العالم الأحادي القطب: التطرف الإسلامي باعتباره العدو الأول
يتم تحديد الصورة الحديثة للعلاقات الدولية- بشكل أساسي- من خلال الانتقال من النموذج الأحادي القطب، الذي تبلور في تسعينيات القرن العشرين، بالتزامن مع انهيار الاتحاد السوڤيتي، إلى نموذج متعدد الأقطاب لم تتضح معالمه بشكل كامل بعد، على الرغم من وجود ثلاثة من هذه الأقطاب بالفعل، هم:
1- الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
2- الصين.
3- روسيا.
بالطبع، ترفض كل من الولايات المتحدة ونخب الاتحاد الأوروبي- رفضًا قاطعًا- الاعتراف بأنفسهم مجرد قطب ضمن مجموعة من الأقطاب. يواصل العديد- وخاصة دعاة العولمة المخلصين مثل بايدن، وتلك الأوساط التي تدعمه من الديمقراطيين والمحافظين الجدد- رؤية العالم كنظام أحادي القطب ظهرت بعض الصعوبات الفنية في طريق إنشائه. في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين- بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر مباشرة- غالبًا ما كان يعد من ضمن هذه “الصعوبات المؤقتة” الإسلام الراديكالي، بدءًا من “القاعدة” و”طالبان” إلى “الإخوان المسلمون” و”داعش” (منظمات محظورة في روسيا). ناسب هذا الوضع دعاة العولمة بشكل عام، ويرجع ذلك- في المقام الأول- إلى وجود تلك القوى التي تم وضعها في مصاف “الأعداء الرئيسيين للغرب كذلك” خارج حدودهم الإقليمية.
تحت ذريعة محاربة “الإرهاب الإسلامي”، استطاعت الولايات المتحدة أن تغزو أراضي أي دولة تقريبًا؛ مما كان يعزز سيطرتها على العالم ويطلق لها حرية التصرف. كان وجود هذا “العدو” المزعوم مفيدًا؛ لأنه لم يشكل تهديدًا خطيرًا؛ ومن هنا جاءت فكرة أن “الإسلام الراديكالي” هو أداة جيوسياسية للعولمة، حيث إنه يمنح الولايات المتحدة ودول الناتو مبررات لغزو أي منطقة؛ ومن ثم الاستمرار في محو الحدود الوطنية، أو إعادة تشكيلها، خاصة أن الدول الإسلامية التي دعمت هذه التيارات كانت- على الرغم من غرابة الأمر حليفة للولايات المتحدة. وقد أكد هذا كذلك النظرية القائلة إنه تم تحويل الإسلام الراديكالي إلى أداة، تحديدًا من أولئك الذين تم توجيهه رسميًّا ضدهم.
ولكن في غضون ذلك، ازدادت قوة الصين، التي استغلت فرص العولمة الاقتصادية لصالحها، إلى درجة جعلتها تتحول- بدورها- إلى قطب مستقل؛ ومن هنا جاء خطاب الغرب المعادي للصين، الذي لم يختلف كثيرًا بين ترامب وبايدن.
إذا كانت روسيا قد حققت تكافؤًا معينًا- وإن كان نسبيًّا- مع الغرب في المجال الإستراتيجي، فإن الصين قد حققته في المجال الاقتصادي. ومع ذلك، أصبحت روسيا والصين بالفعل الآن، من خلال توحيد إمكاناتهما معًا، قوتين متوازنتين تمامًا مع القطب الغربي.
بعبارة أخرى، بفضل روسيا والصين، وبالنظر إلى أن پوتين وشي جين بينغ يدركان جيدًا أن مفتاح التعددية القطبية هو التحالف الروسي الصيني الذي يوقف الهيمنة الغربية، بل يقلبها، فإن العالم الأحادي القطب لم يواجه “صعوبات فنية” فحسب؛ بل يكاد يكون قد وصل إلى طريق مسدود. على عكس الراديكالية الإسلامية، يمثل القطبان المقابلان للغرب- هذه المرة- أنظمة جيوسياسية يمكن تمييزها بوضوح؛ لأنها دول ضخمة تدافع بصرامة عن أراضيها، وعن مناطق نفوذها الحدودية- كذلك- ضد تعديات الغرب.
