مذكرات عبد السلام جلود: "الملحمة"

ILYUSHIN

IL-76MD-90
صقور الدفاع
إنضم
29 سبتمبر 2011
المشاركات
6,910
التفاعل
7,392 49 0



عبد السلام جلود رئيس وزراء ليبيا الأسبق (16 يوليو/تموز 1972 - 2 مارس/آذار 1977). ولد في 15 ديسمبر/كانون الأول 1944.
كان من الضباط البارزين ممن شاركوا في ثورة الفاتح من سبتمبر 1969، وظل طويلاً في مواقع الحكم في بلاده بقيادة معمر القذافي.


اعتُبر الرجل الثاني في ليبيا، فقد تولى مهام ومناصب حساسة في النظام: وزير الداخلية والحكم المحلي، المالية، الاقتصاد والصناعة، عضو الأمانة العامة لمؤتمر الشعب العام (مجلس الرئاسة)، فضلاً عن أن له أدواره في ملفات عربية، منها في أثناء الحرب الأهلية في لبنان.
نشبت في عام 1992 خلافاته مع القذافي، فترك المشهد الرسمي نهائياً. وبعد اندلاع الثورة في 17 فبراير/شباط 2011، غادر ليبيا إلى الخارج.

اعتُبر الرجل الثاني في ليبيا، فقد تولى مهام ومناصب حساسة في النظام: وزير الداخلية والحكم المحلي، المالية، الاقتصاد والصناعة، عضو الأمانة العامة لمؤتمر الشعب العام (مجلس الرئاسة)، فضلاً عن أن له أدواره في ملفات عربية، منها في أثناء الحرب الأهلية في لبنان.
نشبت في عام 1992 خلافاته مع القذافي، فترك المشهد الرسمي نهائياً. وبعد اندلاع الثورة في 17 فبراير/شباط 2011، غادر ليبيا إلى الخارج.
يستعرض في كتاب مذكّراته "الملحمة"، الذي يصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فصولاً عديدة من سيرته، الشخصية والسياسية، ويضيء على علاقات ليبيا الدولية والعربية في زمن القذافي. ويكشف تفاصيل ومعلومات مثيرة، سيعرف القارئ كثيراً منها لأول مرة.
ينشر "العربي الجديد" أجزاءً ومقاطع منه في خمس حلقات.
في الحلقة الأولى، يوضح وقائع تهيئة حركة الضباط الأحرار في الجيش الليبي لثورة الفاتح. ويكتب أن رفيقه معمّر القذافي "تخاذل" تلك الليلة، ونام في غرفته في المعسكر. ويورد أن القذافي في مرّة في الثمانينيات، أدّيا صلاة المغرب معاً، وأمّها القذافي، ولاحظ أن الأخير لا يسجُد جيداً، ولما سأله عن هذا، أجاب: "لا أريد أن أنحني لأحد حتى لربّي".
وفي الحلقة الثانية، يكشف جلود عن صفقة سرّية مع فرنسا، حيث اشترت ليبيا طائرات ميراج مقاتلة وقدّمتها إلى مصر، وأفرحت الرئيس جمال عبد الناصر. ويرى جلود أن نتيجة حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 العسكرية والسياسية كانت كارثية وأسوأ من نتائج الهزيمة في حرب 1967. ويروي جلود تفاصيل مشادة بينه وبين الرئيس اليمني علي عبد الله صالح في مؤتمر لمنظمة المؤتمر الإسلامي في الدار البيضاء.

وفي الحلقة الثالثة، يكشف عن تقديم ليبيا إلى رفعت الأسد، شقيق الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، عند تمرّده على سلطة شقيقه، 200 مليون دولار. وإن جلود نفسه ساهم في ترتيب خروجه من سورية. ويتحدث عن تفاصيل مداولاته في بيروت ودمشق مع القوى اللبنانية والفصائل الفلسطينية والرئيس حافظ الأسد في أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، ويروي أنه تعرض للموت أكثر من 14 مرة.

وفي الحلقة الرابعة، يتحدث جلود عن خلافاته مع القذافي، ويتهمه باتباع سياسة قمعية مع الشعب الليبي، وبأنه كان يتقن استخدام قبيلة ضد أخرى، وجماعة ضد أخرى، ويمارس هذا أيضاً مع أبنائه. ويروي جلود عن نية القذافي الاعتراف بإسرائيل، وأنه كان يرى أزمة "لوكيربي" أكبر تهديد لحكمه.

وفي الحلقة الخامسة، يروي إنه لم يعرف بدعوة الإمام موسى الصدر إلى ليبيا إلا عندما أعلنت وكالات الأنباء اختفاءه، ثم علم أن القذافي طلب من أجهزة الأمن الإتيان له بشخص شبيه بالصدر ليغادر إلى روما. ويسرد جلود تفاصيل تسليم المغرب المعارض الليبي عمر المحيشي، أحد ضباط مجلس قيادة الثورة سابقاً، للقذافي. ويورد وقائع ومواقف خلافية له مع القذافي.
 
مذكّرات عبد السلام جلود: تخاذل القذافي ليلة الفاتح ونام في غرفته بالمعسكر (1-5)

عبد السلام جلود رئيس وزراء ليبيا الأسبق ( 16 يوليو/ تموز 1972 - 2 مارس/ آذار 1977). ولد في 15 ديسمبر/ كانون الأول 1944. كان من الضباط البارزين ممن شاركوا في ثورة الفاتح من سبتمبر 1969. وظل طويلا في مواقع الحكم في بلاده بقيادة معمّر القذافي. اعتبر الرجل الثاني في ليبيا، فقد تولى مهام ومناصب حساسة في النظام: وزير الداخلية والحكم المحلي، المالية، الاقتصاد والصناعة، وعضو الأمانة العامة لمؤتمر الشعب العام (مجلس الرئاسة)، فضلا عن أن له أدواره في ملفات عربية، منها في أثناء الحرب الأهلية في لبنان. نشبت في 1992 خلافاته مع القذافي، فترك المشهد الرسمي نهائيا. وبعد اندلاع الثورة في 17 فبراير/ شباط 2011، غادر ليبيا إلى الخارج.

يستعرض في كتاب مذكّراته "الملحمة"، والذي يصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فصولا عديدة من سيرته، الشخصية والسياسية، ويضيء على علاقات ليبيا الدولية والعربية في زمن القذافي. ويكشف معلومات مثيرة، سيعرف القارئ كثيرا منها لأول مرة. ينشر "العربي الجديد" أجزاء ومقاطع منه في خمس حلقات. وفي الحلقة التالية يوضح وقائع تهيئة حركة الضباط الأحرار في الجيش الليبي لثورة الفاتح. ويكتب إن رفيقه معمّر القذافي "تخاذل" تلك الليلة، ونام في غرفته في المعسكر ونام. كما يورد إن القذافي في مرّة في الثمانينيات، أدّيا صلاة المغرب معا، وأمّها القذافي،

ولاحظ أن الأخير لا يسجُد جيدا، ولما سأله عن هذا، أجاب: "لا أريد أن أنحني لأحد حتى لربّي".



الثورة
في الساعة الثانية والنصف فجر الفاتح من أيلول/سبتمبر 1969، كلفت ضباط صف بالسيطرة على الباب الرئيس لمعسكر باب العزيزية في طرابلس، حيث كان بإمرتي كتيبة الهندسة وقوات من البحرية والدفاع الجوي، وطلبت منهم أن يحتجزوا أيّ سيارة بركابها إذا ما حاولت الدخول إلى المعسكر. وحدث أن وقع حادثان طريفان. الأول، حين جاءت سيارة "فولكس فاغن" نحو الساعة الثالثة فجرًا. اعتقد ضباط الصف أن السيارة هي دورية للمخابرات الحربية، ففتحوا لها الباب، ثم أحاطوا بها من كل جانب ووجهوا نحوها بنادقهم، وطلبوا من السائق الدخول إلى المعسكر. لما دخلت السيارة، اتّضح أن السائق هو جندي من كتيبتي يُدعى "أقصودة" كان قد اشترى السيارة وكان سعيدًا بها؛ ولذا خرج في جولة مع أصدقائه في المدينة ثم عاد إلى المعسكر، فقال له ضباط الصف: "عطكْ دعوة، خلعتنا يا رجل (أي لا سامحك الله لقد أرعبتنا)"، فقهقه الجنود وأخلوا سبيله.

أما الحادث الآخر، فوقع نحو الساعة الثالثة والربع فجرًا، حين عاد ضابط صف من الدفاع الجوي اسمه التومي، وكان مخمورًا، ولمّا لاحظ وجود حركة غير اعتيادية تساءل عمّا يحدث، فقال له رئيس العرفاء خليفة: "غيّر ملابسك بسرعة والبس بدلتك العسكرية. بعد ساعة ونصف سنتحرك لإسقاط النظام". كان ضابط الصف التومي شابًّا مثقفًا، فقال لخليفة: "لن أتزحزح من هنا إلا حينما أعرف مَن على رأس الحركة وما هي أهدافها؟". بالطبع، لم يكن لدينا وقت ولا رغبة في حوار من هذا النوع.

الصورة
شارع في مدينة طرابلس (1965/Getty)

(شارع في مدينة طرابلس (1965/Getty))
جاء خليفة مسرعًا وأبلغني بالأمر وسألني "كيف نتصرف معه. أليس من الأفضل أن نقوم بإعدامه؟ بقاؤه حيًّا قد يتسبّب في إفشاء سر الثورة"، فقلت له: "كلّا. ضعه في حجرة وأقفل الباب". كان لدينا في كتيبة الهندسة نحو عشرة من الجنود المشاغبين وغير المنضبطين والمثيرين للمتاعب، وغالبًا ما كانوا يتغيّبون عن الحضور إلى المعسكر، حتى إنهم لم يشاركوا في التدريب الليلي وظلوا لساعات متأخرة من الليل خارج المعسكر. عاد هؤلاء إلى المعسكر ليناموا ليلتهم، ويبدو أنهم استيقظوا فجأة على وقع تحرك الجنود. وحين علموا أننا سوف ننطلق لتفجير الثورة جاؤوا إليّ وهم يبكون قائلين: "كيف تحرمنا يا ريس عبد السلام من هذا الشرف؟". لقد قام هؤلاء بأهم الأدوار في يوم الثورة.

فجر الثورة، كان على جميع الوحدات أن تكون متأهبة لمغادرة المعسكر في الساعة الرابعة والنصف صباحًا
وبحسب الخطة الموضوعة التي تتضمّن السيطرة على الأهداف الحيوية، كالإذاعات الثلاث في كل من طرابلس وبنغازي والبيضاء، لأهميتها في تلك الفترة في التواصل مع الشعب الليبي، والسيطرة على البريد وقطع الاتصالات وتحييد القوة المتحركة وشلّ حركتها واعتقال رموز النظام من مدنيين وعسكريين وعلى رأسهم ولي العهد ورئيس الوزراء ونيس القذافي، ووزير الدفاع حامد علي العبيدي، ووزير الداخلية أحمد عون سوف. لم يكن لدينا خطة بديلة: فلا بديل عن النجاح. فقد كان على جميع الوحدات أن تكون متأهبة لمغادرة المعسكر في الساعة الرابعة والنصف صباحًا. وفي أثناء صعود الجنود إلى سيارات النقل في الساعة الرابعة تقريبًا، توقف الخويلدي الحميدي أمام معسكري، وكان في سيارة نقل عسكرية مع بعض الجنود، قادمًا من مدينة ترهونة، حيث كانت كتيبتَا مشاة ومدرعات بقيادة الخويلدي وأبو بكر جابر يونس قد توجهتَا من ترهونة صوب طرابلس لتنفيذ الخطة. ولأن حركة الوحدات كانت بطيئة، ونظرًا إلى حماسة الخويلدي، ترك كتيبته في أثناء انطلاقها نحو طرابلس، وفضّل أن يسبق الكتيبة بساعات.

لمّا توقف الخويلدي أمام معسكري، ركب معه السيارة عبد المنعم الهوني، وانطلقا نحو الإذاعة، وكنت قد ذهبت أنا والهوني إلى ترهونة واجتمعنا بالخويلدي وأبو بكر جابر يونس، وأبلغناهما بموعد الثورة وحددنا لهما المهمات بحسب الخطة ثم عدنا إلى طرابلس. في مساء هذا اليوم التقيت عددًا من الضباط الأحرار من مدينة الزاوية غربًا إلى مصراتة شرقًا، مرورًا بمدينة الخمس لإبلاغ أعضاء الحركة بالموعد والخطة والمهمات.

قبيل الثورة بأسابيع، حصل خلاف وشجار بين عمر المحيشي وعدد من الضباط الأحرار في الكتيبة السادسة بمدينة الزاوية. كان السبب الرئيس في هذا الخلاف يكمن في شخصية عمر المحيشي؛ إذ إنه لا يحسن التواصل والحوار مع الآخرين نتيجة أسلوبه الاستفزازي والمنفّر، وأحيانًا المقزز، وفي شخصيته الاستعلائية، وقد جرّ عليه هذا نقمة الكثير من الضباط الأحرار، وكانوا يعاملونه بقسوة وكثيرًا ما حاولوا اتخاذ إجراءات ضده. لكن الأخ معمّر يحميه ويدافع عنه، وكثيرًا ما كان يأتيني ويقول لي يجب ألَّا نتخذ قرار تفجير الثورة قبل التأكد من جذريتها، وكان يقول إن الكثير من الضباط الأحرار لا يملكون الثقافة والوعي لتفجير الثورة، وهذا اعتقاد يشاركه فيه الكثيرون، وكنت أقول له: "إن هذا ليس مفاجئًا لي، وهو ناجم عن تحول الحركة من حركة مدنية، حيث الشروط والمعايير الصارمة، إلى حركة عسكرية تستهدف أكبر عدد من الضباط". ولذلك، كنت قد قاومت وعارضت تحول الحركة إلى حركة عسكرية، ولكن - للأسف - حصل الأخ معمّر على موافقة أغلبية اللجنة المركزية للوحدويين الأحرار.

نساء مع أطفالهن في طرابلس في ليبيا في 3 أيلول/ سبتمبر 1969 (Getty)

(نساء مع أطفالهن في طرابلس في ليبيا (3/9/1969/ Getty))
في هذه الأجواء، وقبيل الثورة، كنت أنا والأخ معمّر في طريقنا إلى الزاوية لمعالجة هذا الخلاف. ثم حدث عند وصولنا إلى منطقة باب قرقارش في جزيرة الدوران أن استوقفتنا دورية للشرطة وطلبوا منّا التعرّف على هوياتنا، فقال لهم الأخ معمّر: "نحن ضباط جيش"، فردّوا بوقاحة: "نحن لا نعرف ضباط جيش. هاتوا بطاقاتكم". فغضب الأخ معمّر وزعق في وجوههم: "احترموا أنفسكم"، ثم دخل معهم في شجار لم ينته إلا بالسماح لنا بمواصلة الرحلة.

حينما كنت في الولايات المتحدة، اشتريت أحد عشر مسدسًا مع ذخائرها واحتفظت بها في منزلي طوال سنتين. ليلة الثورة، وزعت المسدسات بين الضباط الذين كانوا معي. في هذه الليلة حدث أمر غريب ومثير، فحين كان الضباط والجنود يغادرون معسكر قاريونس في بنغازي متجهين إلى الأهداف التي حددناها في الخطة، علمت أن الأخ معمّر "تخاذل" في هذه اللحظة، وترك ضباطه وجنوده وذهب لينام في غرفته بالمعسكر.

في ما بعد - في أواخر الثمانينيات - أدلى الأخ عبد المنعم الهوني بتصريح، من القاهرة حيث كان يعيش، مذكّرا بهذه الحادثة. وحين استمع الأخ معمّر إلى تصريحه، لم ينكر، وقال: "فعلًا ذهبت إلى غرفتي ونمت"، وقال في معرض تبرير هذا "التخاذل": "أنا قائد الأوركسترا، ومهمتي هي ضبط الإيقاع وتنظيم الفرقة وبعد ذلك تنتهي مهمتي".

وصباح يوم الثورة، فوجئنا بأن أوامر صدرت للكتيبة السادسة المتمركزة بمدينة الزاوية بالتحرك إلى طرابلس، وبالتحديد معسكر تاجوراء، وحتى اليوم ظل تحرك الكتيبة لغزًا بالنسبة إلينا: أكان تحركًا لإجهاض الثورة أم عملية نقل روتيني؟ لقد واجهت ليلة الثورة تحدّيَين كبيرين: الأول، كيف يمكن الحصول على ذخيرة؟ فمن دون ذخيرة سيكون موقفنا ضعيفًا وصعبًا في حالة حصول أي مواجهة. لما سحبوا الذخيرة من كتيبتي، أخبرني رئيس عرفاء كتيبتي خليفة إحنيش بأنه يعرف ضابط الشرطة المسؤول عن مخازن الذخيرة، فطلبت من إحنيش أن يتقرّب إليه ويحاول أن يقيم معه صداقة وثيقة، والأهم أن يعرف مكان إقامته.

الصورة
الرئيس الراحل معمر القذافي ورئيس الوزراء الأسبق عبد السلام جلود (Getty)

معمر القذافي وعبد السلام جلود (Getty)
في الساعة الرابعة والنصف لما انطلقنا نحو أهدافنا، انطلق إحنيش مع مجموعة من الجنود صوب منزل ضابط الشرطة، فاصطحبوه إلى مخازن الذخيرة، ثم عادوا إلينا بسيارات محمّلة بكل أنواع الذخيرة، فارتفعت معنويات الجنود، وأخذوا يطلقون طلقات نارية في الهواء ابتهاجًا.

كانت الأهداف التي حُددت لقواتي هي السيطرة على البريد وقطع الاتصالات، والسيطرة على وزارة الداخلية ومديرية الشرطة وجهاز الأمن ورئاسة الأركان، وشلّ القوة المتحركة الموجودة في معسكر قرقارش من دون الدخول في أي صدام معها، بل الاكتفاء بمحاصرة المعسكر ومنع هذه القوة من الخروج. ثم قمنا بزرع ألغام تدريبية حول المعسكر، ووجهنا إلى عناصر القوة المتحركة تحذيرًا صارمًا، بأن أي محاولة منهم لمغادرة المعسكر تعني تفجير الألغام وإبادتهم، ثم قام الجنود باعتقال كبار ضباط الشرطة الذين يقيمون في مركز المدينة.

في هذه الأثناء، فكرت في خطة لتوفير الوقت والجهد. حين اعتقلنا عددًا من الضباط الكبار، وعلى رأسهم مدير الأمن علي عقيلة، كنّا نتصل عبر البريد العام مع بقية ضباط الشرطة الذين لم نعتقلهم؛ ولذا طلبت من العقيد علي عقيلة أن يتحدث إلى زملائه ويبلغهم أن الثورة انتصرت، وأن عليهم ألا يقاوموا حفاظًا على سلامتهم. وبالفعل، حققت الخطة أهدافها.

أمّا التحدي الآخر، فكان يتمثل في السيطرة على الطرق الرئيسة المؤدية إلى القاعدة الأميركية (تُعرف باسم الملاحة)، وهي أكبر قاعدة جوية خارج الولايات المتحدة، وكانت تحتوي على قنابل نووية، ثم الحيلولة دون وصول ولي العهد أو رئيس الوزراء وكبار ضباط الجيش والشرطة إلى القاعدة. كان وصول أي واحد من هؤلاء إلى القاعدة يعني أنه يمكن أن يطلب من حكومة الولايات المتحدة تفعيل المعاهدة العسكرية والتدخل لصالح النظام؛ فضلًا عن إمكانية استغلال إذاعة القاعدة، لتوجيه نداءات بمقاومة الثورة وعدم الاعتراف بها، ودعوة الشرطة والجيش إلى المقاومة والتصدّي لهذا التمرد بحسب مفهومهم.

طلبت من مدير الأمن العقيد علي عقيلة أن يتحدّث إلى زملائه ويبلغهم أن الثورة انتصرت، وأن عليهم ألا يقاوموا حفاظًا على سلامتهم
في الساعة العاشرة والنصف صباحًا، وصلت كتيبة مدفعية من مصراتة تحت إمرة الضباط الأحرار، فاتصل بي عبد الله الحجاز، أحد ضباط الكتيبة، وسألني: "أين ستتمركز الكتيبة؟ وما هو الواجب؟" فقلت له: "تتمركز في منطقة تاجوراء وتصوّب مدافعها في اتجاه القاعدة الأميركية.

وفي حالة إقلاع أي طائرات من القاعدة يجب تدمير 'هناجر' (مخابئ) الطائرات والمهابط. امنعوا أيّ طائرة من الإقلاع". وبالفعل تلقت القاعدة الرسالة وفهم ضباطها مضمونها الصارم، وهكذا تمّ شلّ حركة القاعدة الأميركية منذ ساعات الصباح الأولى. في الظهيرة، ذهبت صحبة الأخ عبد المنعم الهوني لمقابلة ولي العهد حسن الرضا السنوسي الذي كان قد اعتُقل في معسكري بباب العزيزية، وأخذنا معنا جهاز تسجيل، ثم طلبنا منه أن يتنازل طوعًا عن العرش، فوافق.


وهكذا أعلنا عبر الإذاعة تنازل ولي العهد عن الحكم، وكان هذا أمرًا بالغ الأهمية؛ إذ كان الملك إدريس السنوسي في رحلة إلى اليونان، وقد أناب عنه ولي العهد. أتذكر أنني أنا والأخ معمّر كنّا خلال الفترة 1968-1969 نقوم بزيارة بعض المناضلين من القوميين العرب الذين وضعهم النظام الملكي العميل في السجون، وكان من بينهم الدكتور محمود المغربي، وعمر المنتصر، وعز الدين الغدامسي، وعبد السلام الزقعار، وسواهم ممن نسيت أسماءهم، ولكن من دون أن أنسى نضالهم، وقد بنينا معهم علاقات نضالية وشخصية حتى حين كانوا في السجون.

تولى هؤلاء المناضلون مناصب سياسية مهمة في أعقاب الثورة، فأصبح محمود المغربي أول رئيس وزراء، بينما تولى عمر المنتصر مناصب وزارية عدّة، وكذلك الأمر مع الغدامسي الذي تولى حقيبة المالية. قبل الثورة بأشهر قليلة، علمنا أن بعض الضباط الوطنيين الأعلى رتبة منّا، شكلوا تنظيمًا. وعلى الرغم من أن التنظيم كان في بداياته، فإننا - أنا ومعمّر - قرّرنا الاتصال بهم، وأذكر أن من بينهم الرائد المكي أبو زيد، والرائد محمد عزوز، وعرضنا عليهم التعاون وتوحيد الجهود لإنجاز الثورة، وقال لهم الأخ معمّر: "نحن مستعدون لأن نضع حركتنا تحت تصرفكم"

لكنهم رفضوا أي شكل من أشكال التعاون، بل إنهم أنكروا أن يكون لهم "تنظيم". بعد انتصار الثورة بثلاثة أيام، اجتمعت بإخوتي وقلت لهم: "اسمعوا جيدًا ما سأقول. أولًا، أنا منذ يوم الفاتح، لست أخًا لكم. أنا أخ لكل الليبيين. ثانيًا، ستجدون الكثير من الليبيين يتقرّبون منكم ويطلبون صداقتكم فاحذروهم، وحافظوا على صداقاتكم القديمة".

لقد تثقفت وتعلمت أن الحدّ الأدنى في سلّم الأيديولوجيات، هو الوطنية. لا أستطيع أن أنزل إلى العائلة أو القبيلة والعشيرة والطائفة.

الصورة
مسيرة في ليبيا لدعم لدعم إجراءات وإصلاحات الحكومة الثورية الليبية الجديدة في طرابلس  في 1 ديسمبر 1969 (Getty)

مسيرة في ليبيا لدعم لدعم إجراءات وإصلاحات الحكومة الثورية الليبية الجديدة في طرابلس (1/12/ 1969/ Getty)
على هذا النحو، تصرفت مع عائلتي وقبيلتي بقسوة، حفاظًا على إيماني بأنني لكل الليبيين. كما كنت عدوًّا للأجهزة الأمنية، والمستشارين المعيّنين أو المتطوعين، وحذرًا إلى أبعد الحدود منهم، لأنني تعلمت من التاريخ أن هؤلاء جميعًا يشكلون خطرًا على أيّ زعيم أو قائد سياسي؛ إذ إن دورهم هو تخويف القيادي والزعيم من الشعب، وخداعه بفكرة زائفة مفادها أن الجميع يكرهونه أو يقفون ضده، وأنهم وحدهم منْ يكنّون له الحب الصادق، وأنهم "مستعدون للموت من أجله". في صباح يوم "الفاتح" تمّت السيطرة على العاصمة ودار الإذاعة ومحطات الإرسال.

القذافي: لا أريد أن أنحني لأحد حتى لربي.
قبل أيام قليلة من الثورة، كنت قد ذهبت صحبة الأخ إبراهيم أبجاد لاستطلاع منزل مذيع متميّز في الإذاعة اسمه محمد المطماطي، ولذلك ذهبت صباح يوم الثورة إلى منزله ومعي قوة عسكرية وقمنا بإحضاره إلى دار الإذاعة، ثم ربطنا الاتصال مع بنغازي لتمكين الأخ معمّر القذافي من إذاعة البيان الأول للثورة. بيد أن إذاعة البيان تأخرت؛ ولذا سيطر علينا الخوف، وبعد ذلك علمنا أنّ الأخ معمّر ظل في غرفته ولم يتوجه إلى دار الإذاعة من أجل إذاعة البيان الأول، لأنه كان يريد التأكد مِن أنّ الثورة انتصرت وسيطرت سيطرة تامة.

في هذا الوقت، كنّا نعتقد أن الإخوة لم يتمكنوا من السيطرة على مدينة بنغازي والبيضاء وعلى محطة الإذاعة، فانتابنا القلق الشديد. وبعد ذلك علمنا أن القوات، التي تحركت من مدينة درنة إلى مدينة البيضاء قد طلبت من قوة من الجنود بقيادة أحد الضباط تنفيذ مهمة الاستيلاء على الإذاعة في البيضاء. ولكن المجموعة المكلّفة ضلّت الطريق في البداية، بينما كانت بنغازي تنتظر الربط الإذاعي ليذاع البيان في آنٍ واحد من طرابلس وبنغازي والبيضاء. وقد صاغ البيان الأخ معمّر، الذي كان موجودًا في بنغازي، وجعله عامًّا، وهدف إلى إعلام الشعب الليبي بقيام الثورة وانتصارها للشعب والعالم، وليطمئن العالم بأن الثورة عمل داخلي يخص ليبيا والليبيين، وأن الثورة تحترم الاتفاقيات الدولية.

قاومت وعارضت تحول الحركة إلى حركة عسكرية، ولكن - للأسف - حصل الأخ معمّر على موافقة أغلبية اللجنة المركزية للوحدويين الأحرار.
أكدت لنا مجريات الأحداث أن النظام الملكي كان منهارًا، وأن ثورة الفاتح جاءت لتعلن سقوطه فحسب، ودليلي على ذلك ما يلي:

- لم تواجه الثورة أي نوع من المقاومة، ولم تطلق القوة المتحركة، الجيش الموازي، ومعها الجيش، رصاصة واحدة، ما عدا بعض أعمال المقاومة المحدودة في طرابلس. ولذا، عُرفت ثورة الفاتح في الأوساط الشعبية الليبية بـ "الثورة البيضاء".

- رغم إعلان حالة الطوارئ ومنع التجوال، فإن الجماهير رفضت الإذعان للقرار، وخرجت المدن والقرى عن بكرة أبيها إلى الشوارع في كتل بشرية هائلة دعمًا للثورة، وصعدت حشود من الجماهير فوق المدرعات والسيارات، وأخذت تغمر الجنود بالقبلات ومشاعر الحب والتأييد، كما أن الأسر الليبية خرجت لتوزع الطعام بين الجنود.

ملصقات ثورية في ليبيا في 17 ديسمبر 1969(Getty)

(ملصقات ثورية في ليبيا (17/12/1969/ Getty)

وتعود بي الذاكرة إلى حادثة مهمة وقعت في مدرسة سبها الإعدادية. كان أحد مدرسينا، واسمه محمد مصطفى المازق، من مدينة مصراتة، وكان على مستوى رفيع من الثقافة والوعي، وشجاعًا، وكان يرأس في هذا الوقت تحرير صحيفة فزّان، فحوّلها من صحيفة صفراء إلى صحيفة رأي تحظى باحترام القرّاء. وبعد أن أحيل إلى التقاعد، ذهب إلى مدينة بنغازي وأسس "وكالة آسيا للاستيراد"، وهو أول من أدخل بضائع الصين الشعبية إلى السوق الليبية، وكنت أنا والأخ معمّر نزوره في منزله أو في الوكالة، وكان على علم بتنظيمنا؛ ولذا أصبح أحد أكثر المشجعين والمحرضين لنا على الثورة، فكان يقول لنا:"يا أبنائي، الجيش والقوة المتحركة وكبار الضباط بنياشينهم هم عبارة عن هيكل كارتوني. هؤلاء مثل 'الهبي' (الرماد تنفخه يطير)".

كانت الجماهير، وهي تخرج لتأييد الثورة، تشكل صورة رائعة لتلاحم عفوي وصادق
كانت الجماهير، وهي تخرج لتأييد الثورة، تشكل صورة رائعة لتلاحم عفوي وصادق، وكنّا في منتهى السعادة حينما نشاهد من خلال شاشة التلفزيون هذه الصورة الرائعة. وقد سألني أحد الصحافيين الأجانب، لا أذكر من أي وسيلة إعلامية كان: "ماذا تتمنى؟"، فقلت: "أتمنى لو أني مواطن عادي لأعيش هذه اللحظات، لأن الذي يصنع الحدث لا يتذوق حلاوته".

وقد صدرت عن الثورة مجموعة من القرارات المهمة عشية قيامها، كطرد القوات الأميركية والبريطانية من ليبيا، وطرد الجالية الإيطالية، والبدء الفوري بالمفاوضات مع شركات النفط؛ لأننا كنّا نؤمن بضرورة استغلال زخم الثورة وتحقيق المفاجأة في هذه المعارك الثلاث.

وبعد انتصار الثورة بأسابيع، تأسس بصفة عفوية تنظيم سياسي شعبي اسمه "التنظيم الشعبي"، وكان نتاجًا لتنادي بعض الوطنيين والقوى الثورية والواعية والفاعلين الاجتماعيين. كان التنظيم حركة شعبية ذاتية بامتياز، تكونت في الشوارع والأحياء في أهم المدن والقرى، واعتمد التنظيم على إمكانيات أفراده المادية. ومع أنه ضعيف تنظيميًا، فإنه كان فعالًا جدًّا وأدى دورًا رائدًا في احتضان الثورة، ووفّر لها عمقًا جماهيريًا

ولم يعتمد على "قوة الثورة" بل على قوته وإمكانياته، فكان تنظيمًا دعويًا فاعلًا. ثمّ طورت الثورة هذا التنظيم وأصبح جزءًا من مرحلة بناء "الاتحاد الاشتراكي" عام 1971. كان قرار تأسيس الاتحاد الاشتراكيقرارًا "فوقيًا" في مرحلة انتصار الثورة، واعتمد على إمكانيات الثورة المادية والمعنوية، وقد اعتُمِدت معايير دقيقة في اختيار أعضائه، وكانت مهماته سياسية ودعوية، فأصبح تنظيمًا منضبطًا، وظل بعيدًا عن التورط في قمع الجماهير؛ لأننا اعتمدنا أسس بناء الأحزاب ومعاييره. وهكذا أصبح الاتحاد الاشتراكي هو "واجهة الثورة" السياسية والدعوية، وبات لديه رؤية جماعية، وانتقل سريعًا من مرحلة التعلق والإعجاب بالأشخاص إلى مرحلة الالتزام والإيمان بأيديولوجية الثورة.


ثمّ تنبه الأخ معمّر لهذا الأمر، وشعر بأنه سيشكل عائقًا أمام تحوله إلى دكتاتور وشيخ قبيلة؛ ولذا قام بحله في نهاية عام 1972، وأسس محله ما سوف يعرف باسم "حركة اللجان الثورية"، وهي حركة مفتوحة لكل مَن هبّ ودبّ، وكان القصد منها أن تصبح أداة في قمع الجماهير وتخويفها، وجهازًا للتطبيل والتزمير.

عبد السلام جلود يلقي خطابا (Getty)

(عبد السلام جلود يلقي خطابا (Getty)
في الأيام الأولى للثورة، ذهبت إلى مدينة بنغازي للاجتماع بالأخ معمّر. قرّرنا أن نستقل طائرتين تابعتين لوزارة الزراعة لرش المُبيدات. الطائرتان صغيرتان ويمكنهما أن تقلَّا شخصًا آخر إضافة إلى الطيّار. اتجهنا من بنغازي إلى منطقة الأبيار ومنها إلى البيضاء لتفقّد الأوضاع في هذه المناطق، وكان هذا من وجهة نظري قرارًا متهورًا وقاتلًا؛ إذْ كان يمكن إسقاط الطائرتين ببندقية.

لما وصلنا إلى منطقة الأبيار، لاحظنا في عيون بعض الضباط ووجوههم ممّن هم أعلى رتبة منّا، نظرات التآمر، وهذا ما لاحظناه في البيضاء. لقد رأينا في عيونهم علامات بدايات التآمر على الثورة في أيامها الأولى. كان من السهل جدًّا القبض علينا، وكان هذا كافيًا لإفشال الثورة. بيد أن العناية الإلهية شلّت تفكيرهم، وأدخل الله الرعب والخوف في قلوبهم؛ وهذا أكبر دليل على أن الله أراد أن ينتصر للشعب الليبي، وما نحن سوى "أداة".

عدت مع الأخ معمّر إلى طرابلس بعد هذه الجولة، وكان مجلس قيادة الثورة قد أصدر، في 2 أيلول/ سبتمبر 1969، قرارًا بتعيين سعد الدين أبو شويربرئيسًا للأركان. كان أبو شويرب يتمتع بمواصفات تجعلنا نختاره لهذا المنصب؛ فهو إنسان طيب القلب وليس له أي مطامع في السلطة. وبوصفه عسكريًا محترفًا، فقد كانت له سمعة طيبة في أوساط الجيش. بيد أننا اكتشفنا، بعد إصدار القرار، أن أبو شويرب لم يكن في ليبيا. كان في رحلة إلى إسبانيا وعاد منها يوم 17 أيلول/سبتمبر، أي بعد سبعة عشر يومًا من الثورة. رفض الأخ القذافي تعيينه على رأس مجلس قيادة الثورة، كما رفض قرار ترقيته إلى رتبة عقيد.

وهكذا بدأ معمّر في وقت مبكر رحلة الخبث والخداع؛ فقد كان يتقمص شخصية الزاهد والملاك لإخفاء شخصيته الحقيقية بوصفه شيخ قبيلة، ورجلًا سلطويًّا من طراز الشخصيات المتعطشة للمال والسلطة.


في هذا الوقت، كان جمال عبد الناصر يتصل بنا في مجلس قيادة الثورة؛ ويطالبنا بإعلان معمّر القذافي رئيسًا للمجلس، وكان يقول لنا صراحة: "إذا لم تعلنوا هذا، فسوف يكون هناك خطر على الثورة، وقد تتعرض للسرقة". قرّرنا، أخيرًا تحت ضغط عبد الناصر، الإعلان بأن معمّر القذافي هو رئيس مجلس قيادة الثورة وترقيته إلى رتبة عقيد، وكتبت بنفسي نصّ خبر الترقية وتعيينه رئيسًا لمجلس قيادة الثورة في 8 أيلول/سبتمبر 1969، ثم سلّمت النصّ إلى الإذاعة.

بعد انتصار الثورة بأسابيع، تأسس بصفة عفوية تنظيم سياسي شعبي اسمه "التنظيم الشعبي"، وكان نتاجًا لتنادي بعض الوطنيين والقوى الثورية والواعية والفاعلين الاجتماعيين
في الأسابيع الأولى للثورة، كنّا نمارس مهماتنا من مبنى وكالة الأنباء الليبية والإذاعة كذلك. في هذا الوقت، بدأ بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة يمارس ضغوطًا من أجل الإعلان عن أسماء أعضاء المجلس، وكان الأخ معمّر يقاوم هذه الضغوط مُعللًا الأمر بشتى الأسباب، حتى قال صراحةً ذات يوم: "من مصلحة الثورة ألا نعلن الآن عن أسماء أعضاء المجلس"، لكن لم يكن أحدنا مقتنعًا بكلام معمّر. وفي حين كنت في زيارة سريعة لفرنسا، دخل الأخ معمّر إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية بسيطة، فبادر أعضاء المجلس إلى الإعلان عن أسماء "أعضاء مجلس قيادة الثورة"، وكان هذا بمبادرة من إمحمد المقريف.

في 16 كانون الثاني/يناير 1970، أصدر مجلس قيادة الثورة قرارًا بتشكيل الوزارة برئاسة الأخ معمّر، وتوليت حقيبة وزارة الداخلية. كان أكبر تحدٍّ واجهني هو العمل على تأسيس ثقافة وعلاقة جديدة بين المواطن والشرطة، وكيف تقوم مؤسسة الشرطة بمهماتها بصفتها "شرطة الشعب"، وكيف نقنع المواطن بأنّ الشرطة هي "شرطته"، بخاصة أنّ القيادة شنّت حملة إعلامية على النظام الملكي العميل، وكنّا نصفه بأنه "نظام بوليسي".

وكذلك فعلت وسائل الإعلام، بحيث اعتقد المنتسبون إلى الشرطة أننا نقصدهم، وأدى هذا الوضع إلى تدنّي معنوياتهم، بالتلازم مع ظهور السلبية في أعمالهم، بل كانوا يتوارون عن الأنظار، فقرّرت أن أنظّم عدة لقاءات في مناطق كثيرة، فقلت لهم: "حينما تتحدث القيادة ووسائل الإعلام عن الحكم البوليسي، فنحن لا نقصد المنتسبين إلى الشرطة

وإنما نقصد السياسة التي كان النظام الملكي العميل ينتهجها، أمّا أنتم، فتنفذون الأوامر لأنكم في النهاية مواطنون، ولو أنكم كنتم في الجيش لقمتم بالثورة". والمثل الشعبي يقول: "الذي سبقه أخوه في المعركة ما ذل". ورغم مشاغلي، فقد أشرفت بنفسي، بمعونة وكيل وزارة الداخلية أحمد فوزي إهلال - وهو عقيد في الجيش كنت تحت إمرته في مدرسة الهندسة، وكان يتمتع بقدرٍ عال من سمو الأخلاق والمعرفة والعلم - على اختيار الملابس الجديدة للشرطة.

في إثر ذلك، اقترح الأخ معمّر عليّ أن أتولى وزارات الاقتصاد والخزانة والصناعة، فرفضت، لكنه ظل متشبثًا بمقترحه هذا، حتى إن الرئيس عبد الناصر اتصل بي مرتين، طالبًا مني أن أتولى الوزارات الثلاث نظرًا إلى أهميتها وحيويتها، وقال لي حرفيًّا: "يا عبد السلام، الثورة هي تغيير حياة الناس ورفع مستواهم المعيشي والحياتي. أنت الوحيد الذي يستطيع أن يفعل ذلك".

وتحت ضغط المطالبات المتكررة من الأخ معمّر وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة، وعبد الناصر، قبلت على مضض، فطلبت من النقيب الريفي علي الشريف، الذي كان يشغل منصب الأمين العام لمجلس قيادة الثورة، أن يتصل بوكلاء الوزارات الثلاث ويطلب منهم تجميع كل الموظفين والعاملين في قاعة مركز البحوث الصناعية بمنطقة طريق الشط، ثم ذهبت للالتقاء بهم، وقلت: "جاءت الثورة لتحرّر طاقاتكم وقدراتكم وإبداعاتكم كمواطنين أحرار، ولتبدأوا رحلة بناء بلدكم. إن الثورة هي التي منحتكم هذه الفرصة.

من الآن فصاعدًا، يجب على كل فرد منكم، أن يشعر أنه 'معمّر' و'المحيشي' و'أبو بكر يونس' و'المقريف'. يجب أن تتحرروا من الخوف، وأن تثوروا على البيروقراطية.

وهذا كله يتطلب منكم أن تتمتعوا بثقة عالية في النفس. هذه الثورة ثورتكم، وإذا ما وقع أحد في أي أخطاء، فأنا أتعهد أمامكم أنني من سوف يتحمل المسؤولية. تصرفوا دون خوف واعملوا بنشاط". وقلت: "أنا أفرّق بين الخطأ المقصود الذي يرقى إلى درجة التآمر، والخطأ المصاحب للعمل والحركة"، ثم وقّعت أمامهم قرارًا كنت قد أعددته. بعد الثورة مباشرة، أصبح الدكتور محمود المغربي رئيسًا للوزراء خلال فترة قصيرة، وقد حاولنا أن تكون الوزارات من نصيب الوطنيين والمناضلين ضد الملكية وأصحاب الكفاءات والقدرات العلمية

وكان من بين الوزراء في الوزارة التي شكّلتها، الدكتور علي عميّش والدكتور عبد الرحيم بالو، ومنصور الكيخيا، كما أن صالح مسعود بويصير الذي عين وزيرًا للخارجية كان عضوًا في مجلس النواب في العهد الملكي وحاول مع مجموعة من النواب المعارضين سحب الثقة من حكومة الملك، فجرى إلقاء القبض عليهم، إلا أن بويصير هرب إلى مصر متنكرًا في زيّ امرأة، ثم عاد بعد الثورة إلى ليبيا.

