مفهوم البيئة في القرآن الكريم
د. حسن الربابعة
أستاذ أدب عباسي مشارك
قسم اللغة العربية – جامعة مؤتة
البيئة لغةً واصطلاحاً :
البيئة لغة اسم مشتق من الفعل الماضي " باء " و "بوأ " ومضارعه " يبوء " , وأشهرُ معانيه التي تهمنا يرجع إلى الفعل باء الذي مضارعه " يتبوّأ " بمعنى ينزل ويقيم , , كما هو في أساس البلاغة(1) وفي معاجم اللغة كاللسان(2)، والقاموس المحيط (3) , تحديد معنى البيئة ، بمعنى المنزل , وفي الثاني منهما ، منها بمعنى المنزل الطيِّب , فتقول نزل في مباءتهم بمعنى أناخوا إليهم في المباءة وهي معاطنها .
وفي لسان العرب بوّأهم منزلاً يعني نزل بهم إلى سند جبل , وأبأتُ المكان أي أقمتُ فيه . وتبوأا لقومكما بيوتاً في مصر أي اتخذا، وقيل من معاني تبوّأ بمعنى أصلح المكان وهيّأه ليتخذه الإنسان مكاناً , وتبوأ بمعنى نزل ومباءة الغنم معطنها الذي تنام فيه , وقد أجاز الرسول الكريم الصلاة في مباءة الغنم , وذلك جوابه صلى الله عليه وسلم عن سؤال رجل سأله عن جواز الصلاة فيها .
وقد ورد في الشعر بمعنى التهيئة والإنزال في المكان :
وبوِّئت في صميم معشرِها وتّم في قومها متبوؤها
أي: نزلت من الكرم في صميم النسب .
والبيئة : هي اسم , واستباءه اتخذه مباءة , وتبوّأت منزلاً بمعنى نزلته وحللت فيه .
وفي الصحاح للجوهري (4): المباءة منزلُ القوم في كلِّ موضع , ويقال في كل منزل ينزله القوم قال طرفة بن العبد :
طيِّبوا الباءة سهلٌ ولهم سبلٌ إنْ شئتَ في وحشٍ وعِرْ
وتطلق البيئة اصطلاحاً على المكان الذي يقيم فيه الإنسان وغيرُه ُ, فالباءة والبيئة ،هي بيت النحل في الجبل , ومتبوّأ الولد هو الرّحم .وهي كناس الثور والموطن , والبيئة في المعجم الوسيط (5)، هي المنزلُ والحالُ , ويقال بيئة طبيعية وبيئة اجتماعية , وبيئة سياسية (المعجم الوسيط ج2/75) .
و في المنجد (6): بوأه منزلاً:هيَّأه له وأنزله فيه ( مادة بوأ الرمح ) .
ويمكن تعريفه اصطلاحا بأنه يعني المنزلَ وما يحيطُ بالفرد أو المجتمع ويؤثر فيهما كما هو في (المجمع الوجيز(7) ) .
أمّا في النصوص القرآنية التي هي منشدُنا وعليها يدور البحث، فتضاء مشتقات البيئة من فعلها الثلاثي ( بوأ ) , عشر مرات, في تسع سور هي: ستٌّ مكية وثلاث مدنية , كما يلي (8):-
"وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً " الاعراف (مكية) 74 بمعنى بوأكم اي أسكنكم (تفسير الجلالين) .
