


فمع التقارير الغربية عن إحتمال تعرض روسيا لهزيمة في أوكرانيا ، تتصاعد المخاوف من إحتمالات حدوث قصف نووي روسي على أوكرانيا .
بسبب هذا السؤال تخضع إحتمالية نشوب حرب نووية الآن لتقييم جديٍّ أكثر من أي وقت منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 ، لكن تفكير المسؤولين الحكوميين الأمريكيين إنحرف في إتجاه مفاجئ ، كان سيُنظر له على أنه هرطقة وخطر قبل بضع سنوات فقط .
ويتمثل التحول الجديد في هذه الأزمة في أنَّ المسؤولين الأمريكيين يفكرون في عدم الرد على قصف نووي روسي على أوكرانيا بهجوم نووي خاص بهم ، بل بنسخة أكثر كثافة ومباشرة من الهجوم غير النووي ، الذي يساعدون الأوكرانيين في شنه الآن ، حسبما ورد في تقرير لمجلة Slate الأمريكية .
وهذا تحول كبير جداً ، فعلى مدى عقود إحتدمت المناقشات حول ما إذا كان ينبغي على الولايات المتحدة الرد على غزو مسلح تقليدياً لأوروبا بإطلاق أسلحة نووية .
ومع ذلك ، كان يُفترَض دوماً ، دون أي خلاف ، أنه إذا استخدمت روسيا أو أي عدو آخر أسلحة نووية ضد دولة حليفة ، فسترد واشنطن بالأسلحة النووية أيضاً .
وهذا الإفتراض ، الذي كان في يوم من الأيام عقيدة لا جدال فيها ، لم يعُد يُنظَر إليه في الدوائر الرسمية ، وهو أمر يستحق كثيراً مناقشة توقيت وكيفية تغييره وكذلك أسبابه .

في صيف عام 2016 ، قرب نهاية رئاسة باراك أوباما ، أشارت تقارير إستخباراتية إلى أنَّ روسيا تبنّت عقيدة عسكرية جديدة ، تُعرَف بإسم "التصعيد من أجل التهدئة". إذا كانت روسيا تخسر في حرب ضد حلف شمال الأطلسي ( الناتو ) ، فإنها ستطلق عدداً صغيراً من الأسلحة النووية منخفضة القوة ، إما لدرء الجيوش الغربية أو لمجرد إحداث صدمة .
وكانت النظرية أنَّ قادة الناتو ، خوفاً من مزيد من التصعيد الكارثي ، سيوقفون الحرب ويتفاوضون على السلام .
أرادت نائب مستشار الأمن القومي لأوباما ، أفريل هينز ، إختبار هذه النظرية . ودعت إجتماع النواب في مجلس الأمن القومي إلى ممارسة لعبة حرب، لمعرفة ما إذا كانت الإستراتيجية الجديدة لروسيا قد تعيق قدرة أمريكا على إبراز قوتها في المنطقة .


وكان سيناريو اللعبة كالتالي : روسيا تغزو إحدى دول البلطيق ، والناتو يقاوم بفاعلية . ثم تطلق روسيا سلاحاً نووياً منخفض القوة على قوات الناتو أو على قاعدة في ألمانيا ، حيث تنتشر الطائرات بدون طيار والطائرات المقاتلة والقنابل الذكية . والسؤال هنا : ماذا سيفعل صناع القرار الأمريكيون وقتها ؟
قال كولين كال ، مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس جو بايدن آنذاك ، للجنرالات في لعبة الحرب، إنهم يغفلون الصورة الكبيرة : فبمجرد إسقاط روسيا قنبلة نووية سنكون أمام "لحظة حاسمة للعالم"؛ وهي فرصة لحشد العالم بأسره ضد روسيا ، لعزل وإضعاف موسكو سياسياً وإقتصادياً وعسكرياً . ومع ذلك إذا استجبنا بأسلحة نووية خاصة بنا ، فسوف نفقد هذا النفوذ . بالإضافة إلى تطبيع إستخدام الأسلحة النووية . لذا إقترح كال المواصلة وتصعيد الحرب التقليدية ، التي ينتصرون فيها .
بعد بضع ساعات من المناقشة ، ظهر إجماع على أنه يجب على الولايات المتحدة الرد فقط بعمليات عسكرية تقليدية مكثفة .

وليس من الواضح ما الذي سيفعله بايدن في نسخة واقعية من هذه اللعبة . فعندما سُئِل مؤخراً في برنامج 60Minutes ، أجاب : "هل تعتقد أنني سأخبرك إذا كنت أعرف كيف سيكون الوضع بالضبط ؟ بالطبع لن أخبرك . لكن ستكون له تبعية. سوف يصبح [ الروس ] منبوذين في العالم أكثر من أي وقت مضى . وإعتماداً على مدى ما يفعلونه سنحدد الإستجابة .
تركت هذه الإجابة الباب مفتوحاً أمام إمكانية الرد على الأسلحة النووية الروسية بإستخدام الأسلحة النووية . وأي رئيس سيبقي هذا الخيار مفتوحاً ، فقط لردع بوتين عن الضرب أولاً .
وفي الواقع ، حفزت العقيدة العسكرية الروسية "التصعيد لخفض التصعيد" الولايات المتحدة على وضع رؤوس حربية نووية منخفضة القوة على بعض صواريخها من الغواصات "ترايدنت" ، بحيث إذا أطلقت روسيا عدداً قليلاً من الأسلحة النووية منخفضة القوة ، فإن الولايات المتحدة يمكن أن ترد بالبعض منها . ( قوة إنفجار القنابل النووية الأمريكية "منخفضة القوة" تعادل من نصف إلى ثلثي قوة القنبلة التي دمرت هيروشيما ) .

