الظروف الخفية لمراحل العملية الروسية الأوكرانية وآخر المستجدات الميدانية
بعد المتابعات والمراجعة الميدانية بحيادية لمراحل العملية الروسية الخاصة في أوكرانيا، تراءى لي بعض الظروف والأخطاء الميدانية والتكتيكية والتخطيطات الروسية، غيرت الوجهة الحقيقية للحرب الروسية.
وقد توقعت قبل بدء هذه الحرب ألا تقوم روسيا بأي عملية عسكرية ضد أوكرانيا، وأن الحشود الروسية على الحدود الأوكرانية التي كانت تقوم بمناورات عسكرية كانت عبارة عن قوة ردع وتخويف لدفع الأوكران لخفض وتيرة التصعيد القتالي ضد المناطق الانفصالية ذات الأغلبية السكانية الروسية.
والسبب بهذا التوقع السلبي بعدم حدوث حرب، هو ضعف الاقتصاد العسكري الروسي الذي كان لا زال يُكرث لتطوير وتحديث الترسانة الروسية التقليدية منها والنووية، وأكبر دليل على ذلك أن الدبابات والاليات التي أوجدت في المناورة كانت إما قديمة أو متقادمة أو مطورة وأقلها متطورة حديثة ولكن ليست كاملة التجهيز، لأنها لم تكن معدة لعملية عسكرية حقيقية ولأنها لم تكن مجهزة بأجهزة الحماية النشطة الإيجابية، إنما لعمليات ميدانية افتراضية تدريبية ومناورات ترهيبية شملت أقوى تشكيلات القوات المسلحة الروسية وهو الجيش 41 من قوات الدببة السيبيرية التي نفذت مناورة عاصفة الشمال 2022 كرسالة ردع وتخويف لأوكرانيا كما أسلفنا عن المضي بعملية تصعيد العملية العسكرية الأوكرانية ضد إقليم الدونباس الانفصالي الذي يشمل مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك، لذلك نجد روسيا قامت بدعم قوات المقاطعات الانفصالية بالأسلحة والعتاد الثقيل إضافة لإشراك قوات خاصة ارتزاقية عالية الاعداد والتدريب والخبرة والحرفية القتالية أكثرها تابعة للدولة الروسية بصفة غير رسمية، وذلك قبل البدء بشكل رسمي للعملية العسكرية الخاصة الروسية، والتي كان مضمونها بالأصل أن تكون مهجنة ولكن بصفة استخباراتية وفق عقيدة رئيس الأركان الروسية المعروفة بعقيدة غراسيموف المهجنة التي تجمع بين الطبيعة الاستخباراتية والأمينة والعسكرية، لتنفيذ وتعضيد عملية انقلابية خاطفة وذكية لإسقاط النظام الحاكم في كييف واستبداله بحكومة موالية لموسكو تدعم استقلال إقليم الدونباس وتعطي صفة شرعية للحكم الروسي في شبه جزيرة القرم.
إلا أن هذه العملية الخاصة الهجينة التي كان مقدر لها أن تأخذ بعدها الكامل خلال يومين أخفقت من اليوم الأول من خلال فشل عملية الانقلاب المركزية وقوات الدعم الخارجي والتشتيت العسكري المتمثلة بالكتائب التكتيكية المستقلة المزيفة على أنها أوكرانية، والقوات المجوقلة الروسية توقف دورها في تدعيم وتثبيت العملية الانقلابية، كما فشلت القوات الخاصة المظلية التابعة للمخابرات الروسية الفيدرالية من القبض على الرئيس الأوكراني أو تصفيته بسبب تمكن المخابرات الأمريكية من نقله وعائلته وأركان حكومته إلى مكان آمن في بولندا.
هنا كان من المفترض المنطقي الذي يخرج روسيا بماء الوجه سياسياً وعسكرياً، هو سحب القوات العسكرية في الشمال والشرق إلى مركزها الأصلية أو دفعها إلى إعادة التموضع في المناطق الانفصالية لتقويتها وتعزيزها لاستعادة باقي تلك المقاطعات من الأيادي الأوكرانية، وتعزيز جبهة خيرسون المكتسبة بالكتائب التكتيكية التي كانت شرق كييف.
خاصة مع نجاح القوة الجوية والصاروخية الروسية في تحيد أهم مكونات الترسانة العسكرية الأوكرانية العاملة الاستراتيجية.
والسبب الرئيسي بعدم اتخاذ هذه الإجراءات التي غالباً كانت سوف تكلل بالنجاح، هو الديكتاتورية الروسية بالقرار السياسي حتى ولو تعارض مع التكتيكات والمبادئ العسكرية الناجحة، وبالدرجة الثانية وجود قوة داعمة خارجية مادياً للعملية العسكرية الروسية، وداعمة للديكتاتورية السياسية الروسية، لأن ذلك يخدم أهدافها الاستراتيجية لتلك القوة الداعمة.
