الرئيسان الأمريكي جو بايدن، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين
ماذا ستفعل الولايات المتحدة الأمريكية إذا تعرضت أوكرانيا إلى قصف نووي روسي ؟ يبدو أن إجابة هذا السؤال لا تهم مستقبل البلدان الغربية فقط ، بل قد تشمل العالم كله ، فالرد الأمريكي سوف يحدد إذا ما كان العالم سوف يدخل في حرب عالمية نووية مهلكة أم لا .
فمع التقارير الغربية عن إحتمال تعرض روسيا لهزيمة في أوكرانيا ، تتصاعد المخاوف من إحتمالات حدوث قصف نووي روسي على أوكرانيا .
بسبب هذا السؤال تخضع إحتمالية نشوب حرب نووية الآن لتقييم جديٍّ أكثر من أي وقت منذ أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962 ، لكن تفكير المسؤولين الحكوميين الأمريكيين إنحرف في إتجاه مفاجئ ، كان سيُنظر له على أنه هرطقة وخطر قبل بضع سنوات فقط .
ويتمثل التحول الجديد في هذه الأزمة في أنَّ المسؤولين الأمريكيين يفكرون في عدم الرد على قصف نووي روسي على أوكرانيا بهجوم نووي خاص بهم ، بل بنسخة أكثر كثافة ومباشرة من الهجوم غير النووي ، الذي يساعدون الأوكرانيين في شنه الآن ، حسبما ورد في تقرير لمجلة Slate الأمريكية .
وهذا تحول كبير جداً ، فعلى مدى عقود إحتدمت المناقشات حول ما إذا كان ينبغي على الولايات المتحدة الرد على غزو مسلح تقليدياً لأوروبا بإطلاق أسلحة نووية .
ومع ذلك ، كان يُفترَض دوماً ، دون أي خلاف ، أنه إذا استخدمت روسيا أو أي عدو آخر أسلحة نووية ضد دولة حليفة ، فسترد واشنطن بالأسلحة النووية أيضاً .
وهذا الإفتراض ، الذي كان في يوم من الأيام عقيدة لا جدال فيها ، لم يعُد يُنظَر إليه في الدوائر الرسمية ، وهو أمر يستحق كثيراً مناقشة توقيت وكيفية تغييره وكذلك أسبابه .
خطة أوباما التي غيرت العقيدة النووية الأمريكية :
في صيف عام 2016 ، قرب نهاية رئاسة باراك أوباما ، أشارت تقارير إستخباراتية إلى أنَّ روسيا تبنّت عقيدة عسكرية جديدة ، تُعرَف بإسم "التصعيد من أجل التهدئة". إذا كانت روسيا تخسر في حرب ضد حلف شمال الأطلسي ( الناتو ) ، فإنها ستطلق عدداً صغيراً من الأسلحة النووية منخفضة القوة ، إما لدرء الجيوش الغربية أو لمجرد إحداث صدمة .
وكانت النظرية أنَّ قادة الناتو ، خوفاً من مزيد من التصعيد الكارثي ، سيوقفون الحرب ويتفاوضون على السلام .
أرادت نائب مستشار الأمن القومي لأوباما ، أفريل هينز ، إختبار هذه النظرية . ودعت إجتماع النواب في مجلس الأمن القومي إلى ممارسة لعبة حرب، لمعرفة ما إذا كانت الإستراتيجية الجديدة لروسيا قد تعيق قدرة أمريكا على إبراز قوتها في المنطقة .
الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما مع الرئيس الحالي جو بايدن الذي كان نائبه
وكان سيناريو اللعبة كالتالي : روسيا تغزو إحدى دول البلطيق ، والناتو يقاوم بفاعلية . ثم تطلق روسيا سلاحاً نووياً منخفض القوة على قوات الناتو أو على قاعدة في ألمانيا ، حيث تنتشر الطائرات بدون طيار والطائرات المقاتلة والقنابل الذكية . والسؤال هنا : ماذا سيفعل صناع القرار الأمريكيون وقتها ؟
قال كولين كال ، مستشار الأمن القومي لنائب الرئيس جو بايدن آنذاك ، للجنرالات في لعبة الحرب، إنهم يغفلون الصورة الكبيرة : فبمجرد إسقاط روسيا قنبلة نووية سنكون أمام "لحظة حاسمة للعالم"؛ وهي فرصة لحشد العالم بأسره ضد روسيا ، لعزل وإضعاف موسكو سياسياً وإقتصادياً وعسكرياً . ومع ذلك إذا استجبنا بأسلحة نووية خاصة بنا ، فسوف نفقد هذا النفوذ . بالإضافة إلى تطبيع إستخدام الأسلحة النووية . لذا إقترح كال المواصلة وتصعيد الحرب التقليدية ، التي ينتصرون فيها .
بعد بضع ساعات من المناقشة ، ظهر إجماع على أنه يجب على الولايات المتحدة الرد فقط بعمليات عسكرية تقليدية مكثفة .
أمريكا تتأهب بالفعل منذ سنوات لسيناريو قصف نووي روسي محدود :
وليس من الواضح ما الذي سيفعله بايدن في نسخة واقعية من هذه اللعبة . فعندما سُئِل مؤخراً في برنامج 60Minutes ، أجاب : "هل تعتقد أنني سأخبرك إذا كنت أعرف كيف سيكون الوضع بالضبط ؟ بالطبع لن أخبرك . لكن ستكون له تبعية. سوف يصبح [ الروس ] منبوذين في العالم أكثر من أي وقت مضى . وإعتماداً على مدى ما يفعلونه سنحدد الإستجابة .
تركت هذه الإجابة الباب مفتوحاً أمام إمكانية الرد على الأسلحة النووية الروسية بإستخدام الأسلحة النووية . وأي رئيس سيبقي هذا الخيار مفتوحاً ، فقط لردع بوتين عن الضرب أولاً .
وفي الواقع ، حفزت العقيدة العسكرية الروسية "التصعيد لخفض التصعيد" الولايات المتحدة على وضع رؤوس حربية نووية منخفضة القوة على بعض صواريخها من الغواصات "ترايدنت" ، بحيث إذا أطلقت روسيا عدداً قليلاً من الأسلحة النووية منخفضة القوة ، فإن الولايات المتحدة يمكن أن ترد بالبعض منها . ( قوة إنفجار القنابل النووية الأمريكية "منخفضة القوة" تعادل من نصف إلى ثلثي قوة القنبلة التي دمرت هيروشيما ) .
والآن يزداد إحتمال الرد غير النووي مع ظهور ضعف روسيا العسكري :
لكن تأكيد بايدن على جعل روسيا "منبوذة" يميل بالتأكيد في إتجاه حُجة كال بأن الرد بالأسلحة النووية لن يكون ضرورياً .
كان مسار الحرب الروسية الأوكرانية حتى الآن يميل إلى إثبات هذا الموقف أيضاً . فقد تبين أن الجيش الروسي أقل كفاءة وإثارة للرعب مما توقعته التقديرات الإستخباراتية . وتمكنت القوات الأوكرانية ، المزودة بأسلحة الناتو والمخابرات الأمريكية ، من صد الجيش الروسي وهي الآن تهزمه في هجوم مضاد من شقين ، وذلك بدون التدخل المباشر لقوات أو طياري الناتو .
أوضح الجنرال المتقاعد ( ديفيد بتريوس ) مؤخراً سيناريو محتملاً على شبكة ABC News . قال قائد الحرب الأمريكي السابق : "لإعطائكم فكرة إفتراضية ، سنرد [ على إستخدام روسيا للأسلحة النووية ] من خلال قيادة حلف شمال الأطلسي… في جهد من شأنه القضاء على كل قوة تقليدية روسية يمكننا رؤيتها وتحديدها في ساحة المعركة في أوكرانيا ، وكذلك في شبه جزيرة القرم وكل سفينة في البحر الأسود" .
