دور الجيوش في الصراع ضد الارهاب

معمر القذافى

عضو مميز
إنضم
8 أكتوبر 2008
المشاركات
2,471
التفاعل
81 0 0
عندما نتحدث عن دور الجيوش في الصراع ضد الإرهاب، فهذا يشير إلى أدوار أخرى يمكن أن تقوم بها جهات عسكرية متعددة ، ولكنها لا تخضع لأسلوب عمل ووظيفة الجيش النظامي، إذن فالحديث عن الجيوش يهدف من جهة تحليل الأعمال التي تؤديها ضمن سياق خاص بها، وتكون مضطرة لاحترام دورها في عملية الصراع ضد الإرهاب؛ ومن جهة أخرى، فإن هذه الطريقة في التحليل تمكننا من وضع معايير نوعية أخرى غير معروفة تتعلق بعمل الجيوش في الحالات الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، بالتعرف على وظيفة الجيش أثناء الصراع ضد الإرهاب، نحن نتعرف على علاقته بالأجسام العسكرية الأخرى داخل الدولة، مثل: الشرطة بكل أنواعها، وأجهزة الأمن، والمخابرات.

يسمح لنا المدخل السابق بفهم أفضل لدور الجيوش ضمن بيئة استراتيجية متغيرة، ثم وضع هذا الدور وتقويمه بالعلاقة مع باقي الأجهزة الأمنية. وسنستند في هذه الدراسة التحليلية إلى قراءة منعكسات أو مضاعفات خطابات ولغة الحرب على الإرهاب، وأثرها على تحولات وظائف وعمل الجيوش، ومن أجل هذا لابد من محاولة مراقبة الانشقاق أو الانقسام بين مجموعة الفاعلين في هذا المضمار، والذين يحاولون الارتقاء بفكرة الدور الأكبر للجيش في الصراع ضد الإرهاب، وأولئك الذين يرفضون أو يقاومون لعب الجيش لهذا الدور ويصفونه ب (الخطر) بالنسبة له.
عملياً، هناك انقسام واضح يمكن ملاحظته بين المواقف التي يتخذها محترفو السياسة والذين يبررون وضع جميع القوات في الصراع ضد الإرهاب، وبين العسكر أنفسهم الذين يبدون انزعاجهم من هذه المهمات التي يرون أنها خارج اختصاصهم، ويمكن أن نرى هذا الانقسام على سبيل المثال في بريطانيا وفرنسا رغم أن الأسباب تختلف من بلد لآخر، وبشكل أقل في الولايات المتحدة، حيث هناك حلف مضمر أو ضمني بين السياسيين في البيت الأبيض، ومجلس الأمن القومي من جهة، وجزء من الجيش لاسيما أولئك الذين يضعون في قلب مذهبهم التهديدات غير المتماثلة أو غير المتناسقة (أي الحرب غير النظامية) في معارضة للقراءات الأكثر تقليدية للتهديد الذي تقدمه كل من روسيا والصين على سبيل المثال، أو قوى إقليمية مثل إيران من جهة أخرى(1).
أيضاً في تحليل دور الجيوش في الصراع ضد الإرهاب، يمكننا الاستناد إلى الأطر المؤسساتية والقانونية التي تتفاعل مع عملية الصراع هذه، وإذا اقتضت الحاجة فبالإمكان اللجوء للدور العسكري من أجل وضعه في علاقة حبكة حول الطابع المتغير والاستثنائي للتهدد الإرهابي، هذه الحبكة تحاول إعطاء دليل وحجج لحضور نوعي للتهدد الإرهابي، من أجل الاستشهاد بضرورة تبني خطوات، أو أنظمة قانونية تمكّن من الإجابة بشكل فعّال على الإرهاب. وفي رأي المتخصصين في قضايا الإرهاب العالمي، فإن هذه العملية في الربط أو الحبك هي أكثر سهولة من الحديث عن (الإرهاب العابر للقارات) الذي يخلط في الفصل بين الأمن الداخلي والأمن الخارجي، بين عدو وبين مجرم، بين عمليات يقوم بها البوليس المتخصص بالجرائم والأعمال التي تقوم بها أجهزة الأمن والمخابرات. إذن الحديث عن "الاستثناء"، أو الحالة الخاصة يسمح بفتح ثغرة في الحدود التي تضعها الأطر القانونية والمؤسساتية.
هذه الطريقة في التحليل تؤكد ضرورة فهم الممارسات المعاصرة، ليست فقط المتعلقة بالأنظمة القانونية التي تسمح بالفعل واتخاذ القرارات، ولكن أيضاً من وجهة نظر سيسيولوجية؛ فخطاب الحرب على الإرهاب من جهة، واستحضار التهديد العالمي والإقليمي من جهة أخرى، يثبتان بشكل قاطع قِدَم القراءات التقليدية المبنية على أساس التمييز داخلي-خارجي، ويقودان إلى إعادة تشكيل الأجهزة الأمنية، لاسيما العسكرية من أجل الإجابة على متطلبات الصراع ضد الإرهاب.
بالاستناد على ما سبق، يمكن القول مع بعض المجازفة، إن مسألة دور الجيوش في الصراع ضد الإرهاب لا يمكن أن تكون، وأنها لم تعالج بشكل مستقل؛ وهذا بدوره يطرح أسئلة أخرى، مثل: ما هو دور الأجهزة الأمنية الأخرى؟ وما هي التصرفات المتوقعة من العدو ضد وظيفة الجيوش أو الأجهزة الأمنية؟
هنا لابد من القول إن أية دراسة تتعلق بدور الجيوش في الصراع ضد الإرهاب يجب أن تأخذ بعين الاعتبار وبرؤية استشرافية التغيرات والتحوّلات في الأجهزة الأمنية التي حصلت في آخر عقدين من الزمن، والتي لا يمكن فهمها لوحدها، بل في وضعها بعلاقة أو ارتباط بتطورات أحدثتها التهديدات الإرهابية أو يمكن أن تحدثها. وفي الحقيقة فإن هذه التغيرات لا تعود جنينياً إلى ما بعد اعتداءات 11 سبتمير في نيويورك كما يتوهم البعض، فالاعتداءات وما تلاها في المناخات السياسية الديمقراطية الغربية جاءت لتثبت التغيرات، ثم تسرّعها، وفيما بعد تعمّقها ضمن منطقها الأساسي القائم على نزعات متشددة وقديمة. إن التغيرات في الأجهزة الأمنية وفي الأدوار والوظائف المسندة إلى الجيوش بشكل متدرج، يبدو أنها لن تتوقف عن الاستمرار.


