الإبدال
من كتاب بلاغة الكلمة في التعبير القرآني للدكتور فاضل السامرائي
قد يستعمل القرآن الكريم المفردة أحيانا مبدلةً، وذلك نحو (يتذكر) و(يذّكّر) و(يتدبّر) و(يدّبّر) ،ونحو (مكة) و(بكة)، وبسطة وبصطة، فهل لهذا الإبدال غرض؟
إننا نرى أن كل تغيير في التعبير القرآني مهما كان فله سببه، ولا يكون تغييرٌ من دون سبب. وسنذكر أمثلة توضح هذا الأمر.
1 قد ترد الكلمة في التعبير القرآني مبدلةً مدغمةً مرة، ومرة أخرى ترد غيرَ مبدلة، وذلك نحو قوله في آيات عدة: "لعلهم يتذكرون". وفي آيات أخرى: "لعلهم يذّكّرون".
ونحو قوله: "أفلا يتدبّرون القرآن" وقوله: "أفلم يدبروا القول"،
ونحو قوله: "ويحبُّ المتطهّرين" وقوله: "يحب المطّهّرين".
بل ربما جمع الصيغتين في آية واحدة أو آيات متقاربة، وذلك نحو قوله تعالى: "فيه رجالٌ يحبّون أن يتطهّروا والله يحب المُطّهّرين" فجمع بين قوله: "يتطهّروا" وقوله: "المطّهّرين" ،
إن أصل هذا الإبدال هو الفكُّ بالتاء ف (ادّبّر) أصله (تدبّر) فأُبدلت التاءُ دالا، وأدغمت في الدال، فسكنت الدالُ الأولى وجيء بهمزة الوصل توصّلا إلى النطق بالساكن. وكذلك (اذّكّر) أصله (تذكر)، و(اطّهّر) أصله (تطهر)
والمضارع كالماضي ف (يدّبّر) أصله (يتدبّر)، و(يذّكّر) أصله (يتذكر)، و(يطّهّر) أصله (يتطهّر) وهكذا. وهو من الإبدال الجائز لا الواجب، ولذا نرى الاستعمالين معا في اللغة وفي القرآن الكريم.
والمفسرون إذا أوردوا شيئا من هذا أشاروا إلى أنه مبدل، واكتفوا بهذا على حدِّ ما أعلم.
أما ما يدور في الذهن من سؤال عن الفرق بينهما في الاستعمال القرآني، فالجواب أنه لا بد من أن يكون القرآن الكريم قد فرّق بينهما. فإن القرآن دقيق غاية الدقة في الاستعمال، وهو لا يستعمل لفظتين بمعنى واحد تماما وإن كانتا مترادفتين أو مبدَلَتين وحتى إذا كانتا من لغتين، فهو يخص كلا منهما بمعنى، وذلك كما خص (العيون) بعيون الماء، ولم يستعملها للباصرة، وكما خص (يشاقق) بمقام و(يشاقّ) بمقام مع أنهما لغتان مختلفتان، فخص كل لغة بسياق.
ونعود إلى مسألتنا فنقول: إن هناك حقيقتين لغويتين لا بد أن نذكرهما في هذا الأمر:
الأولى: أن بناء (يتفعّل) أطول من بناء (يفّعّل) في النطق. ف (يتذكّر) أطول من (يذكر) بمقطع واحد.
ف (يتذكر) مكون من خمسة مقاطع: (يَ + تَ + ذَكْ + كَ + رُ)
في حين أن (يذّكّر) متكون من أربعة مقاطع: (يذْ + ذَكْ + كَ + رُ)
والحقيقة الثانية أن بناء (يفّعّل) فيه تضعيف زائد على (يتفعل) ففي (يفّعّل) تضعيفان، وفي (يتفعّل) تضعيف واحد.
وهاتان الحقيقتان اللغويتان لهما شأنهما في تفسير ما نحن بصدده. فما كان على وزن (يتفعل) قد يؤتى به في اللغة للدلالة على التدرج، أي الحدوث شيئا فشيئا، وذلك نحو: تخطى وتمشّى وتبصّر وتجسس، فهناك فرق بين (مشى) و(تمشى)، و(خطا) و(تخطى)، و(جسّ) و(تجسس)، ففي تمشى وتخطى من الدرج ما ليس في مشى وخطا.
