التدبُّر المقصود في هذه الآيات مقتصرًا على اتباع القرآن الكريم في أوامره ونواهيه، وإنما الأمر أشمل وأوسع من ذلك بكثير، وإن التفكّر والتدبُّر مطلوب في كل عجائب القرآن الكريم.. في أسراره ومعانيه وبنائه الرقمي المعجز وفي إشاراته العلمية والغيبية، وفي كل ما يميز القرآن عن سواه. وفي كتاب الزهد لوكيع بن الجراح عن عبد اللَّه بن عتبة قال: سألت أمّ الدّرداء: ما كان أفضل عبادة أبي الدّرداء؟ قالت: التفكّر والاعتبار!

عجائب { أَوَلَمْ }
ورد لفظ { أَوَلَمْ يَرَ/ أَوَلَمْ يَرَوْا } في القرآن الكريم 14 مرّة جميعها في بداية الآية إلا موضعًا واحدًا فقط.
نتأمّل معًا هذا المشهد الرائع، مع الانتباه إلى أن هذه الآيات متسلسلة بحسب ترتيبها في المصحف:

1. { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِيْ الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيْعُ الْحِسَابِ (41)} [الرعد]
2. { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِيْنِ وَالْشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُوْنَ (48)} [النحل]
3. { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَّا رَيْبَ فِيْهِ فَأَبَى الظَّالِمُوْنَ إَلَّا كُفُوْرًا (99)} [الإسراء]
4. { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِيْنَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُوْنَ (30)} [الأنبياء]
5. { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيْهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيْمٍ (7)} [الشعراء]
6. { أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيْدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيْرٌ (19)} [العنكبوت]
7. { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُوْنَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُوْنَ (67)} [العنكبوت]
8. { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُوْنَ (37)} [الروم]
9. { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوْقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُوْنَ (27)} [السجدة]
10. { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيْنَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُوْنَ (71)} [يس]
11. { أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيْمٌ مُبِيْنٌ (77)} [يس]
12. { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوْا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُوْنَ (15)} [فصلت]
13. { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)} [الأحقاف]
14. { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)} [الملك]

إن تحديد فواصل الآيات وحي من عند اللَّه عزّ وجلّ ليس لأحد أن يزيد فيه ولا ينقص ولا يقدّم فاصلًا ولا يؤخّره. تأمّل جيّدًا هذه الآية:

{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوْا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِيْ خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوْا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُوْنَ (15)} [فصلت]

هذه الآية هي الوحيدة بين أخواتها التي لم تبدأ بكلمة { أَوَلَمْ }.
تأمّل أين جاءت كلمة { أَوَلَمْ } في هذه الآية!!
جاءت في المنتصف تمامًا.. 12 كلمة قبلها، و12 كلمة بعدها!
ترتيبها من بداية المصحف هو رقم 12 بين أخواتها من الآيات التي تبدأ بكلمة { أَوَلَمْ }.
هذه الآية عدد حروفها 102 حرفًا، وهذا العدد هو 114 – 12
هناك آيتان رقمهما 19.. الأولى آية سورة العنكبوت، وعدد حروفها 47 حرفًا.
والثانية آية سورة الملك، وعدد حروفها 62 حرفًا.
والفرق بين عدد حروف الآيتين 62 – 47 = 15، وهذا هو رقم آية فصلت!
الآية الأولى رقمها 41، وهذا هو ترتيب سورة فصلت في المصحف!

تعجَّب مع حرف الغين
حتى تقف بنفسك على درجة اهتمام القرآن الكريم بتفاصيل دقيقة جدًّا، في نظم حروفه وآياته وترتيبها، لدرجة لا يتصوّرها العقل البشري، أريد أن ألفت نظرك إلى مثال واحد يؤكد لك ما أقول. تأمّل في الآيات السابقة.. ستجد أنها تضمَّنت جميع الحروف العربية الهجائية، ولكن الأمر اللافت للنظر هو أن حرف الغين لم يرد إلا مرّة واحدة فقط.. والعجيب أنه ورد في الآية الوحيدة التي لم تبدأ بكلمة { أَوَلَمْ }!! والأعجب من ذلك كلّه هو الموضع الذي ورد فيه هذا الحرف!
فلنتأمّل جيّدًا الآية، وتحديدًا الكلمة السادسة، التي احتضنت هذا الحرف.. كلمة { بِغَيْرِ }!!