أولاً: في تحديد دور الأجهزة الأمنية


تُعتبر مفردة الإرهاب من أكثر المفردات إحداثاً للجدل والاختلاف عبر العالم، لذلك لابد من الحديث عنها ولو بشكل مختصر قبل محاولة قراءة دور الأجهزة الأمنية في مكافحة الإرهاب؛ فعندما نتحدث عن (الإرهاب) سيكون من المفيد أن نحدد ماذا نعني بهذه الكلمة؟ إن عملية التحديد لا تتم بشكل سطحي أو بسيط، بل من خلال رؤية ترابطية للمفاهيم. بمعنى آخر، يتوجب علينا فهم معنى (الإرهاب)، وفهم خطاب الآخرين عندما يتحدثون عن الإرهاب، أي فهم الإرهاب كما يصلنا أو ينقل إلينا العاملون أو الناشطون ضد الإرهاب. وهذا الإدراك لخطاب الآخرين هو في غاية الأهمية، لأنه يبين لنا كيف بدأت المجتمعات الغربية بالحديث عن الإرهاب، وكيف عمدت إلى تطبيق خطابها المضاد له من خلال الدور النوعي للجيوش في مهمة الدفاع والحماية؟


1. خطاب الإرهاب كعنف سياسي عالمي


ينطلق بعض علماء الاجتماع الغربيين من القول إن (الإرهاب) بداية وقبل كل شيء هو "عملية خاصة في تصنيف أو ترميز العنف السياسي العابر للقوميات، وهذه العملية تم وضعها من خلال سلسلة من الخطابات"(2). ويمكن أن نضيف على هذه الخطابات السياسية والإعلامية مصادر أخرى، مثل: "الكتاب الأبيض الذي وضعته الحكومة الفرنسية حول الأمن الداخلي في مواجهة الإرهاب"(3)، وملف "الدفاع في مواجهة الإرهاب"(4)، أو (Patterns of Global Terrorism) الصادر عن وزارة الدفاع الأمريكية، وفي التقرير السنوي الذي تضعه FBI Terrorism in the US، وهي جميعها تشكّل أمثلة حول الخطابات الرسمية عن الإرهاب. وتقوم هذه المصادر بتوصيف (الفضاءات) التي يوجد فيها إرهاب: أشكاله وأهدافه، وتهدف من ذلك إلى تحديد الأشكال ورسم الظروف الخاصة التي تسمح بإقامة نموذجها في رد الفعل وتنظيم عمليات "ضد التهديد" قبل وقوعه.
وتعتبر حالة الولايات المتحدة حالة له أعراضها الخاصة إذا انطلقنا من التعريف السابق، ومن مصادر الخطاب حول الإرهاب، فمنذ سنوات السبعينيات كان هناك رؤية للعنف السياسي العابر للقوميات تقوم على النظرة إليه كعنف استثنائي، متفرّد ومميز عن أكبر شكلين من أشكال ممارسة العنف الذي عرفه العالم الغربي حتى ذلك الوقت، وهما: الجريمة المنظّمة، والحرب، ولم يقارن العنف السياسي لا مع الجريمة المنظمة ولا مع الحرب، وهذا ما يسمح اليوم بفهم الأسئلة الكبيرة التي رأت النور فيما يتعلق بالشكل الذي يجب أن تكون عليه الإجابة عن أحداث 11 سبتمبر 2001م: هل الإرهاب فعل حرب، علينا أن نرد عليه بالحرب، وبالتالي استخدام قوى الجيش النظامية، أو أن الإرهاب هو جريمة نكتفي بالرد عليها من خلال عمل ووظيفة البوليس والقضاء؟(5). إنها أسئلة كبيرة كما يقول (فيليب بونديتي) من مركز الأبحاث السياسية في باريس: "تبلورت بشكل خاص في معسكر الاعتقالات الشهير (جوانتانامو)، ومن حالة المعتقلين أنفسهم في هذا المعسكر، والذين اعتبروا (محاربين غير شرعيين)"(6).
إن الحديث عن الإرهاب كحالة من العنف السياسي العابر للقوميات لا يعني أن ممارسة العنف غير موجودة، فهناك أمثلة كثيرة على ذلك، ليس آخرها أعمال الاعتداء على السفارات، أو المصانع، أو الأفراد الأبرياء، ولكن عندما يُقال عن الإرهاب إنه خطاب، فهذا يشير إلى محاولة لرؤية كيف أن أفعال العنف المبعثرة عبر الزمان والمكان من غير رابط حقيقي يجمعها، توجد اليوم تحت شكل أو في مجموعة واحدة جنباً إلى جنب، وبمسمى واحد هو: (الإرهاب)، فهل من تعريف لهذا الإرهاب؟
 
