في ساحة الشهداء..."دُكَّان الحرميْن الشريفيْن"...لم يكن ككل الدَّكاكِين...
لو كنتَ تعيش في مدينة الجزائر "المحروسة بالله" خلال العهد العثماني ولديك مال أو كنز أو وثائق وأغراض شخصية ثمينة في بيتك أو في محلِّك تخشى عليهم من السرقة أو الضياع، ولو كنتَ مسافرا لأغراض تجارية أو اجتماعية في رحلة لطلب العِلم أو للحج إلى البقاع المقدسة أو كنتَ في مهمة جهادية على متن سفن الأسطول الجزائري برفقة رجال البحر والرِّيَّاس وتسعى لتأمين هذه الأموال والأغراض ريثما تعود، إن كُتِبتْ لك العودة،...ما العمل؟ وكيف السبيل إلى الاطمئنان عليها اطمئنانا تامًّا مَهْمَا كَان...؟
في حوْمة سيدي عبد الرحمن الثعالبي...ابن ساحة الشهداء...
الحَلُّ كان بَسيطًا، ذكيًا ومُتَاحًا للجميع، مهما تباينتْ المراتبُ الاجتماعية، في المكان الذي نَعْرِفُ اليوم باسم "ساحة الشهداء"، وتحديدا في البقعة التي تتوسط الجامع الجديد وشارع أول نوفمبر ومدخل شارع البحرية المؤدي إلى الجامع الكبير و"قهوة التلمساني" فالمرسى القديم الذي وَضَعَ لَبِنَاتِه سيِّد البحار الجزائري/العثماني خير الدين بن يعقوب الشهير بـ: بربروس... ولو كنا نعيش في تلك الحقبة، لَقُلْنَا إنه، وفقًا لنسيجها العمراني آنذاك، كان يَقَعُ قُبَالةَ "قصر الجُنَيْنَة"/"دار الإمارة"/"دار السلطان"، وكذلك جامع السيدة الحنفي المحاذي له و"القهوة الكبيرة" وحَوْمَة المثقفين والطلبة والعلماء المعروفة بـ: "القيسارية"، دون أن ننسى أن هذه البقعة كانت أيضا في نهاية القرن 15م، قبل دخول العثمانيين، حَوْمَة سيدي عبد الرحمن الثعالبي (1384م – 1471م) والجامِع الذي كان يحمل اسمه ويكوِّن فيه الأجيال: جامع سيدي عبد الرحمن...وهو غير الضريح والجامع والزاوية الحاليِّين...
كانت هذه البقعة، منذ بداية انضواء الجزائر تحت لواء الدولة العثمانية إلى غاية الأشهر الأولى للاحتلال الفرنسي للجزائر، تتضمن ساحة فاقتْ شُهرتُها في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية نظيرتَها في الجزائر، لأنها وإن كانت قبل كل شيء سوقا لمختلف البضائع والصنائع بالنسبة للجزائريين، إلا أنها في نظر خصومهم الأوروبيين والأمريكيين، بعد تأسيس الدولة الأمريكية في نهاية القرن 18م، المكانُ الذي كان يُباع فيه الأسرى النصارى ضحايا الحرب الجيوسياسية الشرسة بين "الغرب" المسيحي و"الشرق" الإسلامي على مدى أكثر من 3 قرون، ريثما تأتيهم الفدية من بلدانهم أو الاندماج والاستقرار في المجتمع الجزائري نهائيا... وما زالت مؤلفات الرحالة الأوروبيون ومذكِّرات أسْراهم تنقل للأجيال صدى أجواء هذا المكان الحيوي وصخب باعته ودَلّالِيه وحِرفيِّيه والأصوات المختلطة بهدير أمواج البحر لآلات الصُّناع والمهندسين الجزائريين والأعاجم العاملين في مشاريع بناء السفن في التَّرْسَانَة القريبة عند أقدام سور المدينة وباب الديوانة وجامع الحُوَّاتِين...