لا تشجع روسيا والصين العولمة الأحادية القطب بأي شكل من الأشكال؛ بل على العكس، تتصدى لها تصديًّا فعالًا، وتدعم نموذجًا متعدد الأقطاب، حيث لن يكون هناك ببساطة مركز واحد لصنع القرار؛ وإنما سيتم تحديد كل شيء من خلال نظام قائم على الاتفاقات بين كثير من مراكز القوى التي تتمتع بسيادة جيوسياسية كاملة لا جدال فيها.
أولاً: تعرض الإسلام السياسي الراديكالي، الذي سعى في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى أن يكون القاسم المشترك للسياسات الإسلامية، تعرض لهزيمة ساحقة. انفصلت الجماعات الأكثر تطرفًا بعضها عن بعض، ولم يتم تطوير إستراتيجية أو أيديولوجية مشتركة. أصبح دورها كأداة أيضًا ثانويًّا في سياق التحكم الغربي. على مدى السنوات العشر الماضية، شهدنا تراجعًا في الإسلام السياسي الراديكالي. كما أن تلك الدول والأنظمة التي دعمته هي أيضًا تغير سياساتها أمام أعيننا من الآن فصاعدًا، أصبح الإسلام الراديكالي على الأرجح ظاهرة هامشية، معادية للجميع، أي للغرب الأحادي القطب، وروسيا والصين المتعددي الأقطاب. ولكن من المستحيل في مثل هذه الحالة معاداة الجميع، بالإضافة إلى مقاومة الاتجاهات الأخرى في العالم الإسلامي نفسه، والعمل في سياق وطني مختلف كذلك. لقد فشلت الوحدة الدولية للعالم الإسلامي القائم على الفكر السلفي والإخواني فشلاً نهائيًّا. يجب الاعتراف بذلك.
ثانيًا: على خلفية تراجع المشروع الإسلامي الكوني، بدأت نسخ أكثر محلية للجغرافيا السياسية الإسلامية بالظهور أكثر فأكثر. هنا، أولاً وقبل كل شيء، ينبغي الإشارة إلى اثنين من أكثر الأمثلة وضوحًا، وهما إيران الشيعية، وتركيا السنية.
لدى إيران والشيعة التابعين لها في الشرق الأوسط، وفي مناطق أخرى، أيديولوجيتهم الخاصة المبنية بوضوح، وتحليل أخروي حاد للتاريخ، وشبكة دينية وسياسية فعالة تمامًا عارضت إيران من الأساس المشروع السلفي للإسلام السياسي الكوني؛ ولذلك سعت إلى التحالف مع قوى العالم المتعدد الأقطاب (روسيا والصين). اتضح أن هذه إستراتيجية ناجحة تمامًا؛ حيث لم تؤدِّ إلى الحفاظ على حكم ولاية الفقيه في إيران نفسها فحسب- رغم كل العقوبات والضغوط التي مارسها الغرب- بل عززت الكتلة الشيعية في مناطق أخرى أيضًا.
تركيا، التي شاركت منذ البداية في دعم سياسة “الإخوان” من ناحية، واتبعت الغرب في إطار الاتفاقيات مع الناتو من ناحية أخرى، اتجهت تدريجيًّا إلى سياسة مختلفة، تذكرنا أكثر بالكمالية أو العثمانية المحدودة. ومرة أخرى يهرب أردوغان في المسائل المبدئية من النفوذ الغربي، ويلعب بذكاء بورقة روسيا والصين لضمان مزيد من السيادة لتركيا.