رد: دور الجيوش في الصراع ضد الارهاب

2. الإرهاب


للإرهاب وتحليله تيارات ومواقف متعددة، لكن هذا التعدد لا يضير في فهم الظاهرة، بل يساعد في إدراكها بعمق أكبر، ثم معرفة مختلف المقاربات التي يجب الأخذ بها من أجل مجابهة هذا النوع من العنف بشكل متحرك ومستمر. وهنا لابد من طرح السؤال التالي: لماذا كان الصراع ضد الإرهاب ومازال حتى اليوم من المهمات الخاصة لوزارات الداخلية، وكل ما يتعلق بالبوليس وأجهزة الأمن والمخابرات على الأقل في البلدان التي حاولنا قراءة تعاملها مع هذه الظاهرة، مثل: ألمانيا، وأسبانيا، وفرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، علماً أنه كان في الماضي لاسيما في الولايات المتحدة عبارة عن مجال محتكر وبشكل كبير من قبل مجلس الأمن القومي، والمخابرات الأمريكية، وأحياناً بشكل هامشي من قِبَل وزارة العدل و FBI؟
تم تعريف الإرهاب في فرنسا من قِبل "الكتاب الأبيض" المُقدّم من الحكومة الفرنسية على أنه: "كل فعل يهدف للقتل أو لإحداث إصابة بالغة ضد المدنيين أو غير المقاتلين. وبالنظر لطبيعته أو للسياق الذي يُرتكب فيه هذا الفعل أيضاً، هو كل ما يؤدي لخوف السكان، أو إجبار الحكومة، أو منظمة دولية على التصرّف أو رفض التصرّف بشكل ما أو وفق هيئة معينة"(7). وبالاستناد إلى هذا التعريف تتخذ المواقف السياسية فيما يتعلق بالعنف السياسي العابر للقوميات، وهو في الواقع تعريف يتميز عن ذلك التعريف الذي يأخذ به القانون الجزائي، وفيه يعيد اتخاذ القرارات إلى العدالة(8)، فقد جاء في القانون الجزائي الفرنسي عن الإرهاب أنه: "تعدٍّ فردي أو جماعي (مقصود) يهدف لزعزعة النظام العام من خلال نشر الخوف والإرهاب"(9).
ورغم بعض التشابهات بين هذه التعريفات ونظيرتها في المملكة المتحدة، إلاّ أن التعريفات الفرنسية تختلف عن البريطانية التي صدرت في عام 1973م، وعرَّفت الإرهاب بأنه: "استخدام العنف بهدف بثِّ الرعب والخوف في جزء من الحياة العامة أو في كليتها"(10)، وأيضاً هذا التعريف البريطاني يتميز عن التعريف الذي جاء في Terrorism Act 2000، والذي يعتبر الإرهاب كفعل ينتج عن الأعمال التالية:
1. استخدام العنف، أو التهديد باستخدامه.
2. ضد كل شخص، أو ممارسة ضرر حقيقي ضد الأملاك، أو وضع حياة في خطر، أو خلق خطر حقيقي ضد الصحة العامة، أو تدمير نظام إلكتروني.
3. استخدام السلاح الناري، أو المتفجرات، حيث الهدف هو التأثير على الحكومة، أو إحداث خوف بين العامة أو في جزء منها.
4. أو فعل عنف يهدف إلى عرض قضية سياسية، أو دينية، أو أيديولجية(11).
ويعتقد الكثير من المراقبين من وجهة نظر تعريفية أن حالة الولايات المتحدة مهمة أيضاً ضمن هذا المجال؛ فالخطاب الرسمي لم يأخذ ولفترة طويلة سوى بتعريف واحد للإرهاب، وهو تعريف عالمي جاء تحت الرقم 22 (F 265) من القانون المدني في الولايات المتحدة، والذي يصرّح بأن: "مصطلح (الإرهاب الدولي) يعني الإرهاب الواقع على المواطنين أو إقليم في أكثر من بلد"، وهذا التعريف يختلف عن ذلك التعريف الذي جاء تحت الرقم 50 من القانون المدني نفسه، والذي يصرّح بأن الإرهاب الدولي يجمع النشاطات التي:
تؤدي إلى أفعال عنفية، أوخطرة ضد الحياة الإنسانية، في عملية انتهاك لقوانين الجريمة في الولايات المتحدة، أو بلدان أخرى، أو تلك التي ستكون انتهاكاً لقوانين الجريمة إذا ارتكبت تحت حكم السلطة القضائية للولايات المتحدة أو في بلد آخر.
أو يظهر أنها ارتكبت بهدف: خلق الخوف والرعب بين السكان المدنيين، والتأثير على سياسة الحكومة بواسطة الخوف والإجبار، أو التأثير على عمل الحكومة من خلال الاغتيال أو أخذ الرهائن.
التي تقع كليَّاً خارج الولايات المتحدة، أو تجتاز الحدود الوطنية، وفق الوسائل التي يتم ارتكاب هذه الأفعال من خلالها(12).
ويختلف هذا التعريف بطبيعة الحال عن التعريف الذي جاء في الرقم (18 الفصل 231) من القانون المدني نفسه، ويرى في النقطة (3) أن الإرهاب الدولي يأتي (بشكل أساسي)، وليس (كلياً) كما في الرقم (50) خارج الولايات المتحدة. ويبيّن التحليل الأكثر عمقاً لاستخدام مصطلح (الإرهاب) من قِبل مختلف وكالات الإدارة الأمريكية بالإضافة إلى ما سبق وجود العديد من التعاريف، حيث أن CIA, FBI، ووزارة الدفاع، لا يستخدمون التعريف نفسه للإرهاب، فكل منهم لديه معاييره المختلفة، والتي تسمح له منذ عام 1979م بتبرير سياساته في التعامل بقضايا ضد الإرهاب؛ فمثلاً FBI، أو البوليس الفيدرالي يتحدث عن معيار الأهداف الاجتماعية، وليس فقط السياسية، أما CIA، ووزارة الدفاع فيتحدثان عن معيار الإصرار والترصّد، أو التخطيط المسبق، وهذا بعكس معيار FBI.
في الواقع، إن معيار CIA يسمح لها باستخدام جميع نشاطاتها ومصادرها من المعلومات من أعلى الهرم، وفيما يتعلق بأفعال العنف، ويسمح لوزارة الدفاع بتبرير العديد من المقاييس المستخدمة لديها على الصعيد الدولي، وذلك من أجل تخويف الدول التي (تدعم الإرهاب). ونضيف أن وزارة الدفاع تستند إلى معاييرها منذ عام 1984م، أي الدوافع الدينية التي تقف وراء مرتكبي العنف. وقد تم وضع هذه التعاريف في الولايات المتحدة وبشكل عام وما تزال تقيم اليوم سلسلة من التمييز بين (نظام العنف الإجرامي)، و (نظام ما يسمى العنف الإرهابي)، وبين (الإرهاب الداخلي)، و (الإرهاب الدولي)، وأخيراً بين (الاستخدام الحقيقي للعنف)، و (التهديد باستخدام العنف).
ويسمح التمييز الأول بفهم هذا الفعل في الولايات المتحدة بعكس الحالة الفرنسية، والأسبانية، والبريطانية، والألمانية أن الإرهاب لم يتم إنجازه أو إدخاله بشكل جزائي إلاّ في عام 1996م، وبفضل قانون (Antiterrorism and Effective Death Penalty). أما التمييز الثاني بين (الداخلي) و (الدولي)، فيشير إلى محاولة إعادة دمج العنف العابر للقارات ضمن المعايير التقليدية للأمن. والتمييز الثالث بين القيام بالفعل أو التهديد بقيامه وهذا ما يوجد أساساً في التعريف البريطاني للفعل الإرهابي الصادر عام 2000م يهدف إلى ربط الدور المركزي المعطى لأجهزة المخابرات مع الخطوة الاستباقية التي طالما رغبت فيها الولايات المتحدة.
وفق المعطيات السابقة، يظهر اليوم أنه من المهم العودة إلى عرض وتوضيح التهديد قبل وضع وتنظيم الرد على الإرهاب، ثم تحديد الدور الاستثنائي أو الخاص الذي يمكن إسناده إلى الجيش. وبالنظر إلى شكل وماهية التهديد الإرهابي في عالمنا اليوم، والحالة التي يصنّف ويرتّب ضمنها، فإن الأجهزة الأمنية المسؤولة عن الصراع ضد الإرهاب ليست متشابهة أو واحدة، بل متعددة ومختلفة في المهام والوظائف؛ فمثلاً في الحالات التي يمكن تتبعها في فرنسا، وأسبانيا، وألمانيا، وبريطانيا، نجد الإرهاب، وقبل كل شيء، هو إشكالية تابعة للأمن الداخلي ألقت أو أعادت هذا العنف إلى فئة الجريمة، وإلى أحضان البوليس، بينما في الولايات المتحدة، فإن الإرهاب، وقبل كل شيء، استُفيد منه كسلاح في السياسة الخارجية، لا بل تقنية خاصة في الصراع أو نموذج جديد في قيادة وإعلان الحرب. وقد تم إعطاء دور مركزي للأجهزة الأمنية على الصعيد العالمي من قِبل واشنطن ضمن هذه الحالة ، فيمكن رؤيته ومنذ عام 1984م أنه أصبح جزءاً من الإجابة والرد على الإرهاب ولأسباب انتقامية، أو ثأرية(13).
وكان الاختيار في فرنسا، وأسبانيا، وألمانيا إعطاء دور كبير للبوليس والأجهزة الأمنية مع دور هامشي للجيش. وفي بريطانيا كان الوضع مختلفاً بعض الشيء، فقد تمت مقارنة الإرهاب بأعمال إجرامية، بمعنى أنها من اختصاص القانون الجزائي، ولكن رغم ذلك تم استخدام الجيش، وبشكل خاص جيش المشاة، في لعب دور هام في مكافحة الإرهاب، وتوقيف الأفراد في أيرلندا الشمالية. وهذه الاختلافات التي يمكن مراقبتها من جانب بين فرنسا، وأسبانيا، وألمانيا، و بشكل أقل في بريطانيا، وبين الولايات المتحدة، تعود لعلاقة مختلفة مع العنف السياسي العابر للقوميات، وهو عنف تمت تسميته في أواسط التسعينيات ب "الإرهاب المعولم"، وفيما بعد وبشكل فيه الكثير من الخطأ سُمّي ب "الإرهاب الإسلامي".