هذا السوق، الذي كان ذِكْرُه يؤرق مضاجع الصليبيين، هو سوق "البادِسْتَانْ"، وليس "بَابْسْتَانْ" مثلما اعتَقَدَ البعضُ آنذاك، بمن فيهم الأوروبيون، ويُعتقَد حاليا، إلى حد وصفه بالباب السادس لـ: "بهجة" سيدي عبد الرحمن إلى جانب الأبواب الخمسة المعروفة وهي: باب الجزيرة (شعبيا "باب دْزِيرَة"، أو أيضا باب الجهاد)، وباب البحر (أو باب الديوانة وباب الترسانة وباب السردين)، وباب عزون، وباب الوادي، والباب الجديد.
في داخل البَادِسْتَانْ المُطِلّ على "قاع السُّور"، أيْ أسْفل الجدار الدفاعي المحيط بالمدينة، وعلى شاطئ البحر حيث كانت الأمواج تُداعب مراكب الصيد وتلامس الصخور الحاملة لثقل أُسًسِ الجامع الجديد والجامع الكبير، وُجدَ دُكَّانٌ لا يُشْبِهُ بقية الدَّكاكين من حيث الأهمية، ولا يَقِلُّ "قداسةً" عن بيوتِ العبادة، وإن لم يبقى له أَثَرٌ اليوم في ذاكرة الجزائريين كالكثير من أشيائنا الجميلة وتراثنا الثري، أحياناً لأننا لم نعد نحسن رؤية إلا ما هو قبيح...
هذا الدُّكَّان هو "دُكَّان الحرمين الشريفيْن"، كما كان يُسمى طيلة الحقبة العثمانية من التاريخ الجزائري، الذي كان مؤسسة حافظة للأمانات التي تُتْرك به بين أيدي مسؤوليه بعد توثيقها بدقة ووضعها في صناديق صغيرة كانت تُعرَف بـ:"الفْنِيقْ" شعبيًا ورسميًا مثلما يظهر في وثائق الأرشيف الجزائري/العثماني المحفوظة في المركز الوطني للأرشيف بضاحية بئر الخادم بالعاصمة الجزائرية...وقد تَحَدَّثَ عنه بإعجاب وفضول القنصل الفرنسي بمدينة الجزائر بين سنتي 1788م و1790م فونتور دو بارادي (Venture de Paradis) والذي أوضح أن هذه المؤسسة كانت تفتح أبوابها لخدمة الناس مرتيْن أسبوعيًا.
لكن، لماذا يقترن اسم هذه المؤسسة/الدُّكَّان بالحرميْن الشريفيْن...؟ لأنها كانت تُدار من طرف مؤسسة الأوقاف التي تحمل الاسم ذاته والخاصة بجمع التبرعات والهبات لفقراء الحرمين الشريفين لِتُرسَل كلَّ عام مع رَكْبِ الحَجِّ إلى المحتاجين في مَكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَرَّة.
آنذاك، كان يُحتفظ بالوديعة بعد تدوين المعلومات الشخصية لصاحبها وتسجيل محتوياتها وتاريخ عودته لاسترجاعها أو وصاياه في حال توفي أو لم يرجع من رحلته الدينية أو العلمية أو العسكرية/الجهادية لِتحديد هوية مَن يحق له استلامها بَعْدَهُ من الدُّكَّان، مثلما قد تتضمن الوصية كلمة سرّ أو وثيقة أو شيئا معَيَّنًا مُسبَقًا من صاحب الوديعة للتأكد من الهوية في وقتٍ لم تكن تُصدِر فيه الدولة الجزائرية وثائق هوية بشكل شامل وتلقائي كما يحدث اليوم...
"دكَّان الحرميْن الشريفيْن"...حافظ أمانات اليتامى "محمد الصّغير" و"خَليل ين الحاج عُثمان البُونْبَاجِي" و "الزَّهْرَة بنت الصَّادق ابن العَربي" و"أحمد بن علي البُلُكْبَاشِي"...