"ولقد بوّأنا بني إسرائيل ُمبوَّأ صدق" يونس (مكية) 93 : قبل هي بلاد مصر والشام استقرت بيد موسى النبي (مختصر تفسير ابن كثير)
" وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا " الحج مدنية 26: أرشده إليه وسلمه له , وأذن له في بنائه (مختصر ابن كثير)
" وإذ غدوت من أهلك تبوّّيْ المؤمنين مقاعد القتال " آل عمران مدنية 121
"والذين هاجروا في سبيل الله من بعد ما ظلموا لنبوّئنهم في الدنيا حسنة " النحل (مكية) 41 : لننزلنهم ( تفسير الجلالين)
"والذين امنوا وعملوا الصالحات لنبوّئنهم من الجنة غرفا " العنكبوت (مكية) 58 : لننزلنَّهم أعالي الجنة (صفوة التفاسير )
"والذين تبوؤوا الدار والإيمان " الحشر (مدنية) 9 : اتخذوا المدينة منزلاً وسكناً وهم الأنصار ( صفوة التفاسير)
" وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء " الزمر (مكية) 74 : نتصرَّف فيها تصرف المالك , وننزل فيها حيث نشاء , (صفوة التفاسير )
" وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء " يوسف (مكية) 56 : يتخذ منها منزلاً حيث يشاء , ويتصرف في المملكة كما يريد ( صفوة التفاسير).
" وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوّأ لقومكما بمصر بيوتاً " يونس(مكية) 87: اتخذ لهم بيوتاً للصلاة وللعبادة ( صفوة التفاسير) .
ومن أهم ما يفاد من مادة بوأ , هي السكن بنوعيه ؛ الضيِّق حيناً والمتَّسع أحياناً , إذ بدأ بدائرة البيت الحرام " وإذ بوَّأنا لإبراهيم مكان البيت " ( الحج مدنية آية 26) , فأرشده إليه , وسلّمه له , وأذن له في إقامة قواعده لتوحيد الله والدعاء إليه بالحج , فنادى , والله عزَّ وجلَّ بلغ عنه .
وتلاه النبي يوسف عليه السلام , في التدرج الزمني – إذ مكّنه الله في أرض مصر من باب إطلاق الجزء على الكلِّ , فاتخذ فيها منزلاً , حيث شاء , فتصرَّف في مملكة مصر كما أراد بدليل قوله عز وجل " وكذلك مكّنا ليوسف في الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء " ( يوسف آية 56 ) .
وجاء بعده موسى النبي وأخوه هارون عليهما وعلى نبيِّنا الصلاة والسلام , فاتخذا لبني إسرائيل بيوتاً في مصر للصلاة والعبادة بدليل قوله " وأوحينا الى موسى وأخيه أن تبوّأا لقومكما بمصر بيوتاً " ( يونس 10 آية 87 ).
ثم تتَّسع دائرةُ المكان لبني إسرائيل فتمتدُّ من مصرَ إلى الشام، فيستقرُّ حكمهم بين يدي موسى عليه السلام , بدليل قوله تعالى " ولقد بوّأنا بني إسرائيل مبوّأ صدق " , فتصرَّفَ فيها تصرُّف المالك لمملكته , وكان في سكنه صالحاً مرضيًّا .
لقد ضربَ الله تعالى أمثلة تطبيقية لرسولهِ محمَّد صلى الله عليه وسلم , ليتخذها عبرة ممن سلفه من سير الأنبياء , الذين اتخذوا من عبادة الله مثلا يحتذى , بدءاً في إنشاء المعابد لله كالكعبة خاصة , وبيوت بني اسرائيل في مصر عامة , فتملك الصالحون من بني اسرائيل مصر والشام في زمن موسى و أخيه هارون عليهما السلام , مما يُفهَمُ من ذلك أنَّ البيئة الإيمانية تعدّ أساساً للفتح , والنصر المبين .
أمّا البيئة الإيمانية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فعلى ثلاث مراحل هي : هجرة المؤمنين من مكة أولاً , وتبوؤهم المدينة المنورة ثانياً , وتهيئة الجند المسلم لاتخاذ مواقع للقتال يوم أحد ،ثالثا.
أمَّا الهجرةُ في المرحلة الأولى فعامَّة ؛ إلى الحبشة والمدينة المنورة , هروباً بدينهم , ولضعفهم في العدة والعدد،ريثما يتمُّ الإعداد لمواجهة أعدائهم , وقد وعدهم الله تعالى حسنة في الدنيا بدليل قوله " والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا , لنبؤنَّهم في الدنيا حسنة " ( النحل 16 الآية 41 ) .