ثانياً: الاختلاف والاتفاق حول (الإرهاب المعولم)


لفهم هذا الوضع ما بين اختلاف واتفاق، لابد من العودة قليلاً إلى الوراء؛ فالحديث عن "الإرهاب المعولم" لم يأت بشكل مفاجئ ضمن خطاب الإرهاب، فقد تم قطع طريق طويلة للوصول إليه، هذه الطريق قسّمها المتابعون لقضايا الإرهاب إلى زمنين في الولايات المتحدة، وأوروبا رغم الاختلاف القائم في الظروف على ضفتي المحيط الأطلسي :
في الزمن الأول: ارتسم الخطاب فوق قاعدة أيديولوجية مع ربط قوي بين أفعال العنف التي تقوم بها المنظمات والحركات الاستقلالية-الانفصالية (وهو إرهاب له طابع إقليمي)، والمجموعة اليسارية المتطرفة ومعها الاتحاد السوفيتي وحلفاؤه، ففي الحالة الأولى هناك مطالب تتعلق بالاستقلال، وفي الثانية معارضة أيديولوجية تقوم بها مجموعات لجأت إلى خطاب ماركسي وجدت هذه الحالة أثناء الصراع الأيديولوجي السوفيتي-الأمريكي الكبير . أما الأمثلة عليها فهي كثيرة منها: مجموعات IRA, ETA، وهي مجموعات معارضة للرأسمالية، ومعارضة لمجتمع الاستهلاك، ومجموعة Bande Baader في ألمانيا، والكتائب الحمراء في إيطاليا، هؤلاء جميعهم اتهموا بتلقي المساندة من الاتحاد السوفيتي، وبخاصة في المرحلة ما بين 1970، و 1980م.
في الزمن الثاني: وقد بدأ مع سنوات الثمانينيات وتعمّق بعد سقوط جدار برلين، فإن التحليلات حول الإرهاب تضع النشاطات التي تقوم بها مجموعات متطرفة مستخدمة الإسلام كغطاء لها، ضمن خانة النشاطات ذات الأهداف السياسية، كما هو حال تنظيم (القاعدة)، مع العلم أنه في أوروبا وفي فرنسا بشكل خاص وجدت مجموعات صغيرة تقوم بالنشاط نفسه قبل (القاعدة).