وهكذا، بفضل هذه المؤسسة، تَمَكَّنَ "محمد بن الحراز"، يقول الباحث الجزائري خليفة حَمَّاشْ في "الأسرة في مدينة الجزائر في العهد العثماني"، مِن تأمين وحفظ نصيب اليتيم الذي كان تحت كفالته "محمد الصغير"، نجل ابن عمه "الحاج أحمد بُوقَرْمُودَة"، من تَرِكَةِ والِده المتوفي بوضعها سنة 1770م، في عهد الداي محمد بن عثمان باشا، في "دكان الحرمين الشريفين". وذلك، من أجل أن "تجري في ذلك نفقته وكَسْوته إلى أن يبلغ مَبْلَغَ القبْض لنفسه أو تظهر عاقبة أمره"، على حد تعبير وثيقة هذه الوديعة الموجودة في أرشيف بئر الخادم بالجزائر العاصمة...
ومِثْله فَعَلَ "عمر الإنْجِشَارِي البُونْبَاجِي" كفيل اليتيم "خليل بن الحاج عثمان البُونْبَاجِي" بإيداع نصيبه من تركة والده المتوفي، وعَمَلاً بوصيته قبل وفاته، في "دُكّان الحرمين الشريفين على يد السيّد القاضي"، وفقًا لوثيقة هذا الإيداع المحفوظة في الأرشيف، ولو أن الطفل خليل توفي بعد 4 سنوات لِيَرِثَهُ، شرعًا، خالُه الشاب "سليمان الإنجشاري البُونْبَاجِي بن حسن بَاشْ بُونْبَاجِي". وهكذا، توضح الوثيقة، "...أوتِيَ بِفنِيق الابن خليل (...) الموضوع بدكان الحرمين الشريفين فوجد بداخله ما قدره ألف دينار مع دينار واحد ونصف الدينار مْحَابِيب (مفرده "محبوب" وهي عملة من العملات المتداولة في الجزائر آنذاك Ndlr)، مع مائتا دينار وخمسة وثلاثين دينارا ذهبًا سُلطانية، مع ثلاثمائة ريال وتسعون ريالا وسبعة أثمان الريال بأعيانها صحاحًا ضَرْب الكَفرة (أيْ عُملة بلاد الكُفار Ndlr)، مع تسعة وعشرين ريالا بأعيانها دُورُو، مع صِوار (أي سِوار Ndlr) ذهب، مع شاشية طَاسَة منه، مع دُورُو خامسة...". وإذا قُدِّرت قيمة هذا المال، دون الذهب، بعملتنا الجزائرية اليوم، يوضِّح خليفة حماش، فإنه يعادل "نحو 310 مليون سنتيم"...
كذلك، "...جيء بأمانة اليتيمية الزهرة بنت الصادق ابن العربي"، حسب وثيقة أخرى وثَّقتْ تَسَلُّمَ الوديعة من طرف "دكان الحرمين الشريفين"، وهي عِبارة عن "...فنيق صَغير أسْوَد عمل داخل فنيق الأمانات" مِن "يد السيد مصطفى المسيسي، والناظر (أي الوَصيّ Ndlr) عليها إبراهيم بن العربي أوائل جمادى الثانية 1160" هجرية الموافق لعام 1748م... وذلك، في انتظار سحب الوديعة من طرف صاحِبتها أو مَن يمثلها مستقبلاً.
وهكذا فَعَلَ لاحِقًا "السيد الطاهر" مع اليتيم "أحمد بن علي بُولُكْبَاشِي"، الذي تَصِفُ وثيقةُ "الدكان" والدَه المرحوم بـ: "صاحب دار قاضي مايُورْقَة" (أيْ جزيرة مايورقة الأندلسية/الإسبانية)، بإيداعها في هذه المؤسسة قبل أن يَتِمَّ سحبُها في سنة 1759م، وهي "39 دينارا ونصف الدينار، داخل كاغد أبيض...". وقد قبضَها بعد 6 سنوات "...صاحبها وعون القاضي أوائل حجة 1178..." هجرية، أيْ في 1765م.
