المرتزقة ... جيوش الظل

معمر القذافى

عضو مميز
إنضم
8 أكتوبر 2008
المشاركات
2,471
التفاعل
81 0 0
بالتزامن مع افتتاح معرض الكتاب، دشّنت مكتبة العبيكان الكتاب الثالث للإعلامي (باسل يوسف النيرب) الذي حمل عنوان: (المرتزقة جيوش الظل)، حيث يستعرض المؤلف عبر فصول الكتاب آلية عمل شركات الارتزاق، مؤكداً في بداية الكتاب وتحت عنوان (الاستهلال) أنه: "عندما تفشل الحكومات، وتسود الفوضى، ويعم غياب القانون، يطفو على السطح قطاع جديد يأخذ في الازدهار، هو قطاع شركات توريد الأسلحة وعناصر المرتزقة، وهي الشركات التي ذاع صيتها، وتوسّعت بشكل رهيب، منذ التسعينيات من القرن الماضي. ويشير مصطلح الارتزاق الاستثماري إلى التعبير عن ظهور حروب من نوع جديد أدت إلى إضعاف دور الدول الكبرى على الساحة الدولية بسبب خصخصة العنف، وهذا الفعل أدى إلى ظهور الشركات الخاصة التي توفّر مادة الحروب المتواصلة، وكذلك ظهور شركات توريد الأسلحة".

ويؤكد المؤلف أن حرب العراق غيّرت كل شيء، وأصبح الجنود المحترفون سلعة مطلوبة تُدفع لهم الأموال الطائلة لقاء بعض الخدمات التي لا ترغب الدول الكبرى أن تنجزها بنفسها، إما خوفاً على حياة جنودها أو حتى يستفيد القائمون على توريد السلاح من تلك الشركات.
ويستعرض المؤلف في (تعريف الارتزاق) كيف أن تجنيد الأجانب لخوض الحروب يُشكّل سياسة قديمة عند الدول والأشخاص المستفيدين منها، فكل الامبراطوريات ابتداءً (من مصر الفرعونية القديمة، ومروراً بالامبراطورية البريطانية، وحتى الأمريكية اليوم) استخدمت القوات الأجنبية بشكل أو بآخر في الحروب، وأُطلق عليهم اسم (المرتزقة) Mercenaries، وكان هاجسهم الأول والأخير كسب المال فقط، وقد ظهر هذا النوع من الخدمة بعد التحولات التي أصابت الأنظمة الحاكمة؛ فحين تظهر الحكومات بمظهر الضعف تواجه انقلابات ومؤامرات، عندها قد يلجأ الحاكم إلى الاستعانة بقوة أكبر وأكثر تنظيماً، وقدرة في الوقت ذاته على تحقيق الأهداف المنشودة، وفي الغالب تعتبر الشركات العاملة عبر الدول هي التي توظّف وتؤجّر المرتزقة، وهي في الوقت ذاته أكثر فاعلية في الوصول إلى الأهداف المراد تحقيقها لاعتبارات من أهمها سهولة حركتها وتسللها عبر الدول.
وتناول المؤلف في موضوع (رؤية تاريخية للمفهوم) أن هذه الحالات، ويقصد بها تجنيد المرتزقة، كانت تحدث لدى أتباع القادة الذين يسمحون لهم بتنفيذ الأعمال العدائية، بدءاً بالمرتزقة، فالرجال الذين يجندون على هذا النحو كانوا ينتمون عموماً إلى مجتمع مهمّش، وسواء أكانوا أبناء عائلات معدمة، أو انتهازيين، أو بؤساء بسطاء، فإنه كان من السهل أن يتحولوا إلى متمردين لا يُتوقع ما يمكن أن يفعلوه، ولأنهم يتقاضون أجراً ليقاتلوا، فإن هؤلاء الجنود لا يكونون متحمسين لعمل ذلك كثيرًا، ولاسيما إذا تأخرت أنصبتهم، ولذلك لم يكن من المستغرب أن تكون هذه الجيوش المركّبة من عناصر مختلة غير مستقرة ومتقلبة، وعلى استعداد لبيع نفسها لمن يدفع ثمناً أكبر، أو للهروب لدى تعرّضها لأقل هجوم. وفوق كل ذلك، فإن جنود هذه الجيوش لم يكن لديهم الاهتمام ذاته أو الهمّ الذي يوجه سادتهم الذين يجندونهم، وكان بإمكانهم في حالة عدم فرارهم أن يكشفوا عن شراسة ليست لها حدود. وقد كان المرتزقة الذين ينتسبون إلى سويسرا الحالية، والذين كانوا يمثلون الجندية المأجورة لزمن طويل معروفين بوحشيتهم وعدم مبالاتهم الكاملة بمدونة الشرف المعمول بها في الفروسية قديماً.