{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوْا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُوْنَ (15)} [فصلت]

الآن.. ما العجيب في ذلك؟
إذا قمنا بإحصاء حروف هذه الآية من بدايتها، فسوف نجد أن هذا الحرف اليتيم.. حرف الغين، ترتيبه رقم 25
هذا هو عدد كلمات الآية!!
بل سأقول لك ما هو أعجب من ذلك! إذا قمنا بإحصاء الحروف ابتداءً من حرف الغين نفسه، فسوف نجد أن أوّل أحرف كلمة { أَوَلَمْ } وهو حرف الألف ترتيبه أيضًا رقم 25

تذكّر معي..
حرف الغين الأوّل في سورة الفاتحة جاء في الكلمة رقم 25 من بداية السورة.
حرف الغين الأوّل في سورة الفاتحة جاء في ترتيب الحرف رقم 25 من نهاية السورة.
حرف الغين الأخير في سورة الفاتحة جاء في ترتيب الحرف رقم 125 من بداية المصحف.
حرف الغين الأخير في المصحف جاء في ترتيب الحرف رقم 125 من نهاية المصحف.
أوّل كلمة تنتهي بحرف الغين في القرآن هي كلمة { باغٍ } في هذه الآية:

{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (173)} [البقرة]

ترتيب هذه الكلمة من بداية المصحف هو 3125، وهذا العدد يساوي 25 × 25 × 5
وإن شئت فقل 5 مضروبة في نفسها 5 مرّات!
هذه الآية التي أمامك عدد كلماتها 25 كلمة.. يمكنك أن تتأكَّد!

عد إلى آيات { أَوَلَمْ } مرّة أخرى وقم بعد الحروف من بداية الآية الأولى حرفًا حرفًا..
ستجد أن ترتيب حرف الغين هو 715، وهذا العدد = 5 × 143
انتبه إلى أن العدد 143 هو عدد حروف سورة الفاتحة التي ورد فيها حرف الغين للمرّة الأولى!
والعجيب أن حرف الغين في سورة الفاتحة ورد للمرّة الأولى في كلمة { غَيْرِ } أيضًا!
وأن كلمة { غَيْرِ } ترتيبها رقم 25 من بداية سورة الفاتحة، ورقم 5 من نهايتها!
عد إلى الآيات مرّة أخرى، وفي هذه المرّة قم بعد الحروف ابتداءً من آخر حرف في الآية الأخيرة، ستجد أن حرف الغين اليتيم ترتيبه رقم 225 من نهاية الآيات، وهذا العدد = 25 × 9

{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوْا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِيْ خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوْا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُوْنَ (15) فصلت

الكلمة التي ورد بها حرف الغين وهي كلمة { بِغَيْرِ } ترتيبها رقم 171 من بداية السورة، وهذا العدد = 19 × 3 × 3
الترتيب الهجائي لحرف الغين هو 19، وحرف الغين في هذه الكلمة هو التكرار رقم 3 من بداية السورة!

هناك ما هو أعجب من ذلك كلّه!
إذا أحصيت تكرار حرف الغين من بداية المصحف ستجد أن حرف الغين في هذه الآية هو التكرار رقم 950
وهذا العدد = 25 × 19 × 2 .. فتأمّل!

تأمّل..
حرف الغين هو الحرف رقم 19 في قائمة الحروف الهجائية.
حرف الغين لم يتكرّر 19 مرّة إلا في سورة واحدة فقط في القرآن الكريم كلّه!
إنها سورة غافر.. السورة الوحيدة في القرآن الكريم كلّه التي يبدأ اسمها بحرف الغين!
بل إذا تأمّلت مجموع الترتيب الهجائي لكلمة غافر نفسها (غ ا ف ر) تجده يساوي 50 أي 25 × 2