أمانات "أولاد الخَزْنَجِي علِي" و"حمزة بن اللَّمداني" و"مَرْيَم بنت الحاج حسين ابن زرْناجي"
وهذا ما وقع أيضا مع الأيتام "أولاد الخزنجي علي" الذين تَسَلَّمَ "دكان الحرمين الشريفين" "الأمانات" الخاصة بهم داخل "...صندوق صغير أحمر عَمَل بَرّ التُّرْك، على يد البُونَاطِيرُو باش شاوَش، أوائل شوال 1172" هجرية الموافق لسنة 1759م، قبل أن يأتيَ لِسَحبِها بعد 4 أعوام "محمد المقفولجي شاوش المحَلّ بأمرِ مصطفى الصَّايْجِي (أيْ المُحَاسِب الرسمي للدولة في "دار السلطان" لدى الدايْ Ndlr) في أواخر محرم 1177" هجرية، أيْ في عام 1763م...
إيداع الأمانات في دكان الحرمين الشريفين" لم يقتصر على أموال اليتامى، مثلما سبق إيضاحُه، بل اشتمل على مختلف أنواع الودائع مثلما هو شأن وديعة "حمزة بن اللّمْدَانِي" (نِسْبَةً إلى مدينة المْدِيَّة بجنوب العاصمة الجزائرية) في سنة 1743م. يقول الأرشيف لقد "جيء بأمانة" هذا الرجل "وهي فنيق وضعها سي علي بن رمضان القسمْطِيني (نِسبةً إلى مدينة قسنطينة في شمال شرق الجزائر Ndlr) إلى أن يرفعها صاحبها وهو حمزة المذكور بمحضر محمد بوعمامة، ومفتاح الفنيق في يده...". وقد "رُفِعتْ تلك الأمانة بعد تسع سنوات"، يوضح الباحث خليفة حمَّاش، بتاريخ 1752م.
أما "علي خوجة رواني" الذي وضع لدى دكان الحرمين الشريفين مبلغًا قدره 112 دينارا سنة 1744م "بِشْكَارَة صغيرة بيضاء"، حسب نص الوثيقة الشاهدة على العملية، كـ: "أمانة (زوجته Ndlr) مَرْيَم بنت الحاج حسين ابن زرْناجي" إلى غاية أن يسحبها "الزوج المذكور وإن مات ترفعها الزوجة صاحبتها"، حسب الوثيقة، فإنه هو ذاته، في نهاية المطاف، مَن سَحبَها عام 1746م...
هكذا كان "دكان الحرمين الشريفين" الذي لم يعد يسمع به أحد تقريبا، باستثناء قلة من الباحثين، وهكذا كانت الجزائر "المحروسة بالله"...ويشهد عليها الأرشيف...ولو أننا نسيْنا وضاعتْ الحقائق وسط صَخب الأكاذيب الاستعمارية...وأصدائها...
ملاحظة:
- البونباجي: من البُونْبَة (La bombe) أي القنبلة. والبونباجي هو العسكري المكلف بالقنابل. أما الباش بونباجي فهو رئيس البونباجية.
-البلكباشي: أصلها بالعثمانية "بُولُوكْ بَاشِي" ولا علاقة لها بالكباش مثلما يجري الاعتقاد لدى البعض... وهي رتبة عسكرية في القوات البرية الجزائرية/العثمانية المعروفة بالجيش الإنكشاري أو الإنجشاري. وهي تعادل تقريبا رتبة النقيب حاليا، حسب مصادر، ورتبة العقيد حسب أخرى...
الخزنجي: كان بمثابة رئيس الوزراء، وهو الرجل الثاني في البلاد بعد الحاكم أو الدَّاي، وبعبارة أخرى الباشا.
الشّكارة: معناها كَيْس.
الترسانة: هي دار صناعة السفن والمعدات العسكرية الملحقة بها وإصلاحها.
