عظمى والى استعادة روسيا ما يكفي من النفوذ لتكون بين الاقوياء مستقبلاً، جاء من يقول لاصحاب هذه النظريات أيضا: انتم مخطئون، الصين ليست إلا نمراً من ورق، وروسيا لن تصمد، وفي العشرينات من هذا القرن ستكون الصين تشرذمت وروسيا تفككت.
هذا ليس كل ما في توقعات الخبير الاستراتيجي الاميركي المعروف جورج فريدمان في كتابه الجديد "السنوات المئة المقبلة" الذي صدر في كانون الثاني: ثلاث دول ستصعد هي اليابان وتركيا وبولونيا، وهذه الدول ستشكل تهديداً لاميركا الى درجة انها ستخوض حرباً معها في منتصف القرن. وأكثر من ذلك، المكسيك ستكبر وستكون التهديد الفعلي لاميركا التي ستدخل في مواجهة كبيرة معها في نهاية القرن. مواجهة ستحدد من سيسيطر على أميركا الشمالية في القرن الثاني والعشرين.
لو لم يكن هذا الكلام بتوقيع جورج فريدمان لظن المرء أمام أجزاء من الكتاب انه يقرأ رواية من الخيال العلمي. ولكن أياً يكن الموقف من التوقعات وتفاصيلها، فإنه يصعب التعامل معها بخفة. ذلك ان فريدمان اسم معروف جداً في نطاق التوقعات المستقبلية على أساس المعلومات والتحليلات الجيوسياسية والاستراتيجية، ليس في مقالاته أو كتبه فحسب، ومنها "الحرب السرية لاميركا" وهو من الاكثر مبيعا، بل في رئاسته مركز "ستراتفور" المتخصص في التوقعات الاستراتيجية المستقبلية والذي وُصف بأنه شركة الاستخبارات الخاصة الاولى في أميركا وقيل أيضاً انه "ظل" وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إي"، وصار له عدد متزايد من الشركات والافراد ممن يعتمدون تحليلاته وتوقعاته.
اذاً يناقض فريدمان كل التوقعات المتداولة منذ سنوات. يناقض نظرية ايمانويل وولرشتاين عن نهاية الامبراطورية الاميركية والذي لا يزال يتمسك بها بعد ثماني سنوات ويرى انها ستتحقق في العقد المقبل. ويناقض عدداً من المؤرخين وعلماء السياسة ممن أصدروا كتباً أو نشروا مقالات عن أفول أميركا أو تراجع دورها السياسي، أو في أحسن الاحوال عن وجوب ان تقرأ جيداً اسباب انحطاط الامبراطوريات في الماضي. ويناقض أيضاً كل ما كتب عن بروز الصين وروسيا وآخره كان كتاب فريد زكريا "عالم ما بعد أميركا" الذي لا يبشر بنهاية العصر الاميركي بل بـ "صعود الآخرين" ومن هذه الدول أيضاً الهند والبرازيل.
بل ان فريدمان يخالف حتى تقرير مجلس الاستخبارات القومي وهو مركز الابحاث التابع لـ "السي آي إي" الذي صدر حديثاً عن "الاتجاهات العالمية 2025" وفيه ان أميركا ستجد نفسها سنة 2025 واحدة بين لاعبين مهمين آخرين حتى في المجال العسكري وإن تكن ستبقى الاقوى، وأن عالما متعدد القطب سيتبلور مع صعود الصين والهند وروسيا. ورأى ان لا دولة أخرى لديها فرص للصعود مثل هذه الدول الثلاث، فيما ستزداد القدرات الاقتصادية لدول مثل إندونيسيا وايران وتركيا .
وعلى هذه الخلفية لا يبدو مصادفة ان يقول فريدمان في شرح توقعاته إن الشعار القديم "كونوا عمليين وطالبوا بالمستحيل" يجب ان يتغيَّر ليصير"كونوا عمليين وتوقّعوا المستحيل". فهذه فكرة في صلب منهجيته. ويقول انه لا يملك كرة سحرية بل لديه طريقة ساعدته على فهم الماضي وتوقّع المستقبل، اذ "تحت فوضى التاريخ، مهمتي هي ايجاد نظام وتوقع الاحداث أو الاتجاهات التي يمكن هذا النظام ان يجلبها".
ينطلق في تحديد الاتجاهات بدحض نظرية قرب نهاية الامبراطورية الاميركية معتمدا على الارقام:
- تشكل أميركا 4% من سكان العالم فيما 26% من النشاط الاقتصادي العالمي يحصل فيها. ففي 2007 بلغ الناتج المحلي الاجمالي الاميركي 14 تريليون دولار من أصل 54 تريليوناً كان الناتج المماثل للعالم. واقتصادها ضخم الى درجة انه أكبر من اقتصادات الدول الاربع التي تليه مجتمعة وهي اليابان والمانيا والصين وبريطانيا، علما ان الناتج المحلي الاجمالي لليابان، وهي الاقتصاد الاكبر الثاني، يبلغ 4،4 تريليونات دولار اي قرابة ثلث الاقتصاد الاميركي.
- يشار باستمرار الى التراجع في صناعات الصلب والسيارات التي كانت قبل جيل واحد عماد الاقتصاد الاميركي على انه دليل على تراجع أميركا كدولة صناعية. ولكن على رغم هذا التراجع، بلغ انتاجها الصناعي 2,8 تريليوني دولار في 2006، وهذا هو الاكبر في العالم، واكبر من ضعفي حجم القدرة الصناعية الثانية أي اليابان وأكبر من صناعات اليابان والصين معاً.