ثم تولى المنصب الأخ معمّر القذافي، فأصبحت نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للداخلية. في هذا الوقت، قررت قضاء فصل الصيف في المصيف البلدي، وهو مصيف شعبي يعرفه كل سكان طرابلس، وكانت دورات المياه والحمامات مشتركة، واحدة للرجال وأخرى للنساء. كنت مع أسرتي في المصيف عام 1970 وكان رواد المصيف من بسطاء الناس والمواطنين العاديين ورجال الشرطة والجنود والعمال وعدد قليل من الكوادر.

ذات يوم جاءتني مجموعة من المصطافين، وقال هؤلاء: "نحن نشعر بإحراج وحتى إهانة حين نشاهد عبد السلام جلود وزوجته وأولاده وبناته، ينتظرون، في الطابور، دورهم لاستخدام هذه المرافق. نريد أن نتبرع بمبلغ من المال لنبني لك ولأسرتك دورة مياه وحمام مستقلين"، فقلت لهم: "أنا أشكر لكم مشاعركم، ولكنني أشعر بسعادة وراحة نفسية حينما أقف في الصف أنا وأسرتي وننتظر دورنا مثلكم".

وهكذا كنت كل عام أقضي الصيف وسط الناس. في مطلع الثمانينيات، وحين بدأت بوادر الخلافات مع الأخ معمّر، أخذ معمّر يشعر بالضيق وربما الغيرة من وجودي وسط الناس، وكان يقول لي: "يا عبد السلام، خلينا نبني لك استراحة خاصة على شاطئ البحر في أي مكان ترغب فيه"، فرفضت الفكرة من أساسها؛ لأنني كنت أدرك أنه يريد ضرب صدقيتي، ولأن كان لمعظم الضباط الأحرار والوزراء والقيادات الشعبية وقيادات اللجان الثورية إمّا استراحات خاصة وإمّا كانوا يقيمون في المدن السياحية.

ويبدو أن العناصر الفاسدة كانت تنقل له صورة زائفة وكاذبة عن وجودي في هذا المصيف، وأن عبد السلام يقضي سهرات راقصة ويشرب الخمور مع المصطافين، حتى إنه فاجأني، كما فاجأ رواد المصيف ذات ليلة، بزيارة غير متوقعة، فوجدني مع المصطافين، بعضنا يلعب طاولة الزهر وآخرون يلعبون "الكوتشينة" (الورق) ونحن نتناول الشاي. أمضى معمّر معنا نحو ساعتين ثم غادر. في اليوم التالي، اتصل بي هاتفيًّا وهو يشتم "العناصر الفاسدة".

وقال: "هؤلاء أعطوني صورة زائفة عنك وعن رواد المصيف"، فقلت له: "يا أخ معمّر أنا أشعر بالأسف لحالك حين تعتمد على هؤلاء الفاسدين وتستمع لأكاذيبهم". في عام 1983، قرر الأخ معمّر هدم المصيف وإزالته، وكان هذا مثار حيرة وتساؤل من كل سكان طرابلس تقريبًا، لم يكن أحد يعرف أي سبب مقنع لهذا التصرف.

في أواخر الثمانينيات، كنت أنا ومعمّر في منطقة "جهنم" التي تقع جنوب شرق مدينة سرت، وقد عُرفت بهذا الاسم لارتفاع درجة حرارتها في فصل الصيف. وبينما كنّا مع بعض نتجاذب أطراف الحديث، ونستعيد ذكريات الماضي،

جاء وقت صلاة المغرب، فقمنا للصلاة، وأَمّنا معمّر، وكنت خلفه قليلًا، فلاحظت أنه لم يسجد بشكل صحيح، فقلت له: اسجد صح، يا رجل. ..

لكنه لم يُعر طلبي أيَّ اهتمام. وبعد الصلاة قال لي: أنا لا أريد أن أفقص لأحد، حتى لربي، أي إنني لا أريد أن أنحني لأحد حتى لربي.
 
مذكرات عبد السلام جلود: حرب أكتوبر هزيمة عسكرية وسياسية أخطر من نكسة 1967 (2 -5)

كنت أول عضو في قيادة الثورة يقابل الرئيس جمال عبد الناصر. كان ذلك بعد نجاح ثورة الفاتح بشهر واحد فقط، أي في تشرين الأول/أكتوبر 1969. ذهبت إلى مصر في طريقي إلى السودان للمشاركة في احتفالات الثورة التي قادها النميري.
توجهت للقاء عبد الناصر فور وصولي مطار القاهرة، وكنت أعتقد أنه سوف يستقبلني في المكتب الرئاسي.

توقفت السيارة التي تقلّني من المطار أمام منزله. نزلت من السيارة وفوجئت بوجود الرئيس قرب باب السيارة. احتضنني بقوة، وكنت أرتدي ملابسي العسكرية.

ولهول المفاجأة، سقطت "طاقيتي" العسكرية وانزلقت عصاي من يدي. كان ترحيبه حارًّا ومفعمًا بالتقدير والمحبة.

على الفور عقدنا اجتماعًا مطولًا لم يحضره أحد سوانا. قلت للرئيس عبد الناصر: "يقول لك الأخ معمّر والإخوة في القيادة، ماذا نريد لأجل محاربة اليهود؟"، فردّ عليّ بسرعة: "نريد طائرات قاذفة مقاتلة".


صدمني الردّ؛ لأنني كنت أؤمن بأنّ التوازن مع العدو، هو توازن اجتماعي يتمثل في تحرير الإنسان العربي سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا، وبأنّ الصراع هو بين إرادتين، إرادة منتصرة وإرادة مهزومة، وأن تغيير الواقع العربي يأتي من انتصار الثورة.

ومع ذلك قلت له: "أنا ذاهب لشراء طائرات الميراج من فرنسا بعد عودتي من السودان، فأرجو أن تجهز لي طاقمًا فنيًّا متخصّصًا يضع مواصفات الطائرة ليتولى الجانب الفني من المفاوضات لعقد الصفقة، وهُم سيكونون ضمن الوفد الليبي"، فضحك الرئيس عبد الناصر وقال لي حرفيًّا

"أنتم شباب صغار لا تفهمون السياسة.

مش ممكن الميراج تكون عندنا وعند العدو". لكنني أصررت على موقفي وأكدت له بأنني سأذهب على رأس وفد إلى فرنسا لأبحث هذا الأمر. ولما عدت من السودان، وجدت الرئيس عبد الناصر قد عيّن فريقًا فنيًا ممتازًا.

وبالفعل ذهبت إلى فرنسا في زيارة سرية على رأس وفد ليبي، بجواز سفر عادي، وباسم مستعار تحت غطاء "وفد زراعي". بدأت المباحثات بيني وبين وزير الدفاع ميشيل دوبريه، واكتشف الفرنسيون أنّ الفريق الفني المرافق لي، والذي وضع المواصفات لكل الأجهزة التي يمكن أن تضاف إلى الطائرة، هو فريق مصري؛ ولذا مازحني الفرنسيون قائلين: "جلود. عندكم فنيون ممتازون ويملكون خبرة كبيرة بطائرات الميراج؟".

عبد السلاك جلود مع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر

(عبد السلام جلود مع جمال عبد الناصر في القاهرة 1970)
كانوا يريدون أن يقولوا لي: "نحن نعرف أنهم مصريون". كنت أقيم في فندق من الدرجة الثالثة، وكان ضباط المخابرات الفرنسية يقومون بالتغطية على الوفد بتغيير الفنادق.


كانت الحكومة الفرنسية والرئيس جورج بومبيدو شجاعين، وكانا يطلبان الحفاظ على سرّية المباحثات حتى توقيع الاتفاق لخوفهم من الضغوط الإسرائيلية والأميركية، وكان إقدام الرئيس بومبيدو على عقد هذه الصفقة يعبّر عن شجاعة غير عادية.


كانت الحكومة الفرنسية والرئيس بومبيدو شجاعين، وكانا يطلبان الحفاظ على سرّية مباحثات صفقة طائرات ميراج لمصر حتى توقيع الاتفاق لخوفهم من الضغوط الإسرائيلية والأميركية

كان من بين أعضاء الوفد الفني العقيد محمد التهامي والعقيد دله إبراهيم من سلاح الجو الليبي، وكان هناك مستشارون قانونيون، من بينهم المستشار محمد عزوز، ثم محمد كامل حسن المقهور الذي شغل منصب مستشار المحكمة العليا خلال الفترة 1969-1971 ومندوب ليبيا الدائم في الأمم المتحدة في عام 1972.

فوجئت يوم 31 كانون الأول/ ديسمبر 1969 بإصرار الجانب الفرنسي على التوقيع فورًا، وإلا فسوف ترتفع الأسعار بدايةً من الأول من كانون الثاني/ يناير بنسبة 14 في المئة. عندها ألح عليّ الوفد الليبي على التوقيع، لكنني رفضت، وأذكر أن العقيد التهامي غضب وقال لي حرفيًّا: "ما بك يا رائد عبد السلام أتعتقد أننا نريد شراء دجاج؟"؛ ذلك أنني كنت أعتقد أنّ الأسعار لا تزال مرتفعة. طلبت لقاء وزير الدفاع دوبريه. وبالفعل، حضر إلى وزارة الدفاع بعد قطع احتفاله برأس السنة.

قلت له: "لا فرق بين طائرات الميراج والميغ. يمكننا أن نذهب إلى موسكو لشراء طائرات الميغ، ولكن الموضوع سياسي؛ عادة حينما تحصل ثورة تقدمية تتجه إلى موسكو، وحينما يحصل انقلاب يميني يتجه إلى واشنطن، ونحن بصفتنا شبابًا عربًا، نمثل شباب أمتنا. لقد قرأنا الكثير عن الثورة الفرنسية، ونؤمن بالوحدة العربية كما يؤمن شارل ديغول بالوحدة الأوروبية.

لدينا حساسية خاصة بالنسبة إلى استقلالية قرارنا، ولدى ديغول الشعور نفسه. نحن نقدّر ديغول والديغولية لرفضه الهيمنة الأميركية، ولإيمانه باستقلال أوروبا عن أميركا، وهذا هو الذي دفع ثورة الفاتح كي تتجه إلى فرنسا. لكل هذا، لا يمكنني التوقيع لأننا لم نتفق على الأسعار ولا على مدة التسليم ولا على مدة الدفع".


وافق وزير الدفاع على تأجيل التوقيع، ثم قمنا في 10 كانون الثاني/يناير 1970 بالتوقيع على الاتفاق. كان من المفروض أن يسلّمنا الجانب الفرنسي 13 طائرة ابتداءً من السنة الأولى، لكنني تمكنت من زيادتها إلى 28 طائرة، كما تمكّنت من خفض الأسعار بنحو 22 مليون دولار، وزيدت مدة الدفع من 4 إلى 6 سنوات، وعلى أن يستمر الدفع من دون أي زيادة لمدة سنتين إضافيتين بعد نهاية التسليم، وذلك لنضمن استمرار تأمين قطع الغيار والمساعدة الفنية والتدريب. كانت قيمة الصفقة تزيد على 120 مليون دولار.

وهي أكبر صفقة تبرمها فرنسا، وتتضمن 110 طائرات "ميراج-5" و"ميراج-3". طلبت من وزير الدفاع الفرنسي أن يعطيني رسالة تضمن فيها الوزارة أن الأسعار المتفق عليها هي نفسها التي يشتري بها الجيش الفرنسي. وبالفعل، أعطاني الرسالة.


أُقيل مدير المبيعات العسكرية الفرنسي، ثم قُتل.

وفي هذه الأثناء، تمّ تهريب الزوارق الإسرائيلية التي بنتها فرنسا لإسرائيل من ميناء طولون. وقبل توقيع الاتفاق بأيام، نشرت مجلة باري ماتش (Paris Match) صورة لي وأنا أغادر فندق "لوتيسيا" بمنطقة "سان جرمان"، فقرّرنا الإسراع في توقيع الصفقة قبل أن ينتشر الخبر؛ لأن الحكومة الفرنسية كانت تخشى الضغوط الأميركية والإسرائيلية إذا ما تمّ الكشف عنها.

وحدث أنني ذهبت إلى مصر وقابلت الرئيس عبد الناصر فقلت له: "شن رأيك يا ريس؟" فضحك. كان عبد الناصر سعيدًا بالصفقة.

لقد كانت بالنسبة إليه حلمًا، فقال لي غاضبًا: "أنتو بتذلوني بقا؟ (أي أنتم تريدون إذلالي)".


كان عبد الناصر سعيدًا في قرارة نفسه ولكن كبرياءه جعله يرد علي بهذه الطريقة.

كان من المفروض أن تحدث الصفقة تحولًا هائلًا في مجرى الصراع العربي - الصهيوني، فقد رفعت معنويات الأمة العربية كلها، وعبّرت عن قدرة ثورة الفاتح على تغيير الموازين والمعطيات.

ولأن القتال بين إرادتين، إرادة مُصمّمة على النصر وهي الإرادة الصهيونية، والإرادة العربية المهزومة، فإن الصفقة لم تحدث الأثر المأمول.

لكنها كسرت احتكار العدوّ الصهيوني للسلاح الغربي.

في هذا السياق، أذكر أنني كنت في زيارة للقاهرة، وكان لدي موعد على العشاء مع محمد حسنين هيكل، وفي أثناء العشاء، فاجأني هيكل بالقول: "بصراحة أنا زعلان منكم قوي. لماذا تكتبون كتابًا - وكان يقصد الكتاب الأخضر الذي كتبه الأخ معمّر - كان عليكم أن تجمعوا خطب عبد الناصر وتضعوها في كتاب"، فقلت له: "يا أخ هيكل نحن في ليبيا لا ننظر إلى عبد الناصر كما تنظرون أنتم إليه في مصر.

علاقتنا بعبد الناصر تختلف عن علاقتكم به، نحن جيل جديد من الثوريين الذين يرون أنهم جزء من الظاهرة الناصرية، ولكنهم يمتلكون طريقًا خاصًا لتجديد الفكر القومي".

زيارة عبد الناصر ليبيا و"مشروع روجرز"

كانت الجماهير العربية في ليبيا متعطشة ومتلهفة للقاء الرئيس جمال عبد الناصر. في 27 كانون الأول/ديسمبر 1969، زار عبد الناصر ليبيا، فخرجت الجماهير الليبية في بنغازي عن بكرة أبيها في كتل بشرية هائلة. كانت تتجه من مطار بنينا إلى مقر الإقامة، وكذلك في طرابلس من المطار إلى قصر الضيافة. كنت أنا والأخ معمّر وعبد الناصر نستقل سيارة "لاندروفر صالون مكشوفة"، وكان الموكب يتوقف باستمرار أمام الكتل البشرية الهائلة المتدفقة.


كان عبد الناصر يسألنا: "كم عدد سكان ليبيا؟"، فنقول له: "5 ملايين" فكان يقول: "هذا غير ممكن. ليبيا 20 مليونًا. الذين حضروا لاستقبالي في بنغازي أكثر من 5 ملايين، والآن أمامي أكثر من 8 ملايين". عقدنا الأخ معمّر وأنا مباحثات، أو الأدق أجرينا حوارًا، مع عبد الناصر، وشرحنا له تصوراتنا عن الثورة الشعبية التي نريد تفجيرها، وتحويل ثورة الفاتح الطليعية إلى "ثورة شعبية

كان الخلاف الوحيد مع عبد الناصر يدور حول "مشروع روجرز"

في نهاية الحوار قال عبد الناصر: "من الممكن ألّا أعمل ثورة شعبية مثلكم بالضبط؛ ولكنني كنت أريد أن أضرب الأجهزة وأعود إلى الشعب، لكن اليهود والأميركيين سبقوني، ولم يتركوا لي هذه الفرصة - وكان بذلك يشير إلى عدوان 1967 - وأن أعيد بناء الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي من جديد، وكنت سأعلن شيئًا قريبًا مما تفكرون به".

لما خرجنا من الاجتماع، كان عبد الناصر يمسك بيدي وبيد الأخ معمّر، وأريد هنا أن أشير إلى أن روح عبد الناصر الثورية قد عادت إليه، وبدا صوته مجلجلًا كما كان في الخمسينيات والستينيات، وتجلى هذا في خطاباته التي ألقاها خلال زيارته. لقد أعطته ثورة الفاتح أملًا جديدًا. خلال الزيارة بدا عبد الناصر سعيدًا إلى أبعد الحدود بالزيارة وباستقبال الجماهير الليبية له. وحدث خلال الزيارة أن الصهاينة نجحوا في تفكيك الرادارات المصرية في منطقة البحر الأحمر، وأنهم قاموا بنقلها إلى فلسطين المحتلة، وكان المسؤول عن منطقة البحر الأحمر أحمد إسماعيل.

ولما علم عبد الناصر بالخبر، اتصل هاتفيًّا بالقاهرة، وهو في حالة ثورة الغضب، وكنت أنا والأخ معمّر إلى جواره، وأصدر أمرًا بإعدام أحمد إسماعيل، وكان يقول: "أعدموه، أعدموه".

كان الخلاف الوحيد مع عبد الناصر يدور حول "مشروع روجرز" في تشرين الثاني/نوفمبر 1969، قام الأخ معمّر بزيارة القاهرة وبغداد. كانت ليبيا والعراق من أشدّ معارضي المشروع. حاول حزب البعث في العراق استغلال هذا المشروع، لتصعيد الهجوم على عبد الناصر، ليس من منطلق "معارضة المشروع"، بل من منطلق "المزايدة على عبد الناصر"؛ لأنه انتزع زعامة القومية العربية، وكنّا نعي هذا الجانب من معارضة العراق لمشروع روجرز، حين سعى لجرّنا إلى المواجهة مع عبد الناصر.

اتصل الأخ معمّر بالرئيس عبد الناصر وقال له: "يا ريس نحن جيل جديد، ونحن لا نشكّ مطلقًا بالتزامك القومي بتحرير فلسطين، وأن قبولك لمشروع روجرز ليس استراتيجيًّا، وإنما هو عمل تكتيكي لإعادة بناء القوة وإنشاء حائط الصواريخ. ومع تأكدنا من هذا، إلا أننا، وأرجو أن تتفهم ذلك، لا نستطيع
إلا أن نرفض المشروع". كان أكبر تحدٍّ واجهنا في هذا الوقت، هو كيف نرفض مشروع روجرز من دون أن نسيء إلى عبد الناصر.

هذه هي المعضلة. وحينما اجتمعنا في مجلس قيادة الثورة، قررنا رفض المشروع وإصدار بيان بذلك، وقد قمت بصياغة البيان بمنتهى الدقة والقوة، وفي الآن ذاته بحرص شديد على عدم الإساءة إلى عبد الناصر، حتى لا يدخلنا ذلك في خلاف أو مواجهة معه. قبل إعلان البيان، اتصلنا بعبد الناصر لإبلاغه بصيغة البيان حتى لا يفاجأ به.

وحينما كان عبد الناصر يقوم بزيارته لليبيا أجرينا معه حوارات مكثفة حول جملة من القضايا، وفي أحد هذه الحوارات قال عبد الناصر: "يا معمّر، يا عبد السلام.


لقد كان الملك فيصل ابن حلال، كان أول ما فاجأني، حين وقف في مؤتمر الخرطوم وأعلن عن دعم مصر بعشرين مليون دولار". في الواقع، تمنيت ألا أسمع هذا الكلام من عبد الناصر.

كنت أعلم أن عبد الناصر كان مضطرًا إلى دفع ثمن غالٍ، هو سحب القوات المصرية من اليمن، والتخلي عن ثورة اليمن. في مؤتمر الخرطوم، رغم "اللاءات الثلاث"، تمّ التخلي عن الثورة، وجرى رفع شعار "وحدة الصف" بدلًا من "وحدة الهدف". وبدأت بعض القوى الراديكالية في الوطن العربي، وعلى رأسها "الجناح الماركسي" في حركة القوميين العرب، في معارضة عبد الناصر، واتهامه بالتخلي عن الثورة.

وفاة عبد الناصر ومرحلة السادات

في 28 أيلول/ سبتمبر 1970، أذاعت وكالات الأنباء نبأ وفاة عبد الناصر المفاجئة. عند سماعنا النبأ، سافرنا على الفور أنا والأخ معمّر ومعنا عدد من أعضاء القيادة إلى القاهرة. كان وقع الوفاة كالصاعقة علينا. كانت فاجعة كبرى أو كارثة قومية.

لقد أكدت الأحداث بعد ذلك أنها كانت بالفعل فاجعة قومية. كنّا نعتبر عبد الناصر هو الأب الروحي لحركتنا، على الرغم من أننا لم نتصل به قبل تفجير الثورة. كنّا نعرف همومه بعد هزيمة عام 1967، ولم نكن نرغب في إشغاله بهمومٍ أخرى، كما أننا كنّا نحرص على أن تكون الثورة بمنزلة مفاجأة سارة له.

كان عبد الناصر، على المستوى الشخصي والعاطفي، يعني الكثير لنا؛ أما على المستوى القومي، فقد كان لنا بمنزلة مُلهم للثورة والقومية من عدن إلى الجزائر، ومن المحيط إلى الخليج.

جنازة جمال عبد الناصر في القاهرة

جنازة عبد الناصر في القاهرة (اكتوبر 1970/ Getty)
بعد انتهاء مراسم الدفن، وقبل أن نركب السيارات، أمسك السادات بيدي شعراوي جمعة وسامي شرف، وقال لنا: "يا معمّر، يا عبد السلام، خلي شعراوي وسامي شرف يضعوا يدهم في يدي. ونكمل على طريق عبد الناصر". كان تعيين عبد الناصر للسادات نائبًا له بمنزلة مفاجأة لنا.


كنّا نعرف السادات، فقد زار ليبيا في طريقه لحضور مؤتمر القمة العربية في المغرب. كانت هزيمة حزيران/يونيو 1967 كصاعقة نزلت على رأسه، وقد صدق حسين الشافعي حين قال: "عبد الناصر مات عام 1967". استغل السادات، وزوجته، ضعف عبد الناصر في هذا الوقت، وقدّما نفسيهما على أنهما يحرصان ويعطفان عليه. قيل لي إن عبد الناصر كان يحب الجبنة المعصورة، وإن القائمين على خدمته في الفترة الأخيرة.

كانوا كلما أحضروها له يكتشفون أنه في بيت السادات، فكانوا يأخذونها إليه هناك".

بعد وفاة عبد الناصر، كثفنا جهودنا مع مصر وسورية من أجل إقامة وحدة بعد وفاة عبد الناصر، كثفنا جهودنا مع مصر وسورية من أجل إقامة وحدة. وافق السادات، وكنّا نضغط بقوة من أجل ذلك، ثم اتفقنا على إقامة اتحاد بين الدول الثلاث، لكننا اكتشفنا أن السادات وافق على ذلك في عملية تكتيكية ليوطّد سلطته ويقضي على الناصريين، ثم ليمهد لانقلاب 15 أيار/مايو 1971.

تشكلت لجنة ثلاثية لإعداد دستور اتحاد الجمهوريات العربية، وكنت أرأس الجانب الليبي، بينما ترأّس الجانبَ المصري حسين الشافعي وترأس الجانبَ السوري محمود الأيوبي، نائب رئيس الجمهورية. كان الوفد الليبي يضمّ منصور الكيخيا والمحامي كامل المقهور.

وفي هذه الاجتماعات، أبدى الجانب المصري دهشته من وجود قدرات قانونية ممتازة في ليبيا مثل قدرات كامل المقهور. بعد انقلاب السادات عام 1971، أرسل إلينا وفدًا برئاسة محمد عبد السلام الزيات وأشرف مروان، وكان الزيات نائبًا لرئيس الوزراء ونائبًا لرئيس الاتحاد الاشتراكي؛ ففوجئنا بأن السادات يتصل بنا ويقول: "ركزوا في الإعلام على أشرف مروان".

شعر السادات بأن الناصريين يتآمرون عليه، وأعتقدُ أن أشرف مروان، مع بعض المسؤولين، هو من أخبر السادات بوجود هذه المؤامرة. وعلى الرغم من أن الناصريين كانوا يسيطرون على أهم مرافق الدولة مثل الداخلية والدفاع والمخابرات والاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي، فإنه تمكن من تنفيذ انقلابه من دون أن يكلفه ذلك سوى قطع الهواتف عنهم.


خلال هذه الزيارة، طلب الوفد المصري مساعدة بـ 60 مليون دولار، نظرًا إلى حاجة مصر إلى شراء القمح، وقمنا بتحويل المبلغ على الفور.

الصورة
معمر القذافي بين حافظ الأسد وأنور السادات في 1 إبريل 1971 في طرابلس (Getty)

معمر القذافي بين حافظ الأسد وأنور السادات في طرابلس خلال اجتماعات "اتحاد الجمهوريات العربية" (1/4/1971/ Getty)

في أحد اجتماعات مجلس "اتحاد الجمهوريات العربية" في نيسان/أبريل بالقاهرة، وبحضور السادات وحافظ الأسد والأخ معمّر القذافي وأنا ووزراء الدفاع ورئيسَي الأركان في كل من مصر وسورية، وكانت الجلسة مخصّصة لمناقشة قضية تحرير أراضي عام 1967، فوجئت أنا والأخ معمّر بأن مصر قدّمت خطة عسكرية كلاسيكية.

كانت الخطة تقوم على فكرة قيام القوات المصرية بالعبور والهجوم على القوات الصهيونية في سيناء، بينما تهجم القوات السورية في الوقت نفسه على القوات الصهيونية في جبهة الجولان، وهي خطة تقليدية، تعبّر عن جمود العقل العسكري وتكلّسه؛ فهي تتجاهل الجبهة البحرية، مع أنها "جبهة مميتة وقاتلة"، كما أنّ الخطة تستبعد القيام بضربات جوية للكيان الصهيوني


فاعترضنا على ذلك. قال الأخ معمّر: "إذا طبقتم هذه الخطة فستقود إلى هزيمة جديدة.

شوف شن تسمّوا هزيمة 67؟ نكسة؟ بعدها ستكون نكبة". وقدّمنا خطة بديلة مكتوبة.

تقوم الخطة على تثبيت العدو في جبهة سيناء، وشد أكبر قوة له في هذه الجبهة، وإيهامه وخداعه بأن الهجوم الرئيس سيكون من جبهة سيناء، في حين يكون الهجوم الرئيسي من الجبهة الشرقية، ولذا يجب نقل أكبر قوة برية وجوية إلى الجبهة الشرقية، كما يجب ألا يتم الهجوم مباشرة على صخرة الجولان، وإنما يتم جنوب الجولان عبر الأراضي الأردنية المتاخمة للحدود السورية والاندفاع بسرعة للوصول إلى أراضي 48، واستخدام القوات الخاصة والفدائيين خلف العدو.


وفي العمق عن طريق الإبرارات، وشن غارات جويه مكثفة في عمق العدو ومدنه ومطاراته وأهدافه الاستراتيجية، ومهاجمة الشواطئ بالضفادع البشرية والفدائيين والقوات الخاصة.

لمّا قدمنا الخطة، قلنا للسادات وحافظ الأسد: "إذا كنتم جادين في تحرير أراضي 67 فهذه هي الخطة". فقال السادات: "جرى إيه يا أخ معمّر ويا عبد السلام. هذه الخطة أعدتها مجموعة من قادة الأركان، في أكاديمية ناصر. إزاي (كيف) تشكّكوا فيها؟ نعرف أنكم خبراء في الثورة، أما في العلوم العسكرية فلا"،

فرددت عليه وقلت: "التخطيط الاستراتيجي هو وعي وقدرة وتحليل وبعد نظر وفهم للمشكلة.

مَن يخطط للثورة يمكنه أن يخطط للسياسة وللاقتصاد والأمور العسكرية. أما تعبئة دبابة وطائرة وصاروخ ومدفع، فهذا عمل تخصصي فنّي".

لكن خطتنا رُفضت وأصروا على خطتهم، فقلنا لهم: "هذه الخطة ستقود إلى هزيمة ونكبة وكارثة.

ومع ذلك فكل إمكانيات ليبيا تحت تصرفكم، وكل ما هو مطلوب منّا نحن جاهزون، ولكننا لن نتقاسم المسؤولية السياسية والقومية، لا في النصر ولا في الهزيمة".

بعد عودتنا من الاجتماع في القاهرة، ذهبت إلى الجزائر واجتمعت بالرئيس بومدين وقلت له: "السادات يريد أن يقوم بحرب تحريك ستقود بالتأكيد إلى هزيمة، وستعبر القوات الصهيونية قناة السويس وتهدد القاهرة وستشكل حكومة 'فيشي'في مصر، ومن ثمّ سيفرضون الاستسلام على مصر والأمة العربية؛ ولذا نحن نرى أنه إذا ما حدث هذا، فيجب أن تقوم وحدة فورية بين ليبيا والجزائر ونعلن رفضنا للاستسلام.


يجب أن تشكل ليبيا والجزائر الجبهة الغربية، ونعلن استمرار الحرب. هذا قد يحرض سورية والعراق على تشكيل الجبهة الشرقية". فوافق بومدين، واتفقت معه على أن نعقد اجتماعًا في حاسي مسعود لتوقيع ميثاق الوحدة. وبالفعل، عقد الاجتماع وحضره من الجانب الليبي الأخ معمّر وأنا، ومن الجزائر الرئيس بومدين وعبد العزيز بوتفليقة، ووقّعنا ما عُرف بـ "ميثاق حاسي مسعود" الذي ينصّ على الآتي: "في حال هزيمة مصر وفرض الاستسلام عليها، تقوم وحدة فورية بين ليبيا والجزائر، ونعلن تشكيل الجبهة الغربية ورفض الاستسلام واستمرار الحرب".

كانت سورية تريد أن تكون حرب أكتوبر كحرب تحرير؛ بينما أرادها السادات حرب تحريك
بعد أشهر، وقبيل الحرب، زارنا السادات في ليبيا وكنت أرأس مؤسسة الصناعات الحربية بين مصر وليبيا والكويت

وقال لي: "يا عبد السلام، أريدك أن تذهب إلى صديقك جيسكار ديستان، رئيس الجمهورية الفرنسية، عندو صواريخ القاهر والظافر ينقصها نظام التوجيه، وهي مهمة في الحرب.

اطلب من ديستان أن يوافق على تزويدنا بنظام التوجيه لهذه الصواريخ". وبالفعل سافرت إلى فرنسا واجتمعت بجيسكار ديستان وحصلت على موافقته، وأن تقوم شركة "مترا" بتزويد هذه الصواريخ بأجهزة التوجيه لمصر على أن تدفع ليبيا التكاليف.


وحينما عدت من فرنسا ذهبت إلى مصر، وعقدت اجتماعًا لمؤسسة الصناعات الحربية، حضره أحمد إسماعيل وزير الدفاع، ووزير الإنتاج الحربي، وأشرف مروان، وعدد من الخبراء والمهندسين. فأبلغتهم بموافقة فرنسا، فصعقت حينما قال وزير الإنتاج الحربي:

"دي يا فندم مواسير"،

فغضبت غضبًا شديدًا، وقلت لأحمد إسماعيل: "هل لديك قضية؟


هل أخذت مسألة الحرب على محمل الجد؟ أنت لا تملك قضية ولا تشعر بوزر المسؤولية"؛ فانزعج أحمد إسماعيل

وقال: "أنا عندي 1800 ماسورة لا يمكن أن ألمّ بها جميعًا"، فقلت له: "1800 ماسورة تعني من الهاون 60 ملم حتى المدفعية الثقيلة. هذه صواريخ استراتيجية حتى في الجيش الأميركي هي تحت سيطرة القيادة".

فردّ عليّ: "أنا شاركت في ثلاث حروب، وأنت ملازم. كيف تعلمني العسكرية؟".

فعدت للردّ عليه، وقلت: "لهذا نحن خسرنا هذه الحروب بوجود جنرالات مهزومين مثلك".


وأضفت: "حينما كان عبد الناصر في ليبيا، قام الصهاينة بتفكيك الرادارات من البحر الأحمر، وكنت أنت مسؤول هذه المنطقة وعبد الناصر اتصل بالهاتف وطلب إعدامك".

ثم قلت: "أنت لا تساوي حذائي هذا". ما إن سمع كلامي حتى سقط من على كرسيه مغمى عليه لأنه كان يعاني مرض الضغط والقلب

فأحضروا له أقراص الدواء وانفض الاجتماع. قال لي أشرف مروان: "هيّا نذهب لمقابلة السادات في القناطر الخيرية

لأن عقلية السادات غريبة، من يصل إليه أولًا يؤثر فيه.


يجب أن تسبق أحمد إسماعيل".

وبالفعل، ذهبنا بأقصى سرعة ووجدنا السادات يتناول طعام الغداء، وهو الأرز باللبن الزبادي، فقال لي: "يا عبد السلام، تعال كل معايا هذا كويس للرُّكب وأنت تحتاج له". قال ذلك وهو يضحك، فأخبرته بما جرى، وطلبت منه أن يُقيل أحمد إسماعيل من وزارة الحربية.


في هذه الأثناء وصل أحمد إسماعيل، وكان يبكي وقال للسادات: "يرضيك يا ريس الرائد عبد السلام يقول لي أنت لا تساوي جزمتي؟".

الصورة
عبد السلام جلود مع الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان

(الرئيس الفرنسي الأسبق ديستان في محادثات مع جلود في باريس (1976)


فقال لي السادات: "يا لهوتي، ماذا عملت، المصري يمكن أن تضربه أهون عليه من أن تقول له أنت لا تساوي جزمتي".

حاول السادات تهدئتي، وقال لي: "يا عبد السلام، أنا أتجه نحو الحرب. الوقت ليس ملائمًا لإقالته؛ فهذا سوف يؤثر في كل شيء، سيؤثر في معنويات القوات المسلحة، لكنني أعدك أنني سوف أقيله بعد الحرب"، فقلت للسادات: "إذا لم تقله الآن لن أدخل مصر بعد اليوم".

فقال لي محاولًا دغدغة عواطفي: "أنا أرشحك منذ الآن لتكون رئيس وزراء دولة الوحدة بين مصر وليبيا"، ثم التفت إلى أشرف مروان وطلب منه أن يُعدّ رسالة بهذا المعنى ووقعها أمامي ثم أرسلها إلى القيادة الليبية.

حرب "أكتوبر الكارثية"

في عام 1972، طلب منّا السادات أن تبرم ليبيا صفقة صواريخ متحركة "كروتال" مع فرنسا، لترافق القوات في أثناء تقدمها في سيناء؛ ذلك أن الاتحاد السوفياتي لم يكن يملك صواريخ مماثلة لها

فذهبت إلى فرنسا وأبرمت الصفقة. قامت ليبيا بدورٍ رائد في دعم الجبهة المصرية، فزوّدناها بطائرات "ميراج"، كما اشترينا من أوروبا الجسور التي عبرت عليها القوات المصرية "قناة السويس"،

واشترينا أيضًا القوارب التي استخدمتها القوات المصرية للعبور، فضلًا عن أجهزة الرؤية الليلية (بالليزر والأشعة الحمراء وفوق البنفسجية)


كما شاركنا بلواء لمدفعية متحركة بقيادة المقدم خليفة حفتر، وهي أول من عبر القناة. ولأن مصر لم تكن تمتلك "مدفعية ذاتية الحركة"، وهذه مدفعية حديثة عيار 155 مليمترًا،

فقد اشتريناها من إيطاليا وساهمنا بها في الحرب.

وقبيل حرب 6 تشرين الأول/ أكتوبر 1973، بأيام (25 أيلول/ سبتمبر 1973)، كنت في مصر أقيم في فندق "الشيراتون". جاءني أشرف مروان وقال لي: "السادات عاوزك بسرعة"، فذهبت إلى منزل السادات بالقرب من الفندق، وجدته في الشرفة يرتدي الجلباب المصري التقليدي والغليون في فمه، وكان يضع ساقيه فوق الطاولة.


إنه الخديوي في تصرفاته وعقليته. قال لي:
"يا عبد السلام، أنتم مش ح تصدّقوني، وأنا مش ح أقول لك عن موعد الحرب؛ إنما لن يزيد عن أصابع اليدين، وأنا بعد الحرب ح أنصفكم أمام الأمة العربية على الدور والجهد الذي قمتم به من أجل المعركة"، ثم أضاف: "أنا عاوز منكم 4 أشياء:


أولًا، أن تزودوني بسرب ميراج آخر؛
ثانيًا، أن تزودوني بالنفط والغاز طوال أيام الحرب؛
ثالثًا، أن تشكل ليبيا قاعدة خلفية لي، وأن أنقل كل السفن وطائرات النقل إلى ليبيا؛
وأخيرًا، أن تزودوني برعيل صواريخ 'الكروتال'، لأنني أريد أن أضعه في الإسماعيلية".


فقلت له: "أنا موافق على الطلبات الثلاثة الأولى، أما الطلب الأخير بخصوص 'الكروتال'، فهو ثلاث عربات قتال وعربة قيادة، ومعنى هذا أن فرنسا ستلغي الصفقة، أي ستلغي 200 قطعة ̓كروتال̒. وسوف نخسر الصفقة، وأنتم قلتم إنكم تريدون 'الكروتال' كدفاع جوي متحرك عند التقدم في سيناء". كان السادات يعرف أنه يقوم بـ "حرب تحريك" بالاتفاق مع هنري كيسنجر،


ويعرف أنه لن يكون هناك تقدم في سيناء. لمّا عدت إلى ليبيا، أبلغت الأخ معمّر بالأمر، فقال لي: "هذا صحيح. ولكن حينما يهزم سيقول إن سبب الهزيمة أننا لم نزوده بهذه العربات".

قضى السادات على القوة العسكرية التي بناها عبد الناصر. باع تضحيات وبطولات الشعب المصري والجيش المصري


اتفقنا على أن نرسل إليه رسالة نقول فيها: "إن هذا الأمر سيقود فرنسا إلى إلغاء الصفقة، وإن ثلاث عربات 'الكروتال' وعربة القيادة لن تغير شيئًا من نتيجة المعركة". بعد ذلك، اتصل الأخ معمّر بالرئيس بومدين هاتفيًا وقال له: "السادات قرّر الحرب الكارثية، وطلب منّا أن نبلغك بقرار الحرب".

في الواقع، إنّ السادات لم يطلب منّا الاتصال بالرئيس بومدين، ولكن بومدين كان يقول دومًا: "لا يمكن للجزائر أن تشترك في حرب لا علم لها بها، ولم تستشر بشأنها".

ولذا، ارتأينا أن نُعلم بومدين بقرار السادات؛ حتى لا يتخذ موقفًا سلبيًا من الحرب، ولأننا حرصنا على أن يقوم بومدين بتنفيذ "اتفاق حاسي مسعود". كنّا نعرف مسبقًا نتيجة الحرب. وبالفعل؛ فبعد مضي أقل من عشرة أيام من اجتماعي بالسادات، سمعنا عبر الأخبار ببداية الحرب.

قرّرنا أن يوجد باستمرار أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة في مصر، ليتابع عن قرب مجريات الحرب، فذهب أولًا بشير هواري، ثم ذهب عمر المحيشي. وفي أواخر أيام الحرب، سمعنا من إذاعة القاهرة بيانًا للقوات المسلحة المصرية يقول: "إن قواتنا تخوض قتالًا ضاريًا غرب القناة"

فعرفنا على الفور أن الكارثة قد حلت، وأن القوات الصهيونية عبرت القناة.

سافرت إلى القاهرة على عجل بواسطة طائرة عسكرية "لوكهيد سي 130"، وهي طائرة يمكنها أن تهبط في أيّ ممرٍّ ممهّد حينما تكون المطارات مغلقة. لمّا وصلت إلى القاهرة


أقمت في قصر الطاهرة، فوجدت السادات وقد أغلق الغرفة على نفسه ومنع أي اتصالٍ به؛ ولذا لم أتمكن من لقائه رغم كل المحاولات.

اتصلت بأشرف مروان وكان سكرتير مكتب المعلومات، فسألني إن كنت أرغب في اللقاء بحسين الشافعي، أو عبد القادر حاتم. كان حاتم نائبًا لرئيس الوزراء - أي نائبًا للسادات الذي شغل هذا المنصب - بعد الإفطار، وكان هذا شهر رمضان، ذهبت للقاء حاتم في مبنى التلفزيون، فقلت له: "ماذا يجري يا حاتم؟"، فقال لي: "والله ما ني عارف حاجة، بيقولِّي إنه شوية دبابات عملت - برجزة- وقضينا عليها والله أعلم".