لو كنتَ تعيش في مدينة الجزائر "المحروسة بالله" خلال العهد العثماني ولديك مال أو كنز أو وثائق وأغراض شخصية ثمينة في بيتك أو في محلِّك تخشى عليهم من السرقة أو الضياع، ولو كنتَ مسافرا لأغراض تجارية أو اجتماعية في رحلة لطلب العِلم أو للحج إلى البقاع المقدسة أو كنتَ في مهمة جهادية على متن سفن الأسطول الجزائري برفقة رجال البحر والرِّيَّاس وتسعى لتأمين هذه الأموال والأغراض ريثما تعود، إن كُتِبتْ لك العودة،...ما العمل؟ وكيف السبيل إلى الاطمئنان عليها اطمئنانا تامًّا مَهْمَا كَان...؟
في حوْمة سيدي عبد الرحمن الثعالبي...ابن ساحة الشهداء...
الحَلُّ كان بَسيطًا، ذكيًا ومُتَاحًا للجميع، مهما تباينتْ المراتبُ الاجتماعية، في المكان الذي نَعْرِفُ اليوم باسم "ساحة الشهداء"، وتحديدا في البقعة التي تتوسط الجامع الجديد وشارع أول نوفمبر ومدخل شارع البحرية المؤدي إلى الجامع الكبير و"قهوة التلمساني" فالمرسى القديم الذي وَضَعَ لَبِنَاتِه سيِّد البحار الجزائري/العثماني خير الدين بن يعقوب الشهير بـ: بربروس... ولو كنا نعيش في تلك الحقبة، لَقُلْنَا إنه، وفقًا لنسيجها العمراني آنذاك، كان يَقَعُ قُبَالةَ "قصر الجُنَيْنَة"/"دار الإمارة"/"دار السلطان"، وكذلك جامع السيدة الحنفي المحاذي له و"القهوة الكبيرة" وحَوْمَة المثقفين والطلبة والعلماء المعروفة بـ: "القيسارية"، دون أن ننسى أن هذه البقعة كانت أيضا في نهاية القرن 15م، قبل دخول العثمانيين، حَوْمَة سيدي عبد الرحمن الثعالبي (1384م – 1471م) والجامِع الذي كان يحمل اسمه ويكوِّن فيه الأجيال: جامع سيدي عبد الرحمن...وهو غير الضريح والجامع والزاوية الحاليِّين...
كانت هذه البقعة، منذ بداية انضواء الجزائر تحت لواء الدولة العثمانية إلى غاية الأشهر الأولى للاحتلال الفرنسي للجزائر، تتضمن ساحة فاقتْ شُهرتُها في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية نظيرتَها في الجزائر، لأنها وإن كانت قبل كل شيء سوقا لمختلف البضائع والصنائع بالنسبة للجزائريين، إلا أنها في نظر خصومهم الأوروبيين والأمريكيين، بعد تأسيس الدولة الأمريكية في نهاية القرن 18م، المكانُ الذي كان يُباع فيه الأسرى النصارى ضحايا الحرب الجيوسياسية الشرسة بين "الغرب" المسيحي و"الشرق" الإسلامي على مدى أكثر من 3 قرون، ريثما تأتيهم الفدية من بلدانهم أو الاندماج والاستقرار في المجتمع الجزائري نهائيا... وما زالت مؤلفات الرحالة الأوروبيون ومذكِّرات أسْراهم تنقل للأجيال صدى أجواء هذا المكان الحيوي وصخب باعته ودَلّالِيه وحِرفيِّيه والأصوات المختلطة بهدير أمواج البحر لآلات الصُّناع والمهندسين الجزائريين والأعاجم العاملين في مشاريع بناء السفن في التَّرْسَانَة القريبة عند أقدام سور المدينة وباب الديوانة وجامع الحُوَّاتِين...