- هناك حديث عن نقص في النفط، والنقص موجود وسيزداد. ولكن ينبغي التذكير بأن أميركا انتجت 8,3 ملايين برميل يوميا في 2006 في مقابل 9,7 مليون برميل انتجـــــتها روسيا و10,7 ملايين برميل انتجتها السعودية. ويتبين ان أميركا تنتج 85% من إنتاج السعودية، وعملياً تنتج نفطاً أكثر من ايران والكويت والامارات العربية المتحدة. وانتاجها من الغاز الطبيعي لا يختلف. ففي 2006 كانت روسيا الاولى مع انتاج 22٫4 تريليون قدم مكعّب واميركا الثانية مع 18,7 تريليون قدم مكعب، أي اكثر من انتاج الدول الخمس التي تليها. لكن استهلاك اميركا للنفط والغاز في كلا الحالين هائل.
- على رغم ضخامة اقتصادها، لا يزال عدد السكان في أميركا دون المعدل العالمي الذي يبلغ 49 شخصاً في كل كيلومتر مربع. فالمعدل في اليابان هو 338 وفي المانيا 230 ، لكنه في اميركا هو 31 فقط. يضاف الى ذلك ان معدل ما لدى الفرد الاميركي من الاراضي الزراعية هو خمسة أضعاف ما للفرد في اسيا وضعفا ما له تقريباً في اوروبا وثلاثة اضعاف المعدل العالمي.
كل هذه الارقام، يقول فريدمان، تظهر ان أميركا لا تزال تنمو ولديها القدرة على التوسع في المجالات الثلاثة المطلوبة للإقتصاد، أي الارض واليد العاملة ورأس المال. أما الجواب الابسط لشرح سبب قوتها، فهو قدراتها العسكرية. أميركا تسيطر كلياً على قارة لا يمكن اختراقها بغزو أو احتلال ويطغى جيشها على كل جيوش جيرانها، وتسيطر على كل محيطات العالم بحيث لا تستطيع أي قوة عسكرية ان تتحرك من دون علمها وتالياً تسيطر على النظام التجاري العالمي. وهذا لم يحصل في العالم من قبل. ولعل ما عزز هذه القوة ان الدول التي تخوض حروباً تحتاج الى وقت لتفيق من آثارها، أما اميركا فخاضت حروبا وانتعشت بفضلها. سيطرتها تحققت في الحربين العالميتين ثم في انهيار الاتحاد السوفياتي وستستمر على الاقل قرناً ستدور احداثه حولها وسيكون "تاريخه تاريخها" ليس لانها قوية فحسب "بل لان ثقافتها ستخترق العالم وتحدده مثلما فعلت الثقافتان الفرنسية والبريطانية خلال فترات قوتهما. الثقافة الاميركية على حداثتها وبربريتها ستحدد طريقة تفكير العالم وعيشه".
وفي محاولته شرح هذه القوة، يقول فريدمان إن "اميركا هي خليط غريب من الثقة الزائدة بالنفس والشعور بعدم الامان. وهذا هو تماماً وصف عقل المراهق وهو تماماً حال أميركا في القرن الـ21. القوة العظمى التي تقود العالم لديها ازمة هوية مرحلة المراهقة". ولكن لانها الاقوى والكل يريد رضاها حتى الرافضون قوتها "تميل اميركا الى ان تكون مهملة في ممارستها قوتها في العالم. هي ليست غبية لكنها ببساطة لا تحتاج الى ان تكون دقيقة او متنبّهة. اذا كانت كذلك يمكن ان تنخفض فاعليتها. كما تميل الى اتخاذ خطوات أو قرارات تعتبرها دول أخرى غير مسؤولة".
"العصر الاميركي" بدأ بحسب فريدمان في 1991 عندما انهار الاتحاد السوفياتي، واختباره الأول كان بعد عشر سنين في 11 ايلول 2001. ردت اميركا "بغزو العالم الاسلامي"، ويقول إن الهدف لم يكن الانتصار "بل لم يكن واضحاً بعد ما يعنيه النصر"، الهدف كان ببساطة احداث اضطراب في العالم الاسلامي وووضعه في مواجهة داخلية لئلا تظهر امبراطورية اسلامية". فالقوة الاميركية "لا تحتاج الى حروب تنتصر فيها. تحتاج ببساطة الى خربطة الامور كي لا يتمكن الطرف الآخر من بناء قوة كافية تتحداها". واستنتاجه أن "هذا القرن بدأ بانتصار لا يبدو على السطح هزيمة فحسب وانما إحراج سياسي وأخلاقي عميق".
واذ يعتبر ان الحرب الاميركية - الاسلامية بلغت نهاياتها، فإنه يعتقد ان تاريخ هذا القرن وخصوصاً نصفه الاول سيتمحور على صراعين: الاول سيكون قوى ثانوية تشكل محاور لمحاولة احتواء اميركا، والثاني سيكون اتخاذ اميركا اجراءات استباقية لمنع أي تحالف فعال من التشكل. ويلاحظ ان الصراع المقبل بدأ يلوح.
وعلى عكس توقعات كثيرين أن الصين ستكون التحدي الأول لأميركا هذا القرن، يقول فريدمان إن هذا "موجود فقط في اذهان الآخرين". يقفز على الواقع الاقتصادي المذهل للصين اليوم ليقول إنه لا يعتبرها قادرة على الصمود لتصير دولة عظمى بل لا يعتقد انها قادرة على البقاء دولة موحدة ولو أقر بأن أي مناقشة للمستقبل لا بد ان تشمل الصين.