لم أصدّق الأمر وضحكت، ولمّا عدت إلى قصر الطاهرة، وبعد السحور، دخل عليّ محمد حسني مبارك وهو يلهث وبدا عليه التعب والإرهاق، وبصحبته أشرف مروان فقلت له: "ماذا يجري في الجبهة؟"، فقال لي: "9 دبابات عملت شوية برجزة واديناهم علقة وقضينا عليها"، وبالطبع لم أصدق ذلك أيضًا.

في الصباح، وحوالى الساعة العاشرة أو الحادية عشرة، اتصلت بأشرف مروان وقلت له: "أريد أن أذهب إلى غرفة العمليات"، فقال لي: "توجد سيارة لوري روسية ستأتي لإحضار خرائط عن الموقف، والسادات لا يعيرها أي اهتمام ولا يطلع عليها، إذا كنت ترغب في الذهاب إلى غرفة العمليات يمكن لك أن تستقل هذه اللوري"، فقلت: "نعم دع السائق يأتي عندي أريد أن أذهب بأيّ طريقة".

وبالفعل، ذهبت إلى هناك.
صعدت في الصندوق الخلفي للسيارة الروسية، وحينما وصلنا إلى البوابة الرئيسة، أوقف الحرس سيارة اللوري، فصاح الجنود الذين كانوا داخل السيارة: "الرائد عبد السلام جلود، الرائد عبد السلام جلود، افتحوا الباب"، فذهل الحرس، وبصعوبة كانوا يصدقون أن الرائد جلود يركب سيارة لوري مع الجنود وفي الصندوق الخلفي.

فتحوا لنا الباب. ولمّا وصلت إلى غرفة العمليات، استقبلني أحمد إسماعيل بالأحضان: "أنت ابن حلال"، وكان يشير إلى أنني لم أقابله منذ الصدام بيننا بسبب صواريخ الأنابيب.


لقد نسيت في تلك اللحظات كل ما حدث بيني وبين إسماعيل. ثم أطلعني على الموقف الخطير هو والفريق سعد الدين الشاذلي وبقية قادة الأركان.

كان الموقف كالآتي:

"9 ألوية دبابات ولواءان من المظليين ولواء صاعقة من الصهاينة عبرت القناة، وحاصرت الجيش الثالث المصري وقطعت عليه خطوط الإمداد. كان المصريون خائفين من اندفاع هذه القوات شمالًا، بحيث تتمكن من محاصرة الجيش الثاني. لقد دمّرت القوات الخاصة الصهيونية منصات صواريخ 'سام'".

كان هناك خلاف شديد بين أحمد إسماعيل والفريق الشاذلي؛ فالشاذلي كان ضد توقف القوات المصرية عند ضفة القناة، وكان يرغب في الوصول إلى المضائق. ولما عبرت القوات الصهيونية القناة، كان الشاذلي يريد من الجيش الثالث المصري أن يهاجم القوات الصهيونية التي عبرت القناة، لكن أحمد إسماعيل رفض هذا الرأي.

سألت عن قوة الجيش الثالث والجيش الثاني فقالوا لي: "120 ألف جندي"، وسألت عن قوات الاحتياط فقالوا لي: "يوجد في الخلف فرقتا دبابات"

توقفت القوات المصرية عند ضفة القناة، بحسب اتفاق السادات مع كيسنجر، وكان يريد من ذلك إعطاء نصر معنوي للجيش المصري

توقفت القوات المصرية عند ضفة القناة، بحسب اتفاق السادات مع كيسنجر، وكان يريد من ذلك إعطاء نصر معنوي للجيش المصري. وهكذا ركز الصهاينة هجومهم على سورية؛

فكان حافظ الأسد يصرخ ويطالب السادات باستئناف الهجوم لتخفيف الضغط على الجبهة السورية. لقد كانت سورية تريد أن تكون حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 كحرب تحرير؛ بينما أرادها السادات حرب تحريك. قالوا لي: "تحت إلحاح حافظ الأسد، أمر السادات بأن تقوم إحدى فرقتَي الدبابات بتطوير الهجوم".


وأعتقد أن السادات أقدم على ذلك بعد أن تأكد أن قدرات سورية قد دُمرت، وأنه يريد تدمير بقية القوة المصرية حتى يقول للجيش المصري وللشعب المصري: "ليس أمامي أي خيار.

هذا ما كتبه الله عليّ". ولأن العدو فاجأ العرب بأن فرقة الدبابات "باتت مؤلفة من أربعة ألوية" خلافًا للوضع في حرب حزيران/يونيو 1967، بينما ظلت الفرقة المصرية مؤلفة من ثلاثة ألوية؛ لذا حينما هاجمت الفرقة المصرية، فوجئت بأن الفرقة الصهيونية مؤلفة من 4 ألوية، فدمرت الفرقة المصرية. طلبت القيادة العسكرية المصرية ضم بقية الفرقة إلى جناحَي الجيشين الثاني والثالث.


وفي هذا الوقت، عبر أريئيل شارون قناة السويس على رأس كتيبة دبابات، واستغل ما يُعرف بـ "ثغرة الدفرسوار"، وكان من المفروض أن يصل شارون على رأس الكتيبة إلى الضفة الغربية خلال 8 ساعات، لكنه وصل إليها بعد 18 ساعة بسبب الرياح العاتية. بيد أن هذا لم يغيّر شيئًا لأن القيادة العسكرية المصرية فقدت المبادأة.

وحين تمكّن أول لواء صهيوني من عبور القناة والتمركز غربها، شنّت الفرقة المصرية الثانية دبابات هجومًا على القوات التي نجحت في العبور، لكنها دمرت، فقلت لهم: "كنتم تقولون لنا إن عدد الجيش المصري مليون ونصف مليون جندي، أين بقية الجيش؟"،

فقالوا لي: "توجد فرقة مشاة - في هاكستِب - من دون آليات، وكذلك الحرس الجمهوري"، فقلت بغضب:

"طبعًا إذا كان لكل ضابط 7 أو 8 جنود لخدمته، فإن معظم الجيش يصبح إداريين".

بعد عودتي إلى قصر الطاهرة، اتصلت بالأخ معمّر، وقلت له: "ما توقعناه حصل، والموقف أخطر من خطير". فأسرعت في اليوم نفسه عائدًا إلى ليبيا، ومن المطار ذهبت إلى بيت عوض حمزة عضو مجلس قيادة الثورة، حيث كان الأخ معمّر وأعضاء القيادة في انتظاري.


أبلغت الإخوة بالموقف، فاتصل الأخ معمّر بالرئيس بومدين وقال له: "ما توقعناه حصل. القوات الصهيونية عبرت القناة، وهي تحاصر القوات المصرية وتهدد القاهرة

علينا أن ننفذ ميثاق حاسي مسعود ونعلن المقاومة ورفض الاستسلام". ثم طلبنا منه أن يرسل قوات جزائرية على وجه السرعة. ثم اتصل الأخ معمّر بالرئيس اليوغسلافي جوزيف تيتو وأعلمه بالموقف، وطلبنا منه

أن يبيعوا لنا أي كمية من احتياطي دبابات الجيش اليوغسلافي أو من مخزونه، واستطعنا بسرعة فائقة تجهيز ألف دبابة.

ثم قررت أنا والأخ معمّر أن نذهب إلى مصر لقيادة المقاومة، وأعددنا لهذا الغرض شيفرة خاصة للاتصال بليبيا.

أرسلنا إلى مصر على عجل نحو 40 ألف صاروخ حديث مضاد للدبابات، وقرّرنا تعبئة قواتنا على أمل أن يخلق ذلك موقفًا عربيًا. وبالفعل سافرت أنا والأخ معمّر إلى مصر، وتوجهنا من مطار القاهرة إلى قصر العروبة واجتمعنا بالسادات. كنّا نجلس في الشرفة، وكان السادات يراقب الجسر الجوي الروسي الذي يحمل الأسلحة، يهبط ويطير من مطار القاهرة، فقال السادات: "يا معمّر، يا عبد السلام بكم تريدون أن تساهموا في تعمير مدن القناة؟"،.

فنظرنا بذهول إليه وقلنا له:

"القوات الصهيونية غرب القناة وهي تحاصر القوات المصرية وتهدد القاهرة؟"، فقال: "لا، هذا لا يهم. قولوا لي بكم تريدون أن تساهموا؟"، ثم قال: "روح يا معمّر ويا عبد السلام قولوا عني ما تقولون، أنني انهزامي، استسلامي.

توبة. بطلت أحارب اليهود. دول اليهود ما يتحاربوش". ثم اتصل بمحمد الزيات وزير الخارجية - في الأمم المتحدة - وقال له: "جاتك نيلة، أنت مستقيل، ليه ما رحت لكورت فالدهايم يرسل لي شوية جنود من قبرص يجو يحوشوا عني اليهود؟".

ثم أغلق الهاتف في وجهه. في هذه اللحظات ترسخت قناعتنا أن الحرب هي بالفعل حرب تحريك متفق عليها بين السادات والصهاينة والأميركيين؛ ولذا عدنا إلى طرابلس.


لا شك في أن عبور المقاتل العربي المصري أكبر مانع مائي، ولخط بارليف، يدلان على شجاعته، وهذا ما ليس في حاجة إلى إثبات، فالشعب المصري شعب حضاري شجاع، وهو شعب مقاوم على امتداد التاريخ،

يقاوم المحتل ويقاوم الطغاة


كما هي الحال مع أحداث مثل حريق القاهرة، في 26 كانون الثاني/يناير 1952، أو العمليات الفدائية ضد الإنكليز، والتاريخ المصري والعربي - الإسلامي حافل ببطولات هذا الشعب العظيم.

أصدر الأخ معمّر أمرًا للمقدّم خليفة حفتر بأن لا يلتزم بقرار وقف إطلاق النار، فاتصل السادات بنا وقال بانزعاج: "إيه ده قواتكم غير منضبطة، وخليفة حفتر سياسي،

وبيوديني في داهية. أرجوكم اسحبوهم فورًا". لقد تراجعت الحقيقة لصالح التزييف. كانت حرب تشرين الأول/ أكتوبر بكل المقاييس هزيمة عسكرية وسياسية أخطر من نكسة 1967، ومع تقديرنا الكبير للعبور العظيم والتاريخي للجندي المصري، فإن الحرب كانت هزيمة.

كانت النتيجة النهائية للمعركة هي عبور القوات الصهيونية لقناة السويس وحصار القوات المصرية وقطع خطوط إمدادها وتهديد القاهرة وتدمير شبكة الصواريخ على الضفة الغربية من القناة، وتحقيق السيطرة الجوية، ثم فرض الاستسلام والاعتراف به، وتحقيق ما لم يحلم به بنو صهيون.

أي اعتراف مصر بالكيان الصهيوني. كانت حرب تشرين الأول/ أكتوبر كارثة أو هزيمة سياسية وعسكرية كبرى.

لقد قضى السادات على القوة العسكرية التي بناها عبد الناصر. باع السادات تضحيات وبطولات الشعب المصري والجيش المصري. وللأسف، لعب إعلامه ومثقفوه دورًا كبيرًا في تزييف الحقيقة وفي فرض الاستسلام، كما فعل ذلك كثير من المثقفين العرب الذين بشّروا بالهزيمة. لقد زيف هؤلاء، ومعهم القوى الرجعية وقوى الاستسلام، الحقيقة الساطعة.

وفي خضمّ هذا التزييف، باع السادات، مدعومًا بالآلة الإعلامية وبالمثقفين المستسلمين، دماء أجيال وأجيال من المصريين والعرب.

قرّر السادات الانسحاب من اتحاد الجمهوريات العربية، بقرار منفرد وغير دستوري، فاتخذنا قرارًا بتشكيل "محكمة الشعب العربي" لمحاكمة الخائن السادات


لمّا قرّرنا قطع علاقاتنا بالنظام المصري، أبقينا على صلاتنا وروابطنا وعلاقاتنا بشعبنا المصري العظيم. وحين زار السادات الأرض المحتلة في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1977، قُدنا تظاهرة كبرى في طرابلس، وقُمنا بإحراق علم "اتحاد الجمهوريات العربية"، وقرّرنا أن يكون العلم من لون واحد هو اللون الأخضر، حتى لا نكرّس علمًا بألوان أخرى قد تشكل عقبة في طريق الوحدة.

ونتيجة لموقفنا الصلب من هذا الخرق الخطير، قرّر السادات الانسحاب من اتحاد الجمهوريات العربية، بقرار منفرد وغير دستوري، وبدورنا اتخذنا قرارًا بتشكيل "محكمة الشعب العربي" لمحاكمة الخائن السادات. ثم أصدر مؤتمر الشعب العربي قرارًا بتشكيلها، وعقدت أولى جلساتها في طرابلس، وأصدرت حكمًا بإعدام السادات، باعتبار أن الدساتير العربية، وعلى رأسها الدستور المصري، تمنع الاتصال بالعدو الصهيوني. بيد أن الشعب المصري كان قد أصدر قراره بإعدام الخائن السادات، ونفّذ القرار أحد أبطاله وهو خالد الإسلامبولي.

كنت أنا والأخ معمّر في مدينة سبها، وكنّا نشارك في احتفال قيام "سلطة الشعب"، سمعنا بنبأ اغتيال السادات من الإذاعة، فأطلق الأخ معمّر بعض الطلقات من مسدسه في الهواء ابتهاجًا.

ثم قدنا تظاهرة جماهيرية تعبيرًا عن سعادتنا وفرحنا. بعد التظاهرة، عدنا إلى مقر إقامتنا سألني الأخ معمّر: "ما رأيك في حسني مبارك؟"، فقلت له: "على مستوى القضية القومية سيكون مبارك أسوأ من السادات. السادات كان لديه رصيد من السمعة السياسية وهو محسوب على ثورة 23 يوليو، ومن الممكن أن يتراجع عن الخيانة أو يغيّر مواقفه 180 درجة، أما مبارك فلا يمكن له إلا أن يستمر على طريق السادات، أي طريق الخيانة".

أصدر الأخ معمّر أمرًا للمقدّم خليفة حفتر بأن لا يلتزم بقرار وقف إطلاق النار، فاتصل السادات منزعجا

لكن هناك إيجابية واحدة، فحين سقط نظام الشاه، كانت مصر مؤهلة لأن تؤدي دور "الشرطي" في المنطقة العربية والأفريقية، بدلًا من شاه إيران، أما حسني مبارك، فهو بكل تأكيد لا يستطيع أن يؤدي هذا الدور، وهذا أمر إيجابي بالنسبة إلى ليبيا. وبالفعل؛ خلال عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغن، طلبت الولايات المتحدة من مصر شن هجوم على ليبيا من الشرق، أو أن تسمح لقوات أميركية بالهجوم عليها، لكن مبارك رفض، وهذا أثبت صحّة تحليلي. وأذكر أننا - أنا والأخ معمّر - كنّا في زيارة لمصر، خلال مرحلة "حرب الاستنزاف" والإعداد للعبور في عهد عبد الناصر، وأن عبد الناصر دعانا لمشاهدة تمرين عبور فرقة مجحفلة من الجيش المصري لمانع مائي، وكان تنفيذ التمرين سيئًا


إذ فقد قائد الفرقة السيطرة على قواته. وحينما كان عبد الناصر يناقش قائد الفرقة، قال له: "الخبير الروسي قال كده؟". شعر عبد الناصر بالإحراج والتفت إلينا قائلًا: "يا معمّر، يا عبد السلام،

أنا مش ححارب بدول [بهؤلاء]، الذين سأحارب بهم ما زالوا من الضباط الصغار".

اشتباك عسكري مع مصر على الحدود

قبل أن يقوم السادات بزيارته الشهيرة إلى فلسطين المحتلة في تشرين الثاني/نوفمبر 1977، افتعل مواجهة عسكرية مع ليبيا على الحدود في حزيران/يونيو، وكان السبب في ذلك، في رأينا، إدراكه أنه سوف يواجه موقفًا صلبًا من ثورة الفاتح، وأن ليبيا سوف تعتبر خطوته هذه خيانة صريحة للأمة.

وهكذا، ومن دون سابق إنذار بدأت قوات مصرية عند الحدود مع ليبيا بمداهمة مقارّ الشرطة الليبية وإلقاء القبض على بعض الأفراد، ونقلهم إلى داخل الحدود المصرية. وردًّا على هذا الاعتداء السافر وغير المبرر، قام العقيد عبد الكبير الشريف، آمر منطقة طبرق العسكرية، بعملية عسكرية خاطفة اجتاز خلالها الحدود المصرية، وتمكّن من إلقاء القبض على بعض الأفراد من الشرطة المصرية، ثم طلب من آمر كتيبة مدفعية 155 - ذاتية الحركة - وصواريخ "غراد" استهداف المواقع المصرية. في هذا الوقت تحركت قوة عسكرية مصرية في اتجاه قرية إمساعد، فاستهدفتها مدفعيتنا. وهاجمت كتيبة الدبابات هذه القوة، وقد تكبدت كتيبتنا بعض الخسائر.

وفي النهاية، انسحب المصريون وتراجعوا إلى داخل الحدود. في الواقع، كنت أشرف بنفسي على هذه المواجهة المقززة والمؤلمة والغريبة وقد وجدتني أمام معادلة صعبة: عدم تمكين السادات من تحقيق أي "انتصار" وهمي، أو شكلي، وفي الآن ذاته محاصرة "المؤامرة" ووأدها في مهدها على الحدود.


وهكذا أيضًا قام سلاح الطيران المصري بمهاجمة مهبط الطائرات في قاعدة جمال عبد الناصر، كما قصف غرف نوم الطيارين الليبيين. ولحسن الحظ لم تقع خسائر بشرية لأننا قمنا بتغيير أماكن نومهم. وفي إثر ذلك،

أخبرني بعض الضباط الليبيين أن الطيارين المصريين كانوا يقومون بالتحليق فوق قواتنا المنتشرة من طبرق إلى الحدود مع مصر، ولكنهم كانوا يلقون بحمولاتهم من القنابل والصواريخ بعيدًا عن قواتنا.



هذا هو معدن الشعب المصري والجندي والضابط المصري.

في إحدى ليالي هذا الاشتباك الحدودي، انقطع الاتصال مع قواتنا في الجغبوب، فقال لي الأخ معمّر: "السادات احتل الجغبوب"، فقلت له: "لا، من المؤكد أن هناك قوة عسكرية محدودة العدد محمولة بطائرات عمودية، جرى إنزالها بالقرب من قواتنا". وأضفت: "إن القوة المتمركزة في الجغبوب كافية للدفاع عنها، وأعتقد أن سبب انقطاع الإرسال أن الجندي المكلف باللاسلكي، ولشدّة حماسته، ترك الجهاز وذهب ليشارك في مقاومة القوة المصرية المهاجمة".

وبالفعل، وفي الصباح عاد الاتصال اللاسلكي مع الجغبوب، وأبلغنا آمر المنطقة أن ثلاث طائرات مروحية أنزلت قوة محدودة وتبادلنا معها إطلاق النار، ثم انسحبت.

في هذا الوقت قام الأخ ياسر عرفات بدور وساطة بيننا وبين المصريين لوقف إطلاق النار وإنهاء المواجهة العسكرية على الحدود. بعد انتهاء المواجهة، ولأن الأخ معمّر وأعضاء القيادة اعتقدوا أنني أدرت المواجهة على نحوٍ جيد، فقد تقرر منحي شهادة الأركان.

تأسيس "جبهة الصمود والتصدي"

في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 1977، بعد أن أعلنت وكالات الأنباء إقلاع طائرة الخائن أنور السادات إلى فلسطين المحتلة، شاهدت على شاشة التلفزيون السادات يهبط من الطائرة ويصافح الصهاينة. على الفور، اتصلت بالأخ معمّر، وكان في سرت. قلت له: "لا بد من إقامة تكتّل من الدول العربية التقدمية لمنع انهيار الموقف العربي"، ثم أضفت: "سوف أذهب إلى سورية والعراق والجزائر". فقال لي: "السادات لم يقرر الذهاب إلى الصهاينة لو لم يكن متأكدًا أنه لا يمكن أن تجتمع دولتان ضده". ومع ذلك أصررت على السفر، وقلت: "نحن لا نيأس ولا نستسلم للأمر الواقع، سوف أحاول"، فقال لي مثلًا شعبيًّا: "اذهب رشادة في بئر (أي أن محاولتك هذه مثل التفتيش عن حجر في بئر)".

أقلعتْ طائرتي في اليوم نفسه إلى دمشق. حصلت على موافقة السوريين والفلسطينيين على مشروع "التكتل العربي"، ثم سافرت إلى العراق. لكن العراقيين اشترطوا لإقامة "جبهة رفض" أن تعلن سورية رفضها للقرار رقم242 .

بعد إلحاح شديد مني، وافق العراقيون على حضور اجتماع بهذا الخصوص، ولكن ليس على مستوى الرئيس. أرسلوا وفدًا من عضوين بارزين في مجلس قيادة الثورة.

من العراق سافرت إلى الجزائر واجتمعت بالرئيس بومدين. وافق بومدين على "تشكيل جبهة رفض" وقال لي: "حينما كنت أستمع إلى وكالات الأنباء وهي تبث خبر سفر طائرة السادات إلى فلسطين المحتلة، كنت أقول في نفسي: السادات سيعود من الجو.


وأنه لن يكمل الرحلة. ولمّا شاهدت طائرته تهبط في مطار بن غوريون، فقدتُ صوابي وتصرفت كمواطن عادي وكسرت التلفزيون".

وبالفعل، نتيجة لهذه المبادرة، اجتمعت ليبيا وسورية والجزائر والعراق واليمن الجنوبي ومنظمة التحرير الفلسطينية في طرابلس في الفترة 2-5 كانون الأول/ديسمبر 1977، لكن العراق كان غير جادٍّ في تأسيس جبهة صمود، وظل يشترط أن تعلن سورية رفض القرار الأممي رقم 242، وكان ردّ الرئيس الأسد أنه مستعد لرفض القرار، حينما تؤمّن أسباب المواجهة من دعمٍ عسكري واقتصادي؛ ولذلك انسحب العراق.


ومع ذلك تشكلت جبهة "الصمود والتصدي". شكر الأخ معمّر الرئيس الأسد وياسر عرفات، فنهضت وطلبت الكلمة وقلت: "لا يا أخ معمّر، السادات مثل الطائر الذي طار بجناحين، سورية ومنظمة التحرير". لقد استطاع السادات أن يصوّر خلافنا معه على أنه خلاف ثنائي بين ليبيا ومصر. بعدما خرجنا من الاجتماع، جاءني عبد الحليم خدّام وقال: "نحن حينما يكون الرئيس موجودًا لا نستطيع التحدث، لولا ذلك لرددت عليك"، فقلت له مازحًا: "هذا أحسن لكم أن لا تتكلموا في وجود الرئيس".

المؤتمر الإسلامي والقمة العربية و"عودة مصر"

في الفترة 16-19 كانون الثاني/ يناير 1984، عُقد في الدار البيضاء المغربية مؤتمر القمة الإسلامية الرابع. تمّ الترتيب لعقد المؤتمر بحيث يسبق عقد مؤتمر القمة العربية في الأردن.

كان الموضوع الرئيس هو "عودة مصر" إلى المؤتمر الإسلامي. في هذا المؤتمر مثلت أنا ليبيا. كان المؤتمر مسرحية مُعدّة مُسبقًا. وكان من الواضح لي خلال جلسات المؤتمر أن الأمير فهد بن عبد العزيز والملك الحسن الثاني كانا يلقنان كلًّا من الرئيس الغيني أحمد سيكاتوري والرئيس الباكستاني محمد ضياء الحق، قبيل كل جلسة، بحيث يظهران مسألة عودة مصر كأنها مطلب إسلامي.

الحقيقة أن عودة مصر كانت مطلبًا أميركيًّا وعربيًّا رجعيًّا. كان الجميع في طرف، وأنا في طرف آخر. كنت أقاتل ضد "عودة مصر" إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، لأنني كنت أعرف جيدًا أنها كانت مقدمة لعودتها إلى جامعة الدول العربية، أو الأصح: عودة العرب إلى مصر المكبّلة بأغلال كامب ديفيد. قال لي الملك الحسن الثاني، رئيس المؤتمر: "سي جلود. لقد أعطيتك الكلمة 17 مرة"، فرددت عليه: "لأنني طرف وأنتم طرف". كان الفصل الأخير في المسرحية قد أعطي لياسر عرفات خلال المراحل الأخيرة من النقاش.

طلب عرفات الكلمة، وقال مخاطبًا الملك الحسن الثاني: "يا جلالة الملك. لا يوجد قرار بطرد مصر من المؤتمر".

وممّا يدل على أن المسرحية كانت مُعدّة سلفًا، قول الملك: "أحضروا لنا قرارات الطائف"، فأسرع الحبيب الشطيل جلب المحاضر والقرارات؛ وبما أنني كنت الوحيد الذي يتصدى ويقاتل لمنع عودة مصر، فقد طلبت الكلمة وقلت: "آسف. إن الفصل الأخير من المسرحية قد أعطي لعرفات. أرجوكم احترموا عقولنا، لأننا جئنا على رأس ثورات ونمثل شعوبنا. نحن لم نصل إلى السلطة بالوراثة؛ وإنما نحن ثوريون.

ليس المهم ما كُتب، بل المهم هو الإرادة السياسية لمؤتمر الطائف. لا أعتقد أن السادات هو الذي قرر عدم الحضور، ثم إنّ مؤتمر وزراء الخارجية هو امتداد لمؤتمر القمة".

أمسكت علي عبدالله صالج من ربطة عنقه وقلت له: "يا قرد. أنت عبد العبيد. أنت عميل للسعودية، .


كان كثيرون من المسؤولين ووزراء الخارجية يأتون إليّ، يحيّون موقفي متجرّدين من مناصبهم. كانوا يتصرفون بصفتهم مواطنين يعيشون لحظة صحوة ضمير واضحة وجلية. وفي اليوم الثاني من المؤتمر، وبعد الجلسة الصباحية، وبينما كان الحسن الثاني يودع الملوك والرؤساء

تحدّثت مع الرئيس اليمني علي عبد الله صالح، وكان في تلك الفترة متحالفًا مع الإخوان المسلمين، وكان وزير خارجيته عبد الكريم الإرياني، وكان واقفًا إلى جانبه، فقلت له: "يا أخ علي، الموضوع المطروح خطير جدًّا، وإنْ عادت مصر إلى المؤتمر الإسلامي، فسيكون هذا مقدمة لعودتها إلى جامعة الدول العربية، واليمن ليس البحرين أو أبوظبي، لا بد من أن يكون لليمن موقف في هذا الموضوع الخطير"، فالتفت إليّ وزير خارجيته، وقال لي: "لا داعيَ لكلامنا. يكفي أن عملاء أميركا ووكلاء الاتحاد السوفياتي يتحدّثون". فغضبت من هذا المنطق، وكان رد فعلي شديدًا، فأمسكته من ربطة عنقه وقلت له: "يا قرد. أنت عبد العبيد. أنت عميل للسعودية التي هي عميل لأميركا"


فقال وزير خارجيته: "كيف تخاطب الرئيس بهذا الأسلوب"، فقلت له: "اسكت". كان من المفروض أن يزور الرئيس علي عبد الله صالح ليبيا بعد المؤتمر، فاتصل بالأخ معمّر يشكوه ويعتذر عن القيام بالزيارة.

وبعد انتهاء جلسة المساء، وبعد عودتي إلى مقر الإقامة، اتصل بي هاتفيًّا من طرابلس الأخ الدكتور مفتاح الأسطى عمر، وكان يشغل منصب أمين الاتصال بالقيادة، وقال لي: "القائد يريد أن يتكلم معك"، وحين اتصل الأخ معمّر قال لي: "شن عملت مع العقيد علي عبد الله صالح (أي ماذا فعلت؟). لقد اتصل بي وهو منزعج ويشكوك"، فرويت له ما جرى بيننا، فقال لي: "هو قال هيكي (أي هو قال هذا؟) يلعن أبوه يستأهل".

انتهى هذا المشهد باقتراح من الحسن الثاني والملك حسين بن طلال بأن يتمّ تعديل لائحة المؤتمر التي تنصّ على أن "التصويت على القرارات علني وبرفع الأيدي"، ليصبح "التصويت في هذه الحالة فقط بطريقة سرية". فطلبت الكلمة وقلت: "يا جبناء مَنْ هو مقتنع بعودة مصر عليه أن يرفع يده 4 أمتار فوق الطاولة.

لماذا يا جبناء ترفعون أيديكم تحت الطاولة؟". وقد كان إصراري على عدم عودة مصر إلى منظمة المؤتمر الإسلامي لأن أسباب طردها بقيت موجودة.

بعد الانتهاء من التصويت قررت الانسحاب من المؤتمر، وفي أثناء خروجي من القصر، توجهت إلى الصحافيين، وقد حاول الأمن المغربي منعي من الوصول إليهم، لكنني اندفعت في اتجاههم. كان هناك ما لا يقل عن 800 صحافي، سألوني عن المؤتمر فقلت: "الشعار إسلامي والمحتوى أميركي". وتناقلت وكالات الأنباء هذا التصريح الغاضب الذي صوّر المؤتمر أدقَّ تصوير.

وهكذا تقررت عودة مصر إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، ثم بعد أشهر عُقد مؤتمر القمة العربية في الأردن (8-12 تشرين الثاني/نوفمبر 1987). لقد صُمم المؤتمر لاتخاذ قرار بعودة مصر إلى جامعة الدول العربية. مثلتُ ليبيا في هذا المؤتمر.

وبالفعل، كانت القضية الوحيدة المطروحة في جدول الأعمال هي عودة مصر. وجدتني وحيدًا في مواجهة الجميع ومعارضة عودة مصر، رغم أنني، بكل تأكيد، أكثر الحاضرين وعيًا وإيمانًا بدورها القومي، وإيمانًا كذلك بقيادتها للأمة العربية، بل وأشدّ الحاضرين في القاعة حبًّا لها من الناحية العاطفية، وأكثرهم التزامًا بدورها القومي.


لكنّ المؤسف أنّ الرئيس العراقي صدام حسين كان هو المتزعم والمدافع عن عودة مصر، وكذلك الملك حسين والشيخ زايد آل نهيان؛ ولذا سعيت للتنسيق مع الرئيس حافظ الأسد. في البداية لمست منه تعاونًا، لكنه سرعان ما تراجع أمام الضغوط. وكان الموضوع الثاني المعروض على مؤتمر القمة هو الحرب العراقية - الإيرانية. عند مناقشة الموضوع، تحدث الملك حسين باعتباره رئيسًا للمؤتمر، ووجه كلامه إلي قائلًا: "إنني أستغرب وقوف ليبيا القومية إلى جانب إيران الفارسية ضد العراق؟".

الصورة
عبد السلام جلود مع أية الله الخميني وأخرون

مؤتمر صحافي يجمع الخميني وجلود في طهران (1979)

وأضاف: "إن معاهدة الدفاع المشترك تُلزم جميع الدول العربية بالوقوف مع العراق"، فقلت للملك حسين ولجميع الحاضرين: "بحسب المفهوم الرجعي، فمعاهدة الدفاع المشترك لا تطبق ضد الصهاينة وأميركا، ولم تطبق ضد نظام الشاه رضا بهلوي حينما كنتم تقفون مع الشاه ضد العراق، ولكن هذه المعاهدة تطبق فقط ضد الإمام الخميني الذي حوّل سفارة الصهاينة إلى سفارة فلسطين في طهران، وقطع النفط عن الصهاينة، والتزم تحرير فلسطين ومقاومة الهيمنة الأميركية".

ثم قلت: "يا جلالة الملك إنكم لم تطبقوا المعاهدة عندما اعتدت علينا أميركا، بل لم توافقوا على عقد مؤتمر قمة"، فقال الملك حسين: "أنتم دخلتم في مواجهة مع أميركا ولم تستشيرونا فكيف نقف معكم؟"، فضحكت وقلت له: "بهذا المنطق الرئيس صدام حسين حينما هاجم إيران لم يستشرنا؟

لكن أنت تعرف أكثر من غيرك أنه حينما يتعلق الأمر بالصهاينة وأميركا، فأنتم لا تطالبون بتطبيق المعاهدة. تريدون تطبيقها فقط ضد الثورة الإسلامية في إيران". كانت هناك مؤامرة ضد سورية في لبنان تستهدف سحب البساط من تحت أقدامها، وأن تتولى جامعة الدول العربية "ملف لبنان"

بهدف ممارسة الضغوط على سورية، نتيجة وقوفها مع الثورة الإسلامية في إيران، وقد تصدينا لهذه المؤامرة وأفشلناها.

لقد قاومت بشدة إحالة الملف إلى جامعة الدول العربية. ولما صوّت المؤتمر على قرار "عودة مصر" رفضته كتابيًّا. كان إلى جواري الرئيس اللبناني أمين الجميّل - وذلك بحسب الترتيب الأبجدي - ولما أردت أن أسجل رفضي للقرار، قال لي أمين الجميّل مازحًا: "أنا اشتغل سكرتير لك"، فأخذ ورقة وقلمًا وأمليت عليه النص التالي: "إنني أرفض هذا القرار لأنه غير شرعي لسببين، أولًا أن الأسباب التي دعت مؤتمر القمة لطرد مصر من الجامعة ما زالت قائمة، وثانيًا وبحسب ميثاق الجامعة، فإن القرارات تؤخذ بالإجماع، لكن لأن هذا طلب أميركي، فقد اتخذ هذا القرار وهو مخالف لميثاق الجامعة"، ثم وقعت على النص وسلمته إلى الملك حسين.

في عام 1989، عقد المؤتمر القومي الإسلامي اجتماعًا في طرابلس، وكان بين الحضور الدكتور حسن الترابي.

عقد الاجتماع في مقر أمانة مؤتمر الشعب العام، وألقيت فيه كلمة حماسية، قلت فيها: "لقد جرّبت الأمة النموذج القومي الذي ارتبط بالقمع والدكتاتورية وحكم المخابرات والفساد. وفشل هذا النموذج في تحقيق النهوض الاقتصادي وتحقيق الاشتراكية والعدالة، كما فشل في تحقيق وحدة الأمة وأخفق في تحرير فلسطين"، ثم أضفت: "العروبة جسد والإسلام هو الروح، والآن تريد الأمة أن تجرّب الوجه الآخر من العملة وهو الإسلام، إذا ما أجرينا انتخابات الآن في الوطن العربي ليس تحت إشراف وزارات الداخلية،.

بل تحت إشراف الأمم المتحدة أو أي منظمات محايدة وذات صدقية، فسوف تفوز الأحزاب والقوى والجماعات الإسلامية في هذه الانتخابات بما فيها ليبيا".

كانت كلمتي تنقل على الهواء مباشرة فصعق الجميع، ودارت بينهم تساؤلات عبّرت عن الاستغراب من هذه الجرأة في تقييم الوضع في الوطن العربي كلّه. بعد هذا اللقاء قام حسن الترابي بزيارة لأميركا، وألقى هناك محاضرة في إحدى الجامعات الأميركية، قال فيها: "وشهد شاهد من أهلها، هو أحد القيادات القومية عبد السلام جلود يقول: 'الإسلاميون سوف يفوزون في أي انتخابات تحت إشراف دولي في كل الوطن العربي بما فيه ليبيا'".

وأضاف: "نحن لا نريد أن نستخدم القنابل والمتفجرات للوصول إلى السلطة، بل نؤمن بصناديق الاقتراع". ثم نشر هذه المحاضرة في كتاب.
 
التعديل الأخير:
مذكرات عبد السلام جلود: أعطينا رفعت الأسد 200 مليون دولار ورتّبت خروجه من سورية (3 - 5)

الحرب الأهلية في لبنان
حينما دخلت سورية، في نيسان/ أبريل 1976، في مواجهة عسكرية مع فصائل الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، بعد أن كانت تقف معها خلال اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، رأيت في هذا الأمر مؤامرة كبرى تستهدف تدمير سورية معنويًّا، وتدمير الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية ماديًا، وشعرنا بأن شيئًا ما يُخطط للمنطقة، وأن هناك مؤامرة ضد "قوى الصمود العربي"، تهدف إلى "تدمير سورية" والثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية.

لم نكن في ليبيا نعرف هذا الأمر بالضبط، ولكننا شعرنا بأن ما يجري يخدم المؤامرة. بعد ذلك دعونا إلى اجتماع لقوى الصمود في طرابلس لمناقشة هذه التطورات، وقد حضر إلى طرابلس الرئيس الجزائري بومدين وياسر عرفات، وعقدنا اجتماعًا شاركت فيه أنا والأخ معمّر وبومدين وعرفات، وتقرّر في الاجتماع أن أسافر إلى دمشق للقاء الرئيس حافظ الأسد. بالفعل، توجهت إلى دمشق وكان يرافقني وزير التعليم الجزائري. كانت المهمة في البداية أن أطلب من الرئيس حافظ الأسد باسم ليبيا والجزائر عدم الانجراف في المؤامرة التي تخطط لضرب سورية والفلسطينيين والحركة الوطنية اللبنانية.


ولكن بعد اللقاء مع الرئيس الأسد، ثم الإخوة في القيادات الفلسطينية في سورية، اتخذت قرارًا بعدم العودة إلى طرابلس إلا بعد "القضاء على المؤامرة" وإعادة اللحمة بين سورية والثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. ولذلك أعطيت الأولوية في هذه الجهود لوقف إطلاق النار. وللتاريخ وللحقيقة، وجدت الرئيس الأسد متألمًا، وكأنّ أمرًا ما فُرض عليه وهو يريد مخرجًا.

كان الرئيس الأسد واعيًا بالمؤامرة، إذْ طلب مني البقاء في دمشق ومواصلة جهودي للتهدئة. كانت المشكلة التي واجهتني هي أن سورية ترفض أن يُسجل عليها "أنها قاتلت الثورة الفلسطينية" والحركة الوطنية اللبنانية، بينما كان الفلسطينيون يصرّون على الإشارة إلى "أن القتال يدور بين سورية من جهة، والثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية من جهة أخرى". وأخيرًا، بعد 48 ساعة من الحوارات المتواصلة، وبعد التفكير العميق، نجحت في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار "بين القوتين المتحاربتين" من دون ذكر اسم هذه القوات، وقد يكون هذا أول وقف لإطلاق النار من دون تحديد اسمي الطرفين المتحاربين، وكان الاتفاق ينصّ على ما يلي:

1 - وقف إطلاق النار فورًا بين القوتين المتحاربتين.

2 - وقف تقدّم القوات المتجهة إلى بيروت وبقاؤها في أماكنها في ضهر البيدر وجزين، حيث توجد فرقتان سوريتان كانتا تتقدمان من الجبل في اتجاه بيروت، وقد وصلتا إلى ضهر البيدر، بينما كانت هناك فرقة أخرى تتقدم على محور جزين - صيدا، والأخيرة تعرضت لكمين فلسطيني خطط له العقيد سعيد مراغة أبو موسى، وتمكن فيه من الاستيلاء على بعض المدرعات.

3 - يفرج الفلسطينيون عن مصباح البديري قائد الجيش الفلسطيني الذي اعتُقل بعد أن انشقّت وحدات الجيش وانضمت إلى ياسر عرفات، وبعض القيادات البعثية التابعة لسورية ممن أخذهم الفلسطينيون رهائن.

أخذ احمد جبريل الهاتف مني وقال للرئيس حافظ الأسد حرفيًّا: "يا سيادة الرئيس، إذا كنت تعتقد أننا سوف نقابلكم بالورود، فأنتم مخطئون، .."
كانت لسورية كتائب وحدات خاصة في منطقة المطار ورأس بيروت. في اليوم التالي لوقف إطلاق النار، فوجئت بالرئيس الأسد يطلبني على الهاتف، وكان منزعجًا جدًّا، وقال لي حرفيًّا: "هؤلاء الأوباش مش هم اللي يحرروا فلسطين، الجيش السوري هو الذي سوف يحرّر فلسطين، لن أسمح بإهانة الجيش السوري، وأنا مُتحلل من وقف إطلاق النار، وسوف أعطي الأمر للقوات أن تزحف عليهم، وسأطلب من الطيران أن يقصفهم".