من روائع القاف
إن هذه الظاهرة لا ترتبط بحرف الغين وحده، بل جميع الحروف، ومن دون استثناء، موضوعة بميزان دقيق جدًّا في كتاب اللَّه عزّ وجلّ، أدركت ذلك عقولنا أم لم تدركه، وسوف أكتفي بمثال آخر يؤكد صدق ما أقول.
ولنختر حرفًا آخر... وليكن حرف القاف.
وقبل أن أعرض عليك ما لديّ من براهين وأدلة، وفي آية واحدة فقط، أودّ أن ألفت نظرك إلى أن حرف القاف قد تكرّر في هذه المجموعة من الآيات 26 مرّة تحديدًا، لا زيادة ولا نقصان.. وانطلاقًا من هذه الحقيقة، أود منك أن تتبَّع معي مواقع حرف القاف وتراتيبه في الآية نفسها، وحتى أسهّل عليك الأمر سوف أضع لك بجوار كل حرف من أحرف القاف الخمسة التي تضمنتها الآية رقمًا يوضّح ترتيب ذلك الحرف من بداية الآية:

{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوْا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ31 وَقَالُوْا33 مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً46 أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ69 هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً81 وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُوْنَ (15)} [فصلت]

الآن قم بإحصاء مجموع التراتيب التي احتلها حرف القاف في المواضع الخمسة:
31 + 33 + 46 + 69 + 81 = 260 وهذا العدد = 26 × 10
العدد 26 هو تكرار حرف القاف في جميع الآيات!!

تأمّل..
حرف القاف ورد في الآية السابقة في 5 مواقع محدَّدة، بحيث يكون مجموع تراتيبها 260 أي 26 × 10
وإذا كان العدد 26 يمثِّل تكرار حرف القاف في جميع الآيات وعددها 14 آية، فإن العدد 10 يعكس حقيقتين في غاية الدقة والأهميّة.. فتأمّل:
الحرف الذي ترتيبه رقم 10 من بداية الآية هو حرف السين في كلمة { فَاسْتَكْبَرُوا }، وهذا الحرف تحديدًا تكرّر في هذه الآيات 14 مرّة.. بعدد الآيات نفسها!!
وليس ذلك فحسب، بل الآية التي ترتيبها رقم 10 ضمن هذه المجموعة، وبحسب ترتيب المصحف الشريف، ورد فيها حرف القاف مرّة واحدة فقط، وجاء في ترتيب الحرف رقم 14 تحديدًا!! وهذه هي الآية:

{ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيْنَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُوْنَ (71)} [يس]
تخيَّل مستوى التشابك والتداخل في المنظومة القرآنية!!
حرف القاف نقلنا إلى حرف آخر داخل الآية نفسها وهو حرف السين، وحرف السين ردّنا إلى حرف القاف نفسه، ولكن في آية أخرى، والعدد 26 قادنا إلى العدد 10، والعدد 10 قادنا إلى العدد 14.. وهكذا نظل نتتبَّع أثر الأرقام في نطاق منظومة عنكبوتية لا نهائية في غاية الدقة والإتقان!
تأمّل الآية مرّة أخرى

{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوْا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُوْنَ (15)} [فصلت]

لاحظ أن حرف القاف ورد في الآية 5 مرّات، والآية التي ترتيبها رقم 5 في المجموعة لم يرد فيها حرف القاف مطلقًا!!
هذه الآية التي لم يرد فيها حرف القاف مطلقًا، هي الآية رقم 7 من سورة الشعراء، وهي:

5 – { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيْمٍ (7)} [الشعراء]

سورة الشعراء التي تنتمي إليها هذه الآية، ترتيبها رقم 26 بين سور القرآن الكريم!!
هذا العدد هو نفسه عدد تكرار حرف القاف في مجموعة الـ (14)!
إذا كانت الآية التي رقمها 7 من سورة الشعراء لم يرد فيها حرف القاف مطلقًا، فإن الآية التي ترتيبها رقم 7 في قائمة الـ (14) هي الأخرى لم يرد فيها حرف القاف مطلقًا، وهذه الآية هي:

7 – { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُوْنَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُوْنَ (67)} [العنكبوت]

تأمّل هذا التناسق العجيب!
مجموع كلمات هاتين الآيتين اللتين لم يرد فيهما حرف القاف مطلقًا هو 11 + 15 = 26
هذا العدد هو مجموع تكرار حرف القاف في مجموعة الـ (14)!
بل إن مجموع ترتيب هاتين الآيتين في قائمة الـ (14) هو 5 + 7 = 12
وهذا هو ترتيب الآية المميزة التي انطلقنا منها في بلورة هذا المشهد القرآني الرائع!
بل إن الفرق بين أرقام هاتين الآيتين في سورة العنكبوت والشعراء 67 – 7 = 60
والعدد الأخير هو 5 × 12، والعدد 12 هو ترتيب الآية ضمن قائمة الـ (14)!
والرقم 5 هو تكرار حرف القاف في الآية نفسها!!