1. الإرهاب مشكلة أمنية داخلية


عرفت فرنسا وألمانيا العنف السياسي على أرضيهما، وكان الرد على هذا العنف يستند إلى القوى البوليسية، حيث تم وضع التنظيمات والمجموعات الممارسة للعنف تحت المراقبة الصارمة، وقد لعبت الأجهزة الأمنية دوراً كبيراً في هذه القضايا. إذن كان هناك أولوية للأجهزة الأمنية والبوليسية على قوات الجيش، ومن هذا المنطلق طلبت فرنسا وألمانيا تعاوناً بوليسياً دولياً، وتطويراً لتقنيات الصراع ضد العنف السياسي، وقد استفادت إدارة الرئيس (بوش الابن) كثيراً من هذا التعريف بعد أحداث 11 سبتمبر. إذن باستطاعتنا أن نقول بغياب دور الجيش في ألمانيا، وبتهميشه في فرنسا في حالات الصراع ضد العنف السياسي.
وفي أسبانيا وبريطانيا لعب الجيش دوراً مهماً في الصراع ضد العنف السياسي، ففي الثمانينيات تعرّضت البلدان لتجارب (الإرهاب الانفصالي) الذي يدعو لتمزيق التراب الوطني؛ وفي أسبانيا ربما يكون الجيش ابتعد قليلاً عن الدخول في الصراع القوي ضد الإرهاب، وهذا يعود لأسباب تاريخية، حيث توجد نظرة ارتياب تجاه الجيش منذ عهد الدكتاتور (فرانكو)، ولكن (الحرس المدني) وهو قوة بوليسية لها طابع الجيش لعب دوراً مهماً في هذا الصراع، وبالتعاون مع القوة البوليسية المستقلة في مكافحة العنف السياسي، علماً أن البوليس المستقل هو تحت إمرة وزير الداخلية.
وفي بريطانيا، دخل جيش المشاة بشكل قوي في الصراع ضد العنف في أيرلندا الشمالية، وقد أُعطيت له سلطات كبيرة وبخاصة فيما يتعلق بتوقيف الجماعات والأفراد، ولكن تم الحدّ منها فيما بعد، كما أنها لم تكن موجودة على الأراضي البريطانية الأخرى. ومن يعرف بريطانيا جيداً يعرف أن هذه الصلاحيات التي أُعطيت للجيش تتناقض بشكل كبير مع التقليد السياسي الليبرالي البريطاني، والذي ينظر دائماً بعين الريبة لأي دور للجيش وتدخله في الأرض الوطنية. بشكل عام، فإن الإرهاب في الدول التي ذكرناها سابقا: فرنسا، وأسبانيا، وبريطانيا، وألمانيا تم إدراكه والتعامل معه ضمن مفهوم الإشكالية الأمنية الداخلية، مع مراعاة العمل على مراقبة منابعه ومصادره من قِبل الأجهزة الأمنية، ولكن مع أحداث 11 سبتمبر 2001م توقّف التعامل مع الإرهاب على أنه مشكلة أمنية داخلية، وهذا ما سنراه من موقف الولايات المتحدة الأمريكية.
تعامل الأمريكيون منذ زمن طويل مع الإرهاب على أنه مشكلة خارجية، وقد رأينا سابقاً تمييزهم (الإرهاب الداخلي) عن (الإرهاب الدولي)، ثم إعطاءهم الأولوية للإرهاب الدولي، وبقي هذا الوضع قائماً حتى منتصف التسعينيات. وأيضاً كانت الولايات المتحدة ترى في الإرهاب أنه ظاهرة من العنف تتطور بشكل أساسي في أوروبا، وأمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط، حتى أنها ربطت بين الإرهاب وبين دول بعينها، بالإضافة إلى ذلك تم التفكير بالإرهاب مبكراً ضمن المفاهيم والعمل الاستراتيجي، ولكن من غير إعطاء دور محوري أو هام للجيش. إذن سوف ننتظر حتى التسعينيات وحتى تصل الاعتداءات إلى الأرض الأمريكية، وهنا ستبدأ مقاربة جديدة لهذه الظاهرة، والتي سيتم ربطها هذه المرة بمجموعات (إرهابية) تأخذ صفة أو وضعية الشبكات، ومع مطلع عام 1996م ضمّت الولايات المتحدة على قائمة الإرهاب التي تصدرها بحق دول داعمة له قائمة المنظمات الإرهابية، وفي الوقت نفسه بدأ دور الجيش يكبر ضمن مفهوم إعطاء دور حماية الأراضي الوطنية، خصوصاً بعد الاعتداء في عام 1993م على (مركز التجارة العالمي)، وفي 1995م على مبنى فيدرالي في ولاية (أوكلاهوما)، وأكثر من ذلك بعد الاعتداء بالغاز داخل نفق المترو في طوكيو عام 1996م.
 
رد: دور الجيوش في الصراع ضد الارهاب

إن دور جيش المشاة سيتم تحديده بواسطة القانون (Nuun Lugar Domenici) عام 1995م، والذي ينظّم استثناء على القاعدة التي تمنع الجيش من التدخّل على الأرض الوطنية إلاّ في حالات معينة، (الهجوم الإرهابي النووي بالإشعاع البكتيري والكيمائي)، كما طالب هذا (الاستثناء) من وزارة الدفاع أن تشكّل مجموعة خاصة وسريعة التدخل يمكنها أن تساند السلطات المدنية وبطلب من وزارة العدل و FBI(14).


2. عولمة (خطاب التهديد)


في هذا الاتجاه بدأ خطاب يعتريه الكثير من الخطأ والتضليل بقصد حصر النشاطات الإرهابية بمجموعات إسلامية، وهنا بدأ الانقسام واضحاً بين أوروبا والولايات المتحدة، وبشكل عام أصبحت مواضيع العنف السياسي تناقش في كل مكان إلى جانب أخطار المخدرات، والهجرة السرية، وتخصيب اليورانيوم، والبيئة على الأقل مع بداية التسعينيات حيث أصبح الطابع الدولي للعنف السياسي والإرهاب خطاباً متداولاً بقوة في واشنطن. ولكن في الوقت نفسه كانت فرنسا من المعترضين على هذا الخطاب، إذن لا يمكن إنكار الانقسام عبر ضفتي الأطلسي حول خطاب الإرهاب، وهو خطاب أصرّت واشنطن أن يكون التعبير عنه بالقول: إنه (تهديد إرهابي إسلامي ومعولم). بمعنى آخر فإن خطاب (الإرهاب المعولم) ليس نتيجة لأحداث 11 سبتمبر 2001م، بل هو خطاب يعمل منذ زمن بقصد خلق حالة من التمييز بين الأمن الداخلي والأمن الخارجي، ومن ثم تقسيم الأدوار بين الأجهزة الأمنية.