ثم قال: "هناك كتيبة سورية خاصة في رأس بيروت ما زالوا يحاصرونها، وهناك ثمانية جنود جرحى يمنعوننا من إخلائهم"، فقلت له: "يا أخ الرئيس أعطني فرصة وأرجوك أن تؤجل هذا القرار وأنا أتعهد بحل الموضوع"، فقال: "من هنا، أي من دمشق، لن تتمكّن من عمل شيء، والذهاب إلى بيروت فيه خطر حقيقي عليك"، فقلت له: "سأذهب إلى بيروت من أجل هذا، ولكنْ لدي شرطان، الأول أن ترسل معي قيادات سياسية وعسكرية، لأنني لا أريد أن أضع نفسي - أو أجدني - مع ضباط لا يستطيعون اتخاذ قرار؛ الثاني لا أريد أن تضعني في بيروت غطاءً، والصواريخ والدبابات السورية تقصف وتقتل"، فقال لي بكل شهامة: "يذهب معك ناجي جميل ومحمد حيدر". كان ناجي جميل عضو القيادة وقائد القوات الجوية، وكان محمد حيدر عضوًا في القيادة القُطرية ونائبًا لرئيس الوزراء للشؤون الاقتصادية، ثم قال لي: "خلال وجودك في بيروت، القوات السورية ستكون تحت إمرتك،

لكن أرجو أن تعطيهم حق الدفاع عن النفس"، فوافقت، وكان إلى جانبي أحمد جبريل، فأخذ الهاتف مني وقال للرئيس حافظ الأسد حرفيًّا: "يا سيادة الرئيس، إذا كنت تعتقد أننا سوف نقابلكم بالورود، فأنتم مخطئون، لا تقل لي زهير محسن والبديري - العميد مصباح البديري رئيس أركان جيش التحرير الفلسطيني في سورية - ولا عاصم قانصوه ولا بطيخ

بدكم تمرّوا على جثثنا". أرسلت سورية برقية إلى قواتها في لبنان، تعلمهم فيها بتوجّهي إلى بيروت، وكذلك فعل الفلسطينيون. لكن ولأن الفلسطينيين غير مُنظمين، فإن البرقية لم تصل إلى القيادات. غادرت أنا وأحمد جبريل ومحمد حيدر وناجي جميل والمرافقون على متن أربع طائرات عمودية. ونظرًا إلى أنّ الفلسطينيين ميليشيات غير منضبطة. ولأن البرقية لم تصل، فقد اعتقدوا - ومعهم الحركة الوطنية اللبنانية - أن هذه الطائرات هي طائرات دعم للقوات السورية في بيروت، فأمطرونا بوابل من قذائف مضادّات الطائرات ومن كل الجهات.

جنود سوريون في بيروت في 15/ 11/ 1976 (فرانس برس)

جنود سوريون في بيروت (15/11/1976/ فرانس برس)

كنا في حالة خطر حقيقي، بحيث إنّ القذائف كانت تستهدفنا من كل الاتجاهات، وسيطر الخوف على الجميع، وشعرت بأن ناجي جميل ومحمد حيدر كانَا في أشد حالات الخوف، فقال لي ناجي جميل حرفيًّا: "يا أخ عبد السلام أنت تريد أن تموت فلماذا جئت بنا معك؟"، وقال محمد حيدر: "يا أخ عبد السلام لو كان الواحد على الأرض يمكن أن ينبطح أو يختفي خلف عمود أو حائط، أما في الجو فلا شيء".

ثم نهض أحمد جبريل واتجه نحو غرفة القيادة وكان شجاعًا ومتماسكًا، وأخذ يوجه الطيّار ويطلب منه القيام بمناورة. وبالفعل، اتجهت الطائرات صوب البحر بعيدًا عن المطار، ثم هبطت على شاطئ البحر بعيدًا عن المدرج. نزلنا مسرعين.

بدأ القصف بالمدفعية والهاونات والرشاشات، وممّا زاد الطين بلة أن القوات السورية شرعت في الردّ على مصادر النيران لإسكاتها. استفز القصف الفلسطينيين واللبنانيين، فزادوا من قصفهم لنا. وبعد أن نجونا من موت محقق في الجو، بدأنا رحلة الموت الثانية؛ إذْ تعرضنا لقصف شديد، اضطرّنا إلى الزحف والمناورة والتسلل خفية، وذلك حتى لا نتعرض للقنص، ساعات في اتجاه المطار حتى تمكنت القوات السورية القريبة من المطار من نجدتنا.

بعد أن استرحنا قليلًا في مقر القوات السورية في المطار، اتصلت بالفلسطينيين. تحدثت مع نايف حواتمة وأبو إياد (صلاح خلف) ، وطلبت منهما إبلاغ بقية القادة بالحضور إلى المطار، لكنهما رفضا هذا الطلب، فغضبت من هذا التصرف وأنهيت المكالمة. بعد منتصف الليل، عاودت الاتصال بالقيادات الفلسطينية وألححت عليهم أن يحضروا إلى المطار، فلم يوافقوا، فقلت لهم: "أريدُ أن أسألكم سؤالًا محدّدًا، ثم أجيبوا عنه بعد تفكير لأنه في ضوء هذا الجواب سوف أتصرف؟". ثم وجهت إليهم


السؤال التالي: "لماذا لا تريدون الحضور. هل أنتم خائفون على حياتكم من السوريين؟ أم تريدون المباحثات في أرض محايدة؟"، فردّوا "أنهم يخشون على حياتهم"، وعندئذ قررت الذهاب إلى بيروت للاجتماع بهم. في الطريق تعرضت مرات عدة للرماية بالرشاشات وقذائف "آر بي جي" (RPG) في الذهاب والعودة.

كانت رحلة موت ثالثة حيث كانت النيران تطلق علينا من كل الاتجاهات، واضطررنا مراتٍ عدة إلى أن نختبئ في السيارات، ولولا العناية الإلهية لكان الموت محققًا. ولمّا أنجدتنا القوات السورية، وكانت الاشتباكات متواصلة بقوة، أخذ أحمد جبريل شرشفًا أبيض وبشجاعة نادرة أخذ يهرول بين المقاتلين طالبًا منهم وقف الاشتباكات.

وجدت الفلسطينيين متشنجين ومتشككين في نيات السوريين، وكان من الصعب التفاهم معهم. وتجاه خطورة الوضع، قررت أن أهب حياتي لهذه المهمة القومية، وهي إنقاذ سورية من التدمير المعنوي، وإنقاذ الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية من التدمير المادي

وضرورة عودة التحالف من جديد بين سورية والثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية؛ فالتزمت بأن أظلّ في لبنان وسورية حتى القضاء على المؤامرة. في أحد الأيام قررت أن أذهب لمقابلة بيار الجميّل في بكفيا بالمنطقة الشرقية من بيروت، ورافقني رئيس جهاز أمن عرفات أبو علي حسن سلامة إلى منطقة المتحف، وهناك وجدت بشير الجميّل (نجله) في انتظاري. ركبت سيارة خاصة بحراسة مشدّدة وكنت أجلس بين بشير [الجميّل] وأبو علي حسن سلامة.

ما إن وصلت حتى عقدت مع بيار الجميّل اجتماعًا مطوّلًا، وقد لاحظت وأنا أدخل وجود كتابات على الجدران بالخط العريض تقول:

"لا لسورية لا للفلسطينيين لا للعرب".


بعد الاجتماع تحدثنا إلى الصحافيين. قال بيار الجميّل: "سورية أعدى أعدائي، يكفي أنها لم تعترف بلبنان ولا تقيم معه سفارة، ولكن أنا غرقان، امتدت لي يد، أمسكت بها". فاجأتني الكتابات على الجدران كما فاجأتني تصريحات الجميّل. كان بشير الجميّل شابًّا شهمًا وشجاعًا. كانت له عينَا صقر. في البداية أقمت في بيروت في ضيافة أحمد جبريل في شقة بمنطقة الحمراء. والواقع أنني كنت أغيّر السكن باستمرار.

تعرّضت في لبنان للموت مرّات كثيرة تجاوزت 14 مرة، وكانت "القوات المسيحية" حين تعلم أن طائرة عمودية قادمة من دمشق لنقلي، تقوم بقصف مكثف بالقذائف والقنابل لمنعي من المغادرة.
في أحد الأيام، كنت في شرفة الشقة وكانت هناك سيّدة عجوز في شرفة الشقة المجاورة، فجأة سألتني: "هل أنت السيد جلود؟" فقلت: "نعم"، فقالت: "كنا نعتقد أنك كبير في السن وبجسم ضخم.

ولكن أنت شاب". ثم سألتني: "هل زرت لبنان من قبل؟"، قلت مازحًا: "لا، يظهر أن عظمي عظم حرب"، فأخذت تحدثني عن لبنان بمرارة وألم ثم قالت: "غريب لم تزر لبنان في أيام عز لبنان"، ثم قالت: "إن شاء الله يعود لبنان وتزوره لترى لبنان على حقيقته"، ثم قالت: "سمعنا في الأخبار أنك تسافر إلى سورية لمقابلة حافظ الأسد"،

وأضافت: "أنا مسيحية من منطقة الأشرفية، أُرغمت على ترك منطقتي، وأنا الآن أعيش مع المسلمين، قُلْ لحافظ الأسد إذا كان يريد أن يقف مع المسيحيين فيجب عليه أن يقف مع المسلمين".

استمرت رحلة الموت والجهاد نحو 58 يومًا، كنت خلالها أعقد الاجتماعات المطوّلة مع قيادات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية بقيادة شهيد فلسطين كمال جنبلاط. كان محسن إبراهيم وجورج حاوي في موقف انتهازي، يذهبان في الصباح الباكر إلى المختارة للقاء كمال جنبلاط ليعرفا منه كيف يفكر وماذا يريد أن يطرح في الاجتماع، وحينما نجتمع مع قيادات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، يقوم محسن إبراهيم وجورج حاوي بطرح أفكار جنبلاط، ليقنعَا الآخرين بأن هذه أفكارهما، وأن أفكارهما هي ذاتها أفكار جنبلاط. كان بعض القادة الفلسطينيين يأتي متأخرًا للاجتماع، وكان جنبلاط يقول مازحًا:

"الفلسطينيون مثل الأرتستات يناموا بالنهار ويصحوا بالليل". كان الشهيد كمال جنبلاط يقول لي: "في سبيل عروبة لبنان والثورة الفلسطينية قبلنا بتدمير لبنان". وكان يقول لي: "لقد ربحنا شعبًا مقاتلًا، الشاب اللبناني المعروف بطول شعره ونعومة أظافره، أصبح يمتشق الكلاشينكوف و'الآر بي جي' في هذا الشارع قتال، وفي الشارع الخلفي الرقص والغناء. لم يعد اللبناني يخاف الموت".

في هذا الوقت، كانت هناك قوات ليبية بقيادة الشهيد عبد السلام سحبان تقاتل مع الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وكان الفلسطينيون واللبنانيون يسألونني:

"هل كل الليبيين شجعان مثل عبد السلام سحبان؟" وكنت أرد عليهم: "عبد السلام أقل واحد شجاعة بيننا"، فكانوا يقولون لي: "يا أخ عبد السلام. هذا هلبة عليك (أي كثير عليك)".

في أحد الأيام، كنت أتناول الغداء مع عرفات، وبعد دقيقة واحدة فقط من مغادرتنا صالة الطعام، سقط صاروخ في الصالة ودمّرها تمامًا. لقد تعرّضت للموت مرّات كثيرة تجاوزت 14 مرة، وكانت "القوات المسيحية"حين تعلم بأن طائرة عمودية قادمة من دمشق لنقلي، تقوم بقصف مكثف بالقذائف والقنابل لمنعي من المغادرة.

فكنت أضطرّ إلى السفر بالسيارة عبر الحواجز، وكان السفر برًّا أمرًا محفوفًا بالمخاطر، لكنني كنت أفضل الموت من أجل أن أتوصل إلى اتفاق نهائي يحفظ الثورة الفلسطينية ويبقي التحالف الثلاثي قائمًا. رفض بعض الفلسطينيين تنفيذ الاتفاق، لأنهم كانوا لا يزالون يشككون في النيات السورية، ورفضوا أيضًا في البداية الإفراج عن الأمين العام لحزب البعث اللبناني عاصم قانصوه وزوجته، وقائد جيش التحرير الفلسطيني في سورية اللواء البديري.

وهؤلاء كان يحتجزهم أبو العباس، جبهة التحرير الفلسطينية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ولكن بعد الضغط وبعد جهد مُضنٍ، تمكّنت من الإفراج عنهم واصطحبتهم معي في الطائرة العمودية إلى دمشق، وكانت هذه خطوة مهمة جدًّا ومفتاحًا للحل. ثم ركزت في المرحلة الثانية على سحب القوات السورية من بيروت والمطار؛ إذْ كان يتمركز فيهما نحو ثلاثة ألوية خاصة. وبعد رحلات مكوكية بين بيروت ودمشق، تمكنت من تحقيق المرحلة الثانية وهي سحب القوات السورية، ولم يكن هذا أمرًا سهلًا.

ولكن العزيمة، والإرادة الثورية التي لا تكل ولا تمل، والثقة بالنفس، والعناية الإلهية، كانت هي العوامل التي ساعدتني في تحقيق هذا الهدف. كان السوريون يرفضون الانسحاب قائلين: "لن ننسحب بناءً على طلب الفلسطينيين. هذا شأن سوري - لبناني". وكثيرًا ما هددت الإخوة في سورية بقطع مهمتي والعودة إلى ليبيا، بل كثيرًا ما كنت أطلب من الطيارين أن يذهبوا إلى المطار لتجهيز الطائرة استعدادًا للعودة إلى ليبيا.

وبالطبع لم أكن أنوي العودة، ولكنني كنت أمارس الضغط على الأطراف كلّها لإقناعها بضرورة التجاوب مع مبادرتي للحل، وأقول - للتاريخ - إنني وجدت من الرئيس الأسد كل تشجيع، وكان يطلب مني البقاء ومواصلة المهمة.

وفي كل مرة كنت أحزم فيها حقائبي وأجهز السيارات للذهاب إلى المطار، يلحق بي عبد الحليم خدام وحكمت الشهابي ومحمد حيدر وناجي جميل لإقناعي بالعدول عن قرار السفر. كان الرئيس الأسد واعيًا بحجم المؤامرة، وكان يريد الخروج من هذا "المأزق" .

في عام 1979، كان صدام حسين نائبًا للرئيس العراقي أحمد حسن البكر، ولكنه كان يتمتع بالسلطة الحقيقية. حينما كنت في دمشق، اتصل بي هاتفيًّا عدّة مرات وقال لي:

"السوريون ينفذون مؤامرة ويريدون استخدامك كغطاء. لا تسمح لهم أن يفعلوا ذلك"، وكنت أضحك وأسخر من هذا الكلام وأقول له: "يا أخ صدام أنا أعرف ماذا أفعل. قرار بقائي في دمشق هو قرار شخصي وليس قرار القيادة في ليبيا. اتخذت هذا القرار على مسؤوليتي رغم معارضة القيادة. أرجوك لا تحاول أن تقنعني بأمر آخر".

كان الشهيد كمال جنبلاط يقول لي: "في سبيل عروبة لبنان والثورة الفلسطينية قبلنا بتدمير لبنان"
بعد وقت طويل من العمل الصبور والجهد الصادق والغضب والمشاجرات والمشادات، والأخذ والرّد، تغلب العقل أخيرًا على التهور، وانتصرت إرادة الأمة. لقد قمت بجولات مكوكية بين بيروت ودمشق، تارة بطائرة عمودية، ومرات بواسطة السيارات.

كان الشكّ هو المسيطر في أجواء الأطراف الثلاثة (سورية، والفلسطينيين، والحركة الوطنية اللبنانية)، وبصفة أخصّ بين الفلسطينيين والسوريين. حاول الفلسطينيون أن يستغلوا وقف إطلاق النار مع سورية لتحقيق نصر عسكري على "المسيحيين"، فقاموا بعدّة محاولات هجومية باءت كلها بالفشل رغم التسليح والعدد.

كانت الروح المعنوية القتالية عند الفلسطينيين، عكس الطرف الآخر، شبه منعدمة؛ وقد لاحظت وجود فجوة بين القيادات والمقاتلين، وأن المقاتلين لا يثقون بقياداتهم لأنها كانت تعيش "حياة ترف" وكل زعيم من حوله الخدم والحشم، وأستثني من ذلك الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (جورج حبش) ، وجبهة النضال الشعبي، وياسر عرفات شخصيًا.

لقد كان عرفات، رغم توجهاته الاستسلامية وإفساده المتعمد للثورة والفدائيين والمناضلين، ورغم شرائه للذمم وإمبراطوريته التي خلقها في لبنان وتآمره على الحركة الوطنية اللبنانية، رجلًا بسيطًا ونظيفًا ويعيش حياة بسيطة جدًّا على المستوى الشخصي.

لقد كانت كل القيادات السياسية الفلسطينية في بيروت - عدا خليل الوزير (أبو جهاد) الذي كان في الجبل - قد استباحت لبنان، وخاصة المناطق الإسلامية، وعملت على "منع" قيام حركة وطنية قوية. وبالفعل، فقد أضعفتها وحولتها إلى "تابع"، في حين كان ينبغي لها أن تكون هي الأساس الذي يستند إليه التحالف، كما كان من المفترض أن يكون الفدائي الفلسطيني "ملاكًا" على الأرض في سلوكه وتصرفاته. لقد حدث العكس، فالقيادات والمقاتلون الفلسطينيون، يمارسون "سياسة تخويف" اللبنانيين و"يعيثون" فسادًا في لبنان؛ وهكذا غاصت الثورة في المستنقع اللبناني. والواقع أن الثورة الفلسطينية انتهت أخلاقيًّا منذ ذلك الوقت، فجاءت "النهاية السياسية" نتيجة لـ "النهاية الأخلاقية".

وهنا أورد مقارنة واضحة بين الثورتين الفلسطينية والجزائرية: كان المجاهد الجزائري، في الثورة الجزائرية، يعيش حالة من الانضباط العالي، بحيث يبدو "ملاكًا". وأذكر أنني حينما كنت صغيرًا في الخمسينيات، وكان الشعب الليبي يحتضن الثورة الجزائرية بقرار شعبي، وليس بقرار النظام الملكي العميل، كانت العائلات الليبية تسعد باستقبال مجاهد جزائري، بل كانوا يتبركون بوجوده بينهم، لأنهم يرون فيه "ملاكًا على الأرض"؛ وهكذا اكتسب المجاهد الجزائري والثورة الجزائرية سمعة أسطورية.

في الجانب الآخر، كانت سمعة المقاتل الفلسطيني والقيادات سيئة بين الجماهير اللبنانية والعربية. في إحدى المرات حصلت من السوريين على موافقة الانسحاب، وذهبت إلى بيروت. مكثت في العاصمة اللبنانية لأشرف على تنفيذ قرار الانسحاب، ولكنّ السوريين لم يفوا بوعدهم؛ فذهبت للقاء الرئيس الأسد وأنا في حالة غضب عارم. لما وصلت وجدت أن ملك الأردن حسين بن طلال يقوم بزيارة لدمشق، وعلمت أن الرئيس الأسد سيكون في توديع الملك في أحد المطارات العسكرية، فذهبت على الفور إلى المطار، وبقيت بعيدًا عن صالة الضيوف بالقرب من إحدى "الهناجر". لمّا أقلعت طائرة الملك حسين، توجهت وأنا أهرول إلى الرئيس حافظ الأسد، فوصلت وهو يهمّ بركوب السيارة فناديته: "أخ الرئيس، أخ الرئيس أريد أن أتحدث معك". ثم قلت: "الموقف خطير، ويبدو أنه لا توجد رغبة في الوصول إلى حل، وإذا لم تتح لي فرصة اللقاء بكم فسوف أضطرّ إلى المغادرة"، فقال لي: "العراقيون قتلوا أحد أعضاء القيادة القومية وظروفي اليوم صعبة". وتحت إلحاحي، وكان الرئيس الأسد رجلًا شهمًا على الدوام، قال لي: "سأطلبك، ولكن في وقت متأخر من الليل"، فقلت له: "أنا مجاهد. في أي وقت يسمح وقتكم أنا جاهز". وبالفعل طلبني الرئيس الأسد حوالى الساعة الواحدة والنصف ليلًا، وقال لي: "استمر بمهمتك ولا تيأس وما بيكون إلا الخير". وبالفعل، صدرت الأوامر في اليوم التالي بتنفيذ الانسحاب. بعد أن أكملت القوات السورية انسحابها، بدأت المرحلة الثالثة، وهي المصالحة وعودة التحالف الطبيعي.
 

(عبد السلام جلود مع الرئيس حافظ الأسد)

حافظ الأسد وعبد السلام جلود في محادثات في دمشق في 1976


جئت إلى دمشق صحبة القيادات الفلسطينية بواسطة طائرة عمودية، وتوجهنا فورًا للقاء الرئيس الأسد. وحينما استقبلنا ألقيت كلمة قلت فيها حرفيًا: "لقد أمضيت مدة ثمانية وخمسين يومًا بعيدًا عن ليبيا، وأنتم تعرفون حاجة ليبيا إلي فأنا رئيس الوزراء، ونحن نخوض حربًا في تشاد وقد تعرضت للموت المُحقق أكثر من 14 مرة، ولكنني سعيد لأنني تمكنت من تحويل الرصاص إلى قبلات".

وكنت أشير إلى العناق بين القيادات الفلسطينية والرئيس الأسد وتقبيلهم له، ثم انسحبت من اللقاء وتركت القيادات مجتمعة معه. ومن المؤسف أنّ عرفات حاول أن "يبيع" هذا الإنجاز الثوري والتاريخي للمملكة العربية السعودية.

لقد تألمت كثيرًا حين علمت بذلك، ولكن القيادات الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية وقفت ضد محاولة عرفات هذه، فاضطرّ إلى التراجع، ثم صرّح في مؤتمر صحافي: "إن الرائد عبد السلام جلود وثورة الفاتح يستحقان أرفع وأرقى وسام قومي".

في هذا السياق، أريد أن أورد شيئًا مهمًا: إن قرار بقائي 58 يومًا كان قرارًا شخصيًا، وكان الأخ معمّر معارضًا لبقائي خارج ليبيا كل هذا الوقت، وخاصة في لبنان، وكان خائفًا عليّ، بل إنه رفض أن يتحدث معي هاتفيًّا. وقال لأبو بكر يونس: "سأتحدث مع عبد السلام فقط لمّا يعود من دمشق، وأن يعدني بأنه لن يذهب مرة أخرى إلى بيروت".

لقد اتخذت قراري هذا من أجل سورية ولبنان ومن أجل فلسطين، قضية الأمة المقدسة. إن النظام العربي الرسمي عجز عن عمل أي شيء. وكذلك جامعة الدول العربية التي بدت عاجزة هي أيضًا. شكلت جامعة الدول العربية لجنة برئاسة أمينها العام محمود رياض وعدد من الوزراء العرب (وزير خارجية السعودية سعود الفيصل، ووزير خارجية الكويت صباح الأحمد الجابر الصباح) ولكنها لم تفعل أي شيء، وحدث أن اجتمعت باللجنة الوزارية في دمشق قبل سفري إلى بيروت، وأبلغتهم بقرار سفري،

فقال لي محمود رياض: "أنت مجنون تذهب إلى بيروت؟"، فقلت له: "لأنني مجنون سأذهب إلى بيروت".

الصورة
ياسر عرفات بين مقاتليه في بيروت في 1/ 6/ 1982 (فرانس برس)

ياسر عرفات بين مقاتلين فلسطينيين في بيروت (1/6/1982/ فرانس برس)

بعد الاحتلال الصهيوني لبيروت عام 1982، كان جورج شولتز، وزير الخارجية الأميركي، يريد شخصيًّا أن يحقق "نصرًا" أو نجاحًا على غرار نجاح كيسنجر في كامب ديفيد. كان يريد أن يحقق تصوّر بن غوريون، حين قال: "أنا لا أعرف الدولة العربية الأولى التي ستعترف بإسرائيل، لكن الدولة الثانية ستكون لبنان". سافرت إلى سورية وعقدت اجتماعات عدة مع الإخوة السوريين والفصائل الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط. اتفقنا نحن الأطراف الأربعة (ليبيا، وسورية، والحركة الوطنية اللبنانية، والفصائل الفلسطينية باستثناء حركة فتح)، على مقاومة الاحتلال الصهيوني في لبنان والقوات الغربية التي تحتله والمعسكر الانعزالي، القوات اللبنانية والكتائب، واتفقنا على ما يلي:

1 - إنشاء غرفة عمليات مشتركة يوجد فيها ضباط سوريون وليبيون وفلسطينيون والحركة الوطنية اللبنانية.

2 - تزويد ليبيا للفصائل الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية بالسلاح والذخيرة.

3 - تدفع ليبيا مرتبات المقاتلين الفلسطينيين ومقاتلي الحركة الوطنية اللبنانية.

4 - ترسل ليبيا دبابات ومدرعات ومدفعية ووسائط دفاع جوي بأطقمها الليبية على أن تتمركز مع قوات جنبلاط وأحمد جبريل وجورج حبش في منطقة الجبل.

لقد قمت بدور كبير في إقناع الأطراف بضرورة البدء بمقاومة الاحتلال الصهيوني، وقامت ليبيا بتنفيذ ما التزمت به. وبدأت هذه الأطراف في المقاومة بعد أن تخلصت الفصائل والحركة الوطنية اللبنانية من "هيمنة" عرفات على القرار. لقد كان لانتفاضة الضاحية وانتفاضة الجبل الدور الأساسي في انتصار المقاومة وهزيمة العدو الصهيوني والغربي والانعزالي.

أسقطت المقاومات الأرضية طائرتين أميركيتين حاولتا شنّ غارات على منطقة الجبل، ووقع أحد الطيارين في الأسر، وأعتقد أنّ الطائرتين أسقطتهما قوات الدفاع الجوي الليبي المتمركزة في منطقة الجبل، حيث كانت عربات "م1" الروسية الصنع متمركزة هناك.

ثم كان للعمليات الجهادية الانتحارية التي حدثت في صيدا ضد مركز القيادة الصهيونية هناك، والتي نفذها الفلسطينيون، ثم العمليات الجهادية الانتحارية التي نفذها حزب الله على القوات الأميركية والفرنسية، أثرٌ هائلٌ في بث الرعب في القوات الأميركية والفرنسية والبريطانية والصهيونية، فانسحبت من لبنان، كما انسحبت القوات الصهيونية من معظم الأراضي اللبنانية نحو الشريط الحدودي. ولكي يعوّض الغرب هزيمته هذه، حشد ما بين أربعين إلى خمسين قطعة بحرية قبالة السواحل اللبنانية، بما فيها حاملات الطائرات.

وكان السؤال: ضد من؟ كل هذا الحشد البحري ضد مقاومة شعبية؟ لقد انتصر لبنان لأنه لا توجد حكومة يمكن إلحاق الهزيمة بها؟ لا يوجد جيش يمكن أن يهزم. كانت هناك مقاومة شعبية وهذه لا يمكن هزيمتها، كان عمودها الرئيس الشيعة والدروز، وبالطبع لا يمكن تجاهل دور الفصائل الفلسطينية في تحقيق النصر وإلحاق الهزيمة بالقوات الصهيونية والغربية والانعزالية، نعم الشعب لا يُهزم أبدًا، ولكن الجيوش تُهزم.

لقد أراد الأميركيون الانتقام لهزيمتهم، وانطلاقًا من المثل الشعبي "عصا الذلال طويلة" (أي عصا الجبان طويلة)، أحضر الأميركيون البارجة "نيوجيرسي" وكان ذلك بطلب من أمين الجميّل. صبّ الأميركيون جام غضبهم على لبنان، ووجهت [البارجة الحربية] "نيوجيرسي" قنابلها الضخمة ضد المسلمين ومناطق الجبل في محاولة يائسة.

كانت حكومة أمين الجميّل قد وقّعت اتفاقًا مع الصهاينة في 17 أيار/مايو 1983، وكانت قوات الحركة الوطنية اللبنانية وأمل وحزب الله والفصائل الفلسطينية على بعد كيلومتر واحد أو كيلومترين من قصر بعبدا. وكان يمكن إلحاق الهزيمة بأمين الجميّل ومعسكره الانعزالي، ولكن نظرًا إلى الضغوط الأميركية على سورية، ونظرًا إلى تخوّفها من أن تكون الحرب إسلامية - مسيحية، ولأن سورية تولي أهمية خاصة لأوضاع المسيحيين في المشرق العربي - وحتى لمسيحيي سورية نفسها - فقد امتنعت عن إلحاق الهزيمة العسكرية بالقوات الانعزالية واحتلال قصر بعبدا. وبدلًا من ذلك اشترطنا نحن وسورية لإيقاف القتال أن يلغي الجميّل اتفاق 17 أيار.

زار أمين الجميّل العواصم الغربية طالبًا النجدة، زار باريس وواشنطن، ولكن الرعب الذي أصاب هذه العواصم من العمليات الانتحارية جعلها تتخذ موقفًا سلبيًّا من مناشداته، وطلب الرئيس الأميركي ريغن ووزير خارجيته شولتز من أمين الجميّل، العمل على إقناع سورية وليبيا بـ "تجميد اتفاق 17 أيار" بدلًا من إلغائه. بعد باريس، زار الجميّل المغرب وطلب من الملك الحسن الثاني القيام بوساطة مع ليبيا، وإقناعها باستقبال الجميّل، فاتصل الملك الحسن الثاني بالأخ معمّر عارضًا عليه طلب الجميّل. اتصل الأخ معمّر بي وأجرينا مناقشة عبر الهاتف وتداولنا حول موضوع الزيارة.

في الواقع، كنت ضد زيارة الجميّل، ولكن الأخ معمّر قال لي: "زيارته لليبيا تعني اعترافه واعتراف الغرب بأن الحل في طرابلس ودمشق وليس في باريس وواشنطن"، فغيّرت موقفي. وبالفعل، قام الجميّل بزيارة طرابلس، وكنت في استقباله بالمطار، ثم توجهنا مباشرة للقاء الأخ معمّر. حينما وصلنا إلى الخيمة وجدنا الأخ معمّر قد أحضر جهاز فيديو وعرض على الجميّل شريطًا تلفزيونيًا للبارجة "نيوجيرسي" وهي تقصف منطقة الجبل.

بعد الترحيب به، ضغط الأخ معمّر على زر الفيديو وقال مخاطبًا الجميّل: "انظر إلى نيوجيرسي وهي تمطر لبنان بالقذائف؟ كيف تستعين بقوة أجنبية ضد شعبك؟ أو ضد جزء من شعبك؟ أنت بهذا العمل أثبتّ أنك لست رئيس كل لبنان. أنت رئيس لجزء من الشعب اللبناني". شعر أمين الجميّل بالحرج الشديد، ثم حاول إقناع الأخ معمّر بأن "نوافق على تجميد الاتفاق" بدلًا من "إلغائه".

وكاد الأخ معمّر يوافق لولا أنني تمسكت بالإلغاء، وقلت له: "هذه خطة أميركية لأن عام 1983 سنة ميتة في السياسة الأميركية لأنها سنة انتخابات، وبعد الانتخابات ونجاح ريغن، سيعود لمحاربتنا بقوة؛ ومن ثمّ يجب أن نغتنم الفرصة". وبالفعل، رفضنا مقترح التجميد وأصررنا على الإلغاء. في الطريق إلى المطار، قال لي أمين الجميّل: "كنت أعتقد أنني سأجد صعوبة في إقناع القذافي، وإذا بي أجد صعوبة في إقناعك أنت".

نحن لم يهزمنا العدو، ولكن هزمتنا الدكتاتورية. نحن شعوب مهزومة من الداخل، وأنظمتنا أنظمة عائلية/عشائرية/قبلية
إن العمليات الفدائية الجهادية ضد القوات الأميركية والفرنسية، وكذلك ضد قيادة القوات الصهيونية في صور، إحقاقًا للحق، كانت بسبب الروح الجهادية التي أطلقتها وبشرت بها وحرضت عليها الثورة الإسلامية في إيران، بقيادة الإمام الخميني. وأذكر أنني قمت بزيارة لإثيوبيا بعد هذه العمليات الجهادية، فقال لي الرئيس منغيستو هيلا مريام: "أنتم العرب قد لا تعرفون قيمة العمل الذي قمتم به.

كان العالم قبل هذه العمليات الانتحارية يتغنّى بالعمليات الفدائية التي قام بها الطيّارون اليابانيون ضد الأسطول الأميركي في ميناء بيرل هاربر في 7 كانون الأول/ ديسمبر 1941. أنتم بهذه الأعمال تقدمون أرقى أنواع العمل الفدائي". كان العمل الفدائي يعني تفجير قنبلة عن بُعد، أو الهجوم الخاطف على هدف محدد، ولكن أن "يُلغم" الإنسان نفسه أو يقود سيارة "مُلغّمة"، وهو أول من يكون الضحية؛ فهذا أمر لم يعرفه النضال من قبل. لقد قمنا بممارسة ضغط شديد، وحرّضنا الفصائل الفلسطينية والحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي اللبناني

وكنّا نضرب لهم المثل بحزب الله والمقاومة الإسلامية لنغيظهم ونستفزهم ونشجعهم ونقول لهم: "أنتم لا تملكون العقيدة ولا الجرأة التي يتمتع بها المقاتل الإسلامي في حزب الله والمقاومة الإسلامية". كل ذلك كان بهدف تحفيزهم على محاكاة تجربة حزب الله في القيام بالعمليات الاستشهادية. وبالفعل، نجحنا مع الحزب السوري القومي الاجتماعي والحزب الشيوعي؛ إذ قاما بعمليات استشهادية. وكنّا نريد أن تستفيد الفصائل الفلسطينية، وأحزاب الحركة الوطنية اللبنانية، من هذه التجربة وهذه الروح الاستشهادية التي خلقتها الثورة الإسلامية في إيران وفي صفوف الشباب الشيعة. لقد كنت معجبًا بهذه الثورة، ومعجبًا بهذه العمليات الاستشهادية وبحزب الله والمقاومة الإسلامية.

إنها النموذج الذي كنّا نفتقده. وأذكر أنني في لقاء مع الرئيس الأسد، قال لي: "في إحدى زيارات مساعد وزير الخارجية الأميركية ريتشارد ميرفي، وبينما كنت مجتمعًا به قال لي: نحن في أميركا لا نفهم كيف أن حزب البعث العلماني وسورية القومية تتحالف مع الأصوليين في لبنان، وكان بذلك يشير إلى حزب الله، فرددت عليه بالقول: "إذا كانت الأصولية هي العودة إلى الجذور فأنا أصولي، ثم إنّ هؤلاء يقاتلون عن سورية والأمة".

ذهبت مرة أخرى إلى سورية والتقيت بالإخوة من الفصائل الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. وبمبادرة من ليبيا، اتفقنا نحن الأطراف الأربعة (ليبيا، وسورية، والفصائل، والحركة) على ضرورة تكثيف العمليات الفدائية ضد القوات الصهيونية في جنوب لبنان وفي فلسطين. التزمت ليبيا، طبقًا لهذا الاتفاق بتمويل العمليات الفدائية فضلًا عن الدعم المقرر أصلًا؛ نظرًا إلى حاجة هذه العمليات النوعية إلى إمكانيات وتقنيات خاصة.

اقترحت على الإخوة في سورية أن نعمل معًا ومع حزب الله وأمل وأحزاب الحركة الوطنية اللبنانية على تفجير "انتفاضة" شعبية مسلحة ضد القوات الصهيونية في الجنوب اللبناني. وللأسف، فإن هذا النوع من الأعمال الجريئة لم يكن يلقى الفهم الكامل ولا التجاوب، نظرًا إلى العقلية العربية المحافظة التي لم تتعلم "روح المجازفة"؛ ذلك أنّ المنهج العام محافظٌ بطبيعته، من البيت إلى الجامعة. حينما تفجّرت ثورة الفاتح من سبتمبر العظيمة، كانت الأمة العربية تقبع تحت كابوس هزيمة 1967. ورغم الشعارات التي شدّد عليها مؤتمر الخرطوم (لا للاعتراف، لا للمفاوضات، لا للصلح)، فإنّ عدوان 1967 لم يكن فقط هزيمة عسكرية للعرب، بل كان هزيمة أيديولوجية أجهضت "فكرة الثورة العربية"، فجرى استبدال شعار "وحدة الهدف" بشعار "وحدة الصف". كان نموذج القومية العربية هو النموذج الفاشي الدكتاتوري، أي حكم الفرد/الأسرة/العائلة/القبيلة؛ لم يكن عند العرب أيّ نموذج سياسي يمكن اعتماده.

وبدلًا من ذلك، كانت هناك "إقطاعيات" سياسية خلقت أنظمة تعتمد على أجهزة بوليسية وقمعية وأجهزة استخبارات ووحدات عسكرية قبلية. ولكل هذه الأسباب وقعت الهزيمة. نحن لم يهزمنا العدو، ولكن هزمتنا الدكتاتورية. نحن شعوب مهزومة من الداخل، وأنظمتنا أنظمة عائلية/عشائرية/قبلية. كان ياسر عرفات في زيارة لليبيا في عام 1973، وفوجئنا حين طلب منّا طائرة خاصة لنقله إلى القاهرة. وبعد وصوله بساعات، شاهدناه يحضر مع الخائن السادات جلسة ما يسمى مجلس الشعب المصري الذي أعلن فيه "زيارة فلسطين المحتلة"، وشاهدنا عرفات وهو يصفق.


لقد تآمر عرفات على تدمير الثورة من الداخل. كان يفسد الذمم والكوادر والمناضلين، وأعتقد أن دول الخليج بدأت بدعمه، حينما تأكدت أن الدعم لا يقود إلى التحرير، وإنما إلى تدمير الثورة وخلق "سلوك غير ثوري". إنه البترودولار، عماد الثورة المضادة.

تآمر عرفات على تدمير الثورة من الداخل. كان يفسد الذمم والكوادر والمناضلين، وأعتقد أن دول الخليج بدأت بدعمه، حينما تأكدت أن الدعم لا يقود إلى التحرير
في 21 آب/ أغسطس 1982، قرّرت منظمة التحرير الفلسطينية الخروج من بيروت. طلبنا من القيادات الفلسطينية أن "ترفض" هذا القرار، وأن يفضل الفلسطينيون "الانتحار" على الخروج المُذل.

لقد كان خروجًا مُذلًّا؛ ليس للثورة وحدها، بل لكل الأنظمة العربية والجماهير العربية. في هذا الوقت، أدخل عرفات والنظام السياسي العربي المستسلم الثورةَ في "حمّام للتبريد". قال لنا عرفات مرات كثيرة: "هذا هو عصر الدولار السعودي"، وكان يعبّر بذلك عن الدور التخريبي الذي تؤديه السعودية من شراء ذمم وضمائر السياسيين والمثقفين والصحافيين العرب، وحتى "الثوريين العرب".

قاد عرفات والرجعية العربية والملك الحسن الثاني والنظام المصري عملية حمّام الماء البارد أو عملية تدجين الثورة وترويضها. وإذا كانت قرارات القمة العربية تؤكد أن منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، فإن هذه القرارات تبدو في ظاهرها تكريسًا للهوية الفلسطينية. أما في الواقع، فإن منظمة التحرير هي "ثوب" مصمم لعرفات، وحينما يقال "منظمة التحرير" فإن المقصود ياسر عرفات. أفرغ عرفات مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية من محتواها، وركّز كل شيء في يده وضمن بطانته. كان يقول في الاجتماعات، وهي عادةً مجردُ "منابر خطابية": "خليهم يتكلمون أنا عندي الشيك والقلم". دغدغ هذا الشعار العواطف الوطنية الفلسطينية

ولكنه كان يحمل أبعادًا تآمرية على قضية فلسطين. استطاع عرفات أن يخدع القيادات الفلسطينية، لمّا تبنى شعار إقامة "السلطة الوطنية الفلسطينية على أي جزء يتمّ تحريره". وللأسف، نجح عرفات في إقناع الفصائل الفلسطينية. وبعد أوسلو، ها هو يقول: "إنه ينفذ قرارات المجلس الوطني الفلسطيني". بعد شحن "الثورة الفلسطينية" في السفن الغربية، بحماية السفن الأميركية والفرنسية، وبعد أن جرى التآمر على البندقية الفلسطينية والكفاح الوطني الفلسطيني والمقاومة، عُقد "مؤتمر قمة" فاس في الفترة 6-9 أيلول/سبتمبر 1982 بطريقة احتفائية، وبأمرٍ من الولايات المتحدة، للإعلان عن نهاية المقاومة والثورة.

وبالطبع لم نشارك في هذا المؤتمر. لقد رفض العرب الدعوات المتكررة منّا خلال حصار بيروت في عام 1982، لعقد قمة عربية. لكن بعد أن تحققت المؤامرة، عقدوا قمة، تطبيقًا للمثل القائل: "إذا لم تستحِ فافعل ما شئت". ثم بدأ عرفات بالتآمر في طرابلس، اللبنانية، وفي البقاع والجبل، وفي الجنوب اللبناني؛ فتفجّر الخلاف داخل حركة فتح، وقاد نمر صالح وأبو موسى، سعيد مراغة، وأبو خالد، موسى محمود العملة، حركة الانشقاق، فسافرتُ على عجل إلى سورية وعقدتُ سلسلة اجتماعات مع الإخوة السوريين ومع أبو صالح وأبو موسى وأبو خالد العملة، ومع أحمد جبريل

واتفقنا جميعًا على إخراج عرفات من طرابلس ومخيمات الشمال. وبالفعل، تمكنّا من إخراجه. قامت قواتنا الموجودة في لبنان، بتقديم الإسناد المدفعي في المعركة لإخراج عرفات. شكّلت الخطة الأميركية - الصهيونية، التي أطلقها الملك فهد، أساس "تصفية قضية فلسطين"؛ إذْ طلبت واشنطن من الملوك والرؤساء العرب عقد قمة للموافقة عليها. وبالفعل، عقد اجتماع في فاس بالمغرب يوم 6 أيلول/سبتمبر 1982، وحضرته كل الدول العربية ما عدا ليبيا. قررنا مقاطعة "مؤتمر الخيانة".