باختصار، تبنت إيران وتركيا نموذج العالم المتعدد الأقطاب، وأخذتا تبحثان عن مكانهما فيه. لن يخطر ببالهما في مثل هذه الظروف أن تخضعا بشكل تام للغرب، وتنقلبا على روسيا أو الصين. إن وجود التوترات هو أمر جائز دائمًا، ولكن من الواضح أن السياق العام لسياسات هاتين القوتين الإسلاميتين القويتين يقع بالفعل في إطار هيكل متعدد الأقطاب، في حين ليس بإمكان إيران أو تركيا- على عكس روسيا أو الصين- أن تكون قطبًا مستقلًا تمامًا، حيث يتطلب هذا إقامة تحالفات جديدة. حتى إن روسيا، لكونها قوة مقابلة للصين، بالكاد تقوى على مواجهتها؛ لذلك، لا يوجد في العالم المتعدد الأقطاب طريق واحد؛ بل طرق عديدة. أما عددها وأنواعها، فهو ما تقوم أنقرة وطهران الآن بدراسته، مرتكبتَين الأخطاء في بعض الأحيان، ومعدلتَين سياساتهما في أحيان أخرى.
ثالثًا: لدينا نموذج آخر هو باكستان. لقد شاركت هذه الدولة الإسلامية بنشاط في التحالف مع الغرب، وكذلك في الترويج للإسلام السياسي الراديكالي، خاصة في أفغانستان لكن التحليل الواقعي للوضع أظهر أن باكستان حتمًا في كلتا الحالتين تضعف من سيادتها إن لم يكن تفقدها بالكامل. تزداد قوة العالم المتعدد الأقطاب، على خلاف العالم الأحادي القطب، الذي تضعف قواه؛ لذلك ليس لدى الغرب كحليف سابق، شيء جديد يقدمه، ولكنه على العكس من ذلك، يمكن أن يلحق الضرر بباكستان إذا استمرت في اتباعه. وليس عمران خان وحده من يدرك ذلك؛ ولكن أيضًا القيادة العسكرية لباكستان، والدولة الباكستانية العميقة (Deep state). وبناءً على ذلك، خلصت إسلام أباد إلى نتيجة مفادها أنه قد حان الوقت لتعزيز التحالف مع الصين قدر الإمكان، وفي المستقبل مع روسيا كذلك، بالإضافة إلى اتباع سياسة إقليمية مستقلة ذات سيادة، في المناطق الحدودية مع الهند، وأفغانستان، وآسيا الوسطى.
رابعًا: حاول الإسلام في كل من ماليزيا وإندونيسيا- بشكل عام- اتباع منطق مناهضة الإمبريالية والمصالح القومية. ظهر الإسلام الراديكالي في هذه المنطقة، وكانت له تبعات، لكنه لم ينتشر؛ لذلك نرى مرة أخرى في هذا السياق بُعدًا عن الغرب الأحادي القطب، وعن الكونية الإسلامية التي تعارض دائمًا الدول القومية باسم دولة الأمة الواحدة لا تعارض هذه الأيديولوجية الأنظمة السياسية في عالم الملايو فحسب؛ بل المجتمعات الإسلامية التقليدية أيضًا. وتتلاشي مثل هذه الحركات تدريجيًّا مع تراجع الدعم الخارجي (الغربي والعربي) لها.
تميزت العقود الأخيرة في العالم العربي بأزمة خطيرة شهدتها الهياكل السياسية التي تشكلت خلال عملية إنهاء الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قُسِّمَت جميع البلدان إلى أنظمة تميل نحو الاشتراكية، وغيرها نحو الرأسمالية. مع ذلك، في كلتا الحالتين، أدّى العامل القومي من جهة، والطابع الديني الخاص من جهة أخرى، دورًا مهمًّا. ومع أن الدول البعثية القومية قد اختلف بعضها مع بعض منذ فترة طويلة، وفقدت الأفكار الاشتراكية مصداقيتها، وانهار معقلها الرئيسي (الاتحاد السوڤيتي)، فإن بقايا العالم الثنائي القطب ما زالت- مثل الألم الوهمي- تهيمن على العالم العربي من الشرق الأوسط إلى المغرب العربي.