وقد يؤتى بهذا الوزن للدلالة على التكلف وبذل الجهد نحو: تصبّر وتحلّم، أي: كلف نفسه وحملها على الصبر والحلم. وفي كلا المعنيين دلالة على الطول في لوقت والتمهل في الحدث. وكذلك الأمر في القرآن الكريم. فإذا اجتمعت صيغتان من هذا البناء (يتفعّل) و (يفّعل) استعمل (يتفعل) لما هو أطول زمنا من (يفّعّل) وذلك لأن الفك أطول زمنا في النطق كما ذكرنا فهو ملائم للطول في الحدث. ومثل هذا التناسب وجدناه في أمور عدة في اللغة: فهناك تناسب بين البناء والمعنى إلى حد كبير. ويكفي أن تعود في مثل هذا إلى باب (إمساس الألفاظ أشباه المعاني) في كتاب الخصائص لابن جني ليتضح لك هذا.
وما كان على وزن (يفّعّل) يأتي به لقرآن فيما يحتاج إلى المبالغة في الحدث، وذلك لأن التضعيف كثيرا ما يؤتى به للمبالغة نحو فَعَل وفعّل ك (قطع) وقطّع)، و (كسر) و(كسّر)، ففي قطّع وكسّر من المبالغة ما ليس في قطع وكسر. ونحو (فُعال) و(فُعّال) مثل (كُبار) و(كُبّار)، ف (كبّار) أبلغ من (كبار) في الاتصاف بالحدث كما هو مقرر في كتب اللغة فتكرار الحرف إشارة إلى تكرار الحدث. جاء في (الخصائص): "ومن ذلك أنهم جعلوا تكرير العين في المثال دليلا على تكرير الفعل، فقالوا: كسّر وقطّع وفتح وغلّق"
ومن ذلك في غير الأفعال ونا التوكيد الثقيلة والخفيفة، فإن الثقيلة آكدُ من الخفيفة، ونحو (إنّ) غير المخففة و(إنْ) المخففة، فغير المخففة أكدُ من المخففة.
وهكذا يفرق القرآن بين الصيغتين.
وعلى هذا فإنه يستعمل بناء (يتفعّل) لما هو أطول زمنا، وقد يستعمله في مقام الإطالة والتفصيل.
ويستعمل (يفّعّل) للمبالغة في الحدث والإكثار منه.
ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون"(الأنعام:42)
وقوله سبحانه :"وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ"(الأعراف:94)
فقال في آية الأنعام (يتضرّعون) وقال في الأعراف (يضّرّعون) بالإبدال والإدغام. وذلك أنه :
قال في الأنعام: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ"،
وقال في الأعراف: " وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ"
والأمم أكثر من القرية، وهذا يعني تطاول الإرسال على مجار التاريخ، فلما طال الحدث واستمر جاء بما هو أطول بناء فقال: (يتضرعون). ولما كان الإرسال في الأعراف إلى قرية قال (يضّرعون) فجاء بما هو أقصر في البناء.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه استعمل في آية الأنعام (أرسل إلى) فقال: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ"،
واستعمل في الأعراف (أرسل في) فقال: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ"
والإرسال إلى شخص ما يقتضي التبليغ ولا يقتضي المكث، فإنك قد ترسل إلى شخص رسالة فيبلغها ويعود، وأما الإرسال في القرية أو في المدينة فإنه يقتضي التبليغ والمكث، فإن (في) تفيد الظرفية، وهذا يعني بقاء النبي بينهم يبلغهم ويذكرهم بالله، ويريهم آياته المؤيدة. ولا شك أن هذا يدعوهم إلى زيادة التضرع والمبالغة فيه، فاء بالصيغ الدالة على المبالغة في الحدث والإكثار منه فقال: لعلهم
فوضع كل مفردة في مكانها اللائق بها.