ويوضح المؤلف في كتابه كيف أن تاريخ المرتزقة يمتد إلى الأعماق الموغلة في التاريخ الإنساني، فهم محاربون بالأمر، انتهازيون على أعلى مستوى، ولاؤهم الوحيد لأنفسهم ثم للشخص الذي يدفع لهم، أما الوطنية، أو الشرف، أو حتى معاني الديمقراطية .. وغيرها من المسميات، فإنها اعتبارات ومفاهيم لا تدخل في إطار ما يعقدونه من صفقات، لأن همهم الرئيس هو أن ينفِّذوا ما تعاقدوا عليه من عمل وبأي وسيلة، ثم يحصلوا على عائد مالي مقابل ما يفعلون، وغالبية هؤلاء المرتزقة من سقط المتاع الفاشلين في حياتهم، ومنهم من خدم ذات يوم في سلك الجيش، وراق له طعم القتل والدم، فاستساغه.
وينقل لنا المؤلف في كتابه مقولة ل (وليم أولتمان) تصف عمل المرتزقة، فهم: "يمارسون أعمالاً لا تخطر على بال، وأخطر بكثير مما يفعله الجنود النظاميون، ولا ينطبق عليهم ما ينطبق على البشر، لأنهم بلا مشاعر أو ضمائر، ومن أين تأتي الضمائر لبشر مهنتهم القتل مقابل المال".
ويرصد المؤلف تنامي استخدام المرتزقة في مناطق الصراع، إما حفاظاً على حياة الجنود النظاميين، أو لأن الجنود النظاميين غير قادرين على الإمساك بزمام الأمور والسيطرة على المناطق الملتهبة، وحتى عندما يُقتل (المرتزق) أو يُسحل في الشوارع ويحرق، أو حتى يقع في الأسر، فلا أحد ينعاه، أو يجمع رفاته، أو حتى يفاوض من أجل إطلاق سراحه، وهذا ما نجده واضحاً عندما تعرّض المتعهدون الخاضعون للإدارة الأمريكية للقتل على أيدي عصابات المخدرات في كولومبيا، فنادراً ما كانت هذه الحوادث تجد التغطية في الصحافة الأمريكية، وعند قتل المتعهدين الأربعة في الفلوجة وتعليقهم فوق جسر على نهر الفرات، فقد تركت هذه العملية أصداء عند العاملين العسكريين في العراق، سواء بين المرتزقة، أو حتى بين الجنود النظاميين، ولكن هذا الأمر لم يكن كافياً حتى تنسحب تلك الشركات من السوق العراقي.
ويتطرق الكتاب إلى القوانين الدولية الخاصة بوضع المرتزقة واستخدامهم من قِبل الأطراف المتحاربة، فهي في كل الأحوال ضبابية بسبب المناخ السياسي المتغير الذي جُنّدوا فيه، فميثاق (جنيف) يعرّف المرتزقة بأنهم أشخاص جندوا في نزاع مسلح في دولة غير موطنهم الأصلي ودافعهم هو الربح المادي المحض، وعملهم محرّم تبعاً لذلك.