معقول؟ الصين لم تتوقف عن السعي ببراغماتية شديدة الى التنمية الاقتصادية منذ ذلك الخطاب الشهير لدنغ شياو بينغ في 1978 والذي حض فيه النظام على ترك الحقائق لا العقيدة تقود المسيرة وقال: "لا يهم اذا كانت هرة سوداء او بيضاء. فما دامت تلتقط الفئران فإنها هرة جيدة" وحققت نتائج لا تزال مبهرة. مذذاك يتضاعف اقتصادها كل ثماني سنوات. وقد بلغت نسبة النمو 9% سنويا وهذه النسبة الاعلى في التاريخ المعروف. وفي بعض التفاصيل مثلاً انها في 1978 انتجت 200 مكيف للهواء فقط وفي 2005 انتجت 48 مليون مكيف. واليوم تصدِّر من البضائع في يوم واحد ما صدّرته طوال 1978. واليوم أيضاً تنتج ثلثي حاجة العالم من الالات الناسخة والمايكروويف والافران والأحذية، وقد ارتفعت نسبة صادراتها لاميركا 1600 % في 15 سنة الأخيرة. لا يتوقع احد للصين ان تتفوق على اميركا عسكرياً او سياسياً أو اقتصادياً في أي مستقبل قريب. ولكن هل يعقل ان يزول كل هذا؟
بالنسبة الى فريدمان، الصين هي "يابان الثمانينات من القرن الماضي ولكن مع منشطات". يقول إن اقتصادها يبدو حيويا وصحيا وهناك نسبة كبيرة من نموها حقيقية لكنها لا تقوّي الاقتصاد. فإذا تباطأ هذا بسبب الركود في أميركا فان بنيتها كلها ستنهار، وديون الصين بمئات المليارات والعلاج الذي تعتمدة هو الانتاج السريع والبيع الرخيص وهذا نتائجه سريعة ولكن لا تدوم. والاقتصاد هو أحد الاسباب فقط. هناك طبيعة الصين بجغرافيتها وتاريخها. هي دولة معزولة عملياً ومعظم سكانها يتجمّعون في الداخل. وهي لم تعد قوة بحرية ضخمة منذ عقود وبناء اسطول بحري فاعل وقوي يحتاج الى مدة طويلة لاكتساب المعدات والخبرات. والاهم انها بطبيعتها غير مستقرة. ونظريته في هذا انه كلما انفتحت الصين على الخارج، تزدهر مناطقها الساحلية فيما يبقى الداخل فقيراً ومحروماً. وهذا يعني توتراً ونزاعات، "هذه ليست المرة الاولى تفتح الصين حدودها ولن تكون الأخيرة تحصل فيها اضطرابات". ذلك ان الاهم ان ازمة الصين سياسية. فما يجمعها كدولة اليوم هو المال وليس العقيدة وتديرها بيروقراطية ضخمة فيما اجهزة الامن تنفِّذ ارادة الحزب الحاكم. وعندما يتراجع المال سيهتز النسيج الاجتماعي كله وسيكون صعباً على الحزب تطبيق القانون لانه لن يعود قادرا على الاعتماد على رجاله. فمصالح هؤلاء تداخلت مع مصالح رجال الاعمال المرتبطة أساساً بالخارج.
تحل 2020 في توقعات فريدمان والصين ترزح تحت ضغوط اقتصادية تؤدي الى شرذمتها على طول الخطوط التقليدية المناطقية والمحلية وخطوط الطبقة الغنية ومصالح المستثمرين الاجانب فتعود أقرب الى حالها قبل ماو تسي تونغ.
تتشرذم الصين إذاً بينما تواجه أميركا التحدي الاول: روسيا. فهذه ستحاول اعادة بناء منطقة نفوذها القديم وخصوصاً في اتجاه مناطق حلف شمال الاطلسي حيث جمهوريات البلطيق وبولونيا. ونظرية فريدمان ان روسيا لا تستطيع حماية أراضيها الشاسعة وثرواتها الطبيعية من دون إيجاد مناطق عازلة في ثلاثة اتجاهات. في اتجاه القوقاز لمواجهة أي تمدّد تركي يمكن أن يصل الى الشيشان، وهي تراقب توثّق العلاقة التركية - الاميركية. وفي اتجاه آسيا الوسطى التي اذا سيطرت قوة معادية عليها وتحديدا على قازاقستان سيطرت على الفولغا، شريان الحياة للزراعة الروسية، وأميركا وصلت الى المنطقة في اطار حربها على أفغانستان. وفي اتجاه أوروبا نحو البلطيق وبولونيا لصد تمدد حلف شمال الاطلسي. ولا يمكن روسيا أيضاً إلاّ ان تسيطر على أوكرانيا وروسيا البيضاء لانه اذا انضمت هاتان الدولتان الى الاطلسي ستسقط روسيا حكما. هذا سلوك دفاعي ستنتهجه روسيا، لكن أميركا ستعتبره عدائيا وسترد عليه وانطلاقا من استراتيجيتها في أوراسيا والمتمثلة في منع اي قوة من السيطرة عليها أو على جزء منها وفي الوقت عينه تفادي الحرب. الرد سيكون بمحاولة ابقاء روسيا مشغولة في البلطيق وبولونيا. وسيزداد خوف بولونيا من روسيا كما يزداد اعتمادها على أميركا وفي حدود 2015 سينشأ تكتل من الدول السوفياتية سابقا بقيادتها وبدعم اميركي وسيكون اكثر حيوية من اوروبا الغربية. وستتصاعد التوترات ثم المواجهة في 2020 ولن تكون مثل الحرب الباردة لأن روسيا ستنقصها القوة لاحتلال أوراسيا وتنجح أميركا في ابقائه تهديداً اقليمياً وفي ممارسة ضغوط تؤدي في النهاية الى انهيار جديد للقوات الروسية بعيد 2020.