عن موقع لمسات بيانية والدكتور فاضل السامرائي
من كتاب بلاغة الكلمة في التعبير القرآني للدكتور فاضل السامرائي
قد يستعمل القرآن الكريم المفردة أحيانا مبدلةً، وذلك نحو (يتذكر) و(يذّكّر) و(يتدبّر) و(يدّبّر) ،ونحو (مكة) و(بكة)، وبسطة وبصطة، فهل لهذا الإبدال غرض؟
إننا نرى أن كل تغيير في التعبير القرآني مهما كان فله سببه، ولا يكون تغييرٌ من دون سبب. وسنذكر أمثلة توضح هذا الأمر.
1 قد ترد الكلمة في التعبير القرآني مبدلةً مدغمةً مرة، ومرة أخرى ترد غيرَ مبدلة، وذلك نحو قوله في آيات عدة: "لعلهم يتذكرون". وفي آيات أخرى: "لعلهم يذّكّرون".
ونحو قوله: "أفلا يتدبّرون القرآن" وقوله: "أفلم يدبروا القول"،
ونحو قوله: "ويحبُّ المتطهّرين" وقوله: "يحب المطّهّرين".
بل ربما جمع الصيغتين في آية واحدة أو آيات متقاربة، وذلك نحو قوله تعالى: "فيه رجالٌ يحبّون أن يتطهّروا والله يحب المُطّهّرين" فجمع بين قوله: "يتطهّروا" وقوله: "المطّهّرين" ،
إن أصل هذا الإبدال هو الفكُّ بالتاء ف (ادّبّر) أصله (تدبّر) فأُبدلت التاءُ دالا، وأدغمت في الدال، فسكنت الدالُ الأولى وجيء بهمزة الوصل توصّلا إلى النطق بالساكن. وكذلك (اذّكّر) أصله (تذكر)، و(اطّهّر) أصله (تطهر)
والمضارع كالماضي ف (يدّبّر) أصله (يتدبّر)، و(يذّكّر) أصله (يتذكر)، و(يطّهّر) أصله (يتطهّر) وهكذا. وهو من الإبدال الجائز لا الواجب، ولذا نرى الاستعمالين معا في اللغة وفي القرآن الكريم.
والمفسرون إذا أوردوا شيئا من هذا أشاروا إلى أنه مبدل، واكتفوا بهذا على حدِّ ما أعلم.
أما ما يدور في الذهن من سؤال عن الفرق بينهما في الاستعمال القرآني، فالجواب أنه لا بد من أن يكون القرآن الكريم قد فرّق بينهما. فإن القرآن دقيق غاية الدقة في الاستعمال، وهو لا يستعمل لفظتين بمعنى واحد تماما وإن كانتا مترادفتين أو مبدَلَتين وحتى إذا كانتا من لغتين، فهو يخص كلا منهما بمعنى، وذلك كما خص (العيون) بعيون الماء، ولم يستعملها للباصرة، وكما خص (يشاقق) بمقام و(يشاقّ) بمقام مع أنهما لغتان مختلفتان، فخص كل لغة بسياق.
ونعود إلى مسألتنا فنقول: إن هناك حقيقتين لغويتين لا بد أن نذكرهما في هذا الأمر:
الأولى: أن بناء (يتفعّل) أطول من بناء (يفّعّل) في النطق. ف (يتذكّر) أطول من (يذكر) بمقطع واحد.
ف (يتذكر) مكون من خمسة مقاطع: (يَ + تَ + ذَكْ + كَ + رُ)
في حين أن (يذّكّر) متكون من أربعة مقاطع: (يذْ + ذَكْ + كَ + رُ)
والحقيقة الثانية أن بناء (يفّعّل) فيه تضعيف زائد على (يتفعل) ففي (يفّعّل) تضعيفان، وفي (يتفعّل) تضعيف واحد.
وهاتان الحقيقتان اللغويتان لهما شأنهما في تفسير ما نحن بصدده. فما كان على وزن (يتفعل) قد يؤتى به في اللغة للدلالة على التدرج، أي الحدوث شيئا فشيئا، وذلك نحو: تخطى وتمشّى وتبصّر وتجسس، فهناك فرق بين (مشى) و(تمشى)، و(خطا) و(تخطى)، و(جسّ) و(تجسس)، ففي تمشى وتخطى من الدرج ما ليس في مشى وخطا.
