هل للجن رسُل منهم ؟
الدكتور عثمان قدري مكانسي
قال تعالى في الآية 130 من سورة الأنعام
" يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنْفُسِنَا ۖ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ "
استوقفتني كلمة " منكم " وساءلت نفسي : هل من الجن رسل ؟ وما أسماؤهم ؟ ولو لم يكن منهم رسل ما أقروا بذلك ولم يشهدوا على أنفسهم حين قالوا " شهدنا على أنفسنا" .
اطلعت على عدد من كتب التفسير ، فوجدت ابن كثير رحمه الله تعالى يستفيض في كتابه المشهور ( تفسير القرآن العظيم ) في توضيح هذه الآية بما يشبع نهم السائل ، ويروي ظمأه في بسط هذه المسألة .
وأنقل عن ابن كثير بعض ما أورد مع التعليق والاستنتاج الذين بدوَا لي يوضحان الفكرة ويجليانها :
وَهَذَا مِمَّا يَقرّع اللَّه بِهِ كَافِرِي الْجِنّ وَالإنس يَوْم الْقِيَامَة حَيْثُ يَسْأَلهُمْ وَهُوَ أَعْلَم : هَلْ بَلَّغَتهُم الرُّسُل رسالاته ؟ وَهَذَا اسْتِفْهَام تَقرِير " يَا مَعْشَر الجِنّ والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُل مِنْكُمْ " أَي مِن جملتكم ،وَالرُّسُل مِن الإنس فَقَطْ ، وَلَيْسَ مِنْ الْجِنّ رُسُل كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِد وَابْن جُرَيْج وَغَيْر وَاحِد مِنْ الأئمّة مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف ،
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : (الرُّسُلُ مِنْ بَنِي آدَم ، وَمِن الجِنّ نُذُر) .
وَحَكَى اِبْن جَرِير عَنْ الضَّحَّاك بْن مُزَاحِم أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ فِي الْجِنّ رسلاً ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الآية الْكَرِيمَة ، وَفِيهِ نَظَرلأنها مُحْتَمَلَة وَلَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ وَهِيَ - وَاَللَّه أَعْلَم - كقوله " مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلتَقِيَانِ ، بَيْنهمَا بَرْزَخ لا يَبْغِيَانِ فبأيّ آلاء رَبّكُمَا تُكَذِّبَانِ " إِلَى أَنْ قَالَ " يَخْرُج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ وَالْمَرْجَان" والمقصود بالبحرين ماء الأنهار والبحيرات العذبة وماء البحار والمحيطات المالحة . وَمَعْلُوم أَنَّ اللُّؤلُؤ وَالْمَرْجَان إِنَّمَا يُسْتَخْرَجَانِ من الماء المالح لا مِنْ الْحُلْو ، فغلّب الماء المالح على الماء العذب ، كما تُغلّب الذكران على الإناث ، فتقول مخبراً عنهم جميعاً بصيغة المذكر : " الرجال والنساء قادمون " وَهَذَا وَاضِح تمام الوضوح - وَلِلَّهِ الْحَمْد - . وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْجَوَاب بِعَينِهِ اِبْن جَرِير .
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ الرُّسُل إِنَّمَا هُمْ مِن الإنس قَوله تَعَالَى " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك كَمَا أَوْحَينَا إِلَى نُوح وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْده - إِلَى قَوْله – رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذَرِينَ لئلاّ يَكُون لِلنَّاسِ عَلَى اللَّه حُجَّة بَعْد الرُّسُل " وَقال تعالى عَن إِبرَاهِيم " وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّته النُّبُوَّة وَالْكِتَاب" فَحَصَرَ النُّبُوَّة وَالْكِتَاب بَعد إِبرَاهِيم فِي ذرّيّته ، سيّما أن الخطاب كان للناس " لئلا يكون للناس .." فكان الرسل منهم .