"نتيجة مثالية من وجهة نظر الاستراتيجية الاميركية" يقول فريدمان: روسيا انهارت مجدداً. الصين تشرذمت. أوراسيا في حال من الفوضى تساهم في تمدد التمزق الى آسيا الوسطى.
هكذا يبدأ العالم الجديد بالظهور. ثلاث دول ستكون في مواقع وظروف تسمح لها باستغلال الوضع:
- الاولى اليابان: تملك الاقتصاد الثاني في العالم ولكن الاكثر هشاشة لانها تعتمد كلياً على استيراد المواد الخام. تواجه ازمة عمالة كبيرة نتيجة انخفاض عدد سكانها. عينها على المدى البحري لروسيا وشمال شرق الصين. خائفة من التقارب الاميركي مع الصين الضعيفة وكوريا التي تكون توحّدت. لا شهية لدى اليابان للحرب ولكن لا تجد خياراً غير اثبات نفسها قوة اقليمية كبرى. تبدأ بتعزيز قدراتها العسكرية والبحرية والفضائية.
- الثانية تركيا: تتخذ قراراً استراتيجياً لا بد منه في حدود سنة 2020 بأنه لم يعد في استطاعتها الاعتماد على منطقة محاذية رخوة لحمايتها من روسيا. تتحرك الى القوقاز لتحمي نفسها. وسيكون لها دور حاسم في المواجهة مع روسيا. ومع انهيار الاخيرة ستترتب الاوضاع في المنطقة حولها. لن تكون تركيا امبراطورية كما كانت في الماضي، لكنها ستكون محور العالم الاسلامي ونقطة الجذب فيه. دولة مستقرة باقتصاد قوي في بحر من الفوضى والاضطراب تواجه تهديدات من كل اتجاه. ايران من الجنوب الشرقي والعالم العربي من الجنوب والبلقان من الشمال الغربي. أما العالم الاسلامي، فسيكون في حال من التفكك الحاد على كل الخطوط التي يمكن تصورها. رد الفعل الاميركي سيكون ايجابياً وموضع ترحيب في البدء ولكن في أواخر العشرينات ستبدأ اميركا بالانزعاج.
- الثالثة بولونيا: بعد ان تكون قادت التكتل الذي تواجه به أميركا روسيا، سترى ان الفرصة لن تتكرر ليس للعودة الى الحدود السابقة فحسب بل لحماية نفسها مرة اخيرة ضد أي دولة روسية مستقبلاً. وستضغط بعد سقوط روسيا في اتجاه روسيا البيضاء وأوكرانيا. بولونيا لم تكن قوة عظمى منذ القرن الـ 16 لكنها كانت ذات يوم، ويعتقد فريدمان انها ستكون كذلك من جديد في الدرجة الاولى لأن المانيا، التي لا يزال اقتصادها الكبير ينمو، ستفقد الديناميكية التي ميزتها عقوداً وينخفض عدد سكانها بشكل حاد في العقود المقبلة، وتفقد أي شهية للمواجهة مع روسيا.
هذه الاتجاهات ستتضح وتتعزز في الثلاثينات والاربعينات وتترافق تدريجاً مع توتر في العلاقات مع أميركا بما يؤدي عمليا الى تحالف بين تركيا واليابان. وتنفجر الحرب سنة 2050 وتكون مختلفة عن الحروب التي عرفها العالم نتيجة التطور التكنولوجي ولان ساحتها الاولى ستكون الفضاء. فريدمان يروي بغرابة تفاصيل هذه الحرب. ومع انه يقول في مقدمة كتابه إنه "بالتأكيد سيخطئ في التفاصيل التي يضع"، فإنه يذهب الى حد القول إن الحرب ستبدأ الساعة الخامسة بعد ظهر 24 تشرين الثاني 2050 عندما يكون الاميركيون مشغولين بعيد الشكر. عنصر تشويق يضيفه الى "الرواية" لكنه يضعف كثيراً جدية التحليلات سواء اتفق القارئ معها أم رفضها.
في أي حال، تنتهي الحرب وترتّب أميركا الوضع الذي يناسبها وتزدهر عقوداً الى ان تواجه ازمة جديدة حاسمة سببها المباشر انخفاض عدد سكان الارض هذا القرن مما سيفرض على اميركا وغيرها اغراء العمال للهجرة اليها. المكسيك التي ينتقل كثير من عمالها الى اميركا، يقول فريدمان، ستكبر اقتصادياً وتنمو فيها النزعة القومية منتصف القرن وفي نهايته ستكون المواجهة الكبرى بينهما وتنتعش المشاعر المكبوتة التي خلّفها احتلال اميركا اجزاء من المكسيك في القرن التاسع عشر. الى مَ ستؤول هذه المواجهة ومن سيسيطر على اميركا الشمالية؟
تنتهي التوقعات. يصعب ان يصدّقها كثيرون لانها في كثير من الاحيان لا تبدو منسجمة منطقياً مع واقع الامور اليوم، ويسهل أن يشكك فيها كثيرون لانها في كثير من الاحيان تدخل في تفاصيل لا يمكن اي انسان أن يتوقعها في المطلق. لكن الكتاب يرسم، في أي حال، اتجاهات تستحق التفكير فيها، ونظرا الى سمعة جورج فريدمان، فإنه سيكون إضافة مختلفة الى الجدل حول مصير الامبراطورية الاميركية. أما ماذا سيتحقق من التوقعات، فمن يعش ير!