أمَّا تبوؤهم المدينة منزلاً , واتخاذهم إياها سكناً مع أخوتهم الأنصار , فكانت المرحلة الثانية لتأسيس بيئة إيمانية تدافعُ عن نفسها ضدّ المشركين .
بدليل قوله عزَّ وجلَّ " والذين تبوؤوا الدار والإيمان " ( الحشر 59 آية 9 ) .
فالبيئة المؤمنة هي أساسُ نشرِ دين الله في مكانين , ثابتٍ في المدينة ومتحرِّكٍ في هجرتين؛ الى الحبشة فراراً بدينهم , والمدينة المنورة لاتخاذهم إياها عاصمة لهم يُذادُ عنها بالغالي والرخيص .
أمّا المرحلة الثالثة ، فمرحلة تهيئةِ الجندِ المسلم , لاتخاذِ مواقعَ للقتال ضدّ المشركين، شأنُهم يومَ أحد ،كما هو في قوله عزَّ وجلَّ "وإذ غدوتَ من أهلك تبؤّيءُ المؤمنين مقاعد للقتال" ( آل عمران آية 121 ) .
ويفهمُ مما سبق أنَّ القلب هو بيئة الإيمان الأولى , فإذا ترعرعَ فيه الإيمانُ سعى الى نشره، متحركاً في هجرته , أو ثابتاً في بيئة مكانية , يذود عنها للضرورة بقوة سلاحه في سبيل الله , شانُ منهجِ الرسول الكريم وصحبه , منتهجا نهج الأنبياء من قبله .
وتتَّسع دائرة البيئة مكاناً , فتشمل غُرَفَ الجنّة , جزاء وفاقا، لمن كان عمل صالحاً في دنياه , بدليل قوله عزَّ وجلَّ " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبؤنَّهم من الجنة غرفا " ( العنكبوت 29 آية 58 ) .
ونخلص الى القول : بأن معنى مادة ( بوأ ) هو أسكن , فالبيئة هي المنزل والسكن ولا يستقيم أمرُ السكن للفرد والجماعة إلاّ بإيمان القلب بالله عزّ وجل , ونشرِ رسالة التوحيد الخيِّر، التي دعا إليها الرُّسل جميعاً عليهم السلام , من جهة , وتنفيذ الجوارح لأمر الله , بحركتهم في هجرة , أوثباتهم في بيئة صالحة , بحيثُ يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً ، من جهة أخرى ،ثمَّ يذودون عن أنفسهم ودينهم بسلاحهم ؛ إذا هاجمهم أعداؤهم شأن المراحل التي نفذّها الرسول الكريم بأمر الله كما ورد في النصوص القرآنية ،ويفهم أيضا ، أنَّ مصطلح البيئة مصطلح إسلامي ، وإنها ليست تعريبا لاسمها المتداول في الغرب (enviroment ( (9)كما هي عند بعض البحثة, والله تعالى هو الهادي الى سواء السبيل.
الهوامش :
1. (الزَّمخشري، محمود بن عمر: أساس البلاغة، تحقيق عبد الرحيم محمود، دار المعرفة، بيروت، 1982، ص33 مادة "بوأ")
2. (ابن منظور: لسان العرب المحيط، إعداد وتصنيف يوسف الخياط، دار لسان العرب، بيروت، مادة "بوأ" ص284.
3. الفيروز أبادي: القاموس المحيط، عالم الكتب، بيروت، ج1/8 مادة "باء".
4.الجوهري : الصحاح , مادة بوأ .
5. المنجد : في اللغة , دار المشرق بيروت , ط27 , مادة "بوأ " .