وَلَمْ يَقل أَحَد مِن النَّاس إِنَّ النُّبُوَّة كَانَت فِي الجنّ قَبل إِبرَاهِيم عليه السلام ، ثُمَّ اِنقطَعَتْ عَنهُم ببعثته . وَقَالَ تَعَالَى " وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلك مِنْ الْمُرْسَلِينَ إلاّ أَنَّهُمْ ليأكلون الطَّعَام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق " . ومن الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق غير البشر
وقال مخاطباً نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك إلا رجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْل الْقُرَى " وَمَعْلُوم أَنَّ الجِنّ تبَعٌ للإنس فِي هَذَا الْبَاب ، وصحيح أن كلمة رجال تُطلق على الذكران من الإنس والجن بدليل قوله تعالى في سورة الجن " وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ، فزادوهم رَهَقاً " إلا أن كلمة " أهل القرى " تخص الإنس ليس غير. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى إِخبَارًا عَنهُم :
" وَإِذ صَرَفنَا إِلَيْك نَفرًا مِن الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرآن ،فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتوا ، فلَمَّا قُضِيَ وَلَّوا إِلَى قَومهم مُنذِرِينَ ،قَالُوا : يَا قَومنَا إِنَّا سَمِعنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِنْ بَعد مُوسَى مصدّقاً لِمَا بَيْن يَدَيهِ ، يَهدِي إِلَى الْحَقّ وَإِلَى طَرِيق مُسْتَقِيم ، يَا قَوْمنَا أَجِيبوا دَاعِيَ اللَّه ، وَآمِنُوا بِهِ يَغفِر لَكم مِنْ ذُنُوبكُم ، وَيُجِرْكُم مِنْ عَذَاب أَلِيمٍ ، وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّه فليس بِمُعْجِزٍ فِي الأرض ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونه أَوْلِيَاء ، أُولَئِكَ فِي ضلال مُبِين " وهنا لا بد أن نقول :
- صرف الله تعالى الجن إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أرسل إليهم كما أُرسل للبشر . ولو كان لكل جنس رسول لما صرفهم إليه .
- وأنهم لما سمعوا منه صلى الله عليه وسلم القرآن كانوا واسطة الدعوة إلى بني جنسهم ، ( منذرين ) .
- وأن الجن اعتادوا ذلك حين ذكروا أنهم سمعوا كتاباً أنزل من بعد موسى عليه السلام ، وعلى هذا فقد سمعوا من موسى ، ولو كان لهم أنبياء منهم لما سمعوا من موسى وآمنوا به.
- وقول الجن الذين سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به .." أن هذه الطريقة هي التي تتكرر في إنذار الجن ، وأنهم يُصرفون إلى الأنبياء فيسمعون منهم ويؤمنون بهم ، وينطلقون منذرين .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا عَلَيْهِم سُورَة الرَّحمَن ، وَفِيهَا قَوْله تَعَالَى " سَنَفرُغُ لَكُمْ أَيّهَا الثقَلان ، فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذِّبَانِ " . فكان تكليفهم من قبل رسل البشر دليل على أنه لا أنبياء من الجن بل هم من البشر حصراً والله أعلم .
الدكتور عثمان قدري مكانسي
قال تعالى في الآية 130 من سورة الأنعام
" يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنْفُسِنَا ۖ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ "
استوقفتني كلمة " منكم " وساءلت نفسي : هل من الجن رسل ؟ وما أسماؤهم ؟ ولو لم يكن منهم رسل ما أقروا بذلك ولم يشهدوا على أنفسهم حين قالوا " شهدنا على أنفسنا" .
اطلعت على عدد من كتب التفسير ، فوجدت ابن كثير رحمه الله تعالى يستفيض في كتابه المشهور ( تفسير القرآن العظيم ) في توضيح هذه الآية بما يشبع نهم السائل ، ويروي ظمأه في بسط هذه المسألة .
وأنقل عن ابن كثير بعض ما أورد مع التعليق والاستنتاج الذين بدوَا لي يوضحان الفكرة ويجليانها :
وَهَذَا مِمَّا يَقرّع اللَّه بِهِ كَافِرِي الْجِنّ وَالإنس يَوْم الْقِيَامَة حَيْثُ يَسْأَلهُمْ وَهُوَ أَعْلَم : هَلْ بَلَّغَتهُم الرُّسُل رسالاته ؟ وَهَذَا اسْتِفْهَام تَقرِير " يَا مَعْشَر الجِنّ والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُل مِنْكُمْ " أَي مِن جملتكم ،وَالرُّسُل مِن الإنس فَقَطْ ، وَلَيْسَ مِنْ الْجِنّ رُسُل كَمَا قَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ مُجَاهِد وَابْن جُرَيْج وَغَيْر وَاحِد مِنْ الأئمّة مِنْ السَّلَف وَالْخَلَف ،
وَقَالَ اِبْن عَبَّاس : (الرُّسُلُ مِنْ بَنِي آدَم ، وَمِن الجِنّ نُذُر) .