هذا السوق، الذي كان ذِكْرُه يؤرق مضاجع الصليبيين، هو سوق "البادِسْتَانْ"، وليس "بَابْسْتَانْ" مثلما اعتَقَدَ البعضُ آنذاك، بمن فيهم الأوروبيون، ويُعتقَد حاليا، إلى حد وصفه بالباب السادس لـ: "بهجة" سيدي عبد الرحمن إلى جانب الأبواب الخمسة المعروفة وهي: باب الجزيرة (شعبيا "باب دْزِيرَة"، أو أيضا باب الجهاد)، وباب البحر (أو باب الديوانة وباب الترسانة وباب السردين)، وباب عزون، وباب الوادي، والباب الجديد.
في داخل البَادِسْتَانْ المُطِلّ على "قاع السُّور"، أيْ أسْفل الجدار الدفاعي المحيط بالمدينة، وعلى شاطئ البحر حيث كانت الأمواج تُداعب مراكب الصيد وتلامس الصخور الحاملة لثقل أُسًسِ الجامع الجديد والجامع الكبير، وُجدَ دُكَّانٌ لا يُشْبِهُ بقية الدَّكاكين من حيث الأهمية، ولا يَقِلُّ "قداسةً" عن بيوتِ العبادة، وإن لم يبقى له أَثَرٌ اليوم في ذاكرة الجزائريين كالكثير من أشيائنا الجميلة وتراثنا الثري، أحياناً لأننا لم نعد نحسن رؤية إلا ما هو قبيح...
هذا الدُّكَّان هو "دُكَّان الحرمين الشريفيْن"، كما كان يُسمى طيلة الحقبة العثمانية من التاريخ الجزائري، الذي كان مؤسسة حافظة للأمانات التي تُتْرك به بين أيدي مسؤوليه بعد توثيقها بدقة ووضعها في صناديق صغيرة كانت تُعرَف بـ:"الفْنِيقْ" شعبيًا ورسميًا مثلما يظهر في وثائق الأرشيف الجزائري/العثماني المحفوظة في المركز الوطني للأرشيف بضاحية بئر الخادم بالعاصمة الجزائرية...وقد تَحَدَّثَ عنه بإعجاب وفضول القنصل الفرنسي بمدينة الجزائر بين سنتي 1788م و1790م فونتور دو بارادي (Venture de Paradis) والذي أوضح أن هذه المؤسسة كانت تفتح أبوابها لخدمة الناس مرتيْن أسبوعيًا.
لكن، لماذا يقترن اسم هذه المؤسسة/الدُّكَّان بالحرميْن الشريفيْن...؟ لأنها كانت تُدار من طرف مؤسسة الأوقاف التي تحمل الاسم ذاته والخاصة بجمع التبرعات والهبات لفقراء الحرمين الشريفين لِتُرسَل كلَّ عام مع رَكْبِ الحَجِّ إلى المحتاجين في مَكَّة المكرَّمة والمدينة المنوَرَّة.
آنذاك، كان يُحتفظ بالوديعة بعد تدوين المعلومات الشخصية لصاحبها وتسجيل محتوياتها وتاريخ عودته لاسترجاعها أو وصاياه في حال توفي أو لم يرجع من رحلته الدينية أو العلمية أو العسكرية/الجهادية لِتحديد هوية مَن يحق له استلامها بَعْدَهُ من الدُّكَّان، مثلما قد تتضمن الوصية كلمة سرّ أو وثيقة أو شيئا معَيَّنًا مُسبَقًا من صاحب الوديعة للتأكد من الهوية في وقتٍ لم تكن تُصدِر فيه الدولة الجزائرية وثائق هوية بشكل شامل وتلقائي كما يحدث اليوم...
"دكَّان الحرميْن الشريفيْن"...حافظ أمانات اليتامى "محمد الصّغير" و"خَليل ين الحاج عُثمان البُونْبَاجِي" و "الزَّهْرَة بنت الصَّادق ابن العَربي" و"أحمد بن علي البُلُكْبَاشِي"...