6. المعجم الوسيط, قام بإخراجه , إبراهيم مصطفى , وأحمد حسن الزيات , وحامد عبد القادر , ومحمد علي النجار , المكتبة الإسلامية , أستنبول , تركيا , ج1 / 75 " باء " .
7. المجمع الوجيز , مجمع اللغة العربية , القاهرة , 1990 م .
8. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1401- 1981 مادة "بوأ" ص139.
9. راتب السعود , (الدكتور ) : الإنسان والبيئة , دراسة في التربية البيئة , دار الحامد للنشر والتوزيع , عمّان , الأردن , ط1 , 2004 م , ص 17 .
المصادر والمراجع :
القرآن الكريم .
الزمخشري ؛ محمود بن عمر: أساس البلاغة، تحقيق عبد الرحيم محمود، دار المعرفة، بيروت، 1982 0
السُّعود ؛ راتب ( الدكتور) : الإنسان والبيئة- دراسة في التربية البيئيَّة، دار الحامد للنشر والتوزيع، عمان، 2004م .
الصابوني ،محمد علي الصابوني (الشيخ):صفوة التفاسير ،دار القرآن الكريم ،بيروت،ط4، 1402 ه 1981م .
عبد الباقي ؛ الشيخ محمد فؤاد : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1401- 1981م .
الفيروزأبادي ؛ مجد الدين : القاموس المحيط ، عالم الكتب، بيروت , (د.ت) .
المعجم الوسيط ؛ قام بإخراجه إبراهيم مصطفى , وأحمد حسن الزَّيات , وحامد عبد القادر , ومحمد علي النجار ,المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع , استانبول ,تركيا, مقدمة الطبعة الثانية , (د.ت) .
المجمع الوجيز , مجمع اللغة العربية , القاهرة , 1990 م .
المنجد ؛ في اللغة والإعلام، باب المشرق، بيروت، ط 27 .
ابن منظور ؛ العلاّمة محمد بن أبي الكرم : لسان العرب المحيط ، إعداد وتصنيف يوسف الخياط ، دار لسان العرب ، بيروت .
د. حسن الربابعة
أستاذ أدب عباسي مشارك
قسم اللغة العربية – جامعة مؤتة
البيئة لغةً واصطلاحاً :
البيئة لغة اسم مشتق من الفعل الماضي " باء " و "بوأ " ومضارعه " يبوء " , وأشهرُ معانيه التي تهمنا يرجع إلى الفعل باء الذي مضارعه " يتبوّأ " بمعنى ينزل ويقيم , , كما هو في أساس البلاغة(1) وفي معاجم اللغة كاللسان(2)، والقاموس المحيط (3) , تحديد معنى البيئة ، بمعنى المنزل , وفي الثاني منهما ، منها بمعنى المنزل الطيِّب , فتقول نزل في مباءتهم بمعنى أناخوا إليهم في المباءة وهي معاطنها .
وفي لسان العرب بوّأهم منزلاً يعني نزل بهم إلى سند جبل , وأبأتُ المكان أي أقمتُ فيه . وتبوأا لقومكما بيوتاً في مصر أي اتخذا، وقيل من معاني تبوّأ بمعنى أصلح المكان وهيّأه ليتخذه الإنسان مكاناً , وتبوأ بمعنى نزل ومباءة الغنم معطنها الذي تنام فيه , وقد أجاز الرسول الكريم الصلاة في مباءة الغنم , وذلك جوابه صلى الله عليه وسلم عن سؤال رجل سأله عن جواز الصلاة فيها .
وقد ورد في الشعر بمعنى التهيئة والإنزال في المكان :
وبوِّئت في صميم معشرِها وتّم في قومها متبوؤها
أي: نزلت من الكرم في صميم النسب .
والبيئة : هي اسم , واستباءه اتخذه مباءة , وتبوّأت منزلاً بمعنى نزلته وحللت فيه .