واشنطن ترى أنها تستطيع تدمير القوة الروسية بالمدفعية والطائرات :
يمكن للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي تنفيذ مثل هذا الهجوم دون إستخدام أية أسلحة نووية . وبالنظر إلى ما شوهد في الحرب حتى الآن ، يبدو أن للمخابرات الأمريكية مساراً قريباً جداً من مكان وجود كل وحدة روسية في أوكرانيا ، ومكان توجهها ، ومعرفة بما يقوله ضباطها . بإختصار ، هذا الهجوم الشامل يمكن تنفيذه ، بالأساس من خلال الضربات الجوية والمدفعية ، وبسرعة كبيرة .
بالطبع هذه الخطة لن تجعل أمريكا تتضرر كثيراً ، بينما من سيدفع الثمن إضافة لأوكرانيا وروسيا ، هي دول أوروبا الشرقية وخاصة دول البطليق ، وبولندا ورومانيا ، وقد يتسع الضرر ليشمل الدول الإسكندنافية ، خاصة فنلندا والسويد والدنمارك ، إضافة لألمانيا .
والمعنى الضمني لهذا الأمر مهم : وهو أن هجوماً ضخماً تقليدياً أمريكياً وحلف شمال الأطلسي ( أي غير نووي ) يمكن أن يعطل آلة الحرب الروسية تماماً في أوكرانيا ، وزيادة على ذلك ، فإن إحتمالية حدوث مثل هذا الهجوم يمكن أن تردع بوتين عن فعل أي شيء قد يحفز حدوثه في المقام الأول .
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع سيرجي سوروفكين عندما كان قائداً للقوات الروسية في سوريا خلال حفل توزيع جوائز رسمية للعسكريين الذين حاربوا في سوريا في الكرملين في نهاية 2017
بعبارة أخرى , فإن التهديد بالتصعيد غير النووي الهائل لحلف شمال الأطلسي قد يردع بوتين عن قصف نووي روسي ضد أوكرانيا . أو بعبارة أكثر إيجازاً ، على الأقل عندما يتعلق الأمر بهذه الحرب، لا تحتاج الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إلى أسلحة نووية لردع روسيا عن إستخدام أسلحتها النووية .
تؤكد حرب أوكرانيا درساً آخر من لعبة أوباما الحربية: وهو أن الأسلحة النووية ليست لها فائدة تُذكَر - هذا إن وُجِدَت لها فائدة على الإطلاق - في ساحة المعركة . في كل من لعبة الحرب والحرب الواقعية ، لن يكون للأسلحة النووية الأمريكية أهداف مناسبة ، وقد لا تنهي الحرب (بل في الواقع قد تزيد من تصعيدها) ، كما أنها ليست ضرورية ، إذ يمكن إنجاز المهمة بإستخدام القوة العسكرية التقليدية .
يمكن للأسلحة النووية ردع العدو عن إطلاق أسلحة نووية أو التدخل في حرب على الإطلاق . فبرغم كل شيء ، ترسانة بوتين النووية هي السبب الوحيد لعدم إرسال الناتو قواته إلى أوكرانيا . لكن بمجرد تجاوز العتبة النووية تتوقف جميع الرهانات .
ماذا يحدث بعد "تبادل القصف النووي" الأول - أي جانب لديه نفوذ أكبر ومن يفوز ، ومن يخسر ، أو ما تعنيه هذه الكلمات - لا أحد يعرف . بالنسبة لجميع الكتب والمقالات المعقدة التي كُتِبَت على مدى عقود حول الحرب النووية وإدارة التصعيد ، فإن الأمر كله عبارة عن ضباب لا يمكن إختراقه . وهذا الإفتقار إلى الوضوح يجعل التخطيط لإستراتيجية عسكرية عقلانية حول الأسلحة النووية أمراً صعباً وربما مستحيلاً تماماً .