خلال ما يسمى “الربيع العربي”، انهارت جميع الهياكل القديمة تقريبًا، أو طرأ عليها تحول كبير. اندلعت حروب أهلية دامية في ليبيا، والعراق، وسوريا (في ثلاث دول كانت يسارية بعثية- سابقًا). كما شهدت تونس ومصر اليمينيتان ثورات وانتفاضات. أدّى الإسلام السلفي الراديكالي و”الإخوان” في كل هذه الأحداث دورًا مهمًّا (وأحيانًا رئيسيًّا) لكنه لم يؤدِّ إلى أي استنتاجات واضحة في أي مكان. وهذا دليل آخر على طبيعته الأداتية؛ فقد استخدم الغرب هذا الاتجاه لزعزعة استقرار الوضع، كأداة لإثارة الصراعات الدموية، لكنه لم يتوصل إلى أي نتائج إيجابية، ولم تكن هناك أي إستراتيجية مؤكدة ومقنعة.
هاتان كتلتان مستقلتان إلى حد كبير، لا تعتمدان- بأي شكل من الأشكال- (باستثناء دولة قطر الصغيرة) على طهران، أو أنقرة. حتى لحظة معينة، ظلت تلك المناطق تحت التأثير السائد للغرب الرأسمالي. وفي التسعينيات من القرن الماضي، عندما نشأت “الأحادية القطبية”، وانهار الاتحاد السوڤيتي، وضعفت الأنظمة البعثية، أصبح الشرق الأوسط مكانًا تشكّل فيه الإسلام السياسي الراديكالي، في حين ظل المغرب العربي- عمومًا- نموذجًا للسياسة العلمانية ما بعد الاستعمار، الموالية للغرب بشكل عام، ولكن ذات طابع وطني خاص. باستثناء الأحداث الدموية في ليبيا، عندما انحاز ساركوزي- تحت تأثير اللوبي الموالي لأمريكا (برنار هنري ليفي في المقام الأول)- إلى الجماعات السلفية المتطرفة وساعد على القضاء على القذافي، كان الاتحاد الأوروبي يدعم بشدة السلطة العلمانية في المغرب العربي، مساعدًا على التصدي للمتمردين الإسلاميين.
على الجانب الآخر من الديكوتومية: “الإسلاموية مقابل العلمانية”.
إن التكوين لعالم متعدد الأقطاب يزداد بشكل أكثر وضوحًا، والنجاحات الواضحة للدول الإسلامية التي تبنت نموذجًا متعدد الأقطاب، ورفضت اتباع تيار العولمة أحادية القطب سعيًا إلى التقارب مع روسيا أو الصين، يضع العالم العربي في المعضلة نفسها. هل يجدر بنا أن نكتفي بالديكوتومية الجيوسياسية والأيديولوجية الحالية؟
الراديكالية الإسلامية (السلفية الإخوانية) في الشرق الأوسط مقابل النمط العلماني الموالي للغرب في دول المغرب العربي الذي يصاحبه أحيانًا عناصر قومية واضحة؟
كلتا النسختين فرضتها رؤية أحادية القطب للنظام العالمي، وبطبيعة الحال، يريد دعاة العولمة أنفسهم إقناع الجميع بأنه لا يوجد بديل آخر، لكن حقيقة وجود هذا البديل المتمثل في التعددية القطبية قد تم بالفعل فهمها بوضوح، واختبارها على أرض الواقع، خاصةً في سوريا وليبيا والعراق، من جانب كل من الشيعة والأتراك. في الوقت نفسه، تستخدم كل من طهران وأنقرة- ببراعة- العامل الروسي- على سبيل المثال- في مصلحتهما الخاصة، متنافستين إحداهما مع الأخرى في شراء الأسلحة الروسية، ومنسقتين إستراتيجيتهما مع الروس، بالطبع فيما يخدم مصلحتهما. وفي غضون ذلك تبني باكستان وإيران وتركيا شراكتها الاقتصادية مع الصين كجزء أساسي من مشروع التكامل الصيني “حزام واحد طريق واحد”، وذلك في الوقت الذي يظل فيه قادة العالم العربي مترددين وأكثر قربًا إلى أمريكا بسياساتها الفظة، دون أن يحصلوا على شيء نتيجة لذلك؛ بل يفقدون ما لديهم.