لكن تأكيد بايدن على جعل روسيا "منبوذة" يميل بالتأكيد في إتجاه حُجة كال بأن الرد بالأسلحة النووية لن يكون ضرورياً .
كان مسار الحرب الروسية الأوكرانية حتى الآن يميل إلى إثبات هذا الموقف أيضاً . فقد تبين أن الجيش الروسي أقل كفاءة وإثارة للرعب مما توقعته التقديرات الإستخباراتية . وتمكنت القوات الأوكرانية ، المزودة بأسلحة الناتو والمخابرات الأمريكية ، من صد الجيش الروسي وهي الآن تهزمه في هجوم مضاد من شقين ، وذلك بدون التدخل المباشر لقوات أو طياري الناتو .
أوضح الجنرال المتقاعد ( ديفيد بتريوس ) مؤخراً سيناريو محتملاً على شبكة ABC News . قال قائد الحرب الأمريكي السابق : "لإعطائكم فكرة إفتراضية ، سنرد [ على إستخدام روسيا للأسلحة النووية ] من خلال قيادة حلف شمال الأطلسي… في جهد من شأنه القضاء على كل قوة تقليدية روسية يمكننا رؤيتها وتحديدها في ساحة المعركة في أوكرانيا ، وكذلك في شبه جزيرة القرم وكل سفينة في البحر الأسود" .

يمكن للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي تنفيذ مثل هذا الهجوم دون إستخدام أية أسلحة نووية . وبالنظر إلى ما شوهد في الحرب حتى الآن ، يبدو أن للمخابرات الأمريكية مساراً قريباً جداً من مكان وجود كل وحدة روسية في أوكرانيا ، ومكان توجهها ، ومعرفة بما يقوله ضباطها . بإختصار ، هذا الهجوم الشامل يمكن تنفيذه ، بالأساس من خلال الضربات الجوية والمدفعية ، وبسرعة كبيرة .
بالطبع هذه الخطة لن تجعل أمريكا تتضرر كثيراً ، بينما من سيدفع الثمن إضافة لأوكرانيا وروسيا ، هي دول أوروبا الشرقية وخاصة دول البطليق ، وبولندا ورومانيا ، وقد يتسع الضرر ليشمل الدول الإسكندنافية ، خاصة فنلندا والسويد والدنمارك ، إضافة لألمانيا .
والمعنى الضمني لهذا الأمر مهم : وهو أن هجوماً ضخماً تقليدياً أمريكياً وحلف شمال الأطلسي ( أي غير نووي ) يمكن أن يعطل آلة الحرب الروسية تماماً في أوكرانيا ، وزيادة على ذلك ، فإن إحتمالية حدوث مثل هذا الهجوم يمكن أن تردع بوتين عن فعل أي شيء قد يحفز حدوثه في المقام الأول .


بعبارة أخرى , فإن التهديد بالتصعيد غير النووي الهائل لحلف شمال الأطلسي قد يردع بوتين عن قصف نووي روسي ضد أوكرانيا . أو بعبارة أكثر إيجازاً ، على الأقل عندما يتعلق الأمر بهذه الحرب، لا تحتاج الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إلى أسلحة نووية لردع روسيا عن إستخدام أسلحتها النووية .
تؤكد حرب أوكرانيا درساً آخر من لعبة أوباما الحربية: وهو أن الأسلحة النووية ليست لها فائدة تُذكَر - هذا إن وُجِدَت لها فائدة على الإطلاق - في ساحة المعركة . في كل من لعبة الحرب والحرب الواقعية ، لن يكون للأسلحة النووية الأمريكية أهداف مناسبة ، وقد لا تنهي الحرب (بل في الواقع قد تزيد من تصعيدها) ، كما أنها ليست ضرورية ، إذ يمكن إنجاز المهمة بإستخدام القوة العسكرية التقليدية .
يمكن للأسلحة النووية ردع العدو عن إطلاق أسلحة نووية أو التدخل في حرب على الإطلاق . فبرغم كل شيء ، ترسانة بوتين النووية هي السبب الوحيد لعدم إرسال الناتو قواته إلى أوكرانيا . لكن بمجرد تجاوز العتبة النووية تتوقف جميع الرهانات .
ماذا يحدث بعد "تبادل القصف النووي" الأول - أي جانب لديه نفوذ أكبر ومن يفوز ، ومن يخسر ، أو ما تعنيه هذه الكلمات - لا أحد يعرف . بالنسبة لجميع الكتب والمقالات المعقدة التي كُتِبَت على مدى عقود حول الحرب النووية وإدارة التصعيد ، فإن الأمر كله عبارة عن ضباب لا يمكن إختراقه . وهذا الإفتقار إلى الوضوح يجعل التخطيط لإستراتيجية عسكرية عقلانية حول الأسلحة النووية أمراً صعباً وربما مستحيلاً تماماً .