وهكذا، بفضل هذه المؤسسة، تَمَكَّنَ "محمد بن الحراز"، يقول الباحث الجزائري خليفة حَمَّاشْ في "الأسرة في مدينة الجزائر في العهد العثماني"، مِن تأمين وحفظ نصيب اليتيم الذي كان تحت كفالته "محمد الصغير"، نجل ابن عمه "الحاج أحمد بُوقَرْمُودَة"، من تَرِكَةِ والِده المتوفي بوضعها سنة 1770م، في عهد الداي محمد بن عثمان باشا، في "دكان الحرمين الشريفين". وذلك، من أجل أن "تجري في ذلك نفقته وكَسْوته إلى أن يبلغ مَبْلَغَ القبْض لنفسه أو تظهر عاقبة أمره"، على حد تعبير وثيقة هذه الوديعة الموجودة في أرشيف بئر الخادم بالجزائر العاصمة...
ومِثْله فَعَلَ "عمر الإنْجِشَارِي البُونْبَاجِي" كفيل اليتيم "خليل بن الحاج عثمان البُونْبَاجِي" بإيداع نصيبه من تركة والده المتوفي، وعَمَلاً بوصيته قبل وفاته، في "دُكّان الحرمين الشريفين على يد السيّد القاضي"، وفقًا لوثيقة هذا الإيداع المحفوظة في الأرشيف، ولو أن الطفل خليل توفي بعد 4 سنوات لِيَرِثَهُ، شرعًا، خالُه الشاب "سليمان الإنجشاري البُونْبَاجِي بن حسن بَاشْ بُونْبَاجِي". وهكذا، توضح الوثيقة، "...أوتِيَ بِفنِيق الابن خليل (...) الموضوع بدكان الحرمين الشريفين فوجد بداخله ما قدره ألف دينار مع دينار واحد ونصف الدينار مْحَابِيب (مفرده "محبوب" وهي عملة من العملات المتداولة في الجزائر آنذاك Ndlr)، مع مائتا دينار وخمسة وثلاثين دينارا ذهبًا سُلطانية، مع ثلاثمائة ريال وتسعون ريالا وسبعة أثمان الريال بأعيانها صحاحًا ضَرْب الكَفرة (أيْ عُملة بلاد الكُفار Ndlr)، مع تسعة وعشرين ريالا بأعيانها دُورُو، مع صِوار (أي سِوار Ndlr) ذهب، مع شاشية طَاسَة منه، مع دُورُو خامسة...". وإذا قُدِّرت قيمة هذا المال، دون الذهب، بعملتنا الجزائرية اليوم، يوضِّح خليفة حماش، فإنه يعادل "نحو 310 مليون سنتيم"...
كذلك، "...جيء بأمانة اليتيمية الزهرة بنت الصادق ابن العربي"، حسب وثيقة أخرى وثَّقتْ تَسَلُّمَ الوديعة من طرف "دكان الحرمين الشريفين"، وهي عِبارة عن "...فنيق صَغير أسْوَد عمل داخل فنيق الأمانات" مِن "يد السيد مصطفى المسيسي، والناظر (أي الوَصيّ Ndlr) عليها إبراهيم بن العربي أوائل جمادى الثانية 1160" هجرية الموافق لعام 1748م... وذلك، في انتظار سحب الوديعة من طرف صاحِبتها أو مَن يمثلها مستقبلاً.
وهكذا فَعَلَ لاحِقًا "السيد الطاهر" مع اليتيم "أحمد بن علي بُولُكْبَاشِي"، الذي تَصِفُ وثيقةُ "الدكان" والدَه المرحوم بـ: "صاحب دار قاضي مايُورْقَة" (أيْ جزيرة مايورقة الأندلسية/الإسبانية)، بإيداعها في هذه المؤسسة قبل أن يَتِمَّ سحبُها في سنة 1759م، وهي "39 دينارا ونصف الدينار، داخل كاغد أبيض...". وقد قبضَها بعد 6 سنوات "...صاحبها وعون القاضي أوائل حجة 1178..." هجرية، أيْ في 1765م.