وَحَكَى اِبْن جَرِير عَنْ الضَّحَّاك بْن مُزَاحِم أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّ فِي الْجِنّ رسلاً ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الآية الْكَرِيمَة ، وَفِيهِ نَظَرلأنها مُحْتَمَلَة وَلَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ وَهِيَ - وَاَللَّه أَعْلَم - كقوله " مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلتَقِيَانِ ، بَيْنهمَا بَرْزَخ لا يَبْغِيَانِ فبأيّ آلاء رَبّكُمَا تُكَذِّبَانِ " إِلَى أَنْ قَالَ " يَخْرُج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ وَالْمَرْجَان" والمقصود بالبحرين ماء الأنهار والبحيرات العذبة وماء البحار والمحيطات المالحة . وَمَعْلُوم أَنَّ اللُّؤلُؤ وَالْمَرْجَان إِنَّمَا يُسْتَخْرَجَانِ من الماء المالح لا مِنْ الْحُلْو ، فغلّب الماء المالح على الماء العذب ، كما تُغلّب الذكران على الإناث ، فتقول مخبراً عنهم جميعاً بصيغة المذكر : " الرجال والنساء قادمون " وَهَذَا وَاضِح تمام الوضوح - وَلِلَّهِ الْحَمْد - . وَقَدْ ذَكَرَ هَذَا الْجَوَاب بِعَينِهِ اِبْن جَرِير .
وَالدَّلِيل عَلَى أَنَّ الرُّسُل إِنَّمَا هُمْ مِن الإنس قَوله تَعَالَى " إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْك كَمَا أَوْحَينَا إِلَى نُوح وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْده - إِلَى قَوْله – رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذَرِينَ لئلاّ يَكُون لِلنَّاسِ عَلَى اللَّه حُجَّة بَعْد الرُّسُل " وَقال تعالى عَن إِبرَاهِيم " وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّته النُّبُوَّة وَالْكِتَاب" فَحَصَرَ النُّبُوَّة وَالْكِتَاب بَعد إِبرَاهِيم فِي ذرّيّته ، سيّما أن الخطاب كان للناس " لئلا يكون للناس .." فكان الرسل منهم .
وَلَمْ يَقل أَحَد مِن النَّاس إِنَّ النُّبُوَّة كَانَت فِي الجنّ قَبل إِبرَاهِيم عليه السلام ، ثُمَّ اِنقطَعَتْ عَنهُم ببعثته . وَقَالَ تَعَالَى " وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلك مِنْ الْمُرْسَلِينَ إلاّ أَنَّهُمْ ليأكلون الطَّعَام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق " . ومن الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق غير البشر
وقال مخاطباً نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم " وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلك إلا رجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْل الْقُرَى " وَمَعْلُوم أَنَّ الجِنّ تبَعٌ للإنس فِي هَذَا الْبَاب ، وصحيح أن كلمة رجال تُطلق على الذكران من الإنس والجن بدليل قوله تعالى في سورة الجن " وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن ، فزادوهم رَهَقاً " إلا أن كلمة " أهل القرى " تخص الإنس ليس غير. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى إِخبَارًا عَنهُم :
" وَإِذ صَرَفنَا إِلَيْك نَفرًا مِن الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرآن ،فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتوا ، فلَمَّا قُضِيَ وَلَّوا إِلَى قَومهم مُنذِرِينَ ،قَالُوا : يَا قَومنَا إِنَّا سَمِعنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِنْ بَعد مُوسَى مصدّقاً لِمَا بَيْن يَدَيهِ ، يَهدِي إِلَى الْحَقّ وَإِلَى طَرِيق مُسْتَقِيم ، يَا قَوْمنَا أَجِيبوا دَاعِيَ اللَّه ، وَآمِنُوا بِهِ يَغفِر لَكم مِنْ ذُنُوبكُم ، وَيُجِرْكُم مِنْ عَذَاب أَلِيمٍ ، وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّه فليس بِمُعْجِزٍ فِي الأرض ، وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونه أَوْلِيَاء ، أُولَئِكَ فِي ضلال مُبِين " وهنا لا بد أن نقول :
- صرف الله تعالى الجن إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أرسل إليهم كما أُرسل للبشر . ولو كان لكل جنس رسول لما صرفهم إليه .
- وأنهم لما سمعوا منه صلى الله عليه وسلم القرآن كانوا واسطة الدعوة إلى بني جنسهم ، ( منذرين ) .
- وأن الجن اعتادوا ذلك حين ذكروا أنهم سمعوا كتاباً أنزل من بعد موسى عليه السلام ، وعلى هذا فقد سمعوا من موسى ، ولو كان لهم أنبياء منهم لما سمعوا من موسى وآمنوا به.
- وقول الجن الذين سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به .." أن هذه الطريقة هي التي تتكرر في إنذار الجن ، وأنهم يُصرفون إلى الأنبياء فيسمعون منهم ويؤمنون بهم ، وينطلقون منذرين .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره أَنَّ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا عَلَيْهِم سُورَة الرَّحمَن ، وَفِيهَا قَوْله تَعَالَى " سَنَفرُغُ لَكُمْ أَيّهَا الثقَلان ، فبأي آلاء رَبّكُمَا تُكَذِّبَانِ " . فكان تكليفهم من قبل رسل البشر دليل على أنه لا أنبياء من الجن بل هم من البشر حصراً والله أعلم .