ثالثاً: أين الجيوش من الصراع ضد الإرهاب؟


نستطيع القول بداية إن الإعلام والخطابات السياسية، لا بل حتى بعض الأوساط الأكاديمية، قد أصبحت متفقة على تسويق الإرهاب كخطر استراتيجي من المعيار الأول، ولكن المشكلة ليست هنا، بل في عدم طرح دور الجيش في الصراع ضد هذه الظاهرة بشكل واضح وحقيقي. ويرى بعض المراقبين أن البعد الدولي للظواهر المعاصرة واستقلالها الكبير عن الدول هو الذي يضع دور الجيوش قيد السؤال والاستفهام. مع ذلك، استطاع هذا الخطاب الذي حوّل ظاهرة الإرهاب إلى كارثة عالمية أن يضع دور الأجهزة الأمنية والمخابراتية في مقدمة الصراع ضد الإرهاب.
وضمن محاولة فهم (ما سيحدث مستقبلاً) أكثر مما هو فهم (لما حصل بالفعل)، وما هو (كامن) أكثر مما هو (واقع)، بدأ التفكير في دور الجيوش في الصراع ضد الإرهاب، ولكن الانقسام لم يختف حول طبيعة هذا الدور، لاسيما بين أوروبا والولايات المتحدة.
كانت الجيوش عبر التاريخ مُعدّة للتدخّل الخارجي، أو لحماية التراب الوطني، إلاّ في حالات خاصة، مثل: الحرب الأهلية، والكوارث الطبيعية، إلاّ أن الأمور تغيّرت بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً فيما يتعلق بالصراعات المرتبطة بالتخلّص من الاستعمار، حيث كانت بداية ظهور ما يمكن تسميته (الحروب غير الاتفاقية أو غير التعاقدية) Unconventional Warfare في بريطانيا، وفرنسا وبعض الشيء في الولايات المتحدة، ونطلق عليها اسم "غير تعاقدية" لأن الخصم لا يقاتل بطريقة تقليدية كالتي تتبعها الجيوش، بل بأسلوب حرب العصابات أو الحركات الانفصالية.
في هذا الوقت، ظهر مصطلح (الإرهاب) ضمن المفهوم التكتيكي، بمعنى أن الإرهاب تم إدراكه كتكتيك وكسلاح للمجموعات المسلحة يهدف لنشر الخوف بين السكان المحليين لضمان الحصول على مساندتهم ضد الغزاة أو المستعمرين الجدد. كما طرح في هذه الفترة الزمنية السؤال عن دور الجيوش، وفي عملية ارتباط أو علاقة اختفاء الخصم التقليدي التابع للدولة ولديه جيش منظم، وقد لاقى هذا التكتيك الجديد معارضة كبيرة لاسيما من وجهة نظر سياسية، وهذا بدوره طرح أسئلة أخرى حول دور الجيوش في الصراع ضد الإرهاب اليوم. أسئلةٌ تمحورت حول انقسام واضح ظهر منذ عام 1950م، بين النشاطات التي يجب أن تقوم بها أجهزة المخابرات ونشاطات الجيوش، ثم أُعيد طرح الأسئلة نفسها بعد سقوط جدار برلين، ولكن هذه المرة في ظل غياب العدو التقليدي، أي الاتحاد السوفيتي. في هذه الفترة بدأ تعبير جديد بالظهور وهو "الحرب غير المتناسقة"، والذي انطلق منه ما تسميه الولايات المتحدة اليوم (حروب الشبكات المركزية)، وهو في الواقع إعادة تشكيل للمفهوم السابق Unconventional Warfare ، هذا التغير في التعبير سيجد مكانه في مفهوم (الحرب على الإرهاب).
ترافق تغيير المصطلحات بتحولات في الخطاب السياسي، حيث عمد هذا الخطاب لرفع (الإرهاب)، أو العنف السياسي إلى مرتبة العدو للديمقراطيات، وهو عنف لا يمكن احتكار الرد عليه لا من قِبل أجهزة المخابرات ولا من قِبل الجيش، بل من خلال (تجهيز أمني) مطلوب منه الإجابة على الضروريات المطلوبة منه، أي الرد على عدو مبعثر في كل مكان وغير مرئي، وضمن هذا (التجهيز) الجديد يمكن فهم القضية الجديدة في دور الجيش بمكافحة الإرهاب. مع ذلك يبقى السؤال مطروحاً: إذا كان العدو ليس دولة، أو ليس تحالفاً من الدول، فكيف يمكن إعلان الحرب عليه، وبأية طريقة؟
تحدّث بعض الاستراتيجيين الغربيين عن جانبين تم تنظيمهما مع عودة الجيش على الأرض الوطنية مستنداً على السلطات المدنية، هذا من جهة، وإعطاء دور لما يسمى بالقوات الخاصة التي تستند على استراتيجية من الحرب ضد الإرهاب وباستعدادات نوعية مسبقة من جهة أخرى.
ذكرنا في السابق أن دور الجيش البريطاني في أيرلندا الشمالية وفي الصراع ضد الإرهاب كان محدوداً، ولكن الحديث اليوم والخوف من هجوم إرهابي بأسلحة غير تقليدية، أو كيميائية جعل الدول تخطط لما هو أكثر كارثية في هذا الشأن، كما جعلها تبحث عن صيغ جديدة للتعاون المدني-العسكري. إن هذا التفكير لم يولد مع أحداث 11 سبتمبر 2001م، بل ظهر على سبيل المثال في الحالة الأمريكية منذ عام 1990م، وبعد الهجوم بالغاز داخل مترو طوكيو، وهذا ما دفع الأمريكيين إلى إنشاء وحدة خاصة بالتدخل السريع داخل جيش المشاة الأمريكي، تكون مدعومة من السلطات المدنية. وبعد 11 سبتمبر بدأت وزارة الدفاع الأمريكية بالتفكير بالبعد العسكري لأمن الوطن (Homeland Defense)، وأدى هذا التفكير لإعادة تنظيم لمخطط القيادة الموحدة مع إقامة (قيادة شمالية) مكثفة بالمنطقة الجغرافية (شمال الولايات المتحدة)، ويمكن توسيعها في حالة الهجمات الإرهابية.
في أسبانيا، تم تكليف الجيش بمهمة مراقبة بعض النقاط الحساسة ما بين عامي 1980، و 1990م، وحديثاً كُلّف (الحرس الوطني) بوضع مخطط في حالة وقوع هجمات إرهابية. وفي فرنسا يظهر أن الجيش هو الأكثر تواجداً على الأرض الوطنية وبمهمة أبعد من الدور الذي يقوم به البوليس. أما في بريطانيا وألمانيا، فقد اختلفت الأوضاع عن الدول الأخرى المذكورة، حيث فضلت كلتا الدولتان إعطاء دور أكبر لأجهزة المخابرات وإلى تكنولوجيا المعلومات الأمنية، أكثر من وضع مخططات يمكن أن يشارك فيها الجيش بشكل كبير.