هذا ليس كل ما في توقعات الخبير الاستراتيجي الاميركي المعروف جورج فريدمان في كتابه الجديد "السنوات المئة المقبلة" الذي صدر في كانون الثاني: ثلاث دول ستصعد هي اليابان وتركيا وبولونيا، وهذه الدول ستشكل تهديداً لاميركا الى درجة انها ستخوض حرباً معها في منتصف القرن. وأكثر من ذلك، المكسيك ستكبر وستكون التهديد الفعلي لاميركا التي ستدخل في مواجهة كبيرة معها في نهاية القرن. مواجهة ستحدد من سيسيطر على أميركا الشمالية في القرن الثاني والعشرين.
لو لم يكن هذا الكلام بتوقيع جورج فريدمان لظن المرء أمام أجزاء من الكتاب انه يقرأ رواية من الخيال العلمي. ولكن أياً يكن الموقف من التوقعات وتفاصيلها، فإنه يصعب التعامل معها بخفة. ذلك ان فريدمان اسم معروف جداً في نطاق التوقعات المستقبلية على أساس المعلومات والتحليلات الجيوسياسية والاستراتيجية، ليس في مقالاته أو كتبه فحسب، ومنها "الحرب السرية لاميركا" وهو من الاكثر مبيعا، بل في رئاسته مركز "ستراتفور" المتخصص في التوقعات الاستراتيجية المستقبلية والذي وُصف بأنه شركة الاستخبارات الخاصة الاولى في أميركا وقيل أيضاً انه "ظل" وكالة الاستخبارات المركزية "سي آي إي"، وصار له عدد متزايد من الشركات والافراد ممن يعتمدون تحليلاته وتوقعاته.
اذاً يناقض فريدمان كل التوقعات المتداولة منذ سنوات. يناقض نظرية ايمانويل وولرشتاين عن نهاية الامبراطورية الاميركية والذي لا يزال يتمسك بها بعد ثماني سنوات ويرى انها ستتحقق في العقد المقبل. ويناقض عدداً من المؤرخين وعلماء السياسة ممن أصدروا كتباً أو نشروا مقالات عن أفول أميركا أو تراجع دورها السياسي، أو في أحسن الاحوال عن وجوب ان تقرأ جيداً اسباب انحطاط الامبراطوريات في الماضي. ويناقض أيضاً كل ما كتب عن بروز الصين وروسيا وآخره كان كتاب فريد زكريا "عالم ما بعد أميركا" الذي لا يبشر بنهاية العصر الاميركي بل بـ "صعود الآخرين" ومن هذه الدول أيضاً الهند والبرازيل.
بل ان فريدمان يخالف حتى تقرير مجلس الاستخبارات القومي وهو مركز الابحاث التابع لـ "السي آي إي" الذي صدر حديثاً عن "الاتجاهات العالمية 2025" وفيه ان أميركا ستجد نفسها سنة 2025 واحدة بين لاعبين مهمين آخرين حتى في المجال العسكري وإن تكن ستبقى الاقوى، وأن عالما متعدد القطب سيتبلور مع صعود الصين والهند وروسيا. ورأى ان لا دولة أخرى لديها فرص للصعود مثل هذه الدول الثلاث، فيما ستزداد القدرات الاقتصادية لدول مثل إندونيسيا وايران وتركيا .
وعلى هذه الخلفية لا يبدو مصادفة ان يقول فريدمان في شرح توقعاته إن الشعار القديم "كونوا عمليين وطالبوا بالمستحيل" يجب ان يتغيَّر ليصير"كونوا عمليين وتوقّعوا المستحيل". فهذه فكرة في صلب منهجيته. ويقول انه لا يملك كرة سحرية بل لديه طريقة ساعدته على فهم الماضي وتوقّع المستقبل، اذ "تحت فوضى التاريخ، مهمتي هي ايجاد نظام وتوقع الاحداث أو الاتجاهات التي يمكن هذا النظام ان يجلبها".
ينطلق في تحديد الاتجاهات بدحض نظرية قرب نهاية الامبراطورية الاميركية معتمدا على الارقام:
- تشكل أميركا 4% من سكان العالم فيما 26% من النشاط الاقتصادي العالمي يحصل فيها. ففي 2007 بلغ الناتج المحلي الاجمالي الاميركي 14 تريليون دولار من أصل 54 تريليوناً كان الناتج المماثل للعالم. واقتصادها ضخم الى درجة انه أكبر من اقتصادات الدول الاربع التي تليه مجتمعة وهي اليابان والمانيا والصين وبريطانيا، علما ان الناتج المحلي الاجمالي لليابان، وهي الاقتصاد الاكبر الثاني، يبلغ 4،4 تريليونات دولار اي قرابة ثلث الاقتصاد الاميركي.
- يشار باستمرار الى التراجع في صناعات الصلب والسيارات التي كانت قبل جيل واحد عماد الاقتصاد الاميركي على انه دليل على تراجع أميركا كدولة صناعية. ولكن على رغم هذا التراجع، بلغ انتاجها الصناعي 2,8 تريليوني دولار في 2006، وهذا هو الاكبر في العالم، واكبر من ضعفي حجم القدرة الصناعية الثانية أي اليابان وأكبر من صناعات اليابان والصين معاً.