وربما كانت الارتزاقية ثاني أقدم مهنة في التاريخ، حيث اكتسب المرتزقة شهرتهم كونهم آلة حرب وقتل متعطشة للدماء؛ فقد أوقعوا خراباً في الدول الأفريقية، ومارسوا دورهم في أمريكا الجنوبية، واليوم يقومون بدورهم في: العراق، وأفغانستان، ومن قبل في فلسطين، وهم يمثلون بنادق جاهزة للإيجار، وليست هناك مسؤولية أمام أية دولة أو أية قوانين دولية، فهم جاهزون للعمل لحساب من يدفع أكثر، بصرف النظر عن القضية التي يقاتلون في سبيلها، وبالمجمل، لا يهمهم مستقبل البلد الذي استأجرهم، فطالما استمرت الحرب، استمرت رواتبهم ومخصصاتهم.
وينقل لنا المؤلف في فصل: (التحالف العسكري الصناعي) دور الشركات الكبرى في التحالفات التي تقودها للعمل في شركات توريد الأسلحة، وما سجّله الصحفي الأمريكي (جوناه غولدبيرغ) في (الناشيونال ريفيو): "إن الولايات المتحدة كل عشر سنوات أو نحوها تحتاج إلى الإمساك ببلد صغير ومتداعٍ وتقذفه إزاء الحائط، فقط لكي تظهر للعالم أنها تعي وتفعل ما تقول، ومن هنا فقد حاربت الولايات المتحدة العراق، لأنها بحاجة لجهة ما تحاربها في المنطقة، والعراق كان هو الخيار الأمثل".
ويرتبط هذا التحالف وبشكل وثيق بالاقتصاد وبالحاجة إلى الحرب؛ حيث لعب الاقتصاد دوراً واضحاً في التأثير على مجمل عمل الإدارة الأمريكية، وهذا يبدو واضحاً للغاية؛ فالولايات المتحدة كانت دائماً لديها مشكلة اقتصادية كبرى هي وفرة الإنتاج الهائلة التي تحتاج إلى توفّر فرص تصديرية قادرة على استمرار عجلة الإنتاج التي تستوعب مؤسساتها مئات المليارات من الدولارات، وملايين العاملين، وفي العام 1898م الذي يعتبره كثير من المؤرخين بداية للامبريالية الأمريكية بلغت الصادرات الأمريكية نحو مليار دولار من غير أن تتجاوز الشركات عُشر قدرتها على الإنتاج، ولذلك انتقلت إلى مرحلة تصدير رأس المال مباشرة، وأصبح فتح المجال للصادرات الأمريكية في جميع دول العالم هدفاً قومياً، حتى وإن كان ذلك بالقوة العسكرية، وقد عبّر الرئيس الأمريكي (تيودور روزفلت) عن هذه الحقيقة بالقول: "إن قدرنا هو أمركة العالم، تكلموا بهدوء، واحملوا عصاً غليظة، وعندئذ يمكن أن تتوغلوا بعيداً".
هذه الاستماتة في تصريف المنتجات العسكرية الأمريكية وأدوات القتل، جعلت تصريح الجنرال (سميدلي بتلر) ذا مغزى وسط نشاط تحالف المجمَّع الصناعي العسكري الحالي في الولايات المتحدة، والذي قال: "أمضيت ثلاثين سنة في مشاة البحرية (المارينز) كنت خلالها وفي معظم أوقاتي مدافعاً ذا عضلات من درجة رفيعة عن المصالح التجارية، وعن (وول ستريت)، والمصرفيين، باختصار كنت مبتزاً لمصلحة الرأسمالية". ويعود بروز دور هذا المجمَّع إلى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث خرج أرباب هذه الصناعة بأرباح تجارية عالية وطاقات إنتاجية لا سابق لها تبعاً لحجم الطلب، مما أسهم في تطورها وامتلاكها للتقنيات الألمانية عند نهاية الحرب.