قف لتتأمّل
هذا هو حال حرف واحد فقط في آية واحدة فقط.. قادنا إلى عدد لا متناهٍ من التشعُّبات والمتاهات الرقمية والعلاقات العنكبوتية الرياضية المتشابكة، تعرَّفنا بعض ملامحها العامة وجهلنا جلّها ومعظمها، بل أكاد أجزم وأقول: إننا جهلناها كلها ولم نتعرَّف منها شيئًا!!
والسؤال الأهم: ما هو حال الحروف الهجائية الأخرى، وما هو حال الآيات الأخرى وعددها 6236 آية، بل ما هو حال مواقع الحروف القرآنية وعددها أكثر من 330 ألف موقعًا؟!
وإذا كان كل حرف من هذه الحروف وكل موقع من هذه المواقع يتشعَّب منه آلاف بل ملايين الأنماط والعلاقات الرياضية المعجزة، فكم يكون عدد الأنماط التي يتألّف منها النسيج الرقمي القرآني؟!

المشهد لم ينته بعد.. تابع الفاء
ننتقل الآن من حرف القاف إلى حرف آخر شبيه له هو حرف الفاء..
هذا الحرف تكرّر في آيات هذه المجموعة أيضًا 26 مرّة! سبحان اللَّه! تمامًا مثل شقيقه!
يشبهه في رسمه وفي تكراره، بل الأعجب من ذلك أنه يأخذ مواقع هي أعجب من المواقع التي اتخذها شقيقه القاف!

{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُوْنَ (15)} [فصلت]

تأمّل هذه الآية جيّدًا.. لقد بدأت بحرف الفاء، بل اسم السورة التي تنتمي إليها أيضًا تبدأ بحرف الفاء (فصلت).
ورد حرف الفاء في هذه الآية ثلاث مرّات وفي مواقع محدَّدة بدقَّة حتى يكون مجموع ترتيبها هو أيضًا 26

{ فَأَمَّا1 عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا8 فِي17 الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)} [فصلت]

الآن هذه أحرف الفاء الثلاثة.. وهذه هي تراتيبها من بداية الآية... ومجموعها 1 + 8 + 17 = 26
ماذا تقول في هذا؟
تغيّر الحرف من القاف إلى الفاء..
تغيّر عدد تكرار الحرف من 5 إلى 3.. تغيّرت بذلك جميع مواقع الحرف..
وبرغم ذلك النتيجة هي هي لم تتغيّر.. 26

الآية الوحيدة
الآية الوحيدة التي لم يرد فيها حرف الفاء هي الآية رقم 13 في قائمة الـ (14)
وهذه الآية رقمها 33 في سورة الأحقاف!!
أعتقد أنك، بعد خبرتك معنا، قد انتبهت إلى أن اسم السورة نفسه (الأَحْقَاف) ينتهي بحرف الفاء!
ولكن تأمّل معي.. ترتيب هذه الآية هو رقم 13 في قائمة الـ (14)، ورقم الآية في سورة الأحقاف هو 33
ومجموع العددين 13 + 33 = 46
أتعلم أن 46 هو ترتيب سورة الأحقاف في المصحف الشريف! سبحان اللَّه!
انظر إلى عمق هذا الترابط العصبي العجيب!
الترابط على مستوى الحرف وعلى مستوى الكلمة وعلى مستوى الآية وعلى مستوى الموضوع وعلى مستوى السورة وعلى مستوى القرآن بأكمله! أي عقل يستطيع أن يقلِّد هذا النظام؟!
الآن يمكنك أن تقف على حقيقة هذا التحدّي:

{ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُوْنَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء]

ترابط وتشابك عجيب لا نرى منه إلا ما يشبه بقعة صغيرة جدًّا في قمة جبل جليدي ضخم!
نظم رائع لا نرى منه إلا بقدر ما نرى من ملكوت اللَّه بأعيننا المجرّدة!
وبرغم ذلك فأي عقل بشري يستطيع أن يأتي بهذا النظام؟! تذكر نحن الآن نتحدّث عن حرفين فقط!
فما بال الحروف الأخرى! إنها كلّها على المستوى نفسه من الدقة والإتقان! وكل حرف له مكانه!
أنت الآن في سورة فصلت، فإذا حرّكت أي حرف من حروفها، قدّمته أو أخّرته، اختلّ نظام الحروف، لا أقول في السورة نفسها أو سورة أخرى بعينها.. بل في القرآن الكريم بأكمله!

تفاعل الأرقام والمعاني
كل ذلك ولم نتدبَّر معاني أي من هذه الآيات!!
أدعوك إلى أن نغوص قليلًا في معنى إحدى هذه الآيات، حتى نتأكَّد من أن هذه الأرقام التي نتحدَّث عنها ونعجب من طريقة حبكها ونظمها، ليست أرقامًا بكماء صمّاء جامدة، بل تتفاعل مع المعنى نفسه وفي أدقّ تفاصيله.
لنحضر الآية إلى ساحة التأمّل مرّة أخرى:

{ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15)} [فصلت]

مجموع تراتيب حرف القاف في هذه الآية + رقم الآية نفسها 260 + 15 = 275، وهذا العدد هو 25 × 11
إذا كان العدد 25 هو مجموع كلمات الآية، فما شأن العدد 11؟
تأمّل جيّدًا هذه الآية.. اقرأها أكثر من مرّة، وركّز بشكل خاص في كلمتين اثنتين.. كلمة { فَاسْتَكْبَرُوا } في صدر الآية وكلمة { مِنَّا } في وسط الآية، فالآية تتحدث عن استكبار قوم عاد، وكلمة { مِنَّا } تأتي تحقيقًا لهذا الاستكبار بالقول، بل إن كلمة { مِنَّا } وجميع أخواتها من كلمات "الأنا" تأتي في مقام الاستكبار والاستعلاء، وهي أول كلمة نطق بها إبليس عليه لعنة اللَّه عندما أبى واستكبر أن يخضع لأمر اللَّه عزّ وجلّ بالسجود لآدم -عليه السلام- بل إبليس نفسه ورد ذكره في القرآن الكريم 11 مرّة.. وكلمة { مِنَّا } في هذه الآية تحديدًا ترتيبها رقم 11 بين كلمات الآية، بل إن تراتيب أحرفها الثلاثة (م ن ا) هي 43 و44 و45 على التوالي ومجموع هذه الأعداد هو 132 أي 11 × 12 والآن يظهر العدد 12 مرّة أخرى!!
وإذا كان العدد 12 يشير إلى ترتيب هذه الآية التي نتحدّث عنها، فإن العدد 11 يشير إلى آية أخرى ترتيبها رقم 11 وعدد كلماتها أيضًا 11، وموضوعها أيضًا هو الاستكبار والاستعلاء ورقمها أيضًا مضاعفات العدد 11، وهذه الآية هي:
{ أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77)} [يس]

سبحانك ربي! أي عقل يستوعب كل هذا التشابك الرقمي المذهل!
ولكن العجب ليس في هذا النظام الرقمي القرآني البديع الذي نشاهد الآن بصيصًا من ملامحه العامة، بل العجب كل العجب في هذا الإنسان الضعيف الذي كان يومًا من الأيام هذه "النطفة" التي تتحدّث عنها هذه الآية، وبرغم ذلك يستعلي ويتكبَّر ويكون خصمًا لربه!! سبحانك ربي.. ما أعظمك وما أعظم صبرك وحلمك على خصومك من عبيدك!
----------------------------------------------------------
المصدر:
مصحف المدينة المنَّورة برواية حفص عن عاصم (وكلماته بحسب قواعد الإملاء الحديثة).

عن موقع طريق القرآن
 
عودة
أعلى