أمانات "أولاد الخَزْنَجِي علِي" و"حمزة بن اللَّمداني" و"مَرْيَم بنت الحاج حسين ابن زرْناجي"
وهذا ما وقع أيضا مع الأيتام "أولاد الخزنجي علي" الذين تَسَلَّمَ "دكان الحرمين الشريفين" "الأمانات" الخاصة بهم داخل "...صندوق صغير أحمر عَمَل بَرّ التُّرْك، على يد البُونَاطِيرُو باش شاوَش، أوائل شوال 1172" هجرية الموافق لسنة 1759م، قبل أن يأتيَ لِسَحبِها بعد 4 أعوام "محمد المقفولجي شاوش المحَلّ بأمرِ مصطفى الصَّايْجِي (أيْ المُحَاسِب الرسمي للدولة في "دار السلطان" لدى الدايْ Ndlr) في أواخر محرم 1177" هجرية، أيْ في عام 1763م...
إيداع الأمانات في دكان الحرمين الشريفين" لم يقتصر على أموال اليتامى، مثلما سبق إيضاحُه، بل اشتمل على مختلف أنواع الودائع مثلما هو شأن وديعة "حمزة بن اللّمْدَانِي" (نِسْبَةً إلى مدينة المْدِيَّة بجنوب العاصمة الجزائرية) في سنة 1743م. يقول الأرشيف لقد "جيء بأمانة" هذا الرجل "وهي فنيق وضعها سي علي بن رمضان القسمْطِيني (نِسبةً إلى مدينة قسنطينة في شمال شرق الجزائر Ndlr) إلى أن يرفعها صاحبها وهو حمزة المذكور بمحضر محمد بوعمامة، ومفتاح الفنيق في يده...". وقد "رُفِعتْ تلك الأمانة بعد تسع سنوات"، يوضح الباحث خليفة حمَّاش، بتاريخ 1752م.
أما "علي خوجة رواني" الذي وضع لدى دكان الحرمين الشريفين مبلغًا قدره 112 دينارا سنة 1744م "بِشْكَارَة صغيرة بيضاء"، حسب نص الوثيقة الشاهدة على العملية، كـ: "أمانة (زوجته Ndlr) مَرْيَم بنت الحاج حسين ابن زرْناجي" إلى غاية أن يسحبها "الزوج المذكور وإن مات ترفعها الزوجة صاحبتها"، حسب الوثيقة، فإنه هو ذاته، في نهاية المطاف، مَن سَحبَها عام 1746م...
هكذا كان "دكان الحرمين الشريفين" الذي لم يعد يسمع به أحد تقريبا، باستثناء قلة من الباحثين، وهكذا كانت الجزائر "المحروسة بالله"...ويشهد عليها الأرشيف...ولو أننا نسيْنا وضاعتْ الحقائق وسط صَخب الأكاذيب الاستعمارية...وأصدائها...
ملاحظة:
- البونباجي: من البُونْبَة (La bombe) أي القنبلة. والبونباجي هو العسكري المكلف بالقنابل. أما الباش بونباجي فهو رئيس البونباجية.
-البلكباشي: أصلها بالعثمانية "بُولُوكْ بَاشِي" ولا علاقة لها بالكباش مثلما يجري الاعتقاد لدى البعض... وهي رتبة عسكرية في القوات البرية الجزائرية/العثمانية المعروفة بالجيش الإنكشاري أو الإنجشاري. وهي تعادل تقريبا رتبة النقيب حاليا، حسب مصادر، ورتبة العقيد حسب أخرى...
الخزنجي: كان بمثابة رئيس الوزراء، وهو الرجل الثاني في البلاد بعد الحاكم أو الدَّاي، وبعبارة أخرى الباشا.
الشّكارة: معناها كَيْس.
الترسانة: هي دار صناعة السفن والمعدات العسكرية الملحقة بها وإصلاحها.