ثم تبنّى المؤتمر "خطة السلام" التي عرضها الملك فهد، فأصدرنا بيانًا رفضنا فيه مقررات قمة فاس. كنت أنا والأخ معمّر في مدينة سبها جنوب ليبيا، وهناك قدنا تظاهرة حاشدة شارك فيها نحو 50 ألف متظاهر. كانت التظاهرة عفوية ومن دون ترتيب أو إعداد. جهزنا صورًا ودمًى للملوك والرؤساء العرب، وأحضرنا فأسًا وقمنا بتهشيم الصور والدمى، باستثناء صورة حافظ الأسد، مراعاة لظروف سورية وجغرافيتها وتعرضها لضغوط غربية، ولأننا نريد أن نبقي على علاقتنا الجيدة مع دمشق وجرّها إلى موقفنا.

كان الملك الحسن الثاني يقول، وهو على حق: "إنّ كل العرب حضروا قمة فاس ووافقوا على مقرّراتها ما عدا ليبيا، وبالتالي فمن حقها أن تعارض".

وهكذا، بدأ مسلسل التآمر وتصفية القضية الفلسطينية، فقد نبذ عرفات العمل الفدائي، ووصفه بأنه "إرهاب" بناءً على طلب الولايات المتحدة، لما أعلن بالإنكليزية اعترافه بدولة غير شرعية في فلسطين. ومن المؤسف أنني كنت مشغولًا في منطقة الجنوب، نظرًا إلى الإخفاقات التي كانت تعانيها قواتنا في تشاد في فايا ووادي الدوم

وقيام حسين هبري باحتلال قرية أوزو. استغل عرفات هذا الوضع، وكان الأخ معمّر في حالة نفسية سيئة، فقام بخداع الأخ معمّر، ويبدو أن من ساهموا في الخداع جورج حبش ونايف حواتمة، حين اتفقوا على عقد المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر. أدت الجزائر دورًا كبيرًا في التحضيرات لعقد دورة المجلس الوطني الفلسطيني؛ لأن الجزائريين كانوا يرفعون "شعارًا إقليميًّا": لن نكون فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين، نقبل بما يقبل به الفلسطينيون.

رفضت حركة فتح - الانتفاضة وأحمد جبريل، وحركة فتح - المجلس الثوري والصاعقة، الاشتراك في إعداد الوثيقة الأساسية لدورة المجلس، كما رفضوا المشاركة فيه. لكن - للأسف - أعطى حبش وحواتمة الغطاء لعرفات. لمّا علمت بعقد هذا الاجتماع، ورغم أنني كنت مشغولًا بالعمليات في الجنوب، اتصلت بالأخ معمّر واعترضت على عقد المجلس الوطني في الجزائر وعلى "فكرة" الوثيقة المطروحة. شكلت دورة المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر بداية التفريط في القضية الفلسطينية؛ إذْ أصدر المجلس قرارات استسلامية، كما أُطلقت يد عرفات لتقديم مزيد من التنازلات.

قبل هذه الأحداث بسنتين، وبعد حرب الخليج الثانية (2 آب/ أغسطس 1990 - 28 شباط/ فبراير 1991)، وتدمير العراق بما يقرب من عشر سنوات، انتزع الأميركيون والصهاينة وقوى الاستسلام زمام المبادرة، واستغلوا الانهيار الذي أصاب الأمة العربية ليفرضوا عليها الاستسلام، وتصفية القضية الفلسطينية؛ فأعلن الرئيس الأميركي جورج بوش، في 30 تشرين الأول/أكتوبر 1991، عقد مؤتمر مدريد الاستسلامي الخياني، ليفرض المفاوضات المباشرة، إمعانًا في إذلال العرب، ولم يكن اختيار مدريد مجرد مصادفة كما قال جيمس بيكر، وزير الخارجية الأميركي.

لقد كان هذا الاختيار زيادة في إذلال العرب؛ إذ صادف مرور 500 عام على "خروج العرب من الأندلس". وكنّا أعلنا في ليبيا أن هذا المؤتمر "مؤتمر خيانة" لقضية فلسطين والأمة، وأنّ الذين يشاركون فيه "خونة"، ورفضنا مُسبقًا ولاحقًا كل قراراته المترتبة عليه، لأنه فُرض على الأمة فرضًا. وأعلنّا أنّ الأمة العربية تتبرأ من المؤتمر ومن نتائجه؛ ولذا فهو لا يكتسب أي مشروعية. وللأسف، قرّر اتحاد المغرب العربي، باستثناء ليبيا، إرسال الأمين العام للاتحاد ممثلًا له في مدريد، وهو تونسي، فأرسلنا لهم احتجاجًا رسميًا، وقلنا حرفيًّا: "إنه لا يمثلنا لا من قريب ولا من بعيد، إضافة إلى أن إرساله يخالف اتفاقية اتحاد المغرب العربي التي تنص على الإجماع". أرادت الولايات المتحدة قرارًا إسلاميًّا بالموافقة على مبادرة بوش وعلى عقد مؤتمر مدريد، وطلبت عقد مؤتمر قمة إسلامي.

وبالفعل، عُقد المؤتمر في دكار بالسنغال، وتبنى خطة بوش لتصفية القضية الفلسطينية، وأصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارًا بإلغاء قرارها السابق الذي يعتبر الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية، وكذلك فعل المؤتمر الإسلامي في السنغال تماشيًا مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد انسحبنا من آخر مؤتمر قمة عقد في الدار البيضاء بالمغرب؛ لأن المؤتمر اعترف بالعدوّ، وفرّط في الحق القومي، وأعطى إشارة الانطلاق لتصفية القضية الفلسطينية، وشكّل بداية الاستسلام للمخطط الصهيوني - الأميركي. وقد أصدرنا أمرًا لمكتب الاتصال الخارجي باستخدام كلمة "الرفض" بدلًا من "عدم الموافقة" أو "التحفظ"، ورفضنا قرارات اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة الذي عُقد لمباركة مؤتمر مدريد والموافقة على "المفاوضات المباشرة".

لقد أعطيت القضية الفلسطينية كل وقتي منذ طفولتي، فشبابي. أعطيتها عقلي وقلبي وتفكيري وعرقي ودمي، ولكن - للأسف - ضاع كل هذا وذهب مع الريح، ريح الانهيار العربي. وأنا كلّي ثقة بأن رياح الثورة والتغيير والمقاومة سوف تهبّ من جديد.
 
حرب المخيّمات في لبنان
حينما اندلعت حرب المخيّمات بين حركة "أمل" المدعومة من سورية، والفصائل الفلسطينية، خلال الفترة أيار/مايو 1985 - تموز/يوليو 1988، سافرت على عجل إلى دمشق لإخماد هذا النزيف القومي المادي والمعنوي، وكان يرافقني الأخ ضو سويدان، الكاتب العام لمكتب الاتصال الخارجي، أي تمامًا كما حدث عام 1975، وكما حدث في عام 1986.

ذهبت إلى دمشق للاجتماع بالرئيس حافظ الأسد وفصائل الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، وكنت أعتقد أن زيارتي سوف تستمر أيّامًا، أستطيع فيها وقف هذه الحرب المقززة التي تشكل نزيفًا قوميًّا وتدمي قلب كل مواطن عربي من المحيط إلى الخليج.
ونظرًا إلى خطورة الموقف وحساسيته، فقد قرّرت أن "أعسكر" في دمشق حتى أتمكن من إطفاء الحريق. تعاونت مع الإخوة في إيران، حيث كان يوجد أيضًا الثوري الصلب حسين شيخ الإسلام، ممثلًا للثورة الإسلامية، والسفير الإيراني في دمشق، وهو من رجال الدين الثوريين. كان شيخ الإسلام والسفير الإيراني، يتنقلان بين دمشق وبيروت، جيئة ذهابًا.

أمضيت قرابة ثلاثة أشهر، كنت أجاهد خلالها في اجتماعات مضنية وطويلة وشاقة وفي أجواء انعدام للثقة تامّ بين الأطراف المتحاربة؛ فالفلسطينيون يعتبرون أنّ سورية تحاربهم بواسطة حركة أمل، وأن الحركة ألعوبة في يد سورية، وهم يشاهدون الشاحنات تنقل إليها الأسلحة والذخائر. كان الإخوة في سورية يقولون، على العكس من ذلك، إنّ حركة أمل هي التي تحاصر المخيّمات، وإنه لا علاقة لهم بالحركة ولا سيطرة لديهم عليها، ويقولون، من جانبٍ ثانٍ، إنّ هناك مؤامرة من عرفات في المخيّمات، ولا يمكن من ثمّ فكّ الحصار من دون استسلام "جماعة عرفات" وأن يخرجوا منها ويسلموا أسلحتهم.

كل الفصائل رفضت بالإجماع محاولات سورية لشق وحدتها
ما أثار إعجابي هو وحدة الفصائل الفلسطينية في مواجهة الحصار، وإجماعها على أن هذه الحرب هي "قرار سوري" و"إرادة سورية" حتى الفصائل التي تناصب عرفات العداء، مثل "فتح - الانتفاضة" وأحمد جبريل، كانوا أكثر صدامية مع سورية، وكانوا من أشد المقاتلين ضد أمل.

كل الفصائل رفضت بالإجماع محاولات سورية لشق وحدتها. قاتلت "جماعة عرفات" مع جماعة أحمد جبريل والانتفاضة والمجلس الثوري والجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية؛ لأن حجة سورية كانت أن جماعة عرفات يريدون العودة إلى بيروت، وأن هذه الفصائل ليس لها أي وجود، وأن كل المقاتلين هم من جماعة عرفات، ويدّعون أنه حتى لو كان لهذه الفصائل وجود، فهو "متواضع" داخل المخيّمات.

لقد اشتراهم عرفات، لكن الحقيقة أنه في مواجهة الخطر، جمّد الجميع خلافاتهم وقاتلوا على أنهم إخوة، وكانوا موضع اعتزازي وإعجابي، وكنت أطلب منهم أن يواجهوا المؤامرة بقلب رجل واحد ويد واحدة، وكنت أحثهم على ذلك. كانت سورية تشترط، لتضغط على أمل لرفع الحصار، إخلاء المخيّمات من المظاهر المسلحة، وتسليم الأسلحة وأن تتولى الشرطة اللبنانية الأمن في المخيّمات.

كان الإخوة السوريون يقولون إن عرفات "يتآمر على سورية ويخطط للعودة إلى بيروت، وإن سورية لن تسمح بذلك"، بل إنهم قالوا لي عدة مرات إن "جماعة عرفات يخرجون ليلًا إلى بيروت ويخططون لإحداث فتنة فيها". وكنت أقول لهم إن الفصائل الفلسطينية الأخرى مستعدة للسيطرة على المخيّمات ومنع جماعة عرفات من الخروج إلى بيروت بأسلحتهم، وكانوا يردّون قائلين لي: "إن الفصائل الفلسطينية ليست لها سيطرة على المخيّمات. معظم المسلحين هم من جماعة عرفات، وحتى مجموعاتهم القليلة ليس لديها القدرة على فرض السيطرة على المخيّمات. لقد اشتراها عرفات". ولم يكن ذلك صحيحًا.

أمضيت الأيام والليالي والأسابيع والأشهر في اجتماعات مطوّلة، تصل أحيانًا إلى عشر ساعات. كانت أجواء انعدام الثقة هي السائدة بين السوريين والفصائل، وبدا التشنج هو السمة التي تطغى على تصرفات الجميع. لقد وجدت نفسي أمام معادلة صعبة: فمن جهة، الإخوة السوريون يكرّرون أنهم لا يسيطرون على حركة أمل، وبالطبع لم يكن هذا صحيحًا؛ ومن جهة أخرى، يقولون إنه لا بد من خروج مسلحي عرفات من المخيّمات وضرورة تجريدها من السلاح، وإن الأمن اللبناني هو مَن يتولى الأمن فيها، في حين تقول الفصائل الفلسطينية إن قرار الحصار هو قرار سوري تنفذه أمل، ويؤكدون أن الشاحنات التي تحمل الذخائر والسلاح إلى أمل تعبر إلى بيروت، ويقولون إنه حتى لو اتفقوا مع سورية حول "نيات عرفات"، فإنهم، بصفتهم فصائل فلسطينية، يرون أن سورية لم تترك لهم أيّ خيار آخر سوى القتال، وأن محاصرة المخيّمات تخدم مخطط عرفات وتضعف مواجهة نهجه الخياني.

كنت أتبنى وجهة نظر الفصائل الفلسطينية كليًّا، وكنت أطلب منهم أن يقاتلوا معًا. وبالفعل، أثبت الفلسطينيون صمودًا ووحدة قتالية رائعة، رغم محاولة سورية إحداث الفرقة بينهم. وهكذا، تعاونت القوات الفلسطينية داخل المخيّمات مع القوات الموجودة في الجبل، واضطلعت قوات أحمد جبريل والانتفاضة بدور أساسي هناك. حاولت ليبيا إرسال قوات وأسلحة وذخائر.

بيد أن سورية رفضت، بل إننا حاولنا استخدام مخزون الأسلحة الذي كنّا نملكه داخل دمشق؛ فرفضت سورية أن تسمح بذلك، ورفضت أن تسمح للفلسطينيين بإرسال أسلحة من سورية إلى منطقة الجبل. ومع ذلك، أدار الإخوة الفلسطينيون المعركة بوحدة متراصة وإدارة عسكرية وسياسية وإعلامية، وكان السوريون منزعجين من هذا الصمود البطولي الذي أيقظ الجماهير العربية وشحذ هممها. ومثّل هذا الأمر ضغطًا على سورية، فأصبحت في نظر الرأي العام العربي "مدانة"، وكان الشارع العربي يغلي غضبًا، وكانت وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا) تصوّر الوضع في المخيّمات على أنه "وضع مأساوي"، وأن "النساء والأطفال باتوا يأكلون القطط والكلاب والفئران".

كانت هذه الصور الراعبة، سواء أكانت حقيقية أم مبالغًا فيها، تزيد من غليان الشارع العربي وتضاعف من سخطه على سورية. أدت إيران وليبيا وصمود الفلسطينيين، وحسن إدارتهم للمعركة الدعائية، دورًا حاسمًا في وضع سورية طرفًا مُتهَمًا بـ "تنفيذ" مؤامرة ضد الفلسطينيين، وأنها تريد القضاء على "البندقية" الفلسطينية في لبنان، وتريد "إبادة الشعب الفلسطيني"، وهذا ما نجح الإعلام الفلسطيني في تصويره.

الحركة اللبنانية الوطنية كانت واقعة تحت ضغط شديد من سورية
كان السوريون منزعجين من قدرة الإعلام الفلسطيني على "تهييج الشارع الفلسطيني" وفي تصوير سورية طرفًا يقوم "بأعمال وحشية ضد المخيّمات". كان عبد الحليم خدام نائب الرئيس الأسد، ومعه حكمت الشهابي رئيس الأركان، وعلي دوبا مدير المخابرات العسكرية، يقولون لي: "خلاص، المخيّمات سقطت"، وكنت أضحك، لأنني أعرف أنها لم تسقط.

وفي اليوم التالي، يكرّرون الأسطوانة نفسها، وكنت أقول لهم: "لن يحصل هذا". ثم مارست ضغطًا على الحركة الوطنية اللبنانية بكل أحزابها برئاسة وليد جنبلاط، الذي تعلّم بسرعة، واكتسب وعيًا قوميًا، لكن الحركة اللبنانية كانت واقعة تحت ضغط شديد من سورية؛ ولذا كان لها موقفان: موقف معلن مساير لسورية، وموقف ميداني داعم للفلسطينيين. كان وليد جنبلاط وبقية الأحزاب يقولون لي: "إن العرب لا يريدون أن يتحملوا مسؤولياتهم، ويريدون من لبنان أن يدفع الثمن"، وكانوا يقولون:

"إن الفلسطينيين في ليبيا وفي بقية البلاد العربية لا يسمح لهم بحمل مسدس". كان السوريون يتهمون وليد جنبلاط بالتعاون مع عرفات، وكنت أخشى على سلامته من أن يلقى مصير والده. وكان لعاصم قانصوه الأمين القُطري لحزب البعث السوري في لبنان، موقف مخالف ومغاير للموقف الرسمي في سورية، فقد طلب من عناصره في صيدا أن يقاتلوا مع الفلسطينيين، وقد دفع ثمن ذلك وبات مغضوبًا عليه وتمّت تنحيته من رئاسة الحزب، وكذلك مصطفى سعد الذي كان يتهمه الطرف السوري بأنه "عرفاتي" أو يتعاون مع عرفات، والحقيقة أنه كان يتخذ موقفًا قوميًّا

ويقف مع كل الفصائل الفلسطينية في صيدا. طلبت عدة مرات من وليد جنبلاط أن يذهب إلى صيدا ليضغط على جماعة عرفات للانسحاب من المدينة. كان الموقف الظاهري للحركة الوطنية اللبنانية مسايرًا لسورية، ولكنه فعليًّا كان يتعاطف مع الفلسطينيين. وأخيرًا، نجحت في إقناع الفصائل (جميعها) عدا جماعة عرفات، والتي لم أكن أتعامل معها على أن يتمّ الانسحاب من منطقة مغدوشة وفكّ الحصار عنها، لأن سورية جعلت من هذا الأمر بمنزلة "قميص عثمان" واشترطت لفك الحصار انسحاب الفلسطينيين من هذه المنطقة أي من "خارج المخيّمات" والعودة إلى داخلها، وهو ما أطلق عليه "التمدد الفلسطيني خارج المخيمات".

ولم يكن سهلًا عليّ إقناع حبش وحواتمة وجبريل وأبو موسى و"جماعة أبو نضال" والنضال الشعبي، لأنهم كانوا في قمة التشنج. لقد فقدوا الثقة بسورية، وكانوا يقولون إنها تنفذ مخططًا لتصفية "البندقية الفلسطينية" في لبنان، ولكن بعد صبر ومثابرة وإرادة لا تكلّ، وبإرادة ثورية صلبة وحديدية لا تعرف المستحيل، وبعد سلسلة اجتماعات فردية وجماعية، تمكّنت بعون الله وتوفيقه من تحقيق الهدف. لقد استمر بعض الاجتماعات ليالي وأيامًا من الصباح حتى الغروب، وأحيانًا من الغروب حتى الفجر، كنت أجتمع خلالها مع الإخوة السوريين والفصائل والحركة الوطنية اللبنانية، وأحيانًا كنت أعقد اجتماعات ثلاثية، مرة مع الإخوة السوريين والفلسطينيين، ومرة أخرى مع الفلسطينيين والحركة الوطنية اللبنانية. وقد فوجئت يومًا بأن الرئيس حافظ الأسد يطلبني، فذهبت للقائه.

قال لي: "نحن نستغرب مَن نصدّق؟ هل نصدقك أنت أم الأخ معمّر؟"، وعرض عليّ برقية من الأخ معمّر موجهة باللاسلكي إلى جماعة عرفات وحواتمة وحبش، يطلب منهم عدم الانسحاب من منطقة مغدوشة؛ فصعقت من هذا التصرف، وقلت له: "يا أخ الرئيس أنا عارف ماذا أعمل، وقرار وجودي هنا قرار شخصي وليس قرار قيادة، وهو ناتج عن التزامي القومي وحبي وحرصي على سمعة سورية، والتزامي بالحفاظ على الثورة الفلسطينية، وأنت تعرف أن قرار بقائي في سورية وذهابي إلى لبنان عام 1975 كان أيضًا قرارًا شخصيًّا ولم يكن قرار القيادة، بل إن القيادة كانت ضد قراري هذا"، فقال لي: "خلاص، ابق واستمر في مهمتك وستجد منّا كل تشجيع". وبالفعل، وجدت كل تشجيع.

خلال مباحثاتي مع الرئيس الأسد كنت أشاهد في وجهه مشاعر الألم والمرارة مما يجري، كان يقول لي: "الفلسطينيون يشيعون بين الناس أن النساء والأطفال والشيوخ في المخيّمات يأكلون الأعشاب والقطط والكلاب"، ثم يضيف مازحًا: "في الدعاية لا أحد يغلب الفلسطينيين".

توصلنا إلى "اتفاقات" محدّدة عدة مرات، وكنت خلالها أطلب طائرة من طرابلس للعودة، وكنت أحزم حقائبي استعدادًا لمغادرة دمشق، وفجأة في آخر لحظة "ينهار الاتفاق"، والسبب كان دائمًا هو عدم الثقة بين الأطراف المتصارعة، وبالطبع بسبب تدخلات عرفات وتخريبه لأي اتفاق.

لكن بفضل التصميم الثوري والإرادة الحديدية وسهر الليالي، بأعصاب باردة وأحيانًا متوترة، وبفضل التمسك بهدف محدد هو وقف المؤامرة وإنهاء حصار المخيمات، نجحت أخيرًا، بعد تسعين يومًا من العمل الشاق. كان فضل شرورو من الجبهة الشعبية - القيادة العامة، وأبو ماهر (أحمد حسين) اليماني من الجبهة الشعبية، وياسر عبد ربه من الجبهة الديمقراطية، قد ذهبوا عدة مرات إلى صيدا للإشراف على تنفيذ الانسحاب، لكنهم لم يتمكنوا من تنفيذ الاتفاق؛ ولذا قررت استدعاء مصطفى سعد، وطلبت منه الضغط على الفلسطينيين، وخاصة جماعة عرفات وجماعة أبو نضال. وبعد ضغوط شديدة حسم مصطفى سعد أمره وتردده، فعقدت اجتماعًا آخر معه ومع الفصائل الفلسطينية. كان مصطفى يتعرض لضغط من سورية، وقد قال للفلسطينيين حرفيًّا: "اسمعوا يا شباب، مجال المناورة أصبح محدودًا وعليكم أن تنسحبوا من مغدوشة إذا أردتم أن تجنبوا شعبكم في المخيّمات المزيد من المآسي، لأن حركة أمل ستضع شرط الانسحاب مقابل رفع الحصار".

كان السوريون منزعجين من مصطفى سعد، ويرفضون استقباله ويقولون إنه "يشتغل مع عرفات" ولصالحه، فطلبت من عبد الحليم خدام أن يستقبل مصطفى سعد. وبالفعل، تمّ ذلك. بدا مصطفى سعد مبتهجًا ومرتاحًا للقاء خدام واعتبر ذلك بداية "رضا" السوريين عنه، وهذا ما شجعه على حسم أمره وتردّده. في السابق كان يرفض الحضور إلى دمشق ويرسل شقيقه أسامة سعد بدلًا منه. واتفقت أنا والفلسطينيون ومصطفى سعد على الانسحاب من مغدوشة والعودة إلى المخيّمات. تعهد مصطفى أن يضغط على جماعة عرفات لكي ينسحبوا مع بقية الفصائل. عاد مصطفى إلى صيدا ومعه عبد ربه من الديمقراطية وأبو ماهر من الشعبية وفضل شرورو من القيادة العامة وأشرفوا على الانسحاب.

كنت أتابع عملية الانسحاب بواسطة جهاز اللاسلكي حتى تمّت بنجاح. لقد كانت أيامًا عصيبة تُدمي القلوب. تعبت وسهرت وأُرهقت، لكنني كنت مرتاح الضمير، لأنني قمت بواجبي. وأريد أن أشيد هنا بدور إيران الرائد وحزب الله. كان مشهدًا جميلًا ذلك الذي رأيته، في الإذاعة المرئية [التلفزيون]، شاحنات التموين وهي تخترق الحصار في مخيم الرشيدية، يتقدّمها رجال دين شيعة من إيران وحزب الله. كانت صورًا رائعة، فهم كانوا يعرّضون حياتهم للخطر من أجل أن تصل شاحنات الطحين والأرز.

أدخل عرفات والنظام السياسي العربي المستسلم الثورةَ في "حمّام للتبريد". قال لنا عرفات مرات كثيرة: هذا هو عصر الدولار السعودي
لقد نجح العمل البطولي الجهادي الذي قمت به بالتعاون مع إيران، ممثلة في حسين شيخ الإسلام وسفير إيران في سورية وحزب الله، في رفع الحصار عن المخيّمات ووقفت الحرب.

نعم، لقد قضيت حوالى ثلاثة أشهر بعيدًا عن ليبيا، وهي في حاجة إليّ، حيث كانت أسعار النفط قد انخفضت بنسبة كبيرة، ما أثر هذا في الوضع الاقتصادي، وحيث كانت مرحلة الرئيس ريغن من أصعب مراحل المواجهة مع واشنطن. كانت هناك حرب دعائية واقتصادية وسياسية وعسكرية. وما زاد من مصاعب ليبيا في هذا الوقت هو اندلاع الحرب مع تشاد.

اختلّ التوازن في هذه الحرب لصالح العدو، ومنينا بإخفاقات عسكرية. كان الأخ معمّر يطلب مني العودة، نظرًا إلى كل هذه الأوضاع والظروف التي تمرّ بها ليبيا، ولكنني رفضت حتى تحقيق المهمة المقدسة. في هذا الوقت، لم يكن هناك شيء في نظري يعلو على القضية الفلسطينية، وكنت أقول له: "حينما أقاتل التآمر ضد البندقية الفلسطينية في لبنان، وضد الجماهير الفلسطينية في المخيّمات، فإنني أدافع عن ثورة الفاتح".

وأذكر أنني فور وصولي طرابلس عائدًا من دمشق يوم 2 آذار/مارس 1985، ذهبت إلى سبها مباشرة نظرًا إلى وجود الأخ معمّر هناك. كان هذا يوم الإعلان عن "قيام سلطة الشعب"، وكان يحضر الاحتفال الصادق المهدي رئيس وزراء السودان. وجدت الأخ معمّر غاضبًا مني غضبًا شديدًا، نظرًا إلى فترة الغياب الطويلة عن ليبيا وهي تمرّ بظروف صعبة، ثم طلب من وسائل الإعلام نقل اللقاء بيننا مباشرة على الهواء. وبالفعل، تمّ بث الخبر في وسائل الإعلام الليبية، وكان الغرض من ذلك دحض الشائعات التي راجت في ليبيا، والتي تزعم أن خلافًا نشب بيننا، وأنني قررت العيش في سورية.

كان هناك، بالفعل، قلق حقيقي في أوساط الجماهير الليبية بسبب هذه الشائعات، وهذا عينه ما حدث قبل ذلك بسنوات (1975) حين مكثت ثلاثة أشهر في بيروت؛ وهو الأمر الذي اضطرّ معه الأخ معمّر إلى الإعلان أن عبد السلام جلود يقوم بـ "مهمة قومية" وتاريخية في لبنان، نافيًا الشائعات التي راجت آنذاك حول سبب غيابي عن ليبيا.

لم يكن الوضع الخطير الذي وصلت إليه الثورة الفلسطينية والقضية الفلسطينية وليد اليوم، أو مصادفة. لقد تمّ "تمرير" الثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير عبر "حمامات تبريد" قصد ترويضها وتطويعها. وإذا كانت الديمقراطية والتعليم هما أهم عاملين في تقدم الشعوب ونهضتها، فإن الديمقراطية هي الشرط الأساسي والضروري لنجاح أي حركة تحرير في تحقيق أهدافها.

وقد نتج من هذه الحمامات الباردة شخصنة الثورة الفلسطينية، ومنظمة التحرير وحركة فتح باعتبارها الحركة الأساسية في الثورة الفلسطينية، قبل أن تنافسها حركة حماس؛ بمعنى أنها أصبحت رهن إرادة شخص واحد. وبدلًا من تفعيل مؤسسات الثورة ومؤسسات منظمة التحرير، جرى إضعافها عن قصد.

وتمّ أيضًا تغييبها وتجميدها، وصارت أشكالًا "ديمقراطية ديكورية" تستحضر عند الحاجة إلى إضفاء الشرعية على القرارات الفردية، وحل "القائد" محل هذه المؤسسات، متناسين أن القائد الحقيقي هو الذي يكون من حوله القادة، لا أتباع ومجاملون ومباركون. وصارت منظمة التحرير تحاكي النظام الرسمي العربي في سلوكه وتزييفه وسطوته. لقد أهملت تعبئة الشعب الفلسطيني على طريق التحرير والعودة، وربط حلقاته الثلاث بعضها ببعض: فلسطينيون داخل فلسطين المحتلة، والفلسطينيون في مخيمات اللجوء في دول الجوار، والفلسطينيون في المهجر.

وظهرت ثقافة و"قناعة" أن الكفاح المسلح والعمل الفدائي لم يحققا شيئًا ولم يقرّبنا من التحرير، ومن ثمّ فلنجرّب المفاوضات؛ وهنا بدأت عملية تمهيد أرضية للانحراف، وبدأ التعامل مع المبادرات السياسية الوهمية التي تروّج لها قوى الاستسلام العربي والولايات المتحدة والغرب.

إن تجارب التاريخ تقول لنا إن المبادرات التي تنطلق من موقف الضعف لا تحقق أي شيء؛ المبادرات التي تحقق النجاح هي التي تنطلق من موقف القوة. لقد جرى افتعال تناقض بين البندقية والسلام والعمل السياسي، مع أنه لا تناقض بينها؛ فالبندقية تدعم العمل السياسي، والعمل السياسي يوفّر الأرضية للبندقية. لقد جرى التفريط في أهم عوامل القوة، وهي الوحدة الوطنية الفلسطينية، و"وحدة الهدف والبندقية" تحت وهْم "السلام". وظهرت شعارات تقول إن هذه المرحلة ليست مرحلة العمل الفدائي، بل مرحلة النضال الشعبي السلمي، والتاريخ يعلّمنا أن الانتصار يتحقق بوضع استراتيجيا تعتمد كل هذه الأساليب.

كان من نتاج حمامات التبريد هذه اتفاقات أوسلو، والتي هي أخطر من "كارثية"، لأنها أنتجت السلطة الوطنية الفلسطينية
كان من نتاج حمامات التبريد هذه اتفاقات أوسلو، والتي هي أخطر من "كارثية"، لأنها أنتجت السلطة الوطنية الفلسطينية. إنها سلطة من دون سلطة، أو هي في أحسن الأحوال "سلطة بلديات" تخلّص فيها العدو من مسؤوليته بصفته سلطة احتلال تجاه شعب محتل، ووجدت منظمة التحرير نفسها مشغولة بتوفير احتياجات الناس الحياتية والضرورية، بدلًا من أن تهتم بتعبئة الشعب وإعادة بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية، والبحث في كيفية تصعيد الكفاح المسلح والعمل الفدائي. وهكذا دخلت في متاهات المنطقة "أ" والمنطقة "ب" والمنطقة "ج"، وانخرطت أجهزة السلطة في توحيد جهودها مع جهود أجهزة العدو لقمع الشعب الفلسطيني وحراسة الكيان الصهيوني. إنها الطامة الكبرى؛ لأن المطلوب منها أن تقدّم شهادة حسن سيرة وسلوك إلى المجتمع الدولي، "أي أميركا"، لكي تُقبَل طرفًا في "مفاوضات عبثية".

إن قلبي وعقلي يرتعشان من الزج باسم سيدنا النبي إبراهيم عليه السلام في هذا الظلم الصارخ الذي ما بعده ظلم، وهو ما عرف بصفقة القرن واتفاقيات التطبيع مع العدو التي وقعت بينه وبين الإمارات والبحرين. إن سيدنا إبراهيم عليه السلام براء من هذه الترهات وروحه عند خالقها ترتعش من هذا التزييف، ولو قدر له أن يكون على قيد الحياة لدمّر هذه الأصنام التي تتآمر على قضية فلسطين والأمة العربية والإسلام، كما دمّر أصنام الوثنية. وأقول للمبتهجين بهذا الظلم، إضحكوا، إنكم ستضحكون قليلًا لأنكم ستبكون كثيرًا؛ لأن هذا الكيان المُصنّع في الغرب سينتهي إنْ توقف عنه الدعم الأميركي والغربي.

وفي النهاية أقترح تأسيس صندوق أهلي يقوم على الزكاة والتبرعات لدعم صمود الشعب الفلسطيني، وأن تكون له فروع في كل مدينة وقرية في العالم العربي والإسلامي، كي تستعيد الجماهير العربية والإسلامية قضية فلسطين وتعيشها واقعًا عمليًّا، كما كانت الحال مع الثورة الجزائرية. وأدعو الرموز والقيادات الوطنية والقيادات الدينية والفاعلين الاجتماعيين إلى تبني هذا المشروع والدعوة إليه والترويج له، واعتبار ذلك قضية جهادية بامتياز ووضع الآليات التي تضمن قيامه على أرض الواقع.

المواجهة بين حافظ الأسد وشقيقه رفعت

في أواخر الثمانينيات، تعرّض الرئيس السوري حافظ الأسد لنوبة قلبية حادة ألزمته الفراش. وفي موقف خسيس وانتهازي، قرّر شقيقه رفعت الأسد، وكان قائدًا لقطعات عسكرية تسمى "سرايا الدفاع" - وهي بمنزلة جيش موازٍ للجيش الوطني - تنفيذ "انقلاب" عسكري. فذهبت فورًا إلى دمشق. توجهت من المطار إلى المستشفى حيث يرقد الرئيس الأسد، فوجدته في حالة صحية صعبة، إضافة إلى أنه كان يعيش حالة ألمٍ ومرارة من موقف شقيقه رفعت. قال لي الرئيس الأسد: "أنت يا أخ عبد السلام وليبيا الوحيدون الذين يمكنهم إنقاذ سورية من الدمار الذي ينتظرها"

ثم أضاف: "هو لن ينجح في مؤامرته، ولكننا سنخرج منها محطمين، أرجوك يا عبد السلام أن تبذل كل ما تستطيع من جهد للسيطرة على هذا الوضع، وإقناع رفعت بالتراجع عن موقفه هذا. اضغط عليه للخروج من سورية والذهاب إلى أوروبا للعيش فيها"، ثم أردف قائلًا:


"سحبنا ثلاث فرق من الجولان لمواجهته. هذا وضع خطير". وفي طريقي من المستشفى إلى الفندق رأيت عشرات الدبابات والمدرّعات، لكلا الطرفين، وهي تواجه بعضها بعضًا.

طوال سنوات سابقة، كنت أزور دمشق بانتظام، لكنني لم ألتق رفعت الأسد قَط. كان لدي "موقف" منه ومن سلوكه وتصرفاته، ولكنني وجدتني في موقف يفرض عليّ أن أجتمع به.

اتصلت برفعت هاتفيًّا وقلت له: "يا رفعت، طوال هذه السنوات كنت أزور سورية وأنت حتى لم تجرب الاتصال بي"، فردّ علي قائلًا: "أنت والأخ معمّر لديكما موقف مني؛ بينما كنت أرى فيكما القيادة القومية للأمة"، فقلت له:

"أنا في طريقي إليك". وحين التقيت مع رفعت، استغرق اللقاء الأول بيننا عدة ساعات تخللها عشاء عمل. طوال ساعات اللقاء، كنت شديد القسوة في الحديث معه، وقلت له: "كيف تسمح لنفسك باستغلال ظروف مرض شقيقك.

لقد وضعت نفسك في موقف دنيء وأعمى لا يبصر المخاطر. كان الواجب يتطلب منك أن تكون إلى جواره في المستشفى لا أن تنفذ انقلابًا. والآن يا رفعت توقف عن هذا التصرف واسحب القوات وجنّب سورية التدمير". اتفقنا خلال اللقاء على عقد سلسلة لقاءات معمّقة لدراسة الوضع وإيجاد الحلول، ثم عانقني مودّعًا، وقال لي: "من قبل كان لي أخ، والآن لدي اثنان"، فقلت له: "ومَن هما؟"، فقال: "الأمير عبد الله بن عبد العزيز وأنت"، فقلت له: "لا، عليك أن تختار إمّا أنا وإمّا الأمير"، فضحك، والأكيد أنه اختار الأمير عبد الله.

الصورة
رفعت وحافظ الأسد

حافظ ورفعت الأسد في دمشق (1986/فرانس برس)

ومع ذلك، وفي هذه الأجواء المشحونة والمتوترة، تواصلت اللقاءات اليومية بيننا ليلًا ونهارًا، كنت خلالها أقوم بتكثيف الضغوط عليه للتراجع.وخلال هذه اللقاءات كنت أحرص على زيارة الرئيس الأسد في المستشفى يوميًا وعقب كل لقاء، كان يقول لي: "هذه مهمة قومية وأنت أهل لها يجب عليك ألا تكلّ ولا تملّ".

وبالفعل، وخلال أسبوع كامل مارست كل وسائل الضغط على رفعت ووصل بي الأمر حدّ تهديده، وأخيرًا بدأ يلين وتظهر بوادر على تغير في مواقفه. في لقاء حاسم بعد نهاية أسبوع كامل من اللقاءات اليومية، سألني: "وكيف أغادر سورية إلى الخارج.

أنا مُتهم بأنني عميل سعودي وعميل أميركي"، فقلت له: "إذا استمررت في مؤامرتك ونفذت الانقلاب ودمرت سورية فسوف تبرهن للجميع أنك عميل سعودي وأميركي؛ أما إذا ضحيت بنفسك في سبيل سورية فسوف تؤكد للجميع أنك رجل وطني ولست عميلًا".

في أثناء هذا الحوار الساخن، قال لي بصراحة: "وماذا سوف تقول عني أسرتي لو أنني قررت مغادرة سورية، سوف يلحق العار بي وبأسرتي. أنت تعلم أن أسرتي مؤلفة من 48 فردًا، ولذلك سوف أطلب مبلغ 200 مليون دولار لأؤمن على أسرتي في الخارج؛ كما أنني لن أغادر سورية إذا ما كانت هناك تهمة الرجعية أو العمالة موجهة إلي"، فقلت له: "قبل أن تخرج إلى أوروبا سوف نرتب لك زيارة للاتحاد السوفياتي لنفي أي تهمة عنك".

كان الرئيس حافظ الأسد يعيش حالة ألمٍ ومرارة من موقف شقيقه رفعت. قال لي: أنت يا أخ عبد السلام وليبيا الوحيدون الذين يمكنهم إنقاذ سورية من الدمار الذي ينتظرها

عقب هذا اللقاء، ذهبت مسرعًا إلى زيارة الرئيس الأسد في المستشفى، ونقلت له ما دار بيني وبين رفعت من نقاش، وأنه يرغب في "النفي الطوعي" في أوروبا، لكنه اشترط أن يحصل على 200 مليون دولار.

فقال الرئيس الأسد "ليس لدينا ما يكفي من العملة الصعبة. هل ليبيا مستعدة لدفع هذا المبلغ لتحافظ على سورية وتحول دون تدميرها؟

" فقلت له: "نحن لا نستطيع أن ندفع المبلغ مباشرة لرفعت، لكن يمكن تقديم هذا المبلغ كمساعدة من ليبيا لسورية، وعليكم أن تتصرفوا". وبالفعل، اتصلت بأحمد رمضان وطلبت منه أن يرسل رجب المسلاتي محافظ مصرف ليبيا المركزي بطائرة صغيرة خاصة. وحين وصل محافظ المصرف إلى دمشق، اجتمعت به وأبلغته أنني قررت منح سورية هذا المبلغ، وطلبت منه لقاء محافظ مصرف سورية المركزي وتوقيع الاتفاقية. وهكذا، أنجزت مهمتي القومية الصعبة والمعقّدة في سورية بمنع رفعت الأسد من تنفيذ انقلابه، كما ساهمت في ترتيب أمر سفره إلى الاتحاد السوفياتي، ثمّ انتقاله نهائيًا إلى أوروبا.

وحدث أنني التقيت بشخص لبناني أرمني على علاقة وثيقة برفعت اسمه إيلي، وعلمت من حديثه معي أن رفعت يعامله بقسوة وبتعالٍ لا مثيل لهما، ولمّا التقينا مصادفة ورأى في شخصي رجلًا بسيطًا ومتواضعًا، عقد في أعماق نفسه مقارنة بيننا؛ ولذا قال لي:

"أنا لا أعرف ليبيا ولا الليبيين، ولكن إذا كان الليبيون مثلك فأنا أحبّ ليبيا والليبيين". وفي سياق هذا الحديث قال لي: "أنا رئيس مجلس إدارة شركة "تام أويل" التي يملكها رجل أعمال برازيلي من أصول لبنانية اسمه 'تامرت' وشريكه أمين الجميّل. الشركة تملك مصفاة في إيطاليا طاقتها 160 ألف برميل يوميًّا ولديها ثلاثة آلاف ميل من خطوط الأنابيب عبر أوروبا لنقل المشتقات النفطية، كما تملك محطات توزيع وقود تنتشر في بلدان أوروبية كثيرة.

الشركة مهدّدة بالإفلاس، نظرًا إلى أنها مدينة للمصارف الأوروبية بمبلغ 60 مليون دولار. وبدلًا من أن تشتريها أوروبا، فمن الأفضل أن تشتريها ليبيا. وفي حال اشترتها ليبيا، فأنا أرغب في شراء 15 في المئة من الأسهم".