وفي الصحاح للجوهري (4): المباءة منزلُ القوم في كلِّ موضع , ويقال في كل منزل ينزله القوم قال طرفة بن العبد :
طيِّبوا الباءة سهلٌ ولهم سبلٌ إنْ شئتَ في وحشٍ وعِرْ
وتطلق البيئة اصطلاحاً على المكان الذي يقيم فيه الإنسان وغيرُه ُ, فالباءة والبيئة ،هي بيت النحل في الجبل , ومتبوّأ الولد هو الرّحم .وهي كناس الثور والموطن , والبيئة في المعجم الوسيط (5)، هي المنزلُ والحالُ , ويقال بيئة طبيعية وبيئة اجتماعية , وبيئة سياسية (المعجم الوسيط ج2/75) .
و في المنجد (6): بوأه منزلاً:هيَّأه له وأنزله فيه ( مادة بوأ الرمح ) .
ويمكن تعريفه اصطلاحا بأنه يعني المنزلَ وما يحيطُ بالفرد أو المجتمع ويؤثر فيهما كما هو في (المجمع الوجيز(7) ) .
أمّا في النصوص القرآنية التي هي منشدُنا وعليها يدور البحث، فتضاء مشتقات البيئة من فعلها الثلاثي ( بوأ ) , عشر مرات, في تسع سور هي: ستٌّ مكية وثلاث مدنية , كما يلي (8):-
"وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً " الاعراف (مكية) 74 بمعنى بوأكم اي أسكنكم (تفسير الجلالين) .
"ولقد بوّأنا بني إسرائيل ُمبوَّأ صدق" يونس (مكية) 93 : قبل هي بلاد مصر والشام استقرت بيد موسى النبي (مختصر تفسير ابن كثير)
" وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا " الحج مدنية 26: أرشده إليه وسلمه له , وأذن له في بنائه (مختصر ابن كثير)
" وإذ غدوت من أهلك تبوّّيْ المؤمنين مقاعد القتال " آل عمران مدنية 121
"والذين هاجروا في سبيل الله من بعد ما ظلموا لنبوّئنهم في الدنيا حسنة " النحل (مكية) 41 : لننزلنهم ( تفسير الجلالين)
"والذين امنوا وعملوا الصالحات لنبوّئنهم من الجنة غرفا " العنكبوت (مكية) 58 : لننزلنَّهم أعالي الجنة (صفوة التفاسير )
"والذين تبوؤوا الدار والإيمان " الحشر (مدنية) 9 : اتخذوا المدينة منزلاً وسكناً وهم الأنصار ( صفوة التفاسير)
" وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء " الزمر (مكية) 74 : نتصرَّف فيها تصرف المالك , وننزل فيها حيث نشاء , (صفوة التفاسير )
" وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء " يوسف (مكية) 56 : يتخذ منها منزلاً حيث يشاء , ويتصرف في المملكة كما يريد ( صفوة التفاسير).
" وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوّأ لقومكما بمصر بيوتاً " يونس(مكية) 87: اتخذ لهم بيوتاً للصلاة وللعبادة ( صفوة التفاسير) .
ومن أهم ما يفاد من مادة بوأ , هي السكن بنوعيه ؛ الضيِّق حيناً والمتَّسع أحياناً , إذ بدأ بدائرة البيت الحرام " وإذ بوَّأنا لإبراهيم مكان البيت " ( الحج مدنية آية 26) , فأرشده إليه , وسلّمه له , وأذن له في إقامة قواعده لتوحيد الله والدعاء إليه بالحج , فنادى , والله عزَّ وجلَّ بلغ عنه .
وتلاه النبي يوسف عليه السلام , في التدرج الزمني – إذ مكّنه الله في أرض مصر من باب إطلاق الجزء على الكلِّ , فاتخذ فيها منزلاً , حيث شاء , فتصرَّف في مملكة مصر كما أراد بدليل قوله عز وجل " وكذلك مكّنا ليوسف في الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء " ( يوسف آية 56 ) .