- هناك حديث عن نقص في النفط، والنقص موجود وسيزداد. ولكن ينبغي التذكير بأن أميركا انتجت 8,3 ملايين برميل يوميا في 2006 في مقابل 9,7 مليون برميل انتجـــــتها روسيا و10,7 ملايين برميل انتجتها السعودية. ويتبين ان أميركا تنتج 85% من إنتاج السعودية، وعملياً تنتج نفطاً أكثر من ايران والكويت والامارات العربية المتحدة. وانتاجها من الغاز الطبيعي لا يختلف. ففي 2006 كانت روسيا الاولى مع انتاج 22٫4 تريليون قدم مكعّب واميركا الثانية مع 18,7 تريليون قدم مكعب، أي اكثر من انتاج الدول الخمس التي تليها. لكن استهلاك اميركا للنفط والغاز في كلا الحالين هائل.
- على رغم ضخامة اقتصادها، لا يزال عدد السكان في أميركا دون المعدل العالمي الذي يبلغ 49 شخصاً في كل كيلومتر مربع. فالمعدل في اليابان هو 338 وفي المانيا 230 ، لكنه في اميركا هو 31 فقط. يضاف الى ذلك ان معدل ما لدى الفرد الاميركي من الاراضي الزراعية هو خمسة أضعاف ما للفرد في اسيا وضعفا ما له تقريباً في اوروبا وثلاثة اضعاف المعدل العالمي.
كل هذه الارقام، يقول فريدمان، تظهر ان أميركا لا تزال تنمو ولديها القدرة على التوسع في المجالات الثلاثة المطلوبة للإقتصاد، أي الارض واليد العاملة ورأس المال. أما الجواب الابسط لشرح سبب قوتها، فهو قدراتها العسكرية. أميركا تسيطر كلياً على قارة لا يمكن اختراقها بغزو أو احتلال ويطغى جيشها على كل جيوش جيرانها، وتسيطر على كل محيطات العالم بحيث لا تستطيع أي قوة عسكرية ان تتحرك من دون علمها وتالياً تسيطر على النظام التجاري العالمي. وهذا لم يحصل في العالم من قبل. ولعل ما عزز هذه القوة ان الدول التي تخوض حروباً تحتاج الى وقت لتفيق من آثارها، أما اميركا فخاضت حروبا وانتعشت بفضلها. سيطرتها تحققت في الحربين العالميتين ثم في انهيار الاتحاد السوفياتي وستستمر على الاقل قرناً ستدور احداثه حولها وسيكون "تاريخه تاريخها" ليس لانها قوية فحسب "بل لان ثقافتها ستخترق العالم وتحدده مثلما فعلت الثقافتان الفرنسية والبريطانية خلال فترات قوتهما. الثقافة الاميركية على حداثتها وبربريتها ستحدد طريقة تفكير العالم وعيشه".
وفي محاولته شرح هذه القوة، يقول فريدمان إن "اميركا هي خليط غريب من الثقة الزائدة بالنفس والشعور بعدم الامان. وهذا هو تماماً وصف عقل المراهق وهو تماماً حال أميركا في القرن الـ21. القوة العظمى التي تقود العالم لديها ازمة هوية مرحلة المراهقة". ولكن لانها الاقوى والكل يريد رضاها حتى الرافضون قوتها "تميل اميركا الى ان تكون مهملة في ممارستها قوتها في العالم. هي ليست غبية لكنها ببساطة لا تحتاج الى ان تكون دقيقة او متنبّهة. اذا كانت كذلك يمكن ان تنخفض فاعليتها. كما تميل الى اتخاذ خطوات أو قرارات تعتبرها دول أخرى غير مسؤولة".
"العصر الاميركي" بدأ بحسب فريدمان في 1991 عندما انهار الاتحاد السوفياتي، واختباره الأول كان بعد عشر سنين في 11 ايلول 2001. ردت اميركا "بغزو العالم الاسلامي"، ويقول إن الهدف لم يكن الانتصار "بل لم يكن واضحاً بعد ما يعنيه النصر"، الهدف كان ببساطة احداث اضطراب في العالم الاسلامي وووضعه في مواجهة داخلية لئلا تظهر امبراطورية اسلامية". فالقوة الاميركية "لا تحتاج الى حروب تنتصر فيها. تحتاج ببساطة الى خربطة الامور كي لا يتمكن الطرف الآخر من بناء قوة كافية تتحداها". واستنتاجه أن "هذا القرن بدأ بانتصار لا يبدو على السطح هزيمة فحسب وانما إحراج سياسي وأخلاقي عميق".
واذ يعتبر ان الحرب الاميركية - الاسلامية بلغت نهاياتها، فإنه يعتقد ان تاريخ هذا القرن وخصوصاً نصفه الاول سيتمحور على صراعين: الاول سيكون قوى ثانوية تشكل محاور لمحاولة احتواء اميركا، والثاني سيكون اتخاذ اميركا اجراءات استباقية لمنع أي تحالف فعال من التشكل. ويلاحظ ان الصراع المقبل بدأ يلوح.
وعلى عكس توقعات كثيرين أن الصين ستكون التحدي الأول لأميركا هذا القرن، يقول فريدمان إن هذا "موجود فقط في اذهان الآخرين". يقفز على الواقع الاقتصادي المذهل للصين اليوم ليقول إنه لا يعتبرها قادرة على الصمود لتصير دولة عظمى بل لا يعتقد انها قادرة على البقاء دولة موحدة ولو أقر بأن أي مناقشة للمستقبل لا بد ان تشمل الصين.