وعلى الفور اتصلت بأحمد رمضان في طرابلس، وطلبت منه أن يرسل طائرة خاصة إلى دمشق تحمل كلًّا من رجب المسلاتي ومحمد سيالة ومحمد عبد الجواد، ولما وصلوا اجتمعت بهم وقلت: "لن نتحدث في السياسة. إذا كان في مصلحة ليبيا شراء هذه الشركة اشتروها".

وبالفعل، تمّت صفقة الشراء. في الواقع اشترينا الشركة بدولار واحد، وتكفلت ليبيا بسداد 60 مليون دولار للمصارف الأوروبية. بيد أن الفريق المفاوض رفض أن يمتلك السيد إيلي 15 في المئة من الأسهم. بعد سبعة أشهر فقط، وصلت قيمة أسهم الشركة "تام أويل" إلى 1,7 مليار دولار، وبعد سنتين وصلت قيمة الشركة إلى 3 مليارات دولار. ثم بعد خمس سنوات أصبحت قيمة أسهمها 5 مليارات دولار.

وكانت هذه ثانية أعظم الصفقات الرابحة التي حققتها ليبيا بعد الثورة، بعد صفقة شركة "فيات".
 
هو في احد مازال يصدق جلود اوكد لك ان اول معلومة هي كذب فالقذافي هو من قاد الانقلاب خصوصا خلال السيطرة على إذاعة بنغازي وهو من القى البيان وما زال في موظفي الإذاعة تلك الليلة مازالوا احياء ويستطيعوا تأكيد المعلومة
 

عبد السلام جلود: أتقن القذافي استخدام قبيلة ضد أخرى ومارس هذا مع أبنائه (4-5)​

قدّمت استقالتي من منصبي عام 1981، وذلك رفضًا للممارسات القمعية التي كانت تقوم بها اللجان الثورية. عارضت بشدة الممارسات السلطوية والقمعية، كما عارضت بقوة مطاردة الليبيين في الخارج، وطالبت بوقفها فورًا، وقلت: "هذا إنهاء للثورة. وعندما تنتهي الثورة أخلاقيًا فسوف تنتهي سياسيًا؛ إذْ لا يمكن لثورة أن تطارد أبناءها وتصفيهم في شوارع أوروبا". كان موقفي هذا صارمًا، حتى إنني قررت الاستقالة من قيادة الثورة، والبقاء في منزلي، ما لم يوقف هذا العمل المشين. ثم قلت للأخ معمّر: "هذا ليس عملًا ثوريًا، بل هو إجرام يقوم به جنود مكلفون منك ومن جماعتك، ليبرهنوا لك أنهم قادرون على تنفيذ ما تطلبه منهم، حتى تكون لهم حظوة عندك".

بعد ستة أشهر، اتصل بي الأخ معمّر في منزلي، وطلب مني إجراء حوار، فوافقت. وحدث، حين كنت في طريقي لمقابلته في مقر اللجان الثورية، أن استوقفني شخص أسمر البشرة اسمه إمحمد الحضيري، وكان رئيسًا لتحرير صحيفة الزحف الأخضر. بدا لي متورّم الوجه والعينين وأثر اللكمات والضرب واضحة على وجهه. قال لي وهو يبكي: "منذ يومين اتصل بي أحمد رمضان وقال لي إن القائد يطلب منك أن تكتب مقالًا ضد الضابط عبد السلام الزادمة وإخوته، وأعطاني عناصر المقال التي وضعها الأخ معمّر، وفيه وصف لهم بأنهم "فاسدون ومرتشون". وحينما صدر عدد الجريدة وهو يحمل المقال، هاجمني عبد السلام الزادمة وإخوته في مقر الصحيفة، وانهالوا عليّ بالضرب المبرح، وكانوا ملثمين، ولم أكن أعرفهم أو قد التقيت بهم من قبل". وعلى الفور طلبت إحضار الضابط عبد السلام الزادمة. كان موسى كوسا (الأمين المساعد لأمانة الخارجية في ما بعد) قربي، وهو يقول لي: "أخ جلود، القائد ينتظرك"، فقلت له: "لا يمكنني مواصلة طريقي للقاء به حتى يتمّ إحضار هذا الضابط". حينما حضر سألته: "هل أنت وإخوتك قمتم بضرب إمحمد الحضيري؟"، فقال لي: "نعم سيدي"، وعلى الفور صفعته على وجهه عدة مرات وأرسلته إلى السجن. ثم ذهبت للقاء الأخ معمّر، وما إن دخلت عليه حتى قال لي متهكمًا: "إذا بقيت في بيتك واستقلت، منْ سيكون معك؟ إلا علي فضيل (وهو يقصد مدير مكتبي) حتى قبيلتك معي"، فقلت له: "أنا لا أملك سوى ثوريتي وصدقيتي، وليس لي قبيلة. قبيلتي هي الثورة والعروبة والأمة، لكن
يا أخ معمّر، خوفي أن يأتي يوم ولا يكون فيه أحد معك إلا أحمد إبراهيم".

خلال هذا اللقاء، بقيت مصرًّا على موقفي بضرورة وقف "مطاردة الليبيين في الخارج" وتصفيتهم، فوافق وطلب مني أن نذهب معًا إلى خيمته في باب العزيزية. وهناك وجدت المجموعة التي كانت مكلفة بمطاردة الليبيين في الخارج، وأتذكّر من بينهم محمد المجذوب وسعيد راشد. فقال لهم الأخ معمّر: "يجب أن تتوقف على الفور أي عمليات مطاردة لليبيين في الخارج". شعرت بسعادة بالغة بهذا القرار، فقلت للأخ معمّر: "أنا منذ الغد سأعود للعمل. يجب أن توجه إلى المعارضين نداء بالعودة إلى ليبيا، وتعطيهم الضمانات بأن لا يتعرضوا لأي مساءلة، والعفو عمّن هو محكوم، أما الذين لا يرغبون في العودة ولهم أعمال ووظائف في الخارج، فعلينا أن نبلغهم بأن المكاتب الشعبية في خدمتهم، وأنهم سوف يحصلون على الرعاية وأي تسهيلات أو خدمات يحتاجون إليها، ثم تصرف لهم جوازات سفر بحيث يتمّ تجديدها تلقائيًا".


بدأ التحوّل من "الصدق الثوري" والوضوح في الخطاب إلى "الدجل والنفاق"، والتحوّل من "الثورة" إلى "حكم الفرد والقبيلة وحكم الأجهزة"
 
منذ نهاية السبعينيات حتى نهاية الثمانينيات (1979-1989)، بدأت الحقيقة في ليبيا تتراجع لصالح التزييف، وبدأ التحوّل من "الصدق الثوري" والوضوح في الخطاب إلى "الدجل والنفاق"، والتحوّل من "الثورة" إلى "حكم الفرد والقبيلة وحكم الأجهزة".

كان عمر المحيشي، عضو مجلس قيادة الثورة، مثقفًا ثوريًا، وكانت لديه ميول يسارية، وكان غير راضٍ عن هيمنة معمّر ومحاولة انفراده بالسلطة؛ ولذلك حاول القيام بانقلاب عام 1975 لإطاحة القذافي.

كنت أعرف المحيشي منذ أن كنّا في التنظيم المدني، وأعرف طباعه الشخصية. كان من أسرة غنية ومثقفًا، لكنه كان يتصف بالتعالي وافتقاد القدرة على التواصل مع الآخرين. حينما بدأ بالتخطيط لمحاولة الانقلاب، تمكن من إقناع عضوين في مجلس قيادة الثورة، أحدهما عوض حمزة، وبعض ضباط الحرس الجمهوري وخاصة ضباط مصراتة، بالمشاركة في الخطة. كان معمّر محبًّا لمصراتة وأهلها منذ دراسته في مدرستها الثانوية، لأن الكثير منهم كان يعطف عليه ويساعده، حتى إنهم ساعدوه في الحصول على موافقة للدراسة في ثانوية مصراتة، وأن يقيم في القسم الداخلي، وفي ذلك الوقت كانت فرص السكن في القسم الداخلي صعبة.

كان عمر المحيشي رافضًا لممارسات معمّر السلطوية وهيمنته وطغيانه وانحرافه عن مبادئ الثورة. لكن هذه المحاولة سرعان ما كُشفت قبل أن تبدأ، حين تمكنت عناصر القذافي من معرفتها والإبلاغ عنها. كانت محاولة الانقلاب من أخطر المؤامرات التي تعرضت لها الثورة، لأنها من قلب قيادة الثورة، ولمشاركة ضباط من الحرس الجمهوري فيها. فهذه القوة كانت مهمتها في الأصل حماية الثورة وحماية معمّر شخصيًا. كان معمّر، حتى لحظة تنفيذ هذه المؤامرة، ثوريًا يثق بالضباط الأحرار والضباط الذين التحقوا بالقوات المسلحة بعد الثورة.

كان ضباط الحرس الجمهوري وقوات الردع من مختلف المدن الليبية، وليس بينهم أي ضابط من قبيلته القذاذفة، وأذكر أن من بين المشاركين في محاولة الانقلاب ضابطًا شجاعًا من أهالي مصراتة يدعى أبو ليفة، وآخر يدعى محمد عبد الوهاب.


قُتل أبو ليفة في أثناء مطاردته بعد فشل محاولة الانقلاب، وهو يتجه نحو الحدود التونسية. قبل فرار المحيشي إلى تونس، جاء إلى مقر قيادة الثورة في باب العزيزية، وكان متوترًا، وأنا لا أعرف إذا ما كان سبب مجيئه قصد اغتيال بعض أعضاء القيادة وعلى رأسهم معمّر، أم أنه جاء للتأكد من أنّ الأمور كلها هادئة وطبيعية في القيادة، بما يسمح له بالفرار نحو الحدود التونسية، وأنا أرجح الفرضية الأخيرة.

حينما وصل إلى مبنى القيادة، كنت في هذا الوقت في حي قرجي ألقي محاضرة عن الثورة في شقة شعبية تابعة لفرع الاتحاد الاشتراكي في الحيّ. صحيح أن هذه المحاولة الانقلابية فشلت، لكنها أسست لانقلاب معمّر على الثورة؛ ولذا قاد معمّر انقلابًا "ناعمًا" وماكرًا، ومخادعًا وشيطانيًا، استغرق تنفيذه حوالى تسع سنوات، عاد في نهايته ليصبح "شيخ قبيلة" بامتياز، وحاكمًا وطاغية مطلق الصلاحيات؛ فقد شن حملة شعواء على قيادة الثورة، وشكّك فيها وفي قدراتها، قصد ضرب مصدقيتها في أعين الجماهير، كما عمل على "تفسيخ" حركة الضباط الأحرار، وكان يقول لي: "يا عبد السلام، الضباط الأحرار لا يفيدوننا الآن.

إنهم سيتعاملون معنا على أساس أنهم شركاء في الثورة. نحن في حاجة إلى ضباط وناس جدد، يكون لنا عليهم جميل". فقلت له: "لا يمكن أن أوافق على هذا التفكير، الضباط الأحرار إخوة وشركاء لنا، ولا يجب أن يشعروا أننا تخلينا عنهم وأبعدناهم وتخلصنا منهم بعد نجاح الثورة ووصولنا إلى السلطة. يجب أن نبحث عن شركاء وأصحاب رأي جدد؛ لأن هؤلاء سيكونون معنا في السراء والضرّاء، أما الأتباع والانتهازيون فسوف يتوارون عن الأنظار ويتبخرون". لكنه، مثل أي طاغية، أخذ يبحث عن الانتهازيين وأنصاف الرجال.
 
%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B0%D8%A7%D9%81%D9%8A%20%D9%8A%D9%84%D9%88%D8%AD.jpeg

(القذافي يلوّح للجماهير ومعه عبد السلام جلود في طرابلس (يونيو 1975/ فرانس برس)


في هذا الوقت، أمر إدارات التعليم بتزوير الشهادات الدراسية لأقاربه من أجل تمكينهم من دخول الكليات والمدارس العسكرية، وأقام تحالفًا قبليًا بين قبيلته وقبيلة ورفلة، وشرع في تفريغ الحرس الجمهوري وقوات الردع من الضباط الأحرار والضباط الوطنيين

وإحلال أقاربه محلهم. وعيّن أقاربه والأتباع والانتهازيين في مراكز حساسة في أجهزة الأمن والمخابرات. في نهاية عام 1985 وبداية العام التالي، أعلن عن نفسه "شيخ قبيلة"، حين بدأ يحكم ليبيا بهذه العقلية، متعطشًا وجائعًا ونهمًا للمال والسلطة

فبعد أن كان يعيش في دارة بسيطة ملاصقة لباب العزيزية - كانت سكنًا لرئيس الأركان في العهد الملكي - ويحاسب نفسه، ويحاسب أعضاء القيادة، على "النفقات الشخصية والعائلية"، أصبح يبني القصور والفيلات الفخمة؛ بدءًا من باب العزيزية، وفي أهم المدن، بل حتى في بعض الوديان، وصار ينفق الأموال بلا حساب على نفسه وعلى أولاده، وانتهى به الأمر أن يعلن عن نفسه "ملك ملوك أفريقيا"، يضع التاج على رأسه والقلائد في رقبته والخواتم في أصابع يديه. كان منظره محزنًا ومبكيًا وفي الآن نفسه مضحكًا. وأنا اليوم أعترف أنه استطاع خداعي

فقد ظننت أن إجراءاته تلك كانت بغرض تأمين الثورة إثر هذه المؤامرة الخطيرة.

أمر القذافي إدارات التعليم بتزوير الشهادات الدراسية لأقاربه من أجل تمكينهم من دخول الكليات والمدارس العسكرية
منذ مطلع عام 1974، بدأ الأخ معمّر رحلة "الدجل" والظهور في مظهر الزاهد في السلطة، حين شرع في "مسلسل استقالات زائفة"، واحدة تلو الأخرى. وكان مع كل استقالة يطلب من الانتهازيين من حوله، وأجهزة القمع، أن يفرضوا على الجماهير الخروج لمطالبته بالعدول عن استقالته. لقد كانت تسيطر عليه فكرة مفادها أنه كلما أوغل في قمع الجماهير، وعندما تخرج هذه الجماهير إلى الشارع احتجاجًا على تصرفاته، فإنه سيقول لها: "أنا كنت غير راغب في السلطة ورافضًا لها وأنتم أجبرتموني على العودة. إقبلوني كما أنا".

كانت هناك مجموعة من المنافقين والأتباع وموظفي الأجهزة، تقود هذا التلاعب بالجماهير، وكان الغرض من إعلان الاستقالة الزائفة في كل مرة هو أن يقول الأخ معمّر للشعب الليبي: "إمّا أنا، وإمّا أعضاء مجلس قيادة الثورة".

أذكر في إحدى استقالاته أنه كان قد سلّم الاستقالة إلى أبو زيد دوردة، وطلب منه أن يسلمها بنفسه إلى الإذاعة، فاجتمعت غالبية أعضاء مجلس قيادة الثورة وقبلت الاستقالة.

اتصل بي الأخ معمّر وقال لي: "لقد ظهرتم على حقيقتكم بأنكم تتآمرون عليّ"، ثم أوعز إلى المحيطين به بسحب الاستقالة قبل أن تصل إلى الإذاعة.

لقد بدأ انحراف الثورة منذ لحظة "عسكرتها". في هذا الوقت، كانت الأوضاع المعيشية للشعب الليبي تزداد سوءًا

والناس يشعرون بالحسرة على أيام الرخاء والرفاهية التي شهدتها ليبيا من 1970 حتى بداية عام 1983.

وفي هذا الوقت أيضًا، كانت حقبة حكم الرئيس الأميركي ريغن من أصعب الحقب والفترات التي مرّت بها ليبيا وثورة الفاتح، حيث اشتدّت المواجهة مع الولايات المتحدة، وكانت الحرب في تشاد تشتد ضراوة، بينما كانت المواجهة في الشمال مع القوات الأميركية - بسبب القانون الذي أصدرناه والذي تمّ بموجبه اعتبار خليج سرت جزءًا من اليابسة - فقد أصبحت أكثر فأكثر مواجهةً عسكرية، واتخذت واشنطن من هذا القانون ذريعة لتصعيد مواجهتها السياسية والدعائية والعسكرية والاقتصادية.

كان القذافي مع كل استقالة يطلب من الانتهازيين من حوله، وأجهزة القمع، أن يفرضوا على الجماهير الخروج لمطالبته بالعدول عن استقالته
ابتداءً من عام 1983، تدهورت أسعار النفط حتى وصلت إلى 7 دولارات، بينما كانت تكلفة إنتاج البرميل الواحد 3 دولارات، فأصبح الأمر أكثر صعوبة، حتى إننا واجهنا أزمة اقتصادية كبيرة؛ لأن عائدات النفط تدهورت على نحوٍ حادّ، فعجزنا عن استيراد المواد الضرورية وقطع الغيار والقيام بأعمال الصيانة. وبدأت احتياطاتنا تنضب، ولم نكن بطبيعة الحال مستعدين لهذا الأمر. كان قرار خفض أسعار النفط قرارًا سياسيًا اتخذته الولايات المتحدة مع دول الخليج وخاصة السعودية، لإسقاط الأنظمة الثورية في ليبيا والجزائر وإيران وفنزويلا

وقد نُشرت في هذا النطاق تقارير عن المؤسسات المالية العالمية تتساءل فيها باستغراب "كيف استطاعت هذه الدول مواجهة الأزمات والخروج منها؟". وتؤكد هذه التقارير، صراحةً، أن الهدف من تخفيض الأسعار، بل انهيارها، كان هدفًا سياسيًا تآمريًا؛ وحمدًا لله، فقد تمكنا في ليبيا من مواجهة هذه الأوضاع باتخاذ إجراءات صارمة وقاسية، مكنتنا من التغلب عليها. بيد أن اقتصادنا وبنيتنا التحتية تعرضا لضربات مؤلمة وموجعة

ومع ذلك أشادت المؤسسات المالية الدولية بهذه التدابير، ودعت بقية البلدان إلى أن تحذو حذو ليبيا، وأنا أعترف بأن الإجراءات والتدابير التي اتخذناها كانت قاسية، مع أنها كانت ضرورية، أدّت إلى ضرر بالغ في مستوى معيشة الشعب، وتسبّبت في تصاعد مشاعر التذمر، وذلك مع تزايد أعمال القمع التي كانت اللجان الثورية تمارسها، فضلًا

عن تفشي حالات التسيّب وضعف الإدارة وعدم الالتزام بالقوانين. وكل ذلك كشف عن بداية انهيار الإدارة والهياكل العامة

وبدء "مرحلة التجربة والخطأ" التي آمن بها الأخ معمّر، وكنت أعارضها بشدّة، فضلًا عن تصاعد المواجهات العسكرية في الجنوب، والمواجهات السياسية والاقتصادية والعسكرية في الشمال. وأدّى كل ذلك، منذ نهاية عام 1981، إلى "ظهور عبادة الفرد" التي تمّ الترويج لها على نحوٍ صارخ وسافر ومن دون أي لبس؛ فقد بدأت مرحلة "حكم الفرد والقبيلة" والاعتماد على الأقارب والأتباع من الانتهازيين والمنافقين والدجالين، وتمّ التنكر للقيادة الثورية ولسلطة الشعب.
 
تبدت "سلطة الشعب" كما لو أنها كانت عملًا تكتيكيًا للتخلص من قيادة الثورة ولإخفاء مشروع حكم الفرد والقبيلة وحكم الأجهزة القمعية، ولسحب البساط من تحت أي إمكانية لظهور معارضة، ومن يعارض معمّر سيقال له أنت تعارض "سلطة الشعب"؛ أي إنّ التهمة جاهزة! لقد شكلت سلطة الشعب حاجزًا نفسيًا في وجه أي معارضة جادة وصادقة، وكل هذا أدّى إلى ابتعاد الجماهير الشعبية عن الثورة. ثم بدأت مظاهر التململ والتذمر، بل حتى مشاعر السخط على الثورة. ومن هنا بدأت رحلة القطيعة شبه الكاملة بين الثورة وجماهيرها، وأخذت الثورة تخسر صدقيتها وشرعيتها وتفقد بريقها. لقد سحبت الجماهير فعليًا ثقتها بالثورة، بعد أن منحتها كاملةً يوم الفاتح من أيلول/سبتمبر.

كانت الإدارة الأميركية منذ الثمانينيات ترصد وضع احتياطياتنا من العملات الصعبة، ولاحظت أنها وصلت إلى أدنى مستوى لها.

حاولت واشنطن ممارسة مزيد من الضغوط علينا، فبدأت بالضغط على أوروبا الغربية لمقاطعة النفط الليبي؛ نظرًا إلى وجود فائض نفطي في الأسواق العالمية. ونظرًا إلى التوترات في الخليج، وصعود الثورة الإسلامية في إيران، ثم الحرب مع العراق، باءت كل هذه المحاولات بالفشل. لكن واشنطن

واصلت ضغوطها على إيطاليا، وخصوصًا على شركة "فيات"، للتخلص من مساهمة ليبيا.

كانت مساهمة ليبيا 14.5 في المئة، وكنت قد اتخذت قرارً ثوريًا أواخر عام 1972 بشراء نحو 9 في المئة من أسهم الشركة بقيمة 138 مليون دينار، فبدأت الشائعات الرامية إلى التشكيك في أهمية هذه الصفقة. خلال فترة ولاية ريغن الثانية، كنت أستمع إلى خبر من إذاعة بي بي سي يقول إن إدارة ريغن طلبت من إيطاليا وشركة "فيات" التخلص من مساهمة ليبيا. ويقول الخبر إنّ الخبراء الاقتصاديين يقدرون قيمة مساهمة ليبيا من مليارين إلى مليارين ونصف مليار دولار؛ فقررت على الفور بيع حصتنا في الشركة، واتصلت بالأخ معمّر وأبلغته بالقرار وقلت له إنني سأطلب 3 مليارات دولار، فقال لي: "لا يمكن تحقيق هذا الرقم. أنت تحلم".


وعلى الفور، شكلت فريقًا من المختصين، منهم رجب المسلاتي ومحمد عبد الجواد ومحمد سيالة وعبد الله السعودي. وطلبت من المسلاتي، الذي كان مديرًا للمصرف العربي الخارجي، أن يتصل بعبد الله السعودي، وكان في زيارة للبحرين، أن يعود على وجه السرعة إلى طرابلس. وبالفعل، حضر السعودي، واجتمعت بأعضاء الفريق كله، وأبلغتهم بالقرار، ثم سألتهم: "لقد سمعت بالخبر والسعر الذي يقدره الخبراء من إذاعة لندن، لكنني قررت أن يكون السعر
3 مليارات؟"، فقالوا جميعًا: "السعر لن يتجاوز المليارين"، ومع ذلك أصررت على قراري، ثم طلبوا أن ينضمّ إليهم المحامي كامل المقهور بصفته مستشارًا قانونيًا، فوافقت وقلت لهم: "يجب أن نحصل على سعر 3 مليارات دولار صافيًا". كانت المشكلة التي واجهتنا هي كيفية تحويل هذا المبلغ الضخم خارج إيطاليا وبالدولار؛ ذلك أن الإدارة الأميركية كانت قد اتخذت قرارًا بالحجز على أي مبالغ بالدولار تعود إلينا، وكانت مسألة تحويل المبلغ خارج إيطاليا تبدو صعبة جدًّا لا يحتملها إلا الاقتصاد الألماني أو الياباني.

سافر الوفد إلى إيطاليا وبدأ المفاوضات مع كبار مديري شركة "فيات". وبالفعل، تحقق الرقم الذي طلبته وحدّدته. وقبل توقيع العقد بقليل، اتصل بي الوفد لطلب الموافقة على التوقيع النهائي. في هذ الوقت، كنت في منزلي بالمصيف الذي يقع بين السندباد وعين الزرقاء. فاستدعيت على الفور جاد الله عزوز الطلحي، وكان أمينًا للاتصال الخارجي، ومعه قاسم شرلالة أمين الخزانة، ومحمد الزروق رجب محافظ مصرف ليبيا، وفوزي الشكشوكي أمين النفط، وعرضت عليهم الأمر

وكان الفريق الذي يتولى المفاوضات معي على الخط الهاتفي، فرحب الأمناء بالاتفاق واعتبروا أنه إنجاز تاريخي. لكنني لاحظت أن جاد الله كان متحفظًا، ويرى أن في الأمر خدعة نظرًا إلى ضخامة حجم الصفقة. ومع ذلك أعطيت الفريق موافقتي لإتمام الصفقة وإبرام الاتفاق. وبالفعل، تمّ التوقيع على أساس أن يحوّل المبلغ بـ "المارك" الألماني لمصارف ألمانية. اتضح لي أن موقف الإدارة الأميركية ومحاولتها الضغط على الحكومة الإيطالية وشركة "فيات"، كان موقفًا غبيًّا، فقد تمكنّا من "عقد صفقة القرن"؛

إذ لم يسبق لأي دولة في العالم، خلال 150 سنة سابقة، أن حققت عائدًا بهذه الضخامة من استثمار خارجي، وتأكد لنا ذلك، حين تعالت الأصوات الناقدة في الولايات المتحدة التي اعتبرت أن الضغط الأميركي على الحكومة الإيطالية وشركة "فيات" كان خطأً كبيرًا. لقد مكننا قرار بيع حصتنا في "فيات" في هذا الوقت من تحقيق عدّة أهداف، واكتشفت الإدارة الأميركية بعد فوات الأوان الخطأ الذي ارتكبته، فقد تمكنّا من الحصول على عملة صعبة في أحلك الأوقات.

كان هدف الاستثمار الليبي في "فيات" الحصول على عائد اقتصادي، والضغط الأميركي على إيطاليا للتخلص منه مكّن ليبيا، على غير توقّع من واشنطن، من تحقيق "العائد الاقتصادي" لليبيا حين حصلنا على احتياطيات جديدة من العملة الصعبة. وبفضل هذا النجاح، تمكنّا من إضافة 3 مليارات دولار لاحتياطاتنا من العملة الصعبة، وهذا ما عزّز قدرتنا على الصمود.

في عام 1986، طلبت من الأخ رجب المسلاتي ومحمد سيالة ومحمد عبد الجواد وكامل المقهور، رفع دعوى قضائية في المحاكم البريطانية ضد السلطات الأميركية وضد قراراتها وقوانينها التي تبيح لها تجميد أموال أي دولة في العالم خارج الولايات المتحدة. وقد ربحنا هذه القضية وحكمت المحكمة البريطانية بأن القوانين الأميركية لا يجوز أن تطبق ضد سيادة الدول، وهكذا أنهت ليبيا مرحلة طويلة من "قدرة" واشنطن على تجميد أموال أي دولة بالدولار، ومثّل هذا الحكم انتصارًا لكل دول العالم. في هذا الوقت كانت أسعار النفط تتهاوى.

اتخذت بنفسي قرار المساهمة في شركة "فيات"، حينما كنت رئيسًا للوزراء، على الرغم من أجواء الشائعات والتشكيك في جدوى هذا النوع من الاستثمار، وحرصت على أن تتم في سرية تامّة، وهذا ما أكدته وسائل الإعلام الغربية آنذاك. وبالفعل، تمّت عملية البيع.

في هذا الوقت، أي في عام 1986، كان الوضع الاقتصادي في ليبيا قد بلغ مرحلة من التدهور، ووصلت الحالة النفسية للمواطنين في عموم البلاد مستوى من التدني يفوق كل وصف، وتفاقمت الممارسات التي تنتهك حقوق الليبيين وكراماتهم، وشاعت عبادة الفرد.

لقد غدت الجماهير في وضع نفسي سيئ مع تدهور مستوى المعيشة، وشيوع "النفاق" والتملق وبطش ما سُمي "حركة اللجان الثورية" وغيرها من الأجهزة القمعية. ونظرًا إلى أن الانضمام إلى هذه الحركة كان مفتوحًا أمام الجميع، فقد دخلها كل مَن هبّ ودبّ: الانتهازيون، والفاشلون، والقبليّون، والمنافقون، وأصبحوا هم كل أعضاء الحركة. ونظرًا إلى هذا الوضع أيضًا، أصبحت الحركة حركة تهريج. لقد انحرفت عن أهدافها وتحولت إلى ميليشيا مسلحة وقمعية، مارست التسلط على الجماهير الشعبية، ثم بدأت مرحة "القوانين الشخصانية"، وانهارت القوانين وحلت محلّها المزاجية والمحسوبية. لقد اكتشفت أن الأخ معمّر لا يريد حركة ثورية؛ وإنما "حركة تصفيق" يقوم كل نشاطها على تكريس عبادة الفرد وممارسة عملية تخويف للجماهير وتوجيهها لاإراديًا.

شاع "النفاق" والتملق وبطش ما سُمي "حركة اللجان الثورية" وغيرها من الأجهزة القمعية
كان شغله الشاغل أن تقبّل الجماهير جبهته وأنفه ويده، تمامًا كما هو الحال في المغرب والسعودية، أي إنه كان يرغب في رؤية "حركة" تتملق له وتمارس التزييف والخداع والتهريج. كانت استراتيجية الأخ معمّر هي "الأمن ثم الأمن". وعلى سبيل المثال، حين تتقدم أعداد من الطلبة للدراسة في الكليات والمدارس العسكرية، كانت الأجهزة الأمنية تحيل إليه مباشرة قوائم بأسماء هؤلاء، ليتولى بنفسه مراجعة ملفاتهم، اسمًا، اسمًا، وكان يولي عناية خاصة لمعرفة الانتساب القبلي لهؤلاء، وكان يشطب بنفسه كل أسماء الذين يظن مجرد ظن أن ولاءهم غير مضمون.

وأذكر أنه طلب من رئاسة الأركان ترشيح مجموعة من الضباط لنقلهم إلى جهاز الأمن الداخلي، ومن هؤلاء أخي جلود. لمّا علم أخي بقرار الأخ معمّر نقله من الجيش بصفته ضابط إلى جهاز الأمن الداخلي، شعر باستياء شديد فجاء لزيارتي. قال لي: "أريد لقاء الأخ معمّر. اتصلْ به ورتبْ لي موعدًا"، فاتصلت به.

الصورة
معمر القذافي وعبد السلام جلود ووزير الداخلية الخويلدي الحميدي خلال لقاء في طرابلس مع طلاب ليبيين يدرسون في الخارج  (Getty)

القذافي وجلود ووزير الداخلية الخويلدي الحميدي خلال لقاء في طرابلس مع طلاب ليبيين يدرسون في الخارج (Getty)
حين التقى أخي جلود بالأخ معمّر قال له: "يا أخ القائد. نحن عائلة بيت جلود لم نشتغل في الأمن؛ لا في عهد الأتراك، ولا في عهد الطليان، ولا في العهد الملكي، ولن نشتغل فيه في عهدك أيضًا"، فردّ عليه الأخ معمّر: "وماذا تريد؟"، فقال أخي جلود: "أنا مواطن وأنت الحاكم، لا يمكن لي أن أقول ما أريد أنت تقرر"، فقال له الأخ معمّر: "ما رأيك في الإحالة للتقاعد؟" فردّ عليه: "موافق".

لقد تحدّثت خلال كل اجتماعاتي مع الأخ معمّر، بقوة وصراحة ووضوح، وتناولت بالنقد الوضع الذي تعيشه الثورة والجماهير، ووضعته أمام أحد خيارين: إمّا أن نقف وقفة جادة ونبدأ في إحداث تغييرات جذريّة، وإمّا أن أقدم استقالتي، فقال لي إنه يوافقني الرأي بضرورة إجراء التغييرات الجذرية.

وبالفعل، بدأنا حوارات معمّقة في مدينة سرت على امتداد أحد عشر يومًا كانت تستغرق ساعات طويلة من الصباح إلى المساء، وكان العقيد مسعود عبد الحفيظ، والمقدم خليفة إحنيش، والرائد عبد الله السنوسي، والرائد أحمد قذاف الدم، والنقيب عبد السلام الزادمة، يقومون بواجب خدمتنا. بدأت هذه الحوارات في أول حزيران/ يونيو 1986 واتفقت أنا والأخ معمّر على أسس ومرتكزات التغيير، وأن أقوم بإعداد التصورات والحلول العملية. ونظرًا إلى أهمية النتائج التي توصلنا إليها، فقد أطلق العقيد مسعود عبد الحفيظ والمقدم خليفة إحنيش على أيام هذه الحوارات "الأيام المباركة".

في 11 حزيران/ يونيو، انتهت الحوارات، وتوجهت بالسيارة أنا والأخ معمّر إلى قاعدة رأس لانوف، للاحتفال بذكرى طرد القوات الأميركية، وكان الأخ معمّر يقود السيارة بنفسه. وصلنا إلى رأس لانوف حوالى الساعة الخامسة مساء، فلم نجد إلا عددًا قليلًا جدًّا من الجماهير في موقع الاحتفال، فأدركت أن الثورة فقدت بالفعل جماهيرها، بل إن الجماهير في الواقع أدارت ظهرها للثورة. وكان يحضر الاحتفال الأخ أحمد جبريل والأخ أبو موسى.

في اليوم التالي، توجهت أنا والأخ معمّر بسيارة إلى منطقة هراوة، حيث تقيم قبيلة أولاد سليمان الذين استقبلونا بحفاوة رجالًا ونساء وأطفالًا، فتناولنا معهم طعام الغداء، ثم عقدنا اجتماعًا مع قيادات القبيلة. في هذا الاجتماع،

قال لنا رجال القبيلة بصراحة ووضوح وصدق: "لا نرغب في الذهاب إلى الأسواق العامة، ونفضل الموت على أن نذهب إليها، لأن هناك من يعامل المواطنين كـ"كلاب".

ثم أضافوا بمرارة: "هناك تحْدث الكثير من الممارسات غير الأخلاقية. الناس تتشاجر، تتدافع في زحام شديد على بضائع شحيحة، والعاملون في هذه الأسواق يتصرفون مع الناس بوحشية ويفرضون علينا شراء سلع لا نرغب فيها".
وقالوا لنا أيضًا: "يا أخ معمّر،
يا أخ عبد السلام إذا قلنا لكم إن 15 في المئة من الشعب مع الثورة، فهذا يعني أننا نكذب عليكم. جِدَا حلًّا سريعًا للأوضاع. رغم كل شيء فإننا نفضل الموت على أن نرفع السلاح ضدكم". في هذه الأثناء، جاءت طفلة صغيرة عمرها 6 سنوات تقريبًا، توقفت أمام الأخ معمّر وقالت: "بابا معمّر من عامين لم أتناول شكولاتة أو حلوى أو تفاحة"، فقال الأخ معمّر مخاطبًا الحاضرين: "أحضرت الأخ عبد السلام معي لتحدثوه عن مشكلاتكم لأن أمور الدولة كلها عنده". ثم واصلنا رحلتنا واتجهنا إلى مدينة البيضاء. كان هناك مكان غالبًا ما يستريح فيه الأخ معمّر في هذه المنطقة، فتوقفنا فيه وتناولنا الطعام.

الأوراق الثلاث

قرر الأخ معمّر أن يواصل الرحلة إلى البيضاء، بينما قررت الذهاب إلى بنغازي لأسافر منها بالطائرة إلى طرابلس. ثم شرعت في اليوم التالي في إعداد أوراق العمل لإعادة الثورة إلى مسارها الصحيح، بناء على الأفكار التي طرحتها في حواراتي مع الأخ معمّر في سرت.

في هذا الوقت من عام 1986، وبينما كنت منغمسًا في كتابة "برنامج التغيير، فوجئت بوصول الصديق الكاتب الليبي المعروف، الصادق النيهومو هو يطرق باب منزلي في المصيف. حين استقبلته، طلبت منه أن يقرأ ما كتبت، وأن يطلع بنفسه على أفكار برنامج التغيير الذي أعده، وما إن انتهى الأخ النيهوم من قراءة مسودة البرنامج، حتى هبّ من مقعده وقال لي بصوت بدويّ: "صبيّ يا بطل"، أي قم يا بطل لأعانقك. ثم عانقني وقال لي: "لو تحقق هذا البرنامج فسوف أعود غدًا من سويسرا لأتولى إصدار صحيفة".

في اليوم التالي، التقيت بالأخ المقدم يوسف الدبري، وكان صديقًا مقرّبًا لصادق النيهوم، فقال لي: "أمس وحوالى الساعة الثانية ليلًا طرق باب منزلي الأخ صادق النيهوم وهو يقول لي مازحًا: افتح يا عبد (لأن يوسف الدبري رجل من ذوي البشرة السمراء)، أريد أن احتفل ببرنامج عبد السلام جلود على طريقتي". وفي هذا الوقت، كان يزورنا الدكتور جورج حبش، الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. بعد اجتماعي به طلبت منه أن يقرأ البرنامج، وما إن انتهى من قراءته، حتى قال لي: " أهنئك يا أخ عبد السلام. لم يحصل أن تكون هناك ثورة منتصرة وتمسك بزمام السلطة، تملك الشجاعة وتقوم بهذا النقد الجريء، وتقدم حلولًا أكثر جرأة"، وقال لي: "نحن في فصائل الثورة الفلسطينية، حينما خرجنا من لبنان نتيجة لأخطائنا وتصرفاتنا وفقدنا ساحة لبنان، قام كل فصيل في مؤتمره بنقد تصرفاتنا وأخطائنا، لكن للحقيقة لم نملك الجرأة لننقد أسباب خسارتنا لساحة لبنان مثلك". كانت لدي ثلاث أوراق عمل:
 
الورقة الأولى: تضمنت "نقد حركة اللجان الثورية" وممارساتها القمعية، وكذلك "نقد الأجهزة الأمنية" و"الممارسات اللاثورية والتزييف والنفاق، وانعدام الممارسة الديمقراطية" و"غياب النقد" بوصفه "أوكسجين الحياة" لأي ثورة أو حركة سياسية. وفي هذه الورقة، ركزت على أهم الأفكار، ومنها أن الثورة تقوم على الحب والصراحة والوضوح مع الجماهير؛ فإذا ما نجحنا نقول إننا نجحنا، وإن فشلنا فعلينا أن نصارح الجماهير بالفشل وبأسبابه. الثورة ليست توجيهًا "لاإراديًا".

الثورة تقوم على الحب والصراحة والوضوح مع الجماهير؛ فإذا ما نجحنا نقول إننا نجحنا، وإن فشلنا فعلينا أن نصارح الجماهير بالفشل وبأسبابه
ومن هذا المنطلق، على حركة اللجان الثورية أن تعتمد الحوار مع الشعب، وأن تسعى للإقناع لا للتخويف والتزييف. كما أكدت الورقة الأولى على الفكرة الجوهرية التالية: إذا انتهت الثورة أخلاقيًا، فستكون قد انتهت سياسيًا وأيديولوجيا؛ ولذلك لا بد من احترام الرأي والرأي الآخر، سواء داخل الحركة أو في المؤتمرات الشعبية.

الورقة الثانية: تضمنت هذه الورقة شرحًا للمفاهيم والسياسات الاقتصادية، وقد حللت فيها مقولات الكتاب الأخضر، وبيّنتُ أن هناك مسافة بين النظرية والتطبيق، وأشرت إلى أن فهم المقولات اتسم بكثير من الأخطاء التي قادت إلى التطبيق المجزَّأ والخاطئ للمقولات نفسها. لذا، وضعت رؤية عملية للتطبيق تقوم على الفهم العلمي الجماعي، وأكدت أن الأسئلة التي واجهت كارل ماركس وفريدريك إنغلز، ليست الأسئلة نفسها التي واجهت فلاديمير لينين. وفي هذه الورقة، اعترضت على الشرح الذي قدمه الأخ معمّر للكتاب الأخضر، وقلت: "من الخطأ أن نقدّم الشروح لما جاء في الكتاب"؛ لأن ذلك يعني أن "الكتب أقفلت والأقلام جفت"، وقلت: "يجب ألَّا تكون هناك مرجعية وفتاوى لشخص - وكنت أقصد الأخ معمّر - بل إن المرجعية هي النصوص النظرية ضمن قراءة جماعية، وضمن التسليم بالحقيقة القائلة إن هناك بالفعل مسافة بين النظرية والتطبيق".

الورقة الثالثة: تضمنت مقترحات تتعلق بإعادة تنظيم القوات المسلحة التي كانت تضمّ نحو 350 ألف منتسب، يمثلون فعليًا أكثر من ثلث القوة العاملة في البلاد. كانت هذه القوة معطلة لأنها خارج العملية الإنتاجية، وهي تشكل عبئًا ماليًا يكلف الخزينة مبالغ هائلة. لذا، اقترحت تقليص القوات المسلحة إلى 150 ألفًا، كما اقترحت إيقاف شراء الأسلحة، وإقفال بعض القواعد الجوية، ووضع خطط لتخزين الأسلحة على مدى طويل، كما اقترحت تقليص أعداد الطلبة الذين يتوجهون إلى الانتساب إلى القوات المسلحة.