فالهجوم على كييف بدون مستوى داعم لعملية انقلابية بشكل فعال مقارنة مع عملية الدعم الاستخباراتي للناتو، قوى الحالة الدفاعية الأوكرانية بوجود قوة دفاعية أوكرانية محترفة وخبيرة دربت خلال ثمانية سنوات على يد نخبة القيادات الخاصة الأنجلو أمريكية، وزودت بأعلى التقنيات الفردية القتالية.
والمرحلة الثانية من العملية العسكرية الخاصة الروسية كان من المفترض أن تكون الأولى بعد فشل العملية الانقلابية في كييف، ولو كانت هي المرحلة الأولى لكان كامل إقليم الدونباس في قبضة الروس من أشهر مضت مع إقليم زباوروجيا وإقليم خيرسون وحتى ربما خاركييف، دون أي إخفاقات أو انسحابات تكتيكية، ولكن تردي الحالة المعنوية للقوات المسلحة الروسية وتفاقم حالة فوبيا أطقم الدبابات من المضادات الذكية العالية الفتك التي تستهدف المناطق العلوية الضعيفة بالدبابات الهجومية الروسية، خاصة أن هذه الدبابات لم تكن مهيئة لهذه المواجهة القتالية إنما كما أسلفنا كانت موجودة لإجراء مناورات عسكرية ترهبيه، فبعض وكالات الأنباء قامت بلقاءات ميدانية مع بعض الجنود الروس حينها وصرح بعضهم أنهم كانوا ضمن مناورات تدريبية وفوجئوا أنهم وجدوا أنفسهم في مهام قتالية ولم يكن لديهم مخطط مسبق للهجوم ولا حتى خرائط ميدانية!
فكان نتاج ذلك خسارة روسيا في معارك المدن 244 دبابة دمرت بالكامل نجا جزء من الأطقم بسرعة الفرار قبل إتمام تدميرها بالضربات المتعددة المضادة، وتم عطب دون هلاك أكثر الطاقم 75 دبابة، وتم ترك الطواقم 273 دبابة استولى عليها الأوكران، ولكن في حقيقة الأمر وكما أشرت سابقاً كان أكثر تلك الدبابات قديمة وغير محدثة كان أحدثها دبابة T-80BVM التي فقد الروس منها ستة دبابات ودبابتين من طراز T-72B3M التي تم تحديثها عام 2016، واللتان رغم حداثتهم وقوتهم التدريعية الأساسية والمضافة، لم يكونوا مجهزين بحماية نشطة!
فهل هذا يعني أن هناك عمالة روسية على أعلى المستويات السياسية؟!
الجواب طبعاً لا ولكن هناك جهة خارجية جعلت روسيا تقاتل بالوكالة بالحالة التجهيزية المتوفرة، عنها كحال أمريكا مع أوكرانيا، وأرادتها حرب طويلة استنزافية لا تستطيع روسيا عليها بالحالة الاعتيادية، وهذه الجهة الخارجية الممولة للحرب الروسية الأوكرانية، تريد أن تجعل من روسيا جبهة متقدمة لحمايتها واستنزاف المخزونات الأمريكية الميداني بالدرجة الأولى، وفهم التكتيكات الحربية الأمريكية، وإفراغ كل ما بجعبة الأمريكان من التقنيات، التي لم تستطيع أن ـتأخذها الصين بالتهكير الإلكتروني، كما أن الصين تحتاج الوقت لبناء ترسانتها الهجومية واستكمال خططها الهجومية تجاه تايوان، وقد أشار إلى ذلك ثعلب السياسة الخارجية الأمريكية ومهندسها هنري كيسنجر عندما قال أن الصين هي من تقود روسيا في هذه الحرب؛ ويعني الحرب الروسية الأوكرانية.
والحقيقة أن روسيا ضمنياً رضيت بهذه القيادة المقنعة الصينية، لأنها بالدرجة الأولى حققت حلمها بتحديث تقنياتها الحربية، فاستطاعت بوقت قياسي وخلال أشهر من تحديث أكثر ترسانتها الحربية بشكل ما كانت لتنجزه خلال سنوات قادمة، لذلك ترانا نسمع بوتين اليوم يتكلم بثقة عن امتداد الحرب إلى عام 2025!
إلا أن التطورات الميدانية الروسية الحالية تشير أن الشتاء المثلج في هذه الحرب لن يمر مرور الكرام خاصة بعد تجرء الغرب بالوكالة على العمق الروسي.
فروسيا مكنت جبهاتها من الناحية الدفاعية وحشدت جيوش هجومية مدرعة خبيرة وحديثة التجهيز وقوية، أقواها بجبهة لوغانسك تجاه إقليم خاركييف، وهم حرس موسكو الجيش الأول الهجومي المدرع.
وفي دونيتسك الجيش الثالث الهجومي المدرع من الدببة السيبيرية، في بلاروسيا الجيش المدرع 41 السيبيري مع فيلق الاقتحام السيبيري من قوات المجموعات السيبيرية.