معقول؟ الصين لم تتوقف عن السعي ببراغماتية شديدة الى التنمية الاقتصادية منذ ذلك الخطاب الشهير لدنغ شياو بينغ في 1978 والذي حض فيه النظام على ترك الحقائق لا العقيدة تقود المسيرة وقال: "لا يهم اذا كانت هرة سوداء او بيضاء. فما دامت تلتقط الفئران فإنها هرة جيدة" وحققت نتائج لا تزال مبهرة. مذذاك يتضاعف اقتصادها كل ثماني سنوات. وقد بلغت نسبة النمو 9% سنويا وهذه النسبة الاعلى في التاريخ المعروف. وفي بعض التفاصيل مثلاً انها في 1978 انتجت 200 مكيف للهواء فقط وفي 2005 انتجت 48 مليون مكيف. واليوم تصدِّر من البضائع في يوم واحد ما صدّرته طوال 1978. واليوم أيضاً تنتج ثلثي حاجة العالم من الالات الناسخة والمايكروويف والافران والأحذية، وقد ارتفعت نسبة صادراتها لاميركا 1600 % في 15 سنة الأخيرة. لا يتوقع احد للصين ان تتفوق على اميركا عسكرياً او سياسياً أو اقتصادياً في أي مستقبل قريب. ولكن هل يعقل ان يزول كل هذا؟
بالنسبة الى فريدمان، الصين هي "يابان الثمانينات من القرن الماضي ولكن مع منشطات". يقول إن اقتصادها يبدو حيويا وصحيا وهناك نسبة كبيرة من نموها حقيقية لكنها لا تقوّي الاقتصاد. فإذا تباطأ هذا بسبب الركود في أميركا فان بنيتها كلها ستنهار، وديون الصين بمئات المليارات والعلاج الذي تعتمدة هو الانتاج السريع والبيع الرخيص وهذا نتائجه سريعة ولكن لا تدوم. والاقتصاد هو أحد الاسباب فقط. هناك طبيعة الصين بجغرافيتها وتاريخها. هي دولة معزولة عملياً ومعظم سكانها يتجمّعون في الداخل. وهي لم تعد قوة بحرية ضخمة منذ عقود وبناء اسطول بحري فاعل وقوي يحتاج الى مدة طويلة لاكتساب المعدات والخبرات. والاهم انها بطبيعتها غير مستقرة. ونظريته في هذا انه كلما انفتحت الصين على الخارج، تزدهر مناطقها الساحلية فيما يبقى الداخل فقيراً ومحروماً. وهذا يعني توتراً ونزاعات، "هذه ليست المرة الاولى تفتح الصين حدودها ولن تكون الأخيرة تحصل فيها اضطرابات". ذلك ان الاهم ان ازمة الصين سياسية. فما يجمعها كدولة اليوم هو المال وليس العقيدة وتديرها بيروقراطية ضخمة فيما اجهزة الامن تنفِّذ ارادة الحزب الحاكم. وعندما يتراجع المال سيهتز النسيج الاجتماعي كله وسيكون صعباً على الحزب تطبيق القانون لانه لن يعود قادرا على الاعتماد على رجاله. فمصالح هؤلاء تداخلت مع مصالح رجال الاعمال المرتبطة أساساً بالخارج.
تحل 2020 في توقعات فريدمان والصين ترزح تحت ضغوط اقتصادية تؤدي الى شرذمتها على طول الخطوط التقليدية المناطقية والمحلية وخطوط الطبقة الغنية ومصالح المستثمرين الاجانب فتعود أقرب الى حالها قبل ماو تسي تونغ.
تتشرذم الصين إذاً بينما تواجه أميركا التحدي الاول: روسيا. فهذه ستحاول اعادة بناء منطقة نفوذها القديم وخصوصاً في اتجاه مناطق حلف شمال الاطلسي حيث جمهوريات البلطيق وبولونيا. ونظرية فريدمان ان روسيا لا تستطيع حماية أراضيها الشاسعة وثرواتها الطبيعية من دون إيجاد مناطق عازلة في ثلاثة اتجاهات. في اتجاه القوقاز لمواجهة أي تمدّد تركي يمكن أن يصل الى الشيشان، وهي تراقب توثّق العلاقة التركية - الاميركية. وفي اتجاه آسيا الوسطى التي اذا سيطرت قوة معادية عليها وتحديدا على قازاقستان سيطرت على الفولغا، شريان الحياة للزراعة الروسية، وأميركا وصلت الى المنطقة في اطار حربها على أفغانستان. وفي اتجاه أوروبا نحو البلطيق وبولونيا لصد تمدد حلف شمال الاطلسي. ولا يمكن روسيا أيضاً إلاّ ان تسيطر على أوكرانيا وروسيا البيضاء لانه اذا انضمت هاتان الدولتان الى الاطلسي ستسقط روسيا حكما. هذا سلوك دفاعي ستنتهجه روسيا، لكن أميركا ستعتبره عدائيا وسترد عليه وانطلاقا من استراتيجيتها في أوراسيا والمتمثلة في منع اي قوة من السيطرة عليها أو على جزء منها وفي الوقت عينه تفادي الحرب. الرد سيكون بمحاولة ابقاء روسيا مشغولة في البلطيق وبولونيا. وسيزداد خوف بولونيا من روسيا كما يزداد اعتمادها على أميركا وفي حدود 2015 سينشأ تكتل من الدول السوفياتية سابقا بقيادتها وبدعم اميركي وسيكون اكثر حيوية من اوروبا الغربية. وستتصاعد التوترات ثم المواجهة في 2020 ولن تكون مثل الحرب الباردة لأن روسيا ستنقصها القوة لاحتلال أوراسيا وتنجح أميركا في ابقائه تهديداً اقليمياً وفي ممارسة ضغوط تؤدي في النهاية الى انهيار جديد للقوات الروسية بعيد 2020.