ويؤكد المؤلف في كتابه تجذّر هذا الحلف ما بين أصحاب المال وأصحاب العسكر، وفي التاريخ الأمريكي، حيث نجد نماذج من استخدامات القوة، فقد استخدم هذا الحلف الحرب الإسبانية كذريعة لنشر القواعد العسكرية في أمريكا الوسطى وجزر البحر الكاريبي، وهاواي، والفلبين، كما أن جشع هذه الشركات دفع بالرئيس الأمريكي (أيزنهاور) بعد أكثر من خمسين عاماً من توجه (روزفلت) إلى إطلاق صيحة تحذير في آخر خطبة وجهها للشعب الأمريكي سنة 1958م، فقال عندما أصبح في مأمن من انتقام الأخطبوط الاقتصادي: "علينا أن نحترس من تنامي النفوذ غير المبرر للمجمع الصناعي العسكري، وعلينا ألاّ نسمح يوماً لهذه التركيبة بإلحاق الضرر بالحريات التي نتمتع بها بالأساليب الديمقراطية التي نتبع نهجها".
ويخلص المؤلف إلى استنتاج مفاده أن التنامي المخيف للشركات الأمنية في الإدارة العسكرية الأمريكية بكافة أطيافها حوّلت الجيش الأمريكي إلى جيش خاص للرئيس يستخدمه وقت يشاء، لتنفيذ العمليات الخاصة، ويحقق من ورائها عائدات تصبُّ مباشرة في جيوب أصحاب الشركات المالية والعسكرية.
كما بيَّن المؤلف في هذا الفصل أن هذا التهافت الأمريكي على بيع السلاح إلى دول العالم الثالث تحديداً لا يتم إلاّ في ظل وجود حكومات فاسدة، أو منظمات غوغائية هدفها الرئيس الربح المالي، وتجارة السلاح هي الظاهرة المميزة لهذا النشاط، فهي قمة جبل الجليد الظاهر، ويخفي تحته تدريب وتشغيل وصيانة نظم التشغيل، واستدعاء خبراء، وصيانة وتبديل قطع غيار، وأمور أخرى قد لا نلم بمجرياتها الدقيقة.
ويقدم الكاتب تفصيلات عن شركات الأسلحة الأمريكية تحديداً، والشركات الغربية عموماً، ويخلص إلى نتيجة مفادها أن التواطؤ ما بين إدارة الرئيس الأمريكي (بوش تشيني)، والشركات العسكرية واضح ومرتب، فقد نشرت مجلة (لونوفيل أوبسرفاتير) الفرنسية تقريراً أشارت فيه إلى أن شركات السلاح العملاقة ألقت بكل ثقلها وأموالها في الميزان من أجل إعادة انتخاب الرئيس (جورج بوش)، مشيرة إلى أن لديها أسباباً قوية تدعوها إلى ذلك، وأكّدت المجلة أن شركات السلاح حققت منذ عام 2001م أرباحاً تجاوزت ما تحقق في عهد الرئيس الأمريكي السابق (رونالد ريجان)، مشيرة إلى أن أسعار أسهمها زادت بنسبة (64%) في المتوسط منذ 21 سبتمبر 2001م، ونقلت المجلة عن (بيير شاو) الاقتصادي الأمريكي قوله: "إن رجال الأعمال العاملين في مجال السلاح جمعوا مليارات من الدولارات نقداً، ولا يعرفون ماذا يفعلون بكل هذه الأموال"؛ كما أشارت المجلة إلى أن الرئيس (جورج بوش) مازال يوفّر لهم المزيد.
لقد أكّد المؤلف في فصل (الشركات العاملة في الارتزاق) أن تعاون الشركات الأمنية الخاصة التي تستخدم المرتزقة مع القوات الأمريكية لا يُعد أمراً جديداً بالنسبة للإدارة الأمريكية، فقد بدأ هذا التعاون منذ حرب فيتنام، لاسيما من قِبل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، ضمن برنامج سري عُرف باسم (العمليات السوداء)، وكان المرتزقة يرسلون لتنفيذ عمليات اغتيال وتخريب ضد مواقع معادية لا تريد واشنطن التورّط فيها بشكل مباشر، فهي لم تعترف بأي من المرتزقة التابعين لهذه الشركات الأمنية الخاصة ممن اعتقلوا أو قُتلوا في هذه العمليات.