وجاء بعده موسى النبي وأخوه هارون عليهما وعلى نبيِّنا الصلاة والسلام , فاتخذا لبني إسرائيل بيوتاً في مصر للصلاة والعبادة بدليل قوله " وأوحينا الى موسى وأخيه أن تبوّأا لقومكما بمصر بيوتاً " ( يونس 10 آية 87 ).
ثم تتَّسع دائرةُ المكان لبني إسرائيل فتمتدُّ من مصرَ إلى الشام، فيستقرُّ حكمهم بين يدي موسى عليه السلام , بدليل قوله تعالى " ولقد بوّأنا بني إسرائيل مبوّأ صدق " , فتصرَّفَ فيها تصرُّف المالك لمملكته , وكان في سكنه صالحاً مرضيًّا .
لقد ضربَ الله تعالى أمثلة تطبيقية لرسولهِ محمَّد صلى الله عليه وسلم , ليتخذها عبرة ممن سلفه من سير الأنبياء , الذين اتخذوا من عبادة الله مثلا يحتذى , بدءاً في إنشاء المعابد لله كالكعبة خاصة , وبيوت بني اسرائيل في مصر عامة , فتملك الصالحون من بني اسرائيل مصر والشام في زمن موسى و أخيه هارون عليهما السلام , مما يُفهَمُ من ذلك أنَّ البيئة الإيمانية تعدّ أساساً للفتح , والنصر المبين .
أمّا البيئة الإيمانية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فعلى ثلاث مراحل هي : هجرة المؤمنين من مكة أولاً , وتبوؤهم المدينة المنورة ثانياً , وتهيئة الجند المسلم لاتخاذ مواقع للقتال يوم أحد ،ثالثا.
أمَّا الهجرةُ في المرحلة الأولى فعامَّة ؛ إلى الحبشة والمدينة المنورة , هروباً بدينهم , ولضعفهم في العدة والعدد،ريثما يتمُّ الإعداد لمواجهة أعدائهم , وقد وعدهم الله تعالى حسنة في الدنيا بدليل قوله " والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا , لنبؤنَّهم في الدنيا حسنة " ( النحل 16 الآية 41 ) .
أمَّا تبوؤهم المدينة منزلاً , واتخاذهم إياها سكناً مع أخوتهم الأنصار , فكانت المرحلة الثانية لتأسيس بيئة إيمانية تدافعُ عن نفسها ضدّ المشركين .
بدليل قوله عزَّ وجلَّ " والذين تبوؤوا الدار والإيمان " ( الحشر 59 آية 9 ) .
فالبيئة المؤمنة هي أساسُ نشرِ دين الله في مكانين , ثابتٍ في المدينة ومتحرِّكٍ في هجرتين؛ الى الحبشة فراراً بدينهم , والمدينة المنورة لاتخاذهم إياها عاصمة لهم يُذادُ عنها بالغالي والرخيص .
أمّا المرحلة الثالثة ، فمرحلة تهيئةِ الجندِ المسلم , لاتخاذِ مواقعَ للقتال ضدّ المشركين، شأنُهم يومَ أحد ،كما هو في قوله عزَّ وجلَّ "وإذ غدوتَ من أهلك تبؤّيءُ المؤمنين مقاعد للقتال" ( آل عمران آية 121 ) .
ويفهمُ مما سبق أنَّ القلب هو بيئة الإيمان الأولى , فإذا ترعرعَ فيه الإيمانُ سعى الى نشره، متحركاً في هجرته , أو ثابتاً في بيئة مكانية , يذود عنها للضرورة بقوة سلاحه في سبيل الله , شانُ منهجِ الرسول الكريم وصحبه , منتهجا نهج الأنبياء من قبله .
وتتَّسع دائرة البيئة مكاناً , فتشمل غُرَفَ الجنّة , جزاء وفاقا، لمن كان عمل صالحاً في دنياه , بدليل قوله عزَّ وجلَّ " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبؤنَّهم من الجنة غرفا " ( العنكبوت 29 آية 58 ) .