وتشكيل هجومي ضخم لا زال مجهول الهوية شمال شبه جزيرة القرم، والإيحاء العام لهذه التشكيلات هو قيام الروس بهجوم شامل من أربع محاور أهمها محور إقليم خاركييف ومحور كييف من الشمال، ولكن قد لا يكون ذلك ويكون الهجوم فقط من جهة خاركييف وجبهة خيرسون لما فيه من مطالب تعتبر نوعاً ما شرعية، وتبقي على إطالة أمد الحرب دون الدخول بحرب عالمية مباشرة مع الناتو.
إنما ورقة هجوم بيلاروسيا تمثل غالباً ورقة ضغط على أوكرانيا والناتو للقيام بتغيرات في الإدارة السياسية الأوكرانية تضمن مستقبلاً وجود مفاوضات سلام قد تفضي إلى انسحاب الروس من خاركييف بعد استردادها شرط أن تبقي على كامل المناطق التابعة للأراضي الروسية، لأن هذه الحرب لا تنتهي إلا بالمفاوضات أن تتحول إلى حرب عالمية نووية، والخيار الأخر لجم وردع النوايا البولندية من احتلال غرب أوكرانيا على أنها بالأصل أراضي بولندية طبعاً بمباركة أمريكية.
أما باقي الجبهات التي عززت بجيوش هجومية ضخمة قد لا تنفذ أي هجوم اختراقي كبير وعميق، إنما لردع أي هجوم أوكراني كبير، ولتنفيذ هجمات ارتدادية ساحقة ماحقة وإنما محدودة العمق.
واليوم روسيا أينعم تتقدم ببطء وإنما مع إلغاء أي احتمالية بالانسحاب لأنها مع كل تقدم تبنى خطوط دفاعية مكينة من أنياب التنين الاسمنتية والخنادق المضادة للدبابات، ويعزز ثباتها الحشود الهجومية الضخمة التي أشرنا لها.
وبدأت روسيا تنشر منظومات حديثة منها منظومة بنسلن الأرضية، التي ترصد نشاط ومواضع المدفعية الأوكرانية بطريقة سلبية من خلال لوقط خاصة للموجات الصوتية الهوائية والاهتزازية الأرضية معززة بمستشعرات حرارية، وهي بذلك تكون أفضل من رادارات الرصد الأرضي الأمريكية "فاير فايندر" من الناحية الاحترازية لأن هذه الأخيرة يمكن من خلال نشاطها الإيجابي الإلكترومغناطيسي كشفها والتشويش عليها أم تدميرها كما يحدث بالفعل بالوسائط المضادة الروسية، ومنظومة بنسلن تمثل أيضاً منظومة انذار مبكر لكشف أخطار الصواريخ المضادة للجو حتى امتداد 10 كم عند انطلاقها ضد طائرات الدعم القريب الروسية النفاثة منها والمروحية.
وبدأت روسيا اليوم بنشر منظومة متطورة جداً تقوم بالتشويش الانتقائي على أنظمة التوجيه الملاحي للأقمار الصناعية وربما على كافة اتصالات الأقمار الصناعية الغير روسية مستقبلاً، وحتى امتداد 900 كم من كل اتجاه لها.
كما أن بوتين قرر رفع عدد القوات الهجومية الروسية من 600 ألف محارب إلى مليون وثمانمائة ألف محارب من قوات التدخل الخارجي السريعة الانتشار بما في ذلك المتعاقدين والذين سوف يقارب عددهم 700 ألف متعاقد عالي الاحتراف والباقي سوف يكونوا من المتطوعين المحترفين، وذلك عدا 300 ألف مدافع من فئة خدمة العلم بدل قوات التعبئة الجزئية الدفاعية. وهذا إن دل فإنما يدل على تحسن الاقتصاد الحربي الروسي بشكل ملحوظ مع توفر الإمدادات اللوجستية فروسيا اليوم لم تعد تعاني من صعوبة الصناعة العسكرية كماً ونوعاً، إنما من بدء يعاني هو حلف الناتو وفي مقدمتهم أمريكا، مثال على ذلك قذائف مدافع الهاوتزر الميدانية فأوكرانيا تستهلك بشكل يومي بين 5000 إلى 7000 قذيفة أي استهلاكها الأدنى الشهري 150 ألف قذيفة، وعلى ما يبدو قد شارف المخزون الأمريكي من قذائف عيار 155 ملم على النفاذ، وكان انتاج أمريكا الشهري 14000 قذيفة عمياء وذكية من هذا العيار، إلا أنها رفعته حتى 40 ألف قذيفة شهرياً، فإذا ما صدقت التوقعات ونفذ المخزون الأمريكي فقد يصبح الوضع كارثي، لذلك نجد أمريكا تحرض دول الناتو القوية على توفير هذا النوع من القذائف بشكل مرادف لها، لتجنب هذه الكارثة التسليحية، أما روسيا يصل استهلاكها اليومي إلى 30 ألف قذيفة مدفعية كحد أقصى ولكن إنتاجها الشهري 350 ألف قذيفة دون رفع الطاقة الانتاجية، ولديها مخزون يزيد على 10 ملايين قذيفة.