وأكّدت مجلة (الإيكومنست) البريطانية التي أفردت تحقيقاً حول الشركات العسكرية الأمريكية أن الشركات العسكرية الخاصة تحتل المرتبة الثالثة في خانة المساهمين الكبار في دعم الجهود العسكرية الأمريكية والبريطانية في العراق، وقد أدت حرب العراق (في مارس 2003م) إلى تعمق الشركات العسكرية الخاصة لخدمة القوات الأمريكية، حيث كانت السفن الحربية في الخليج العربي تعمل وعليها أطقم من أفراد البحرية الأمريكية، وبجوارهم مدنيون من أربع شركات متخصصة في تشغيل بعض أنظمة التسليح الحديثة والأكثر تعقيداً في العالم، وعندما دخلت الطائرات بدون طيار (بريداتور) في الخدمة، وكذلك (جلوبال هوك)، بالإضافة للقاذفات (بي 2) التي تعمل بنظرية الاختفاء عن شاشات الرادار، كانت هذه الأنظمة التسليحية يتم تشغيلها وصيانتها بواسطة أشخاص غير عسكريين يعملون لحساب شركات عسكرية خاصة، وقد تعمّق القطاع الخاص في العراق كثيراً عندما تدخَّل في شؤون مرحلة ما بعد توقف القتال، حيث حصلت الشركات الأمريكية على عقود سخيّة لتدريب الجيش العراقي الجديد.
وعن الشركات الأمريكية العاملة في الارتزاق يؤكّد المؤلف أن عددها يبلغ في الولايات المتحدة والمرخص لها في العمل نحو (35) شركة، وتسمى: (شركات تعهدات عسكرية)، ومن بينها شركة (إم بي آر أي)، التي تفتخر أن نسبة الجنرالات فيها أكبر من نسبة الجنرالات في البنتاجون نفسه. وقد أدت الحرب على الإرهاب، وخوض حربين في أفغانستان والعراق، إلى تضاعف تعاون الإدارة الأمريكية مع المرتزقة للقيام بأعمال من الباطن، حيث يطلق عليهم اسم (متعاقدون عسكريون من القطاع الخاص)، كما أن البنتاجون لا يستطيع خوض حرب من دونهم، فهم يحلون محل الجنود المقاتلين في كل شيء من الدعم اللوجستي إلى التدريب الميداني، والاستشارة العسكرية في الداخل والخارج.
وعن الشركات البريطانية، يؤكد المؤلف أن الشركات البريطانية تقوم بتوريد العدد الأكبر من المرتزقة في العراق، حتى إن الأمر يبدو وكأن بريطانيا اعتبرت أن الارتزاق العسكري يمكن أن يكون إسهامها الفعلي في استقرار وأمن وإعادة إعمار العراق، فقد حققت شركات الأمن البريطانية مكاسب خلال العام الأول من الاحتلال (2003م) تجاوزت (800) مليون جنيه استرليني (1،5) مليار دولار، وبلغ حجم التعاقد السنوي مع المرتزق المحترف في العراق ما بين (80 120) ألف جنية استرليني (190) ألف دولار.
وعن الشركات الفرنسية، تُعدّ فرنسا من البلدان التي سنّت القوانين التي تمنع نشاط المرتزقة على أراضيها، فالقانون المناهض لنشاط المرتزقة الذي أقر بإجماع الجمعية الوطنية الفرنسية في 3 أبريل 2003م يعاقب عليه المرتزق بالسجن خمسة أعوام وغرامة (75) ألف يورو، وتضاعف العقوبة تجاه القيمين على تجنيد المرتزقة (السجن سبعة أعوام، وغرامة 100 ألف يورو).