ونخلص الى القول : بأن معنى مادة ( بوأ ) هو أسكن , فالبيئة هي المنزل والسكن ولا يستقيم أمرُ السكن للفرد والجماعة إلاّ بإيمان القلب بالله عزّ وجل , ونشرِ رسالة التوحيد الخيِّر، التي دعا إليها الرُّسل جميعاً عليهم السلام , من جهة , وتنفيذ الجوارح لأمر الله , بحركتهم في هجرة , أوثباتهم في بيئة صالحة , بحيثُ يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً ، من جهة أخرى ،ثمَّ يذودون عن أنفسهم ودينهم بسلاحهم ؛ إذا هاجمهم أعداؤهم شأن المراحل التي نفذّها الرسول الكريم بأمر الله كما ورد في النصوص القرآنية ،ويفهم أيضا ، أنَّ مصطلح البيئة مصطلح إسلامي ، وإنها ليست تعريبا لاسمها المتداول في الغرب (enviroment ( (9)كما هي عند بعض البحثة, والله تعالى هو الهادي الى سواء السبيل.
الهوامش :
1. (الزَّمخشري، محمود بن عمر: أساس البلاغة، تحقيق عبد الرحيم محمود، دار المعرفة، بيروت، 1982، ص33 مادة "بوأ")
2. (ابن منظور: لسان العرب المحيط، إعداد وتصنيف يوسف الخياط، دار لسان العرب، بيروت، مادة "بوأ" ص284.
3. الفيروز أبادي: القاموس المحيط، عالم الكتب، بيروت، ج1/8 مادة "باء".
4.الجوهري : الصحاح , مادة بوأ .
5. المنجد : في اللغة , دار المشرق بيروت , ط27 , مادة "بوأ " .
6. المعجم الوسيط, قام بإخراجه , إبراهيم مصطفى , وأحمد حسن الزيات , وحامد عبد القادر , ومحمد علي النجار , المكتبة الإسلامية , أستنبول , تركيا , ج1 / 75 " باء " .
7. المجمع الوجيز , مجمع اللغة العربية , القاهرة , 1990 م .
8. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1401- 1981 مادة "بوأ" ص139.
9. راتب السعود , (الدكتور ) : الإنسان والبيئة , دراسة في التربية البيئة , دار الحامد للنشر والتوزيع , عمّان , الأردن , ط1 , 2004 م , ص 17 .
المصادر والمراجع :
القرآن الكريم .
الزمخشري ؛ محمود بن عمر: أساس البلاغة، تحقيق عبد الرحيم محمود، دار المعرفة، بيروت، 1982 0
السُّعود ؛ راتب ( الدكتور) : الإنسان والبيئة- دراسة في التربية البيئيَّة، دار الحامد للنشر والتوزيع، عمان، 2004م .
الصابوني ،محمد علي الصابوني (الشيخ):صفوة التفاسير ،دار القرآن الكريم ،بيروت،ط4، 1402 ه 1981م .
عبد الباقي ؛ الشيخ محمد فؤاد : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1401- 1981م .
الفيروزأبادي ؛ مجد الدين : القاموس المحيط ، عالم الكتب، بيروت , (د.ت) .
المعجم الوسيط ؛ قام بإخراجه إبراهيم مصطفى , وأحمد حسن الزَّيات , وحامد عبد القادر , ومحمد علي النجار ,المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع , استانبول ,تركيا, مقدمة الطبعة الثانية , (د.ت) .
المجمع الوجيز , مجمع اللغة العربية , القاهرة , 1990 م .
المنجد ؛ في اللغة والإعلام، باب المشرق، بيروت، ط 27 .
ابن منظور ؛ العلاّمة محمد بن أبي الكرم : لسان العرب المحيط ، إعداد وتصنيف يوسف الخياط ، دار لسان العرب ، بيروت .