إذن، نحن أمام حالة جديدة من التعاون المدني-العسكري، وهو تعاون يطرح سؤالاً هاماً: كيف يُعاد تنظيم الأجهزة الأمنية في مواجهة عدو غير مرئي وليس له هوية؟ في بداية الصراع ضد الإرهاب تم الحديث عن تنظيم عمل ومهام الفاعلين في هذا المضمار، واليوم وعبر ضفتي الأطلسي، يصار إلى وضع بنى جديدة للتنظيم يمكن أن يشارك فيها الجيش. وإذا كان تنظيم العمل ضم من قبل، ومنذ الحرب العالمية الثانية، أجهزة البوليس مع الجيش، وأجهزة المخابرات، فإنه اليوم أصبح مطلباً في غاية الأهمية بالنسبة للأوروبيين بعد أحداث 11 سبتمير، ونذكر هنا أن معظم الوحدات الخاصة الأوروبية لمكافحة الإرهاب استلهمت عملها من الوحدات الأمريكية المخصصة في هذا المضمار، وهي ليست وحدات عملياتية.
إن الخوف من حدوث أي تهديد إرهابي وجد مكاناً مميزاً له في الخطاب السياسي، لاسيما فيما يتعلق بتحديد وظائف وعمل القوات والعمليات الخارجية، ويمكننا ملاحظة خطين أساسيين مميزين في هذا الشأن: الأول: تم تجسيده من خلال المواقف التي ظهرت فيها إدارة الرئيس الأمريكي (جورج بوش الابن) ومعه حكومة (توني بلير)، والثاني: المواقف التي عبّر عنها الاتحاد الأوروبي. ونرى في الخط الأول أنه هجومي بوضوح كبير، وقد تم وضعه ضمن مفهوم: "اضرب عسكرياً حيث من الممكن أن يظهر التهديد"، ونرى في الثاني أنه يتلخص بفكرة "صدِّر الاستقرار حتى لا تستورد اللاستقرار".
أيضاً في الحالة الأولى، هناك تطورات تتعلق بمذاهب جديدة في حرب (التشكيلات المركزية)، وهذا بدوره يستدعي تشكيل وبناء مذاهب أخرى جديدة يمكنها الرد على هذه الشبكات، وهنا تكون القوات الخاصة مدعوة للعب دور مركزي في الصراع، وهذه القوات يجب أن تتمتع بمرونة كبيرة وحركة سريعة تسمح لها بالرد على عدو سريع ومفاجئ، ولا يعمل بمفهوم الحرب (التعاقدية)، وهمه الوحيد هو التأثير على رأي السكان المحليين. وعلى المدى البعيد، لابد من تشييد استقرار مستمر من خلال إعادة تنظيم الأجهزة الأمنية في البلدان التي تكون مسرحاً للأحداث أو لتدخل القوات، وهذا يتطلب في الواقع إعادة توزيع للأدوار ربما يكون معقداً ولكنه إجباري.
في العراق مثلاً، شارك جهاز FBI بتكوين قوات البوليس العراقية، بينما الجيش الأمريكي كان يشارك بشكل مباشر في إعداد وتدريب الجيش العراقي. والسؤال هنا: هل يمكن اعتبار التطوّر في المذهب القتالي الجديد للجيش العراقي تطوراً جوهرياً يؤدي إلى تحوُّل يجعل هذا الجيش يقوم بالحرب كمرافق للولايات المتحدة وبريطانيا؟ يرى بعض المحللين العسكريين أن (التحوّل) هنا ليس عبارة عن (مذهب)، بل هو طريقة أو منهج، بمعنى آخر، طريقة في العمل وتنفيذ أو تطبيق النظرية الاستراتيجية الأمريكية الشهيرة (الثورة في الشؤون العسكرية) Revolution in Military Affairs(15)، علماً أن مؤسسي هذه النظرية يتوقعون في تطبيقها حصول تغيرات مذهبية حقيقية.
وبالعودة إلى مفهوم (التحوّل) Transformation، فإن هدفه هو بناء جيوش مرنة لديها تكنولوجيا عالية وليس عبارة عن كتلة واحدة، بل على شكل شبكات، وتكون قادرة على التدخل في مسرح العمليات باعتبار أن مفهوم الجبهة الأمامية أو التي فيها خطوط مع العدو لم يعد لها معنى اليوم، إنه تحوّل يهدف إلى تواجد متزامن للمعلومات لدى جميع الوحدات التي لها علاقة بمسرح العمليات وفيما يخص كل نقطة من نقاط التدخل، ونرى اليوم في مشروع وبرنامج (التحوّل) أنه يتزامن مع الخطاب السياسي الذي عرفته إدارة الرئيس (جورج بوش)، لاسيما في فترتها الثانية، ويمكن ملاحظة هذا المشروع في إحدى التصريحات المتعلقة بوزارة الدفاع الأمريكية: (الحرب على الإرهاب هي حرب ضد شبكات وليست ضد أمم).
في الحالة الثانية، أو الخط الأوروبي، نرى هذه الحالة تختلف ولكن لا تبتعد كثيراً عن التفكير بعمق حول الوضع الجديد للجهاز العسكري بطريقة (إقامة نظام متكامل يربط الجوانب الداخلية للأمن مع الجوانب الخارجية)، ومن أجل جعل الجيش أكثر كفاءة في الرد والاستجابة لمهماته الجديدة، إن كان يتعلق بالمعلومات والاستخبارات، أو بالتمتع بالقوة والمعرفة. لقد بدأ الأوروبيون منذ عام 1990م بالتفكير بضرورة إعادة تنظيم وتحديث الوسائل المتاحة للجيش، وبخاصة في المهمات التي ربما ستعطى له مستقبلاً على الأرض الوطنية في الصراع ضد الإرهاب، وفي جميع الحالات، فإن هناك اتفاق على الصعيد السياسي، وفي موضوع الصراع ضد الإرهاب بتنظيم العمليات الخارجية من أجل حماية التراب الوطني عن بعد.
وأخيراً، فإن النقاش يجري اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، عن دور الجيوش في الصراع ضد الإرهاب والعنف السياسي عابر القوميات، وسيكون من الخطأ الاعتقاد أن أهمية هذا الموضوع جاءت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م، بل هو موضوع يدرس ويخطط له قبل ذلك بكثير، بغض النظر عن انطلاقة الفكرة، فإن ثنائية الأمن الخارجي والأمن الداخلي المطروحة بقوة، هي دعوة موجهة للجيوش لتشارك بحماية الدفاع عن الأرض الوطنية من خلال عملياتها الخارجية المخططة.