وهكذا، توجهت إلى بنغازي لمناقشة الأوراق الثلاث مع الأخ معمّر. لمّا وصلت إلى المدينة، اكتشفت أنه توجه إلى مدينة البيضاء؛ فلحقت به على وجه السرعة. وسرعان ما التقيت به في منطقة تفصل بين المرج والبيضاء. وحين قرأ الأوراق، قال لي إنه يوافق على ما ورد فيها من تصورات، ثم قال لي: "كيف يمكن إقرار هذه الأوراق؟"، فقلت: "نعرضها على المؤتمرات الشعبية"، فردّ قائلًا: "يُستحسن أن تُعرض على ملتقى اللجان الثورية أولًا، ولكن يجب ألَّا تعرض على أنها صادرة عن القيادة حتى لا يؤثر ذلك في قناعاتهم".

في هذه اللحظات، شعرت بالريبة مما سمعت، وانتابني شعور حقيقي بأن الأخ معمّر لم يكن جادًّا في الموافقة على الأوراق المقدمة، بل شعرت أنه غير جادّ في إحداث أي تغيير جذري. ومع ذلك وافقت على مضض، ثم اتفقت معه على موعد عقد الملتقى العاشر لحركة اللجان الثورية، في يوليو/ تموز 1986، في جامعة الفاتح. حين عقد الملتقى في الموعد والمكان المتفق عليهما، وكنّا قد اتفقنا أن تُعرض الورقتان الأولى والثانية على الملتقى، لاحظت أن جدول الأعمال يتضمن مناقشة هاتين الورقتين، وكنت قد فهمت أن الأخ معمّر سرّب إلى أعضاء الحركة خبرًا يقول إن "الأخ عبد السلام جلود أعدّ هاتين الورقتين وهما تعبّران عن رأيه هو".

في اليوم الأول للملتقى، بدأت "الكولسة" ومقاومة عملية التغيير، وكانت مشاعر الخوف بادية على وجوه أعضاء الملتقى، الذين نظروا إلى عملية التغيير هذه على أنها مسّ بمصالحهم، وأن الأفكار المطروحة توجه النقد الشديد إليهم. في افتتاح الملتقى، ألقى الأخ معمّر كلمة، وكان عدد المشاركين يناهز 30 ألفًا، قال فيها حرفيًّا: "نحن قدّمنا نموذجًا سيئًا ودمرنا أنفسنا.

المهم أننا قدمنا نموذجًا ولا نريد أن نتراجع"، فصفق أعضاء الملتقى، وهتفوا: "دوم معمّر هو القايد، الفاتح، الفاتح ثورة شعبية". كانت تلك لحظات صادمة لي. لقد صعقت مما يجري ومن كلام الأخ معمّر وتأييد أعضاء الملتقى له، وهذا دليل آخر على السلوك الانتهازي والمنافق، فتوجهت على الفور نحو الميكرفون وقلت مخاطبًا الأخ معمّر: "لا يا أخ معمّر. الشيء السيئ لا يشكل نموذجًا. الشيء الجيد هو الذي يشكل نموذجًا". أصابت كلماتي الحاضرين بالذهول وبدا واضحًا أن الخلاف بيني وبين الأخ معمّر هو خلاف عميق.

أصبحت المؤتمرات الشعبية بلا جماهير بعد أن تكشف لها الزيف، وأن دورها هو إضفاء "مظهر ديمقراطي" شكلي يغطي على حكم القبيلة وحكم الفرد
كانت الورقة الثالثة من "مشروع برنامج التغيير الجذري" الذي قدمته، تتضمن تصورات لإصلاح العجز في الميزانية، خصوصًا بعد انهيار أسعار النفط التي وصلت إلى 7 دولارات، بتوجيه مئتي ألف من أفراد القوات المسلحة نحو سوق العمل، وهكذا يمكننا أن نعالج الخلل في الموازنة. لكن دُفنت "محاولة التغيير الجذري" في مهدها، وانتهى الملتقى.

أصبحت المؤتمرات الشعبية بلا جماهير بعد أن تكشف لها الزيف، وأن دورها هو إضفاء "مظهر ديمقراطي" شكلي يغطي على حكم القبيلة وحكم الفرد. وهكذا، باتت المؤتمرات الشعبية مهجورة من الجماهير، بحيث إنّ عدد الحضور في كل مؤتمر لا يتجاوز ثلاثين أو خمسين شخصًا من كبار السن والمتقاعدين والأتباع، بعد أن كانت الجماهير تحضر بكثافة.

في اليوم التالي، فوجئت بأن الإذاعة المرئية تذيع نصّ ما سمي "وثيقة الشرعية الثورية"، وهي وثيقة تُمكن معمّر من حصر السلطة كلها في يده، التفافًا على سلطة الشعب وعلى صلاحيات المؤتمرات الشعبية، بحيث تسمح له باتخاذ أي قرارات باسم "الشرعية الثورية كقائد للثورة". وهي تتضمن ما يلي:


- الشرعية الثورية يجسّدها معمّر.

- إن ما يقوله أو يعمله هو "قانون".

- يكلف أعضاء القيادة التاريخية بالمهمات التي يراها.

فاتصلت بالأخ معمّر هاتفيًّا، وكنت في حالة من الغضب الشديد وقلت له: "ما هذا الكلام الفارغ الذي يذاع؟". ثم أضفت: "هذا فراق بيني وبينك، أنت اخترت هذا الطريق، وأنا اخترت طريقي".

ثم قلت: "سبق لي أن أعلنت بوضوح أنه لا يوجد اليوم أيّ فصل بين الثورة والسلطة. الثورة ممارسة لقرار سياسي، والسلطة كذلك ممارسة لقرار سياسي. وجود القيادة التاريخية شرّ لا بد منه؛ لأن وجودها عمليًا سيكون متناقضًا مع سلطة الشعب، بحيث إنّ الناس سوف يشعرون بالخوف منّا وهم يجاملوننا أو يثقون بنا ويقبلون أي شيء نقوله ونعمله. وبذلك لن يكونوا قادرين على التفكير المستقل. لكن لن يكون هناك نظام وطني ولا تقدمي ولا سلطة شعبية ما إن تختفي القيادة التاريخية، بل ستكون ليبيا أقل تأثيرًا من غامبيا. وإذا افترضنا أن هناك شرعية ثورية، فإن هذه الشرعية ستكون للقيادة مجتمعة وليست حكرًا عليك". وحينما أدرك الأخ معمّر شدة غضبي، وكان يسيطر من منزله ومكتبه على الإرسال التلفزيوني (المرئي) وهو يتحكم في البث، أوقف البث المباشر، ثم قال لي هاتفيًّا: "اكتب الصيغة التي تقترحها للشرعية الثورية". في البداية وافقت، لكنني شعرت بعد لحظات أنه غير جادّ. فاتصلت به وقلت له: "يا أخ معمّر ليس المهم ما أكتب، المهم ماذا في ذهنك؟".

ومع ذلك كتبت صيغة تؤكد على "جماعية الشرعية الثورية"، وهي صيغة تعيد الاعتبار للقيادة التاريخية، فوافق على الصيغة تحت الضغط والإلحاح، ولكن - ويا للأسف - سرعان ما علمت أنه تراجع عن الاتفاق، وقام بتحريف مضمون الصيغة؛ فقد جسّدها في شخصه. وبالطبع، لم يكن الأمر مفاجئًا بالنسبة إلي، فهو شخص لا يؤمن بسلطة الشعب، بل يؤمن بحكم الفرد و"عبادة الفرد"، كما أنه يؤمن بحكم العائلة وحكم القبيلة. كانت سلطة الشعب بالنسبة إليه أكذوبة، قنبلة دخان الغرض منها التغطية على الحقيقة، أي التخلص من "مجلس قيادة الثورة" ومنع ظهور أي معارضة، بحيث يتمكن من البقاء في الحكم طوال حياته ومن بعده أولاده، فهذا الوضع لا يسمح بظهور أي معارضة، ويصبح كل معارض متآمرًا على سلطة الشعب.

الصورة
عبد السلام جلود/ getty

جلود: كانت سلطة الشعب بالنسبة إلى القذافي أكذوبة، قنبلة دخان الغرض منها التغطية على الحقيقة (Getty)

في أواخر عام 1989، كنت أمارس لعبة كرة القدم في ملعب تابع لمركز التربية العقائدية في طرابلس. بعد أن غادرت الملعب، وركبت سيارتي، إذا بمجموعة من الشباب يقفون في انتظاري عند الباب، وصاحوا بأعلى أصواتهم: "يا أخ عبد السلام، يا أخ عبد السلام، نريد أن نتحدث معك؟".

فنزلت من سيارتي واستمعت لما يريدون قوله. قالوا لي: "نحن طلبة من اتحاد طلبة الجامعات، ونريد أن نخبرك أن أعضاء الاتحاد اجتمعوا في طرابلس لمدة يومين لاختيار قيادة جديدة للاتحاد، لكن عمر أشكال، أمين شؤون المؤتمرات الشعبية، ومحمد المجذوب، وصالح إبراهيم المبروك، فرضوا علينا نقيبًا؛ هو الطالب عبد الله عثمان، وهو من أقرباء القذافي، وقالوا لنا، إن القائد يريده في هذا الموقع". ثم سلموني شريط فيديو للاجتماع. وحينما عدت إلى المنزل، شاهدت الفيديو، وكيف أن هذه المجموعة زورت إرادة الطلبة، وفرضت عليهم الطالب عبد الله عثمان.

في الصباح، استدعيت بشير حويج أمين شؤون المؤتمرات المهنية، كما استدعيت المجذوب وإبراهيم وأشكال، وقلت لهم جميعًا: "ما هذا التزوير لإرادة الطلبة وتخويفهم وتهديدهم؟"، فقالوا: "إن القائد، بحسب تعبيرهم، يرغب في أن يستمر عبد الله عثمان في موقعه على الأقل أربع سنوات أخرى"، فقلت لهم: "لا، لا يمكن أن أوافق على هذا التزوير.

أوافق على إرادة الطلبة فقط". وهكذا وضعت حدًّا لمحاولة تزوير إرادة الطلبة، وطلبت منهم دعوة الطلبة للاجتماع من جديد، وأن يختاروا من يريدون من دون تهديد أو خوف، كما كلفت بشير حويج وصالح والمجذوب أن يشرفوا بأنفسهم على هذا الاجتماع. في اليوم ذاته مساء، جاءني بشير، وقال لي: "هناك مجموعة من أعضاء اللجان الثورية لا يريدون تمكين الطلبة من حرية الاختيار"؛ فذهبت بنفسي، على الفور إلى الاجتماع. ما إن وصلت إلى المكان، حتى خاطبتهم بقولي: "لا بديل من حق الطلبة في الاختيار الحر لقيادتهم، وأنا مستعد لقتالكم من شارع إلى شارع". وهكذا أوقفت هذا التزييف. في نهاية الاجتماع قال لي الطلبة: "هذه هي المرة الأولى التي نختار فيها قيادتنا بأنفسنا"، ثم عانقوني وهتفوا "الفاتح، الفاتح".

في عام 1989، استدعى الأخ معمّر أخي سالم، وكان رئيسًا لاتحاد نقابات العمال، وطلب مني حضور اللقاء. في بداية اللقاء، قال الأخ معمّر لأخي سالم: "يا سالم، أنا لست ضدك. يجب أن تعرف أن أعدى أعدائي هم العمال والطلبة. وعندما تمشي أنت (أي عندما تستقيل) فلن يكون هناك اتحاد عمال". ثم توجه نحوي قائلًا: "يا عبد السلام، أليندي في تشيلي لم تسقطه المخابرات الأميركية عمليًا، وإنما أسقطه العمال حينما أغلقوا الطرق والساحات والميادين بالشاحنات والحافلات وشلّوا الحركة". ثم طلب من سالم أن يقدم استقالته، فقال له سالم: "لا يمكن أن أقدم استقالتي لأنك يا أخ معمّر لم تعيّني. أنا كنت مدة 17 عامًا نائبًا لرئيس اتحاد عمال ليبيا في العهد الملكي الذي كان رئيسه سالم شيتةعضو مجلس النواب". ثم قال سالم: "والآن في عهدك العمال هم من اختاروني. يمكنك عزلي ولكن لن أقدم استقالتي". في إثر ذلك مباشرة، شكّل معمّر لجنة برئاسة نقيب الأدباء والكتاب الليبيين أمين مازن،
دعت اتحاد العمال لعقد اجتماع في سرت. أشرفت هذه اللجنة على الاجتماع، فقرر اتحاد العمال إقالة سالم، وذلك تنفيذًا لأوامر معمّر. عاد سالم إلى الفندق في مدينة سرت، فأبلغه مدير الفندق قائلًا: "إن سكرتارية الأخ معمّر طلبت مني أن أبلغك ألا تعود إلى طرابلس، لأن القائد يريد الاجتماع بك غدًا في الساعة 12". فقال سالم: "ماذا يريد مني؟ لقد فعل ما أراد"، ثم عاد سالم ليلًا إلى طرابلس. في الصباح اتصلت السكرتارية بالفندق وطلبت التحدث مع سالم، فكان الرد أنه غادر الفندق إلى طرابلس، فغضب الأخ معمّر غضبًا شديدًا، واتصل بأحمد رمضان في طرابلس وطلب منه أن يرسل سالم على متن طائرة صغيرة فورًا إلى سرت. عاد سالم إلى سرت والتقى معمّر، فقال له: "يا سالم، كيف أطلب منك البقاء في سرت للاجتماع بك، ومع ذلك تعود إلى طرابلس. أنت غير معترف بي كرئيس لهذا البلد"، فرد عليه سالم: "ماذا تريد مني يا أخ معمّر. أنت فعلت ما كنت تريده"، فنهره معمّر ووبخه.

أواخر عام 1990، توفي عمي علي، فأقمنا له عزاء في صالة رياضية كبيرة في حي قرقارش بطرابلس بالقرب من نادي الرمال، ولا أبالغ إن قلت إن معظم أهالي طرابلس جاؤوا للتعزية. في اليوم الأول للعزاء، كان إلى جانبي بعض الضباط الأحرار، من بينهم العقيد يوسف الدبري، فقالوا لي: "اليوم حضرت كل طرابلس لتعزيتك".

في الواقع جاءت الوفود من كل المدن والقرى والقبائل. ويبدو أن التنابلة وعناصر السوء كانوا ينقلون هذه الصورة للأخ معمّر. وذلك ما زاد في غضبه وحقده على الليبيين؛ لأنه وجد في هذه الصورة شخصًا ينازعه الشعبية. في اليوم الثاني للعزاء، كنت مرهقًا فلم أتمكن من الذهاب إلى مكان العزاء. اتصل بي عبد الله السنوسي وقال لي: "إن القائد سيذهب الليلة لتعزيتك وتعزية عائلة جلود". وبالفعل، بعد صلاة العشاء وصل القذافي إلى مكان العزاء فلم يجدني. اتصل بي السنوسي وآخرون وقالوا لي: "القائد ينتظرك في مكان العزاء". ومع ذلك لم أذهب، وكان هذا الموقف محل استغراب واستهجان منه.


في عام 1990، حاول الأخ معمّر مرة أخرى أن يلتقي بي، حينما علم أن أسرة أخي عمر تريد أن تقيم عرسًا لأحد أبنائها. أرسل سعيد راشد أحد المقربين منه إلى منزل أخي عمر ليخبره أن القذافي سيحضر العرس بنفسه. حين علمت بالأمر، اتصلت بأخي سالم وأبلغته أنني لن أحضر حفل الزواج، وقلت له لن يحضر عندما يعرف أنني لن أحضر. إنه ليس مهتمًا بمشاركة الأسرة أفراحها، بل إن كل همه أن يلتقي بي. وهذا ما حدث بالفعل. وفي أواخر عام 1992، اتخذت قراري النهائي: إمّا التغيير الجذريّ وإمّا الاستقالة.

لكنني قرّرت خوض سلسلة من الحوارات الصريحة والعميقة مع الأخ معمّر، وأبلغته أن الوضع وصل مرحلة اللامعقول، وأنه بلغ مرحلة خطيرة، وأن حالة الجماهير غاية في السلبية، وأنها تعيش ظروفًا اقتصادية واجتماعية وسياسية لا تحتمل، وأن النفاق السياسي والتملق للسلطة ينخران كالسوس في جسد الشعب، وقلت له: "هناك مسلسل تلفزيوني، عنوانه السوس، تمّ بثه في الثمانينيات، وأشعر اليوم أنه سبق زمنه بكثير، وهذه هي مرحلته، المسلسل يعبّر عن هذه المرحلة. هذه مرحلة السوس الذي ينخر في كل شيء".

في نهاية خريف هذا العام، أجريت مع الأخ معمّر حوارًا في منطقة العثعث، خارج مدينة سرت، على امتداد ثلاثة أيام متواصلة، قدمت خلالها تحليلًا مفصلًا وجريئًا، لأنني أعلم أن التحليل الجريء يقود إلى استنتاجات جريئة. في اليوم الأخير من الحوارات اجتمعنا لبلورة الأفكار. وفي نهاية الاجتماع، قال لي، كعادته، إنه يتفق معي؛ ولذا اقترحت عليه آلية لمتابعة إعداد البرنامج:

- أن ننظم دورة يشترك فيها بعض الثوريين من الحركة، وعدد من الكتّاب والأدباء والمفكرين والمثقفين.

- عقد ندوات في الإذاعتين المرئية والمسموعة، تقودها وتديرها القيادات الفكرية والثقافية، وأن يتمكن المواطنون من إبداء آرائهم مباشرة والتعليق عليها.

- أن نعقد ندوات تخصّصية في مجالات الحياة المختلفة (السياسية والاقتصادية والاجتماعية والشبابية ...إلخ).
 
في أعقاب هذه الحوارات الطويلة، عدنا إلى سرت، وكان معنا المقدم عبد السلام الزادمة يقود السيارة، فقال الزادمة: "يا أخ القائد، أنت دائمًا توافق على التغيير ثم تتراجع، وأنا في هذه المرة شاهد عليك"، فربّت على كتفه وقال له مازحًا: "يا تحفة ... استمر في قيادة السيارة".

في اليوم التالي، عدت إلى طرابلس وشرعت في وضع "تصوراتي عن التغيير الجذري". ثم نظمت ندوة اشترك فيها أكثر من سبعين مثقفًا ومفكرًا، وكانت ندوة مغلقة، ثم انتقلت إلى تنظيم ندوة تبث مباشرة على الهواء في الإذاعتين المرئية والمسموعة. رشحت لهذه الندوة كلًّا من: عمر الحامدي، والدكتور شعيب المنصوري، والدكتور صبحي قنوص، والأستاذ أمين مازن، وعلي إخشيم، ومصطفى التير. وحين اجتمعت معهم، تلقيت منهم سؤالًا دقيقًا وواضحًا: "ما هي حدود الحرية؟"، فقلت "الحرية لا حدود لها إلا الضمير والقيم الأساسية في المجتمع".

في اليوم التالي للندوة، بينما كانت تُنقَل مباشرة على الهواء - وكانت ندوة جادة ومسؤولة وصريحة وتشكل بداية مرحلة جديدة في التفكير بصوت عالٍ - اتصل الأخ معمّر هاتفيًّا بالإخوة المشاركين في الندوة، وقال لهم بغضب: "هذه مؤامرة أميركية وخيانة وتشكيك في سلطة الشعب"، وقطع البث. اتصلت به هاتفيًّا وقلت له: "يا أخ معمّر، هل نحن ضعفاء إلى هذه الدرجة، بحيث إنّ بيتنا أصبح من زجاج؟ ولم نعد نحتمل أي رأي آخر؟". ثم أضفت: "مداخلتك الهاتفية تؤكد أنك لا ترغب في التغيير، وأنك ماضٍ في طريقك، ومن الواضح أنك تريد أن تحكم كشيخ قبيلة"، فقال لي: "يا عبد السلام، الإعلام أخطر شيء. عندما تمكن ليخ فاونسا في بولندا من الحصول على ترخيص لإصدار صحيفة التضامن، استطاع أن يروج لأفكاره ويصبح رئيسًا للجمهورية".

ثم جاء إليّ المشاركون في الندوة وقد بدا الخوف على وجوههم، وقالوا لي بحرج شديد: "ماذا فعلت بنا؟ كنّا نعتقد أنكما متفقان على هذه النقلة النوعية؟".

لقد تأكد لي من جديد أن الأخ معمّر لم يكن راغبًا ولا جادًّا في إحداث التغيير الجذري المطلوب. وهكذا، أُجهضت المحاولة الثانية لإحداث التغيير في مهدها وقُبرت. وعلمت في ما بعد أنه أمر بالتحقيق مع المجموعة التي أدارت الندوة، ولذلك كتبت ثلاثة مقالات في صحيفتَي الجماهيرية والزحف الأخضر، تتضمن نقدًا وتشريحًا للواقع. كانت سلسلة مقالات جريئة، جاء المقال الأول منها بعنوان "لا للقرارات والقوانين الثورية"، والمقال الثاني جاء بعنوان "دعوة لإعادة قراءة الكتاب الأخضر من جديد"، أما المقال الثالث فكان بعنوان: "كومونات مع وقف التنفيذ".

وكانت كلها باسم مستعار (مواطن). ما قصدته من وراء نشر هذه المقالات كان له هدف محدد، هو تحفيز كوادرنا ومثقفينا على "التفكير الجسور"، والمساهمة في خلق الجرأة في التحليل، وبكل تأكيد كنت أريد لها أن تشكل منهجًا متكاملًا في التفكير.

وفي هذا السياق، أذكر أن الأخ معمّر قال لي حين عاد من زيارته للقاهرة، وكان قد التقى خلالها بالصحافيين والمثقفين والمفكرين المصريين: "إن الإخوة في مصر سألوني: هل أنت من كتب هذه المقالات؟ وقالوا إذا ما طبقتم الأفكار التي جاءت فيها، فأنتم تقومون بالفعل بثورة أقوى من ثورة الدبابات والمدفعية، ويمكن لمثل هذه الأفكار أن تشكل بداية منعطف جديد في ثورتكم وأن تشكل نموذجًا للأمة العربية.

إنها بالفعل ثورة أخطر بكثير من ثورة الدبابات؟ فقلت لهم: لا، أنا لم أكتبها منْ كتبها عبد السلام جلود". كان الهمّ الوحيد للأخ معمّر، كيف يعمل، باستخدام كل الوسائل المتاحة، لإلهاء الجماهير وإشغالها عن أهدافها الحقيقية، بل أنْ يعيد توجيه إرادتها بواسطة الميليشيات والمحسوبين عليه، وتفضيل القرابات القبلية والأسرية على حساب معايير الكفاءة. وبدا هذا الأمر جليًّا ساطعًا منذ عام 1983، بعد أن تمكن من تزييف إرادة كل منطقة أو قرية أو قبيلة، حين نصّب عليها أرذل من فيها. لقد كان الأخ معمّر يجيد، ببراعة، هذا الأسلوب في التلاعب بإرادة الجماهير، معتمدًا ما يدعى في المثل الشعبي سياسة "هزّ اشكارة" أي "هزّ كيس الفئران". كان يقصد من هذه السياسة إشغال الجماهير وإلهاءها، بحيث يفرض عليها تغييرات متسارعة ومتزاحمة، وتصبح في وضع نفسي لا يسمح لها بالتفكير.


في هذا السياق، اقترح أن تقوم جماهير النقابات والعاملين في المرافق العامة والمصانع والمصالح باختيار "اللجان الشعبية" على مستوى فرع البلدية والبلدية والمحافظة، بعد أن كانت الجماهير في وقت سابق، بحسب الكتاب الأخضر، تقوم باختيار اللجان مباشرة. لقد عارضت هذا الاقتراح لسببين: الأول أنه يخالف سلطة الشعب، والثاني أنه سوف يقود إلى ظهور لجان ضعيفة لأن العاملين في هذه المرافق سوف يختارون من يجاملونهم ويجارونهم على حساب المصلحة العامة. وكنت أقول له: "لا يجوز لجزء من الشعب أن يشكل هذه اللجان، هؤلاء جزء من الشعب؛ ولذا لا يحق لهم أن يشكلوا لجانًا شعبية باسم الشعب، وفضلًا عن ذلك سيكون تشكيل اللجان الشعبية شيئًا، والإدارة بصفتها عملية فنية تخصصية شيئًا آخر، وإن العاملين في هذه المرافق سوف يختارون الشخص الأضعف؛ وبذا سوف تصبح اللجنة عمليًا في خدمة العاملين وليست في خدمة الجماهير التي توجد فيها هذه المرافق والمصالح"، كان يقول لي "هذا صحيح، ولكن المهم أن يلهوا بأنفسهم بدلًا من أن يلهوا بنا".

وحينما كنت أخطب في الجماهير، كنت في الواقع أتحدث إلى الشعب الليبي كله، وأشدّد على أهمية الشباب والكوادر في صياغة وعي ثوري جماهيري، لكن الأخ معمّر غالبًا ما كان يقول لي: "يا عبد السلام، لماذا تميّز الشباب والكوادر عن بقية الشعب؟ هذا الأمر يشجعهم على الشعور بأهميتهم". ثم قال لي باللهجة المصرية: "ياخدوا قلم في أنفسهم"؛ أي دعنا لا نعطيهم دورًا أكبر في المجتمع.

كان الأخ معمّر يمارس سياسة "الشو" (Show)، ويفتعل البرامج والسيناريوهات للضحك على الجماهير والاستخفاف بوعيها
كان الأخ معمّر يمارس سياسة "الشو" (Show)، ويفتعل البرامج والسيناريوهات للضحك على الجماهير والاستخفاف بوعيها. بكلامٍ آخر، كان الأخ معمّر يعتقد في أعماق نفسه أنه أذكى من الجميع، وأنه يستطيع مواصلة التلاعب بالجماهير، وأنها ستردّد كل ما يقوله بلا قناعة، وذلك باستخدام المهرجين والمنافقين. هكذا أصبح أي شخص يمكن أن يعارضه، أمام تهمة جاهزة: خائن، معادٍ للثورة، مرتد، عميل.

في هذه الفترة، ابتداء من عام 1975، عمل الأخ معمّر على تدمير الجيش؛ فهو أعلن "قيام الشعب المسلح" لتنظيم الشعب في "كتائب"، وشكّل أيضًا لجانًا ثورية في قطاعات الجيش المختلفة، وهذه العناصر هي العناصر الفاشلة في الجيش ومن الفوضويين وغير المنضبطين، وبذلك قضى على أهم أعمدة الجيش النظامي، وهي الانضباط والنظام والربط

والذي هو أساس أي مؤسسة عسكرية. و"فسّخ" الجيش، ونشر الخوف والرعب في قلوب الضباط، وأفرغ الجيش من القيادات العسكرية، وأحلّ محلها أقرباءه وأزلامه والمقرّبين منه. وهمّش دور الضباط الأحرار، وأحل محلهم مجموعات من الموالين له في الأجهزة الأمنية. وقضى على أي إمكانية لوجود عقل جماعي؛ فأنهى دور النقابات والاتحادات والجمعيات والنوادي،


فلم يترك لأي شخص فرصة تكوين، أو تشكيل، رأي جماعي منظّم. كان الأخ معمّر يرى في ذلك خطرًا داهمًا عليه شخصيًا؛ ولذا خلق حالة من الرعب والإرهاب والخوف إلى درجة أصبح فيها كل فرد مذعورًا وخائفًا حتى من زوجته أو أخيه أو صديقه. لقد خلق مناخًا مخابراتيًا مقيتًا.

في عام 1986، كشف الأخ معمّر عن حقيقته فعليًا، بصفته شخصًا قبَليًّا متألهًا ورجلًا فاشيًّا معاديًا للشعب، لا يحب سوى المديح لنفسه والتطبيل له. وأظهر أيضًا بجلاء أنه يحبّ الألقاب وأن يُمجده الشعب كإمبراطور من القرون الوسطى، يقبلون أنفه وجبينه ويده، وكان يكره الرجال، ويحبّ أشباه الرجال والسذج والطبّالين والمادحين. ببساطة، لم يكن يريد شركاء. ومع أن أعمال التزييف والانحراف، التي وصلت إلى حدّ الجريمة، بدأت فعليًا عام 1981، فإن الأخ معمّر كشف عن حقيقته على نحوٍ ساطع عام 1986. وسأقول بصدق إنّ الرأي الوحيد الذي كان يصغي إليه هو رأيي، وكان يقول لي: "إن الرجل الوحيد في هذه البلاد الذي احترمه هو أنت"، وفي كل الحوارات كان يكرر ذلك، وكنت أقول له: "إذا أردت أن تحترمني، احترم الشعب"، حتى إنني في إحدى المرات، قلت له: "أَهِنِّي، لكن احترم الشعب".

في 1986، كشف الأخ معمّر عن حقيقته فعليًا، بصفته شخصًا قبَليًّا متألهًا ورجلًا فاشيًّا معاديًا للشعب، لا يحب سوى المديح لنفسه والتطبيل له
وأخطر هذه الانحرافات كانت تتجلىّ في تسليح قبائل ضد قبائل أخرى.

وأذكر أن أخي عمر فاجأني بحضوره إلى منزلي وقت الإفطار في رمضان، وكان يغلي غضبًا. قلت له: "هيا نتناول الإفطار"، لكنه رفض وقال لي: "أريد أن أقابل العقيد متاعك"، وكان يقصد الأخ معمّر، فقلت له: "سأتصل به الآن". وبالفعل، اتصلت بالأخ معمّر وقلت له: "أخي عمر في حالة هستيريا، جنون، ويريد أن يلتقي بك ورفض تناول الإفطار"، فقال لي: "قلْ له يفطر، وبعد الإفطار يأتي لمقابلتي"، فقلت له: "أخ معمّر، أخي عمر لا يريد أن يحضر أي أحد هذا اللقاء حتى الشخص الذي يقدم لك الشاي".
وبالفعل ذهب عمر بعد الإفطار للقاء الأخ معمّر. أخبرني عمر أنه في هذا اللقاء قال للأخ معمّر: "يا الأخ القائد، أنت تعلم أن عائلة سيف النصر حاربتنا من خلال قبيلة إرياح، وهي من القبائل العربية الهلالية التي دخلت إلى شمال أفريقيا في القرن الخامس الهجري، في منطقة الأحيمر، واليوم أنت تريد أن تحاربنا بقبيلة الحساونة، فقد قمت بتسليحهم، ونحن سئمنا من القتال المقزز والخسيس، أي حين يأتي أحد أفراد القبيلتين ليقتل الآخر وهو في سيارته أو في منزله. أعطيك اقتراحين: إمّا أن نخرج إلى الصحراء نحن والحساونة لنتقاتل، وإمّا أن نهاجر ونترك لك ليبيا".

في اليوم التالي، أرسل الأخ معمّر مدير الشرطة العسكرية خيري خالد إلى سبها وقام بسحب السلاح من قبيلة الحساونة؛ فانتهت بذلك أكبر فتنة بين القبيلتين، وتنفس الجميع الصّعداء، لأنهم كانوا يعلمون عواقب مثل هذه الفتنة التي دبرها الأخ معمّر.

في بداية عام 1993، قررت القيام بمحاولة أخرى مع الأخ معمّر من أجل إحداث تغيير جذريّ، بعد أن وصلت الأمور إلى مرحلة فظيعة من السوء والتدهور في كل مجالات الحياة بليبيا. في هذا العام، أجريت مع الأخ معمّر حوارًا معمقًا وطويلًا وصريحًا وصادقًا، ومارست ضغطًا شديدًا من أجل إقناعه بضرورة التغيير

وعرضت عليه ملامح الحل وأسسه، ثم اتفقت معه على تقديم تحليل جريء للوضع الراهن، يتسم بالقدرة على تشريح الواقع بجسارة، وبالقدرة على وضع حلول عملية وجذرية. وبالفعل، عكفت على وضع ورقة تحليلية جريئة عن الواقع الراهن قدّمت فيها حلولًا شجاعة. في هذا الوقت، صادف أنّ أحمد قذاف الدم التقى الأخ معمّر، وقال له: "أنا كنت لسنوات خارج ليبيا.

وحينما عدت إلى ليبيا والتقيت بالناس هنا، وتعرّفت على الواقع، فإنني مضطر إلى أن أقول لك إن الوضع خطير جدًّا، فالنفاق والتزييف لا يمكنهما أن يخفيا حقيقة الوضع النفسي والمعيشي. الناس هنا تعيش ظروفًا اقتصادية ونفسية مروّعة، وما لم تبادروا إلى مراجعة الأوضاع الراهنة، فإن الجماهير لن تستطيع تحمل هذه الأوضاع". جاء لقاء الأخ أحمد قذاف الدم بالأخ معمّر، بعد حواري معه؛ ولذا طلب الأخ معمّر من أحمد قذاف الدم أن يلتقي معي ويحدثني عن رأيه في الأوضاع الراهنة. وبالفعل، وصل الأخ أحمد قذاف الدم ووجدني في مكتبي عاكفًا على إعداد ورقة التصورات.

أخطر انحرافات القذافي كانت تتجلىّ في تسليح قبائل ضد قبائل أخرى
قرأ أحمد الأفكار والحلول المقترحة في هذه الأوراق، فعبّر عن إعجابه بها، وحين عاد للقاء الأخ معمّر قال له حرفيًّا، وهذا ما أخبرني به الأخ معمّر شخصيًا: "الرائد عبد السلام جلود هو الشخص الوحيد الذي يفهم الواقع أكثر من أي شخص آخر، والورقة التي أعدّها واطلعت على جزء منها هي ورقة إنقاذ لليبيا". في هذه الأثناء، وبعد حواري مع الأخ معمّر حين شرعت في وضع أسس التغيير المطلوب وقواعده، اتصل عبد السلام الزادمة بعبد الله السنوسي وببعض المقرّبين منه، وقال لهم حرفيًّا: "كلموا الأخ القائد إذا لم يبادر إلى التغيير راكم بتريحوا في داهية (أي سوف تنتهي الثورة)". فلما علم الأخ معمّر بأمر هذه المكالمة، قال لعبد الله السنوسي وبعض معاونيه "إسألوا عبد السلام الزادمة، هل قابل عبد السلام جلود أو تحدث معه على الهاتف؟".

وحين سئل عبد السلام الزادمة عن أمر هذه المعلومة، ردّ قائلًا: "منذ أكثر من أربعة أشهر لم أقابل الرائد عبد السلام جلود ولم أتصل به بالهاتف". كان الأخ معمّر يظن أن ما قاله الزادمة هو ترداد لكلامي، وذلك ما يبيّن بجلاء ساطع الحالة النفسية التي بلغها، إلى الحدّ الذي باتت فيه البطانة في حالة ذعر تام، فأخذت تكشف عن مخاوفها من أن تسوء الأمور أكثر فأكثر؛ بما يفقدها امتيازاتها ومكاسبها.

بعد أن أنهيت إعداد الورقة، ذهبت إلى الاجتماع بالأخ معمّر، وعرضت عليه الأفكار والحلول والمقترحات. وبعد أن قمنا باستعراض أهم الأفكار قال لي: "هذا رأي الثورة وليس رأيك الخاص، وأنا أوافق عليه تمامًا"، ثم بادر على الفور بقرع الجرس، وطلب استدعاء السكرتارية طالبًا طباعة الورقة. وحين اطلع الأخوان أحمد رمضان وعبد السلام غيث على الورقة خلال طباعتها، تأثرا بها، وحين أحضراها، له قالا: "يا قائد، هذا ما يريده الشعب، والرائد عبد السلام جلود رجل قريب من الشعب ويعرف الواقع بعمق ويدرك خطورة ما يجري في الشارع".


في اليوم التالي في مطلع أيار/ مايو 1993، غادرنا طرابلس برًا عبر بني وليد، في طريقنا إلى سرت لحضور مؤتمر الشعب العام. في هذا الوقت، اطلع بعض ضباط الحرس الخاص على الورقة - وأذكر أن المقدم منصور ضوّ كان من بينهم - فقالوا للأخ معمّر: "هذه الورقة تشكل ورقة إنقاذ ويجب تطبيقها بالكامل من الصفحة الأولى حتى الأخيرة".

وكان هذا، بالنسبة إلي، دليلًا إضافيًا على أن الوضع قد بلغ مداه المأساوي بالفعل، فحتى المستفيدون والأقرباء والمحاسيب باتوا يشعرون بخطورة الأوضاع، وارتعدت فرائصهم من الخوف على امتيازاتهم ومكاسبهم. توقفنا في منطقة السدادة ببني وليد لتناول طعام الغداء، فلحق بنا جاد الله عزوز الطلحي.

قال القذافي: "يا عبد السلام لا بد من الاعتراف بإسرائيل"
بعد الغداء، جرى نقاش بيني وبين الأخ معمّر، فقال لي حرفيًّا: "يا عبد السلام لا بد من الاعتراف بإسرائيل". كان وقع الكلمات التي سمعتها من الأخ معمّر كالصاعقة. ثم أردف قائلًا: "الأميركيون لن يسمحوا لنا بإنجاز الوحدة ما دمنا نحن معادين لليهود ولم نعترف بهم"، فقلت بغضب: "ما هذا الكلام يا أخ معمّر؟ أكاد لا أصدّق ما تقول، ما فائدة الوحدة العربية إذا ما كانت ستقودنا إلى الاستسلام للعدو؟ أنا أرفض هذه الوحدة"

فردّ قائلًا: "نعترف بإسرائيل لكي تسمح لنا أميركا بإنجاز الوحدة ثم نحارب اليهود"، فقلت له: "أنا أرفض هذا المنطق كليًّا. إنه منطق غريب عجيب"، فقال لي: "أنت تتصرّف بعقلية الطالب، ليس لديك ما يكفي من المرونة السياسية"، ثم أردف قائلًا: "أنت مَن يقف في وجهي وفي طريقي. لولاك لاعترفت بإسرائيل". عند هذا الحدّ انتهى الحوار الصاخب بيننا، ثم توجهنا إلى سرت.

في اليوم التالي، عقدنا اجتماعًا آخر؛ أنا والأخ معمّر وأبو زيد دوردة، وكان أمين اللجنة الشعبية العامة وجاد الله عزوز الطلحي وعبد الله البدري أمين النفط ومحافظ مصرف ليبيا المركزي وعبد الحفيظ الزليطني وأمين الاقتصاد والخزانة. كان موضوع الاجتماع مناقشة اقتراح الأخ معمّر "توزيع عائد ثروة النفط على الشعب".

في هذا السياق، أريد أن أعود إلى الوراء قليلًا؛ فقبل ستة أشهر من هذا الاجتماع، اقترح الأخ معمّر اقتراحًا غريبًا هو "أن نقوم بتوزيع عائد ثروة النفط على الليبيين". في هذا الوقت، أبديت اعتراضًا شديدًا وساجلت ضد الفكرة من أساسها، وقلت للأخ معمّر: "الحركات الإصلاحية والثورية التي قامت في العالم، وجدت أوضاعًا ينعدم فيها التوازن الاقتصادي على المستويين الاجتماعي والجغرافي؛ ولذا دعت إلى إصلاح هذا الخلل وعملت على إعادة توزيع الثروة بصفة عادلة، وسعت بذلك إلى القضاء على التفاوت الاجتماعي بين فئات الشعب، وجغرافيًا بين المناطق المختلفة، ثم رصدت الأموال واعتمدت الخطط".

شخصيًا كنت مع إعادة توزيع الثروة اجتماعيًا وجغرافيًا بتوجيه نسبة من دخل النفط إلى هذه الفئات والمناطق الجغرافية في شكل خطط وبرامج تنموية خاصة بها، وتقديم القروض والتسهيلات الميسرة والحوافز من أجل الاستثمار في هذه المناطق، والعمل على أن تكون المداخيل متقاربة قدر الإمكان، وأن يكون التفاوت قائمًا على أساس الجهد والقدرة على المثابرة. أمّا "فكرة توزيع الثروة" على الشعب، فهي "دعوة إلى الفقر" ودعوة إلى الكسل، ثم إنّ عائدات النفط انخفضت بسبب انهيار أسعار النفط عالميًا، ونحن لم نتمكن من تسديد الرواتب، ولم نتمكن من "إدامة البنية الأساسية"، كما أننا لم ننجح في توفير مستلزمات الإنتاج أو توفير الاستثمارات الضرورية. الفكرة في جوهرها خاطئة، وعمليًا لا تتوافر لدينا الأموال لتوزيعها على الشعب.

في نهاية الحوار، اتفقنا على أن الفكرة غير قابلة للتنفيذ، لا من حيث المبدأ، ولا من حيث الإمكانيات. ومع ذلك، واصل الأخ معمّر التمسك بفكرته، وأخذ يناقشها مع محافظ المصرف المركزي الدكتور عبد الحفيظ الزليطني وعبد الله البدري أمين النفط، وطلب منهما ألا يخبراني بأمر هذا النقاش أو أن القذافي يواصل مناقشة الفكرة خلافًا لما اتفقنا عليه؛ وهكذا وصلت إلى قناعة أن الأخ معمّر لا يزال مصرًا على توزيع الثروة؛ ولذا ذهبت للقائه وأنا في حالة غضب شديد، فقلت له: "يا أخ معمّر لقد اتفقنا على توزيع الثروة بطريقة علمية، وكنت أعتقد أننا صرفنا النظر عن مقترحك"، فقال لي: "من أخبرك أنني ما زلت مصرًا على رأيي؟"، فقلت له: "لا الزليطني ولا عبد الله البدري من الذين يمكن اعتبارهم منحازين إلى الشعب. أنا يا أخ معمّر المنحاز إلى الشعب. هؤلاء منافقون ومجرد موظفين مهمتهم أن يقولوا لك حاضر، نعم. لو كانت الفكرة في مصلحة الشعب ويمكن عمليًا تطبيقها لوافقت عليها فورًا. بالنسبة إلي هؤلاء جهلة ومنافقون".