كما يرصد المؤلف الشركات الإسرائيلية، والشركات الجنوب أفريقية، حيث تقدر الأمم المتحدة عدد المرتزقة من جنوب أفريقيا في العراق ما بين خمسة إلى عشرة آلاف مرتزق، حيث تُعد جنوب أفريقيا من أكبر الدول المصدرة للعاملين في الشركات العسكرية الخاصة بعد الولايات المتحدة، وبريطانيا، وأغلب هؤلاء المجندين يعملون إما سائقين، أو حراساً شخصيين، أو في حماية طرق الإمداد، أو حماية الموارد الثمينة، وغيرها من الشركات العالمية، كما يكشف المؤلف في كتابه عن وجود عرب مع المرتزقة.
إذا كان من خطّط للحرب على الإرهاب وفق رؤيته قد أقرّ في بدايتها أن المعاهدات الدولية مثل معاهدة جنيف وغيرها لا تنطبق على (أبطال) هذه الحرب، فهؤلاء (الأبطال) بلاشك قد أدركوا أن ما يقومون به سيكون موحلاً مليئاً بالتجاوزات، ولهذا جاء التنصّل من المعاهدات الدولية التي لا تنطبق في الحرب على الإرهاب في بدايتها، وهذا ما أكّده المؤلف في فصل: (لا أحد يعاقب المقاتل)، حيث تبين أن كل الحروب التي اندلعت خلال الخمسين عاماً الماضية شارك فيها مرتزقة ارتكبوا فظائع يندى لها جبين الإنسانية. وفي العراق، تعتبر الإدارة الأمريكية هؤلاء المرتزقة (أصحاب رسالة حضارية)، وأنهم يؤدون (مهمة إلهية) في المنطقة كلها، في حين أنهم ينتمون إلى أكثر من (20) جنسية مختلفة، وتتوزع كافة المهام الموكلة إلى شركات الخدمات العسكرية الخاصة، وأغلبيتهم يحملون جنسيات من دول أفريقية وأوروبية، ومن جنوب شرق آسيا، والهند، ومن أمريكا اللاتينية، ولا يدينون بالولاء والانتماء إلاّ للجهة التي تدفع لهم، لذلك فهم على استعداد لتغيير ولائهم باستمرار وعند اللزوم.
أما السيطرة على المرتزقة في العراق فتتم من خلال مجموعات تابعة لوكالة المخابرات الأمريكية CIA، التي تتولى الإشراف على تنفيذ مهام الشركات التي تستجلبهم للتعاقدات المبرمة معها من قِبل وزارة الدفاع الأمريكية.
ويؤكد المؤلف في مجمل كتابه أن المرتزقة في العراق يمارسون بطريقة روتينية أعمالاً تُعدّ مخالفة للقوانين الدولية والقوانين العسكرية الأمريكية التي تحكم قواعد الاشتباك والسلوك أثناء الحرب وبعدها بالمناطق المحتلة، منها على سبيل المثال ما كشفت عنه صحيفة (آرمي تايمز) من أن المرتزقة كانوا يستخدمون طلقات خارقة للدروع، وذات اختراق محدود من صنع شركة (RBCD) في (سان فرانسيسكو)، وهذه الطلقات حُرمت من الجيش الأمريكي بسبب ما تحدثه من رعب ومعاناة غير ضرورية ودمار داخل جسم الإنسان، حيث تفتت الأعضاء الداخلية من الجسم، وقد ذكرت الصحيفة أن هذا النوع من الذخائر أثار جدلاً واسعاً، حيث إن (المرتزق)، والذي كان في السابق جندياً في فرقة القوات الخاصة إذا ما استخدمها أثناء خدمته العسكرية فإنه كان يعرّض نفسه للمحاكمة العسكرية بسبب ذلك، لأنها تخالف المعايير الموضوعة، ولم تحصل على إجراءات موافقة الجيش، أما عند استخدامها من قاتل أجير مرتزق، فلن يجد من يوبّخه على هذا العمل بل ربما يجد الثناء.