"نتيجة مثالية من وجهة نظر الاستراتيجية الاميركية" يقول فريدمان: روسيا انهارت مجدداً. الصين تشرذمت. أوراسيا في حال من الفوضى تساهم في تمدد التمزق الى آسيا الوسطى.
هكذا يبدأ العالم الجديد بالظهور. ثلاث دول ستكون في مواقع وظروف تسمح لها باستغلال الوضع:
- الاولى اليابان: تملك الاقتصاد الثاني في العالم ولكن الاكثر هشاشة لانها تعتمد كلياً على استيراد المواد الخام. تواجه ازمة عمالة كبيرة نتيجة انخفاض عدد سكانها. عينها على المدى البحري لروسيا وشمال شرق الصين. خائفة من التقارب الاميركي مع الصين الضعيفة وكوريا التي تكون توحّدت. لا شهية لدى اليابان للحرب ولكن لا تجد خياراً غير اثبات نفسها قوة اقليمية كبرى. تبدأ بتعزيز قدراتها العسكرية والبحرية والفضائية.
- الثانية تركيا: تتخذ قراراً استراتيجياً لا بد منه في حدود سنة 2020 بأنه لم يعد في استطاعتها الاعتماد على منطقة محاذية رخوة لحمايتها من روسيا. تتحرك الى القوقاز لتحمي نفسها. وسيكون لها دور حاسم في المواجهة مع روسيا. ومع انهيار الاخيرة ستترتب الاوضاع في المنطقة حولها. لن تكون تركيا امبراطورية كما كانت في الماضي، لكنها ستكون محور العالم الاسلامي ونقطة الجذب فيه. دولة مستقرة باقتصاد قوي في بحر من الفوضى والاضطراب تواجه تهديدات من كل اتجاه. ايران من الجنوب الشرقي والعالم العربي من الجنوب والبلقان من الشمال الغربي. أما العالم الاسلامي، فسيكون في حال من التفكك الحاد على كل الخطوط التي يمكن تصورها. رد الفعل الاميركي سيكون ايجابياً وموضع ترحيب في البدء ولكن في أواخر العشرينات ستبدأ اميركا بالانزعاج.
- الثالثة بولونيا: بعد ان تكون قادت التكتل الذي تواجه به أميركا روسيا، سترى ان الفرصة لن تتكرر ليس للعودة الى الحدود السابقة فحسب بل لحماية نفسها مرة اخيرة ضد أي دولة روسية مستقبلاً. وستضغط بعد سقوط روسيا في اتجاه روسيا البيضاء وأوكرانيا. بولونيا لم تكن قوة عظمى منذ القرن الـ 16 لكنها كانت ذات يوم، ويعتقد فريدمان انها ستكون كذلك من جديد في الدرجة الاولى لأن المانيا، التي لا يزال اقتصادها الكبير ينمو، ستفقد الديناميكية التي ميزتها عقوداً وينخفض عدد سكانها بشكل حاد في العقود المقبلة، وتفقد أي شهية للمواجهة مع روسيا.
هذه الاتجاهات ستتضح وتتعزز في الثلاثينات والاربعينات وتترافق تدريجاً مع توتر في العلاقات مع أميركا بما يؤدي عمليا الى تحالف بين تركيا واليابان. وتنفجر الحرب سنة 2050 وتكون مختلفة عن الحروب التي عرفها العالم نتيجة التطور التكنولوجي ولان ساحتها الاولى ستكون الفضاء. فريدمان يروي بغرابة تفاصيل هذه الحرب. ومع انه يقول في مقدمة كتابه إنه "بالتأكيد سيخطئ في التفاصيل التي يضع"، فإنه يذهب الى حد القول إن الحرب ستبدأ الساعة الخامسة بعد ظهر 24 تشرين الثاني 2050 عندما يكون الاميركيون مشغولين بعيد الشكر. عنصر تشويق يضيفه الى "الرواية" لكنه يضعف كثيراً جدية التحليلات سواء اتفق القارئ معها أم رفضها.
في أي حال، تنتهي الحرب وترتّب أميركا الوضع الذي يناسبها وتزدهر عقوداً الى ان تواجه ازمة جديدة حاسمة سببها المباشر انخفاض عدد سكان الارض هذا القرن مما سيفرض على اميركا وغيرها اغراء العمال للهجرة اليها. المكسيك التي ينتقل كثير من عمالها الى اميركا، يقول فريدمان، ستكبر اقتصادياً وتنمو فيها النزعة القومية منتصف القرن وفي نهايته ستكون المواجهة الكبرى بينهما وتنتعش المشاعر المكبوتة التي خلّفها احتلال اميركا اجزاء من المكسيك في القرن التاسع عشر. الى مَ ستؤول هذه المواجهة ومن سيسيطر على اميركا الشمالية؟
تنتهي التوقعات. يصعب ان يصدّقها كثيرون لانها في كثير من الاحيان لا تبدو منسجمة منطقياً مع واقع الامور اليوم، ويسهل أن يشكك فيها كثيرون لانها في كثير من الاحيان تدخل في تفاصيل لا يمكن اي انسان أن يتوقعها في المطلق. لكن الكتاب يرسم، في أي حال، اتجاهات تستحق التفكير فيها، ونظرا الى سمعة جورج فريدمان، فإنه سيكون إضافة مختلفة الى الجدل حول مصير الامبراطورية الاميركية. أما ماذا سيتحقق من التوقعات، فمن يعش ير!