وقد يؤتى بهذا الوزن للدلالة على التكلف وبذل الجهد نحو: تصبّر وتحلّم، أي: كلف نفسه وحملها على الصبر والحلم. وفي كلا المعنيين دلالة على الطول في لوقت والتمهل في الحدث. وكذلك الأمر في القرآن الكريم. فإذا اجتمعت صيغتان من هذا البناء (يتفعّل) و (يفّعل) استعمل (يتفعل) لما هو أطول زمنا من (يفّعّل) وذلك لأن الفك أطول زمنا في النطق كما ذكرنا فهو ملائم للطول في الحدث. ومثل هذا التناسب وجدناه في أمور عدة في اللغة: فهناك تناسب بين البناء والمعنى إلى حد كبير. ويكفي أن تعود في مثل هذا إلى باب (إمساس الألفاظ أشباه المعاني) في كتاب الخصائص لابن جني ليتضح لك هذا.
وما كان على وزن (يفّعّل) يأتي به لقرآن فيما يحتاج إلى المبالغة في الحدث، وذلك لأن التضعيف كثيرا ما يؤتى به للمبالغة نحو فَعَل وفعّل ك (قطع) وقطّع)، و (كسر) و(كسّر)، ففي قطّع وكسّر من المبالغة ما ليس في قطع وكسر. ونحو (فُعال) و(فُعّال) مثل (كُبار) و(كُبّار)، ف (كبّار) أبلغ من (كبار) في الاتصاف بالحدث كما هو مقرر في كتب اللغة فتكرار الحرف إشارة إلى تكرار الحدث. جاء في (الخصائص): "ومن ذلك أنهم جعلوا تكرير العين في المثال دليلا على تكرير الفعل، فقالوا: كسّر وقطّع وفتح وغلّق"
ومن ذلك في غير الأفعال ونا التوكيد الثقيلة والخفيفة، فإن الثقيلة آكدُ من الخفيفة، ونحو (إنّ) غير المخففة و(إنْ) المخففة، فغير المخففة أكدُ من المخففة.
وهكذا يفرق القرآن بين الصيغتين.
وعلى هذا فإنه يستعمل بناء (يتفعّل) لما هو أطول زمنا، وقد يستعمله في مقام الإطالة والتفصيل.
ويستعمل (يفّعّل) للمبالغة في الحدث والإكثار منه.
ومن ذلك على سبيل المثال قوله تعالى: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون"(الأنعام:42)
وقوله سبحانه :"وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ"(الأعراف:94)
فقال في آية الأنعام (يتضرّعون) وقال في الأعراف (يضّرّعون) بالإبدال والإدغام. وذلك أنه :
قال في الأنعام: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ"،
وقال في الأعراف: " وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ"
والأمم أكثر من القرية، وهذا يعني تطاول الإرسال على مجار التاريخ، فلما طال الحدث واستمر جاء بما هو أطول بناء فقال: (يتضرعون). ولما كان الإرسال في الأعراف إلى قرية قال (يضّرعون) فجاء بما هو أقصر في البناء.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه استعمل في آية الأنعام (أرسل إلى) فقال: "وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ"،
واستعمل في الأعراف (أرسل في) فقال: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ"
والإرسال إلى شخص ما يقتضي التبليغ ولا يقتضي المكث، فإنك قد ترسل إلى شخص رسالة فيبلغها ويعود، وأما الإرسال في القرية أو في المدينة فإنه يقتضي التبليغ والمكث، فإن (في) تفيد الظرفية، وهذا يعني بقاء النبي بينهم يبلغهم ويذكرهم بالله، ويريهم آياته المؤيدة. ولا شك أن هذا يدعوهم إلى زيادة التضرع والمبالغة فيه، فاء بالصيغ الدالة على المبالغة في الحدث والإكثار منه فقال: لعلهم
فوضع كل مفردة في مكانها اللائق بها.
عن موقع لمسات بيانية والدكتور فاضل السامرائي