ويوضح المؤلف كيف أن سجن (أبو غريب) يُعد نموذجاً سيئاً لعمل المرتزقة (أبو غريب نموذجاً للمرتزقة)، ففي أوائل العام 2004م، قام بعض عملاء شركتي (كاسي انكوربوريشن)، و (تيان كوربوريشن) بإساءة معاملة سجناء عراقيين؛ وهاتان الشركتان تقومان بإمداد قيادة قوات التحالف بمئات ممن يشاركون في التحقيقات كعناصر "تحت التعاقد الخاص"، وكان آخر عقد وقع في هذا السياق مع شركة (تيتان) بقيمة (172) مليون دولار لتزويدها بعناصر من المرتزقة موزعين على مجموعة من المهام ضمن (قائمة مشتريات) تقدمها القيادة، أي عدد معين من عناصر الأمن، وعدد آخر من المترجمين، وثالث من خبراء الاستجواب ... وهكذا.
ولا يخضع العاملون في الشركات الخاصة للقانون العسكري الأمريكي، ذلك أنهم ليسوا من مجندي القوات المسلحة، وهم لا يخضعون أيضاً للقانون المدني الأمريكي، لأن هذا القانون لا يطبق في العراق، فضلاً عن أنهم لا يخضعون للقوانين العراقية التي تُعدُّ معطلة في هذه الحالة الاستنائية، وجاء في تقرير نشر في واشنطن أن هناك (17) عنصراً يعملون لشركات خاصة تم إبعادهم من السجن بعد نشر صور التغذيب، وإبعادهم هذا لا يمثّل عقوبة من أي نوع، كما أن العالم لم ينتبه إلى هذه القضية لسبب واحد، وهو أن هذه العناصر المرتزقة كانت تطلب عدم تصوير ما يفعلون، من هنا فإنه لا وجود لدليل مادي على ما ارتكبوه بحق السجناء، رغم أن ما يقال عن المرتزقة إنهم لعبوا دوراً أكثر شراسة وقسوة مما فعله العسكريون الذين تم التقاط صورهم.
حالة اللامبالاة التي تصف الموقف الأمريكي والبريطاني وكل الدول التي تحتضن شركات الارتزاق العسكري تكاد تكون واحدة، وقد أكّد المؤلف في كتابه، وفي فصل: (تغطية رسمية لجرائم المرتزقة) أن مخططي انقلاب (غينيا) كانوا معروفين جيداً ل (جاك سترو)، و (كونداليزا رايس)، و (دونالد رامسفيلد)، إلاّ أن الولايات المتحدة وبريطانيا لم تفعلا شيئاً لإيقافهم. وفي سنة 1998م، عندما اكتُشِف أن الشركة العسكرية (داينكورب)، ومقرّها الولايات المتحدة، متورطة في تهريب الرقيب الأبيض البوسني، تم سحب (13) موظفاً من الشركة، أما من قُدم إلى المحاكمة فكانا شخصين أبلغا عن بيع الفتيات وفصلا من عملهما!!!
ومع هذا الخزي العالمي لمن يقولون إنهم يحملون مشاعل الحرية والتنوير، لابد من التأكيد على أن تقنيات التعذيب التي استخدمت ضد المعتقلين العراقيين في (أبو غريب) وغيرها، شبيهة تماماً بتلك التي استخدمتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في بلدان أمريكا الوسطى، بما في ذلك (هندوراس) تحت إشراف (نيجروبونتي)، وفي إطار قانون حرية المعلومات لعام 1997م، أفرجت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية عن كتيب يتعلق بالتدريب في هذا الشأن، يوضح تفاصيل طرق التعذيب التي استخدمت ضد المتمردين في أمريكا إبان حقبة الثمانينيات، واسمه التدريب على استثمار الموارد البشرية 1983م، وكتاب آخر لوكالة المخابرات المركزية خاص بالتدريب في فترة الحرب في فيتنام يطلق عليه (كوبارك)، استجوابات أجهزة المخابرات المضادة، وقد صدر في يوليو 1963م، وكلا الكتابين يعلمان طرق التعذيب ذاتها التي تستخدم في العراق، ومعسكر جوانتانامو بواسطة الأمريكيين اليوم، وينصح الكتاب الصادر سنة 1983م الجلاد الذي يقوم بالاستجواب باستغلال بيئة المتهم من أجل خلق مواقف سيئة له ولا يقدر على تحملها، كما يقترح الكتاب حرمان المعتقلين من الطعام والنوم، ووضعهم في مواقف قاسية، كالتهديد بالاغتصاب، أو الموت، وتعذيب عائلاتهم.