أما العالم اليوم، فهو ليس عالم من الأخيار والأشرار، بل عالم يقف أمام ظاهرة اجتماعية سياسية واستخدام ذرائعي للدين، وبالتالي لا نستطيع تصنيف البشرية جمعاء إما بأصدقاء أو أعداء، بل مطلوب من الجميع التعاون والشراكة في وضع حد نهائي لظاهرة الإرهاب والعنف السياسي.
نتائج أولية:
في ختام هذا البحث المستند إلى دراسات ومراجع غربية حول ظاهرة الإرهاب وكيفية الصراع ضده، يمكننا أن نضع بعض النتائج الأولية والعامة:
الصراع ضد الإرهاب يستوجب قدرة كبيرة على استباق الأحداث وفي الحصول على المعلومات.
إن الطرق التي يتبعها الجيش أو الأجهزة الأمنية في صراعها ضد الإرهاب تختلف بشكل عابر عن عمل السياسيين ووسائل الإعلام في هذا الشأن.
إن التعامل مع الإرهاب لا يتم وفق طريقة واحدة، بل يخضع لطبيعة كل حالة بمعزل عن الأخرى.
على صعيد الوضع الداخلي للدولة، الصراع ضد الإرهاب لا يمكن أن يكون من اختصاص جهة بعينها، أو من اختصاص القوات المسلحة بمفردها.
في عمليات الصراع المستمر ضد الإرهاب لابد من الاستناد دائماً إلى مبادئ (دولة القانون)
المراجع:
1. ظهر العديد من الدراسات الأوروبية والأمريكية التي تحاول قراءة التحولات الجديدة في مهام الجيوش الغربية، وكان من أهم هذه الدراسات مجموعة من المؤلفات التي صدرت بشكل خاص عام 2006م باللغتين الفرنسية والإنجليزية، ومن أهم عناوينها: كتاب "الجيش الفرنسي والصراع ضد الإرهاب"، وكتاب آخر بعنوان: "دور الجيوش في بريطانيا، وألمانيا، وأسبانيا، والولايات المتحدة". وقد حاولنا وبجهد كبير الاستفادة من هذه الكتب، علماً أنها كبيرة وتحتاج إلى ترجمة متكاملة كون الأفكار مرتبطة وكل كتاب فيها يستند إلى الآخر.
2. انظر في هذا الصدد: (Bigo Didier)، "استحالة وضع خرائط للإرهاب"، بالفرنسية، صادر عن دار Culture and Conflits، فرنسا.
3. صدر هذا الكتاب عن السكرتارية العامة للدفاع الوطني SGDN، و "الوثائق الفرنسية"، 2006م.
4. "الدفاع ضد الإرهاب: أولوية لوزارة الدفاع" مجموعة "تحليلات ومراجع"، DICoD، آذار 2006م.
5. انظر: "دفاع وهوية: صيرورة أمنية شاملة؟"، صادر عن Culture and Conflits، العدد 44، دار نشر Harmattan، باريس، شتاء عام 2001م.
6. انظر: Bourdon William، حوار أجراه معه Christian Olsson، عنوان الحوار: "الخروج من الصمت، رفض الإفلات من العقاب"، نشر في Culture and Conflits، العدد 56، الصفحة من 71 إلى 83.
7. الكتاب الأبيض، صدر عن الحكومة الفرنسية حول الأمن الداخلي في مواجهة الإرهاب، الصفحة 7.
8. فيليب بونديتي، المرجع السابق.
9. المادة (421)، الفقرة (1) من القانون الجزائي، (قانون رقم 96 على 647 صادر في 22 تموز 1996م، قانون رقم 98 على 17، 167، حزيران 1998م، قانون 2001 على 1062، 15 تشرين الثاني 2001)، وجميعها قوانين نشرت في الصحف الفرنية الرسمية.
10. نشر هذا التعريف عام 1973م، وقد تمت العودة إليه في أيرلندا الشمالية عام 1996م.
11. The use or threat (of action) designed to influence the government or to intimidate the public or a section of the public, and the use or threat is made for the puposes of advancing a political, religious or ideological causeس.
12. US Civil Code titre 50, Chapitre 36, subchapter 2, Section 180.
13. أفضل مثال يمكن أن نقدمه على طريقة الثأر والانتقام الوحشي للجيش الأمريكي في هذه الفترة، هي الغارات التي قام بها ضد الدولة الليبية في عام 1986م، وذهب ضحيتها أبرياء ومدنيون.
14. حتى هذا الوقت كان تدخل الجيش الأمريكي فوق الأرض الوطنية محدوداً بواسطة Posse Commitatos لعام 1978م، والذي لا يسمح إلاّ بانتشار (جيش الاحتياط الوطني) في حالة الكوارث الطبيعية أو زعزعة كبيرة في النظام العام تتجاوز قدرات الجهات المدنية.
15. انظر: د. صلاح نيوف، "مدخل إلى الفكر الاستراتيجي"، منشورات الأكاديمية العربية المفتوحة في الدنمارك، الصفحة 93 (إن مصطلح (RMA) (Revolution in Military Affairs)، ظهر في المفردات الأمريكية في سنوات التسعينيات ، وذلك بتحريض من مدير Net Assessment Office of Pentagone، وهو Andrew w. Marshall، حيث وقف مع الفكر القائل بأن الثورة العميقة التي نتجت عن التجديدات التقنية سيكون لها نتائج مذهبية doctrinales كبيرة، إن الفكرة الأساسية للمفهوم ترتكز على أن الحرب من الآن فصاعداً قد تغيرت بشكل جذري فيما يتعلق بطريقة وآلية العمل، أو بطبيعتها، لاسيما مع قدوم وسائل أخرى جديدة في المراقبة وبناء جيوش لها قدرات كبيرة ودقيقة في الوقت نفسه، أما الشجاعة والإرادة الإنسانية فقد وجدت أيضاً من الآن فصاعداً أمام أو في مواجهة التقنية، فالتقنية تحكم في جميع المجالات، إنها تفرض تغيرات مذهبية وعملياتية لها اتساع كبير).
 
رد: دور الجيوش في الصراع ضد الارهاب

امريكا واسرائيل وعملائهما والخونة المعروفين هم وراء الفتن في الوطن العربي​
 
عودة
أعلى