رغم أن أنظار واهتمامات العالم لا سيما صناع القرار فيه تتجه منذ أشهر نحو التطورات اليومية للحرب الروسية في أوكرانيا وما سيؤول إليه الصراع هناك، فإن خلف الكواليس وتحديدا في مختبرات استباق الأزمات في العالم وصناعة الرأي وقراءة التحولات الجيوستراتيجية والثينك تانك think tank فان مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني يبقى الحدث الذي يستأثر بالاهتمام منذ أول أمس في محاولة لقراءة توجهات العملاق الاقتصادي الصيني وأولوياته العسكرية والأمنية والسياسية والاستخباراتية في زمن التنافس على الاستئثار بالتكنولوجيا الحديثة ومعها الاستئثار بالتحكم في الفضاء ..الحلم الصيني لم يعد نفس حلم الزعيم ماوتسي تونغ المرتبط بالبدلة الزرقاء وقنينة الشاي وثلاث وجبات من الأرز في اليوم للبقاء على الحياة.. الحلم الصيني اليوم يكبر ويتوسع ويراهن على الامتداد والوصول الى ابعد نقطة ممكنة في العالم بكل الطرق المتاحة وفي مختلف المجالات الصناعية والزراعية والثقافية والرياضية وغيرها وحيثما هناك حاجة للمساعدات الصينية تتجه انظار حكام الصين ..
لكن خلف هذا الحلم المتمدد حسابات وأولويات يديرها الرجل الأقوى في الصين الذي يهيمن على المشهد منذ عشر سنوات وهو الذي تمكن من الصعود في قيادة الحزب الوحيد في الصين بإعلان الحرب على الفساد وملاحقة آلاف من رجال الأعمال والسياسة وتحقيق التنمية والرقي للصينيين، الرئيس الصيني شي جينبينغ يصر على التأكيد على أن بلاده لا تسعى للهيمنة العالمية أو التوسع وأنها ترفض عقلية الحرب الباردة في العلاقات الديبلوماسية, لكن للخبراء والملاحظين رأي آخر حيث يعتبرون ان تطلع الصين للهيمنة على العالم ليس خافيا على احد ..
تصريحات الرئيس الصيني أطلقها شي جينبينغ في افتتاح أشغال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني المنعقد في بيكين والذي يفترض أن يعلن فوز الرئيس الصيني بولاية ثالثة لقيادة العملاق الصيني للسنوات الخمس القادمة في خضم تحولات إقليمية ودولية بعد سنتين على جائحة كورونا ومع دخول الحرب الروسية في أوكرانيا شهرها الثامن على التوالي كل ذلك طبعا الى جانب الأزمات الاقتصادية والتراجع الحاصل في النمو الاقتصادي الصيني الذي اقترب من الرقمين قبل ان يتراجع.. الرئيس الصيني الذي راهن على التحليق بالحلم الصيني ومنح الملايين من الشباب الصيني فرصة الخروج من دائرة الحلم الصيني الكلاسيكي للآباء بالحصول على دراجة وصحفة أرز في كل وجبة يجد نفسه أمام تحديات غير مسبوقة في بلد المليار ونصف أمام جيل جديد يعانق العولمة ويطمح لكسر الكثير من القيود الاجتماعية والثقافية التي ارتبطت بالصينيين على مدى عقود وجعلت حياة الصيني مبرمجة منذ الولادة حتى الموت على اعتبار أن الدولة من يفكر ويخطط وينفذ لصالح الجميع ..
الرئيس الصيني تحدث هذه المرة طوال أكثر من ساعة ونصف واستعرض في حديثه الموجه للصينيين في الداخل والخارج ولكن ايضا لكل القوى الإقليمية والدولية أكثر من رسالة لأكثر من طرف وأولها أن الصين واحدة وان هونغ كونغ المقاطعة التي تم استعادتها من بريطانيا بعد أكثر من تسعين عاما من الهيمنة البريطانية وكذلك الشأن بالنسبة لمقاطعة ماكاو التي كانت تحت هيمنة البرتغال فضلا عن تايوان التي تسعى للانفصال عن الصين الأم.. وذلك في إطار أن الصين واحدة وفي ظل نظام سياسي واحد ونظاما اقتصاديا وفق ما تم الالتزام به قبل استعادة المقاطعتين حيث يختلف نمط الحياة كليا عما هو سائد في داخل الصين وحيث يظل منسوب الحريات والانفتاح والتعدد أيضا مسألة لا يمكن مقارنتها بما يجري في الصين ..
ولئن اعتمدت الديبلوماسية الصينية حتى هذه المرحلة من الحرب في أوكرانيا خطابا ديبلوماسيا متوازنا وحافظت على علاقاتها ومصالحها مع الصديق الروسي فإنها اختارت أيضا ألا تذهب بعيدا في استفزاز الغرب او استعداء أمريكا والحلف الأطلسي في هذه الحرب.. لم يتعرض الرئيس الصيني للحرب في أوكرانيا ولا للتحالف مع روسيا ولكنه توجه برسائل واضحة أن مصير تايوان يحدده الصينيون وان للصين القوة والقدرة على الحفاظ على وحدتها الترابية ..
من قصر الشعب الذي يطل على ساحة “تيان انمين” في العاصمة الصينية وهي الساحة التي عاشت أحداث “تيان ان من” في ثمانينات القرن الماضي عندما انتشرت صورة الشاب الذي تحدى الدبابة ورفض الانسحاب من طريقها واعتقد كثيرون آنذاك انه الربيع الصيني وأن النظام الصيني بصدد التآكل والانهيار قبل ان تسقط كل الرهانات ويتضح أن رمز المطرقة والمنجل واللون الأحمر المحبوب في الموروث الصيني لا يزال قائما وسيبقى بعد احداث “تيان ان من” ..
صفر كوفيد.. استعادة هونغ كونغ.. ومستقبل تايوان هي الكلمات المفاتيح في خطاب الرئيس الصيني الذي لا يخفي توجهاته نحو مزيد الانفتاح ومواصلة سياسة الزحف الهادئ على طريق الحرير وفتح ما بقي من الأسواق الإفريقية والعربية والأوروبية وغيرها دون إطلاق رصاصة واحدة.. ومن هنا أيضا محاولة الرئيس الصيني استباق الأحداث والتأكيد على أن بلاده لن تتردد في استعمال القوة لدفع تايوان الى البقاء في حضن الصين الام وهي رسالة ايضا لواشنطن وللمسؤولين الامريكيين الذين توافدوا على زيارة تايوان ودعم توجهاتها الانفصالية..