وفي ختام الكتاب، يؤكد المؤلف في فصل: (الارتزاق بين القبول والرفض) قد لا نجد عاقلاً واحداً على سطح البسيطة يحاول أن يبرر وجود المرتزقة، ولكن هؤلاء القتلة لهم آراؤهم في مهنتهم مابين مؤيد لها بدافع القتل، وآخرون يقرنون القتل بالنهم الواضح لجمع أكبر قدر من الأموال، وهذا يوجب علينا أن نرصد كلا الموقفين، كما يوجب رصد الرأي العام الأمريكي، باعتبار أن الولايات المتحدة هي من اخترع ما أصبح يعرف ب (الحروب الاستباقية) و (الحرب على الإرهاب)، والشاهد في سياق الحديث هنا ما نشرته صحيفة (نيويورك هيرالد تريبيون) بتاريخ 22 أبريل 2004م، عندما كتبت: "يلجأ العسكريون الأمريكيون إلى الاستعانة بعناصر من خارج صفوفهم في مجالات إعداد الأغذية أو غسيل الملابس، مستخدمين في ذلك شركات من القطاع الخاص، وهذا اتجاه كانت القوات المسلحة للولايات المتحدة قد سلكته بحماس شديد منذ التسعينيات، لكن هذا شيء، واستخدام القطاع الخاص لأداء مهام الحرب والقتال شيءٌ آخر تماماً"، ثم تضيف: "إن المصير الفظيع لمتعاقدي الأمن الأربعة، في الفلوجة في شهر مارس 2004م، جاء ليؤكد مشكلة اعتماد الولايات المتحدة على العناصر المأجورة في أداء مهام القتال"، ثم تبادر الصحيفة إلى تفسير تعريف الحارس الأمني الخاص، أو الحارس العامل لحساب القطاع الخاص، فتقول: "إن مصطلح الحارس الأمني الخاص لا يعبّر عن العمل الحقيقي الموكل لهؤلاء الرجال أو النساء المسلحين، إنهم لا يجلسون خلف مكاتب لكي يوجِّهوا الزائرين إلى كيفية الدخول إلى أروقة هذا المبنى أو ذاك، ولا يكاد يستخدمهم أحد في حراسة آبار النفط على سبيل المثال".
والحق أن ظاهرة المرتزقة بلغت من الاستشراء والاتساع إلى الحد الذي دعا عدداً كبيراً من الكتّاب والخبراء في الولايات المتحدة نفسها إلى التحذير من مغبتها وعواقبها، فقد حذّر الكاتب (باري يومان) من استشراء ظاهرة خصخصة الحرب، وكتب مقالة بعنوان: (الدور المتزايد للمرتزقة)، قال فيه: "إن حجم هذا الاستثمار الرأسمالي الخاص قد بلغ في الولايات المتحدة ما يزيد سنوياً على (400) مليار دولار، تأتي من تشغيل عناصر من مرتزقة الجنود والضباط، ويقوم على أمر هذا العمل عدد من الكولونيلات والجنرالات المتقاعدين من خدمة القوات المسلحة الأمريكية، ويكلَّفون بمهام عسكرية بالدرجة الأولى تبدأ من جمع المعلومات والاستخبارات خلف خطوط العدو، وعمليات التدريب، وأداء المهام الحربية الشديدة الخطورة، وفي مقدمتها مهام التدمير والتخريب، وقد يُضاف إليها عمليات التحقيق والاستجواب وسط أشد الظروف إهانة وإذلالاً للكرامة البشرية".
ويُعدّ كتاب: (المرتزقة جيوش الظل) الكتاب الثالث للمؤلف


http://www.kkmaq.gov.sa/Detail.asp?InSectionID=880&InNewsItemID=297627
 
عودة
أعلى