ثم أردفت غاضبًا: "أنا يا أخ معمّر عندما أتحدث في مجال الاقتصاد، فإنني من الناحية العلمية أتحدث عن معرفة. الكثير من المختصين يثقون برأيي وبسلامة تحليلاتي، بمن فيهم الاختصاصيون في أوروبا". فردّ علي: "ما هذا الغرور؟"، فقلت له: "أنا لا أعرف الغرور. هذا تعبير عن ثقتي بنفسي ومعرفتي لإمكانياتي في مجال التحليل الاقتصادي".

كان الأخ معمّر قد عرض فكرة توزيع الثروة على المؤتمرات الشعبية، وفي أثناء عقدها، ذهبت لحضور أحد اجتماعاتها في طرابلس وتكلمت في المؤتمر، فأعدت تكرار رأيي أمامهم. ونظرًا إلى أن المؤتمر كان يُبث على الهواء مسموعًا ومرئيًا، فقد وصلت كلمتي إلى معظم الليبيين والليبيات. وهكذا استوعبت المؤتمرات الشعبية بشكل مباشر رأيي وتبنّته وقال كثير من المشاركين: "نحن لا نريد توزيع الثروة مباشرة، بل نريد تنمية صناعية وزراعية وإسكانًا وتعليمًا وبحثًا علميًا وتخصيص ميزانيات لرفع مستوى الفئات الفقيرة اجتماعيًا وجغرافيًا". وباستثناء ثلاثة مؤتمرات شعبية تبنت رأي الأخ معمّر، فإنّ كل المؤتمرات الأخرى قد تبنت رأيي ومقترحاتي والحلول التي طرحتها. وحدث، خلال كلمتي في المؤتمر، أن الأخ أحمد قذاف الدم جاء للقاء الأخ معمّر في خيمته وقال له: "يا قائد، المؤتمرات الشعبية أعطتك مخرجًا من هذا المأزق، حين تبنّت أفكار عبد السلام جلود. لو كانت هناك قوى سياسية معارضة لاستغلت هذا الأمر لتوريطك ولوضعوك في حرج شديد".
 
في رمضان 1993، استدعى الأخ معمّر بعض الخبراء إلى ندوة في الإذاعة المرئية تبث مباشرة. حينما شاهدت الندوة ورأيت وجوه الخبراء والتقنيين المشاركين فيها، لاحظت أن الخوف يسيطر عليهم جميعًا؛ فظهروا كأنهم مجرد طلبة في فصل دراسي، وتبدى ذلك واضحًا من كلماتهم المنافقة التي تردد أفكار القذافي. كانت الندوة غير جادّة، رغم خطورة المواضيع المطروحة، فبادرت بالاتصال بالأخ معمّر وقلت له: "أريد أن أشارك في الندوة"، فوافق.

أعطى حضوري هذا ديناميكية للندوة، أدت إلى تغيير جذري في مسارها، وبات هناك رأيان، رأي الأخ معمّر ورأيي، وهكذا بدت الندوة أكثر جدية وحيوية، حين استند الخبراء والاقتصاديون والتقنيون إلى آرائي العلمية، وشعروا بنوع من التشجيع، وكانوا ينهون كلماتهم بالقول: "كما يقول الأخ الرائد عبد السلام جلود". كانت المواضيع المدرجة في جدول أعمال الندوة تتضمن أربع نقاط:


1 - توزيع الثروة على الشعب.

2 - تهجير الليبيين إلى مصر والسودان وتشاد، حيث عرض الأخ معمّر فكرة أن ليبيا بإمكانياتها الاقتصادية المتدهورة وتفاقم مشكلة مصادر المياه، لا تحتمل بقاء هذا العدد الكبير من السكان، ويكفي ليبيا أن يعيش فيها مليون أو مليونان.

3 - استثمار جزء كبير من دخل النفط في هذه البلدان.

4 - حل مشكلة نقص المياه والبحث عن حلول للقيام بعمليات تحلية المياه.

في الليلة التي شاركت فيها، طلبت الكلمة من الأخ معمّر وقلت ما يلي: "بالنسبة إلى موضوع توزيع عائدات ثروة النفط على الشعب، فقد سبق لي أن أكدت أن الفكرة من الناحية المبدئية هي دعوة إلى الفقر والكسل، فضلًا عن أن ثروة النفط ليست ملكًا لهذا الجيل وحده، بل هي ملك الأجيال المقبلة ولا ينبغي أن يكون هذا الجيل أنانيًّا إلى درجة عدم التفكير في مستقبل الأجيال المقبلة. يجب علينا إطالة عمر هذه الثروة بتصدير كميات أقل ووفقًا للحاجات الضرورية ومستلزمات التنمية. كما يتعيّن علينا أن نعمل بخطى ثابتة من أجل تنويع مصادر الدخل واستغلال مصادر أخرى باستعمال أحدث التقنيات لاكتشاف المزيد من الثروات، بما فيها النفط والغاز

وتحسين عمليات الاستخراج الإضافي". ثم قلت: "على الأقل كل برميل نقوم بتصديره يجب أن نكتشف برميلًا يعوضه"، وقلت: "إن توزيع ثروة النفط من حيث جوهر الفكرة، نقديًا، على الشعب في شكل مبالغ مالية هو أمر يخالف الروح الوطنية لأنه إهدار للثروة من دون معنى. يجب أن نوزع ثروة النفط في صورة خطط تنموية تستهدف تطوير البلاد واقتصادها ورفع مستوى الفئات الفقيرة والمحرومة من خلال مشاريع تنموية، بقروض ميسّرة، وخصوصًا الفئات التي لم تحصل على نصيبها من عائدات النفط. يجب علينا أن نتوجه نحو تطوير التعليم والمؤسسات الصحية والثقافية والرياضية والإسكان. من الناحية العملية ليست لدينا أموال يمكن توزيعها. نحن نعاني عجزًا في الميزانية، كما عجزنا عن دفع الرواتب ولم نتمكن من إدامة البنية الأساسية في قطاعَي التعليم والصحة والمرافق الأخرى، وعجزنا أيضًا عن توفير مستلزمات الإنتاج. نحن الآن نواجه أزمة اقتصادية حادة مماثلة لأزمة عام 1986 نظرًا إلى انهيار أسعار النفط"، فردّ الأخ معمّر على مداخلتي بالقول: "نوزع عليهم وكل واحد يدبر رأسه هو يدفع مصاريف التعليم والصحة".

كان واضحًا من الردّ أن الأخ معمّر كان يريد التخلص من كل التزامات الدولة تجاه المواطنين، بحيث تتحول السلطة إلى "شرطي" للقمع. كان يريد أن يتمّ ذلك من خلال: مسرحية توزيع الثروة.

كان الأخ معمر يريد التخلص من كل التزامات الدولة تجاه المواطنين، بحيث تتحول السلطة إلى "شرطي" للقمع. كان يريد أن يتمّ ذلك من خلال: مسرحية توزيع الثروة

وحين تسنّى لي مناقشة فكرة "تهجير الليبيين إلى الدول المجاورة"، قلت للأخ معمّر أمام الجميع: "يا أخ معمّر، كيف نقول لليبيين هاجروا؟

هذا أمر غير معقول ولا يجوز قوله، الارتباط بليبيا ليس مجرد ارتباط مصالح. ليبيا وطن، هواء، ماء، شجرة، خالة، عمّة. أنا ضد هذه الفكرة. هناك نظرية الطرد والجذب وهي التي تتحكم في حركة البشر، مثلًا في السبعينيات حينما كانت هناك حركة تنمية هائلة جذبت إلى ليبيا ما بين أربعة إلى خمسة ملايين عربي، وما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين أجنبي، لكن لمّا تراجعت برامج التنمية وتوقفت الخطط الاقتصادية والاجتماعية بسبب انهيار أسعار النفط، عاد معظم هؤلاء إلى بلدانهم. مالطا مثلًا، مواردها لا تحتمل، ولا مساحتها كذلك، أكثر من 350-400 ألف نسمة، وما زاد على ذلك يهاجر بصفة تلقائية. إذا كان هناك شخص ليبي وبصفة فردية يرغب في الهجرة والعيش خارج ليبيا، فهذا أمر ممكن وجائز. أما أن يكون هناك قرار سياسي بتهجير الليبيين بالجملة، فهذا مخالف لكل منطق وأنا ضده. أما بخصوص توجيه جزء كبير من أموال النفط للاستثمار في هذه الدول، فأنا ضد هذه الفكرة لسبب بسيط؛ أننا نحتاج إلى كل دولار لاستثماره في ليبيا

فضلًا عن أننا في حالة عجز شبه تام عن توفير مستلزمات الإنتاج وصيانة البنى التحتية أو إدامتها. أمّا مشكلة المياه، فهي ليست مشكلة ليبية، بل هي مشكلة عربية وحتى عالمية، وباستثناء مصر والعراق وسورية والسودان، فإن الزراعة في بقية بلدان الوطن العربي هي زراعة سياسية أي إنها تقوم على أسس غير اقتصادية. إذًا، المشكلة لا تكمن فقط في مشكلة المياه، بل في أسلوب الزراعة".


ثم تحدّث الأخ معمّر ردًّا على ما قلت: "لن يهنأ
لي عيش ولن يهدأ لي بال ولن تنام عيناي إلا بعد أن تنضب المياه في ليبيا"، ثم قال حرفيًّا: "احفروا ما بين كل بئر وبئر، بئرًا. استنزفوا المياه".



كان كلام الأخ معمّر صاعقًا، فنهضت وتوليت الرّد عليه وقلت: "هذا كلام غير مقبول. أنا أدعو لسياسة صارمة للتحكم في مخزون المياه، وخاصة في المنطقة الممتدّة من مصراتة حتى صبراتة، أي كامل منطقة سهل الجفارة. يجب ردم ما بين 60 و70 في المئة من الآبار في هذه المنطقة، والتوقف عن الزراعات التي تستهلك كميات كبيرة من المياه، والتركيز على الزراعة الرأسية باستخدام التقنيات، ويمكن زيادة الإنتاج الزراعي في المساحات نفسها حتى 70 في المئة".

كانت الندوة تُبث في الإذاعتين المرئية والمسموعة، وقد استمع الليبيون إلى كل ما قلت. من المثير للاهتمام أن الأخ معمّر طرح خلال الندوة وشاركه في ذلك بعض الخبراء مسألة تحلية المياه، فعارضت هذه الفكرة، وقلت: "تحلية المياه لا تزال مكلفة الثمن، مثلًا تحلية المتر المكعب تكلّف ما بين 3 و6 دولارات، ويمكن تخفيض المساحة المزروعة إلى 35 ألف هكتار لتوفير مياه الشرب، أو جلب المياه من الأحواض في الجنوب، حيث تكلفة المتر المكعب الواحد ما بين 6 و12 قرشًا".

ثم أضفت: "إن أكثر محطات التحلية اليوم متوقفة عن العمل، نظرًا إلى أننا لم نتمكن من تشغيلها بسبب ضعف وقلة عدد الكوادر المطلوبة للتشغيل والصيانة، فكيف يمكننا أن نوافق على إقامة محطات جديدة للتحلية؟

إنني أدعو إلى تأسيس مركز أبحاث في مجال تحلية المياه، وأن يقوم بالتواصل مع مراكز أبحاث وجامعات في أميركا وكندا وأوروبا، وأن تقوم ليبيا بدعم هذه الأبحاث، وأن ترتبط جامعاتنا بها لتحقيق هذا الهدف. كما دعوت إلى تأسيس مركز أبحاث للنباتات والزراعات المقاومة للعطش".

ولأن الندوة كانت تبث على الهواء، نقلت إذاعة بي بي سي هذا الخلاف بيني وبين الأخ معمّر، وقالت في تعليقها على النبأ: "إن العالم الثالث لم يعتد هذا النوع من الخلافات داخل القيادة الواحدة أو أن تكون هناك وجهتا نظر تعلنان بهذه الطريقة"، ثم قالت: "قد يكون هذا النوع من الخلافات أمرًا متفقًا عليه". ونظرًا إلى خلافاتنا الشديدة، فقد قرر الأخ معمّر دعوة المؤتمرات للانعقاد من جديد، وعرض عليها ثانية "فكرة توزيع الثروة نقدًا"، وقال "كل أسرة يحق لها عشرة آلاف دولار سنويًا". بيد أن المؤتمرات الشعبية تأثرت بآرائي ومواقفي وعارضت الفكرة مرة أخرى، وطالبت بضمان التعليم والصحة وتحسين مستواهما، ومنح القروض لأجل الاستثمارات والتنمية والسكن والبحث العلمي، وكذلك زيادة المرتبات الشهرية ومرتبات الضمان الاجتماعي ووضع الخطط والبرامج ورصد الأموال اللازمة لتحسين ظروف الفئات والمناطق الفقيرة.

ولأن المؤتمرات عارضت قراره، ردّ غاضبًا: "أنا لا يمكن أن أُهزم أمام الجماهير. من الأفضل لي أن أخرج من البلاد"، فقلت له: "لا يا أخ معمّر. من يُهزم أمام الشعب فهو ينتصر في مواجهة العدو، والذي يهزم الشعب سوف يُهزم أمام العدو، وأنا لا أوافقك على ما تقول، فحينما يكون الشعب واعيًا ويتخلص من الخوف سوف يرفض القرارات الخاطئة من حيث المبدأ، ثم إنّنا من الناحية العملية لا نملك ما يكفي من المال لتوزيعه على الشعب". وأردفت قائلًا: "يا أخ معمّر الحكام العرب انتصروا على شعوبهم فانهزموا أمام العدو لأنهم لم يحاربوا بواسطة الشعب؛ وفي أفضل الظروف حاربوا بشعوب مهزومة من الداخل".


في اليوم التالي، سارعت إلى عقد اجتماع ضمّ أمانة مؤتمر الشعب العام، وأمين اللجنة الشعبية العامة أبو زيد دوردة، وجاد الله عزوز الطلحي، وعبد الله البدري أمين النفط، وعبد الحفيظ الزليطني محافظ المصرف المركزي، وأمين الخزانة سالم محمد بيت المال، وطرحت عليهم فكرة الأخ معمّر بخصوص توزيع الثروة، فقال محافظ المصرف المركزي: "ماذا توزعون؟ هل توزعون 18 دينارًا على كل أسرة؟ ليس لدينا مال يكفي"، فردّ عليه الأخ جاد الله عزوز الطلحي قائلًا: "سلمك أنت، لماذا إذًا تكذب على الأخ معمّر وتقول له أنه يستطيع أن يوزع ثروة النفط على الليبيين بمعدل عشرة آلاف دولار لكل أسرة؟". فور انتهاء الاجتماع، عدنا إلى لقاء الأخ معمّر وعقدنا معه اجتماعًا مطولًا لإعادة دراسة الفكرة، وكان الجميع يتفقون معي في الرأي، لكنهم جميعًا كانوا يخشون المجاهرة بالحقيقة باستثناء الأخوين أبو زيد دوردة وجاد الله عزوز الطلحي.

وهكذا، طرح محافظ المصرف المركزي اقتراحًا جديدًا يقضي بأن يتم توزيع الثروة على الفقراء والذين يتقاضون مرتبات الضمان الاجتماعي فقط، وكان ذلك اقتراحًا مليئًا بالرياء والنفاق، ومكرّسًا لإيجاد مخرج للأخ معمّر، وربما لتوريطه أكثر؛ فعبّرت عن غضبي وسخطي العارم على هذا الاقتراح المرائي، وقلت للأخ معمّر: "كيف تسمح لهذا المنافق أن يستمر في دجله؟" ثم غادرت الاجتماع من دون استئذان؛ ولذلك شعر الأخ معمّر بغضب شديد من مغادرتي الاجتماع. وبعد عودتنا إلى مقر الإقامة ليلًا، استرحنا قليلًا، ثم طلبت اللقاء به، فأرسلت النقيب عبد السلام الزادمة حاملًا له رغبتي باللقاء به الليلة وقلت: "إذا لم نلتق الليلة سأعود حالًا إلى طرابلس".

ونظرًا إلى أن الأخ معمّر كان منشغلًا بسهراته، فقد اقترح أن نلتقي في الغد. ولمّا علم أنّ قراري هو العودة إلى طرابلس الليلة، أمر بإغلاق باب السور، فبعثت له عبد السلام الزادمة مرة أخرى، وقلت: "إذا لم تفتح باب السور فسوف أقفز من [فوق]السور". عندها أمر بفتح الباب، وطلب من عبد السلام الزادمة أن يقود السيارة بي عائدين إلى طرابلس.

لقد تأكدت تمامًا من أن الأخ معمّر غير مستعد - ولم يكن جادًّا بطبيعة الحال - لأي عملية تغيير حقيقية، وأنه

يتجه نحو تحويل ليبيا إلى "إقطاعية" سياسية، وأنه لا قيمة للإنسان الليبي في نظره، فلا أهمية لحالته أو مشاعره، وأنّ هذا الإنسان له وظيفة واحدة هي "التطبيل" وممارسة "الرياء" العلني بكيل المديح لشخص "القائد" وترديد قول: "كل شيء على ما يرام". كان الأخ معمّر يتصرّف مع الشعب الليبي كسلطان من القرون الوسطى: الجميع يجب أن يسبّحوا بحمده ويكيلوا له المديح. في هذا السياق، سأروي بعض الوقائع الشخصية المهمة جدًّا والتي توضّح عمق الخلاف بيننا:

في منتصف الثمانينيات، طلب مني الأخ معمّر يد كريمتي الكبيرة لابنه سيف الإسلام. ولأننا من عقليتين مختلفتين، وحفاظًا على مشاعر الأخوّة بيننا، فقد رفضت المصاهرة بطريقة لبقة، حين طلبت من صلاح ابن أخي عمر، وكانت له علاقة شخصية بسيف الإسلام، أن يقول له إنه "خطيب ابنة عمه عبد السلام جلود".

ولأنني لا أؤمن بزواج الأقارب، فقد تزوج صلاح بابنة أخي جلود، ولما علم الأخ معمّر، اتصل بي وقال: "صلاح لم يتزوج ابنتك؟"، فقلت له: "يا أخ معمّر. لقد حاولت أن أرفض المصاهرة بطريقة لا تجرح مشاعرك. ولكنني الآن أقول لك بصراحة لا أرغب في هذه المصاهرة".

قلت للقذافي: "يا أخ معمّر. لقد حاولت أن أرفض المصاهرة بطريقة لا تجرح مشاعرك. ولكنني الآن أقول لك بصراحة لا أرغب في هذه المصاهرة".
ثم تكرّر الأمر ذاته في التسعينيات، حين طلبت عائلة القذافي يد ابنتي الثانية لابنه الساعدي. جاءت السيدة صفية زوجة القذافي بنفسها ومعها بعض الأقارب إلى منزلي في مصيف عين الزرقاء، وكان معي الأخ راسم بن عثمان والدكتور يوسف المريمي، وهما عديلان لي، فاستأذنت منهما وتركتهما في الصالة ودخلت المنزل لاستقبل السيدة صفية. قالت لي: "جئنا نخطب ابنتك لابننا الساعدي"، فقلت لها: "لا أعرف لماذا كل هذا الإصرار على مصاهرتي، أنتم تعرفون أنني لا أريد هذه المصاهرة. أرجوك يا سيدة صفية، لا تحاولي معي مرة أخرى".

ما إن عدت إلى الصالة بعد أن غادرت السيدة صفية، حتى سألني عديلي راسم بن عثمان: "ماذا كان جوابك؟"، فقلت: "بالطبع رفضت"، فنهض راسم ووضع أصبعه في أذنه وصاح بأعلى صوته: "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر على منْ طغى وتجبّر".

عندما بدأ معمّر بتهيئة ابنه سيف خليفةً أولَ له، وأخذ يقدمه لليبيين والعالم، والقذافي واقع تحت وهم أنه يملك الذكاء والدهاء ليخدع الجميع، وتحديدًا الولايات المتحدة الأميركية والغرب، صار يطلق "بالونات الاختبار"؛ فكان يقرر إصدار تصريحات على لسان ابنه سيف ليعرف كيف تفكر الولايات المتحدة والغرب تجاهه، وقد كان يطلق المواقف والشعارات التي لا يعنيها ولا يؤمن بها؛ مثل ليبيا الغد، الانفتاح، وهكذا.

وفي الوقت نفسه كان يغلق إقطاعيته أكثر ويدمر البلد أكثر فأكثر، وفي إحدى الفترات شعر سيف بالإحراج؛ لأن والده لم ينفذ هذه الشعارات والسياسات، فغضب وذهب إلى أوروبا وتحديدًا إلى لندن.

في إحدى الفترات شعر سيف الإسلام القذافي بالإحراج؛ لأن والده لم ينفذ الشعارات والسياسات، فغضب وذهب إلى لندن

في اليوم الأول لعيد الأضحى ذهبت إلى منزل الأخ معمّر لتقديم التهاني بمناسبة العيد. وبينما كنّا نجلس معًا، رنّ جرس الهاتف، وإذ بالمتصل سيف. وبعد أن هنأ والده بالعيد، قال له والده خذ عمك عبد السلام وهنئه بالعيد. وفعلًا فعل، ثم واصل الحديث مع والده الذي حاول إقناعه بالعودة إلى ليبيا. وقال له: "يا سيف إذا لم تعد إلى ليبيا فإن المعتصم سيأخذ مكانك".


وأنا أعرف أنّ معمّر يؤمن بسياسة "فرّق تسد" حتى النخاع، ويجيد ويتقن أساليب استخدام الواحد ضد الآخر، واستخدام جماعة ضد أخرى، واستخدام قبيلة ضد أخرى. وقد استخدم هذه السياسة وهذه الأساليب ضد أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الوحدويين الأحرار، ولكن أن يستخدم هذه السياسة وهذه الأساليب مع أبنائه فقد كانت هذه مفاجأة محزنة لي.

في الحقيقة، لم يكن الأخ معمّر مهتمًا بالثورة أو الشعب الليبي. همّه الوحيد كيف يخرج سالمًا هو ونظامه من أزمة "لوكربي"، لأنه اعتبر أنها أكبر تهديد لحكمه. كان معمّر يخطط لحكم ليبيا مدى الحياة ومن بعده أولاده، وبدا مستعدًا لأن يعطي ويتنازل عن كل شيء، لكن من المؤكد أنه قبل أزمة "لوكربي" نجح في "رشوة" الكثير من القيادات الحزبية والسياسية والبرلمانية في أوروبا الغربية، لتسكت على جرائمه، بل إنه تمكن من ضمان "سكوت" منظمات حقوق الإنسان في العالم، وكذلك منظمة العفو الدولية.

والسؤال المحيّر الذي كان يواجهني أن هذه المنظمات كانت تقيم الدنيا ولا تقعدها؛ إذا ما اعتقل أو أُعدم مناضل في مصر أو تونس أو العراق مثلًا، بينما ظل الصمت مطبقًا على جرائم القذافي. وأذكر، على سبيل المثال، أن أحد أصدقائي، اسمه يوسف المريمي، وهو دكتور متميز في الهندسة المدنية درس الماجستير والدكتوراه في الولايات المتحدة، ثم قرر العمل والعيش فيها، لكنني نجحت في إقناعه بالعودة إلى ليبيا، كما فعلت مع الكثير من الكوادر، ثم أصبح صهرًا لي. اتصل في إحدى الليالي من عام 1989، في الساعة العاشرة مساءً، وسألني: "هل أنت في المنزل. أريد أن ألتقي بك؟"، فقلت له: "مرحبا بك". وبالفعل، جاء يوسف إلى منزلي وهو في حالة غضب شديد، وسألني: "هل شاهدت نشرة أخبار الساعة التاسعة والنصف؟"، فقلت: "لا"، قال لي وهو يشتم الولايات المتحدة والنظام الأميركي: "هل يخطر في ذهنك في أي لحظة أن نواب من الكونغرس الأميركي، أي نواب أكبر دولة في العالم، ينحنون أمام معمّر ويقبّلون رأسه؟"، وكان يوسف يشير بذلك إلى وفد من الكونغرس استقبله الأخ معمّر. ثم قال لي ساخرًا: "من المؤكد أن معمّر أعطاهم رشوة، ربما 4 إلى 5 ملايين دولار". وأنا أرجح أن ضعف المعارضة في الداخل، وضعف منظمات حقوق الإنسان في ليبيا، قد ساهما في عدم تزويد المنظمات الدولية بمعطيات دقيقة عن جرائم القذافي.


وأذكر أنني في خريف عام 1994 ذهبت لزيارة صديق عزيز عليّ هو العقيد في البحرية أنور العزابي، كان قد دعاني إلى العشاء مع مجموعة من الأصدقاء، وكان يسكن في حي قرقارش في فيلا جميلة.

لم يكن الأخ معمّر مهتمًا بالثورة أو الشعب الليبي. همّه الوحيد كيف يخرج سالمًا هو ونظامه من أزمة "لوكربي"، لأنه اعتبر أنها أكبر تهديد لحكمه
وحدث أنني التقيت في بيت العزابي الرسام الليبي العالمي الكبير محمد علي سيالة، وكان هذا أول لقاء لي به. كان سيالة قد درس الرسم في فلورنسا بإيطاليا، واشتهر برسم جسد المرأة، ثم أصبح من كبار رسامي الطوابع البريدية، وحصل على العديد من الميداليات الذهبية في العالم. خلال السهرة تحدث معي، وكان غاضبًا من الوضع الذي وصلت إليه البلاد. قال: "هذه البلاد لا أستطيع العيش فيها، سوف أهاجر إلى أوروبا"، فقلت له: "وكيف تهاجر يا محمد وأنت ثروة ليبيا.

أنت أهم من ثروة النفط"، فردّ قائلًا: "لقد سحرني كلامك وإكرامًا لك سأبقى في ليبيا". وحين ساءت الأوضاع أكثر فأكثر، كان سيالة حينما يلتقي بي، يقول لي: "لماذا قلت لي أنت أهم من ثروة النفط؟ الآن أنا نادم لأنني أصغيت إلى نصيحتك بالبقاء في البلاد".

كان سيالة قبل عودته إلى ليبيا، يعيش متنقلًا بين بريطانيا والسويد وفنلندا. في لندن تزوج بامرأة أرستقراطية وأنجب منها ولدين ثم افترقا، لكنه ظل على علاقة ود وصداقة مع أسرتها حتى إنه دعا والدة طليقته إلى زيارته في طرابلس، وهذه المرأة كانت تجيد قراءة "الطالع". ذات يوم من خريف هذا العام، كنت أتناول العشاء في منزله وكان معي يوسف الدبري وأنور العزابي. بعد العشاء، طلب منها أن تقرأ لنا الطالع بواسطة "ورق الكوتشينة"، وسألها: "متى تزول هذه المصيبة (يقصد القذافي) عنّا؟".
رمت الورق على الطاولة وحركته، ثم قالت لنا: "لا تزال أسهم القذافي في تصاعد، ولم يحن بعد موعد سقوطه"، فانزعج سيالة من نبوءتها، وقال لها: "فال الله ولا فالك". وأذكر أنه كان في إسبانيا، حينما تعرض لوعكة صحية، فاتصل به صديق مشترك ليطمئن عليه فقال له: "لا تخف لن أموت قبل أن أرى القذافي يموت". وبالفعل، لا يزال سيالة حيًّا يرزق رغم كبر سنه.

في عام 2001، تعرضت لوعكة صحية دخلت على إثرها المستشفى، ثم طلب الأطباء أن أقضي فترة نقاهة في جبال الألب الجميلة في القسم السويسري، حيث تعلمت رياضة التزحلق على الجليد. غادرت على وجه السرعة، وتوجهت مباشرة من المطار إلى مستشفى "لا تور"، وبدأ الأطباء في عمليات الفحص والكشف، وإثر ذلك خضعت للعلاج، ثم طلبوا مني قضاء فترة نقاهة في جبال الألب الجميلة، القسم السويسري، لكنني قبل ذهابي للنقاهة، أمضيت عشرة أيام في جنيف.

حجزت لي السفارة جناحًا كبيرًا في فندق "إنتركونتننتال". بعد أربعة أيام، سألت السفير الليبي في جنيف: "كم يكلف هذا الجناح في الليلة الواحدة؟" فقال لي: "يكلف 22 ألف فرنك سويسري"؛ فانزعجت وطلبت أن يستبدل الجناح بغرفة تكلف 950 فرنكًا سويسريًا".

جاءني أعضاء السفارة وقالوا لي: "أنت أحق مَن يسكن في هذا الجناح.



أموال النفط لا يستفيد منها الشعب الليبي، بل يصرفها القذافي على نفسه وأولاده وعلى الأفارقة". لكنني بقيت مصرًّا على البقاء في الغرفة بدلًا من الجناح.

بعد شهر من النقاهة، سافرت إلى باريس، التي لم أزرها منذ مدة طويلة، فاتصلت سفارتنا في سويسرا بسفارتنا في فرنسا، وأعلموهم أنني سأصل باريس. كان الشخص المسؤول عن الضيافة في سفارتنا بباريس يدعى محمد بعيّو، وهو من مدينة مصراتة. اتصل بعيّو بشركة أمنية فرنسية يملكها أوليفر أنطونيو ليتولى تأمين حمايتي وحراستي، ثم طلب منه أن يذهب بنفسه إلى المطار، وقال له: "أرجوك أن تذهب لاستقبال حبيبنا وبطلنا".

كانت السفارة قد حجزت لي جناحًا كبيرًا في فندق "البريستول" فتوجهت إليه، بينما ظل أنطونيو في انتظار حقائبي. في المساء سألني السيد أنطونيو: "أين تريد أن تتناول طعام العشاء هذه الليلة؟"، فقلت له: "أنا متعب وأفضل تناول العشاء في الفندق"، فحجز لنا طاولتين في المطعم، واحدة لي، والأخرى له ولأعضاء فريق الحراسة. نزلت من الطابق الخامس واتجهت إلى الطابق الأرضي، وجدته ينتظرني أمام باب المطعم، ورافقني إلى طاولة العشاء، ثم قال لي: "أنا وبقية فريق الحماية سنتناول طعامنا في الطاولة الثانية"

فرفضت وقلت له: "تعال وتناول العشاء معي". فبدت على وجهه علامات الدهشة، وقال لي: "لقد عملت في حماية الملوك والرؤساء والشخصيات المهمة ونجوم الفن وعلى رأسهم مايكل جاكسون، ولم يحدث أن دعاني أحد منهم لتناول العشاء معه.

حين طلب مني السيد بعيّو استقبالك في المطار، ترددت كثيرًا قبل أن أوافق، لأنني لا أذهب بنفسي عادة لاستقبال أحد. والآن بدعوتك الكريمة فقد امتلكتني. وأريد أن أكون صديقًا لك وأكون إلى جوارك حينما تكون في أوروبا من دون أي أجر".

وكما فعلت في سويسرا، فقد طلبت من السفارة استبدال الجناح بغرفة واحدة تكلفتها ألف يورو، بدلًا من 11 ألف يورو للجناح. وسمعت على لسان أعضاء سفارتنا في باريس وبالخصوص من بعيّو، الكلام نفسه الذي قاله لي أعضاء سفارتنا في سويسرا: "أنت أحق من يسكن في هذا الجناح". كان بعيّو مريضًا بالسرطان، وكان يقول لي: "أتمنى ألَّا أموت قبل أن أرى القذافي يسقط ويُعدم"، لكن المرض لم يمهله ليرى مصير القذافي.

بقيت أتلقى العلاج في سويسرا فترة طويلة، ثم كنت أبقى في أوروبا نحو ثلاثة أو أربعة أشهر كل عام. في عام 2002 سافرت إلى لندن. كانت السفارة متعاقدة مع أخ فلسطيني يملك شركة لتأجير السيارات الفارهة. حينما استقبلني في المطار، قال لي:


"لقد كونت ثروتي في ليبيا، وأنا أحب ليبيا والليبيين، وأنا مستعد لخدمتك وخدمة الليبيين من دون أجر". خلال وجودي في لندن، تعرفت على مجموعة من الإخوة العرب، قالوا لي: "يا أخ عبد السلام، نحن نعرف الكثير من الليبيين ممن هم في المعارضة، ولم يذهبوا إلى ليبيا منذ أكثر من 30 عامًا. وهم يقولون لنا: أولاد عبد السلام جلود هم الوحيدون الذين يمشون في الشارع ولا يعرفهم أحد".

وأذكر أنني حين كنت أتلقى العلاج في سويسرا عام 2005، أقمت بعد خروجي من المستشفى في فندق "لاريزيرف" بجنيف. وذات يوم كنت مستلقيًا على سرير شمسي مع مجموعة من نزلاء الفندق حول المسبح، وحينما نهضت وجلست على السرير، جاءني رجل كان يستلقي قربي، وبعد أن حياني قدم نفسه لي قائلًا:

"أنا عقيد في المخابرات الأميركية وجئت أحمل لك رسالة. نحن في أميركا نعرف شعبيتك عند الليبيين وخاصة في أوساط الشباب، والحكومة الأميركية ترغب في التعاون معك لتخليص الشعب الليبي وتحريره من حكم القذافي"، ثم أعطاني "كارت" بأرقام هواتفه، ثم قال: "حينما تقرر اتصل بي. سأرتب لك لقاء مع وفد رفيع المستوى من الخارجية والبنتاغون"، فرميت "الكارت" في وجهه وقلت:

"أنا قائد لا أتعامل مع السي آي أي".

كان الأخ معمّر يتصرّف مع الشعب الليبي كسلطان من القرون الوسطى: الجميع يجب أن يسبّحوا بحمده ويكيلوا له المديح


في هذا السياق، أذكر أن ابني كان في عام 1997 يدرس في جامعة الفاتح في طرابلس. وذات يوم، بينما كان يغادر الجامعة وهو يقود سيارته، وجد أمامه أحد الطلبة وهو يتوقف بسيارته في منتصف الشارع ليتحدث مع زملاء له كانوا يقفون على الرصيف، فأطلق منبه السيارة ليفسح له الطريق، فما كان من هذا الطالب إلا أن نزل من سيارته وضرب ابني بلكمة على عينه، فانتفخت وتورمت. لما وصل ابني إلى المنزل سألته: "ماذا حصل لعينك؟" فسرد عليّ الحادث، ثم قال لي:
"يا أبي لا تهتم.

هذا أمر يحدث كثيرًا بين الطلبة، وهو لا يعرفني مَن أكون". بعد نحو ثلاثة أو أربعة أيام، اتصل بي مسؤول الحراسة في المنزل، وقال لي: "حضرت أسرة مؤلفة من أب وأم وأربعة أبناء يريدون مقابلتك"، فقلت له: "دعهم يدخلوا". حينما استقبلتهم، قال لي الأب: "منذ أربعة أيام حين اعتدى ابننا على ابنك عشنا حالة رعب وخوف، وكنّا ننتظر ما نتوقعه من تنكيل وعذاب، لكن لم يداهم منزلنا أحد ولم يجر اعتقالنا. قلنا نحن لسنا في ليبيا، لو أن ابننا اعتدى على ابن أحد الضباط الأحرار أو المسؤولين الآخرين، لكان مصيرنا التعذيب والسجن وحتى القتل"، فقلت لهم: "أنتم لستم في ليبيا. أنتم في جزيرة عبد السلام جلود"، فغادروا المنزل وهم يبكون من شدة الفرح.

في عام 2008، كان هنيبعل ابن القذافي في سويسرا، وكان يسكن في فندق "لاريزيرف" في جنيف هو وزوجته. وفي إحدى الليالي، اعتدى هنيبعل على زوجته بضربها. ولما سمع مسؤولو الفندق الصراخ، اتصلوا بالشرطة التي جاءت على الفور، وألقت القبض عليه، ثم احتجزته في مركز الشرطة لمدة
48 ساعة. اعتبر القذافي هذا التصرف ضد نجله إهانة له، وحاول تصوير ذلك على أنه "عدوان سويسرا المسيحية والصليبية على ليبيا وإهانة الشعب الليبي"، وأعلن الحرب على سويسرا، ونسي أن القانون في الدول الغربية الديمقراطية هو مظلة يستظل تحتها كل إنسان من المواطن إلى الرئيس، خاصة في سويسرا التي هي قمة الديمقراطية. وإثر هذا التصعيد الخطير، شعرت بالحرج من السفر إلى سويسرا لاستكمال علاجي، واخترت المستشفى الأميركي في باريس بديلًا. في عام 2009، سافرت إلى فرنسا للعلاج، وكنت أركب طائرة الخطوط الأفريقية. قبل نحو أسبوع أو عشرة أيام من مغادرتي، اتصلت هاتفيًّا بالأخ محمد البصير مسؤول حراستي. سألته: "أين أنت؟"، قال لي: "أنا في القيادة بباب العزيزية"، فقلت: "ماذا تفعل هناك؟"

قال: "اتصل بي أحمد رمضان وطلب مني الحضور لمقابلته وأعطاني فواتير بمصاريفك في أوروبا خلال سنوات العلاج الثمانية وقال لي إن القائد يريد أن يطلع عبد السلام على الفواتير"

فاستشطت غضبًا وقلت له: "أعد الفواتير لأحمد رمضان"، ثم اتصلت بمعمّر وقلت له: "أتريد أن تحاسبني. حاسب نفسك وأولادك. وأنا أحاسب نفسي لأني أخاف الله وضميري. أنا أقيم في غرفة في فندق ومعي مجموعة حراستي ومصاريفي هي السكن والطعام والمصاريف اليومية العادية، ويمكنك التأكد من ذلك عبر السفراء".

قبل هذا الوقت، كان القذافي قد قرر تخفيض مرتبات السفراء والدبلوماسيين والموظفين في السفارات، حتى إنهم كانوا يعانون صعوبة الحياة، إلى حدّ أن الدبلوماسيين الليبيين كانوا يتلقون مرتبات أقل من دبلوماسيي أي دولة أفريقية فقيرة؛ وهكذا، وبسبب هذا القرار الجائر، بدأ بعض موظفي السفارات الليبية في استغلال الوفود الرسمية والمرضى من خلال زيادة قيمة الفواتير لقاء نسبة محددة.

حينما قررت الذهاب إلى فرنسا للعلاج طلبت من البصير أن يشتري لي تذاكر السفر على حسابي. ويوم سفري إلى باريس في الساعة التاسعة والنصف صباحًا، وبينما كنت في طريقي إلى المطار، وكان البصير يقود سيارتي، رن هاتفه النقال، وكان المتحدث مصطفى الخروبي، فقال له: "أريد أن أتحدث مع عبد السلام". قال لي الخروبي: "كيف تسافر يا عبد السلام، وأنت أمس لطمت القائد على وجهه، في إشارة منه إلى أنني أعدت له الفواتير"، ثم قال: "القلوب ليست على بعضها بين معمّر وبينك"، فقلت له يا مصطفى: "أنا أشعر بالأسى لحالك. أنت مغرم بلعب دور المراسل. أقول لك ولمعمّر من خلالك، إذا وصلت إلى المطار ولم أتمكن من المغادرة؛ فإنني لن أعود إلى منزلي، بل سأذهب إلى السجن".


لمّا وصلت المطار اتجه السائق مباشرة إلى المدرج. قال لي الطيّارون: "الركاب لم يصلوا بعد. نقترح ألَّا تظل في سيارتك. انتظر في الطائرة وتناول الشاي والقهوة". كان من الواضح أن معمّر أمر ببقاء الركاب في صالة المطار حتى يبت في الأمر. بعد برهة من الوقت اتصل الخروبي بمحمد البصير، وقال له: "يقول لكم القائد. زينة، توكلوا على الله (أي سافروا)". عند عودتي إلى طرابلس بعد أشهر، طلبت لقاء معمّر، وذهبت إليه في خيمته بباب العزيزية، وكان معه مجموعة من أقاربه. قلت له: "أنا أعطيت طفولتي وشبابي لليبيا والشعب الليبي.

كنت رئيس تحرير جريدة الشمس يوم كنّا طلبة ولست أنت. وأنا الذي كنت أعلق على مسرحية فولتير وهو يزدري الملكية ولست أنت. أتريد أن تحاسبني؟ أنا من يحاسب نفسي لأني أخاف الله وضميري". ثم أضفت: "أريد منك أن تتصل بأحمد رمضان وتعطيه التعليمات بأن مصاريف عبد السلام وأسرته في الداخل والخارج تتكفل بها القيادة، ولا حاجة لأخذ الإذن مني". وقد فعل ذلك.
 
عودة
أعلى