من هذه اللحظة، يأخذ تحليلنا منعطفًا جديدًا. إن الصورة التي وصفناها تتوافق مع ما رأيناه في العقود الأخيرة، وما نراه الآن في العالم بشكل عام، وفي العالم الإسلامي بشكل خاص. وقد أدّى كل هذا إلى حقيقة أن جميع الأقطاب القائمة حاليًّا تنطلق في تحليلها تحديدًا من هذا التوزيع للقوى. اعتمدت روسيا والصين، وكذلك إيران وتركيا وباكستان التي تميل نحوهما- بشكل أو بآخر- على عالم متعدد الأقطاب في معظم الصراعات، والخلافات، والعمليات الإقليمية.
جدير بالذكر هنا أن الأحادية القطبية والتعددية القطبية يجب اعتبارهما لعبة محصلتها صفر (zero sum game). هناك مواقف لا تنجح فيها إستراتيجية (win-win) الشهيرة. إن العالم إما أن يظل أحادي القطب مع بقاء هيمنة الغرب، وإما أن يصبح متعدد الأقطاب على حساب تلك الهيمنة التي تضعف ويتقلص حجمها ونطاقها؛ لذلك فإن العالم الإسلامي في مثل هذه الحالة يُبنى وفقًا لعوامل جديدة- وهو ما يعد منطقيًّا- ليس من ضمنها الأنظمة السياسية، سواء اليمينية أو اليسارية، الاشتراكية أو الرأسمالية، الدينية أو العلمانية، ولكن حسب علاقته بمعضلة الأحادية القطبية/ التعددية القطبية.
وهنا نرى ما يلي: لقد اتخذت إيران وتركيا وباكستان خيارها بشكل شبه قاطع. بالطبع، لا تزال أنقرة، وإلى حد ما إسلام أباد، على اتصال مع الغرب، وتستخدمان ذلك حتى لا تقعا في تبعية جديدة للصين وروسيا. لكن هذه السياسة تقل مكاسبها شيئًا فشيئًا، وتؤدي فقط إلى إبطاء بناء التعددية القطبية؛ لذلك تمثل إيران وتركيا وباكستان- في المجمل، في بعض النواحي- معسكر الإسلام المتعدد الأقطاب. بالطبع، في الوقت الذي يسعى فيه الغرب إلى مواجهة ذلك، تعمل روسيا والصين على تشجيعه.
ولكن هذا يعني أيضًا شيئًا آخر: تلك الدول الإسلامية التي لا تزال تعترف بالأحادية القطبية، وتتبع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي- على سبيل المثال، لأنها لا تقبل لا الشيعة، ولا القومية العثمانية لأردوغان- قد تجد نفسها “كبش فداء”. اسمحوا لي أن أذكركم مرة أخرى أن التعددية القطبية تنشأ عن تفكيك الأحادية القطبية؛ لذلك يقوى الرابحون من خلال إضعاف الخاسرين، وهذا ينطبق- في المقام الأول- على الموقف من أيديولوجية الإسلام السياسي الراديكالي، الذي وقف خلفه- حتى وقت قريب- بعض الدول العربية بموافقة ضمنية واستخدام مستهدف من الولايات المتحدة، وفي بعض الأحيان حليفتها إسرائيل. يعارض الأيديولوجية الإسلاموية جميع مؤيدي التعددية القطبية الذين يوحدون جهودهم بشكل علني ضدها (باستثناء تركيا، التي تستخدم اليوم “الإخوان” إلى حد كبير، في حين كانت المبادرة في وقت سابق في أيدي المخابرات الغربية، التي استخدمت “الإخوان” ضد الأنظمة العلمانية والموالية للسوڤيت)، وهنا قد يعترض بعضهم قائلين إن تحالف روسيا مع طهران وتركيا من شأنه أن يدفع العرب إلى طلب الدعم من دعاة العولمة في الغرب؛ ذلك لأن لا الإسلام السياسي الشيعي التابع لطهران، ولا العثمانية الجديدة التركية مقبولة لديهم. هذا صحيح جزئيًّا، لكن تجدر الإشارة إلى أن هذه الحجة تخالف التسلسل الزمني والمنطقي؛ حيث إن سياسة روسيا وإيران وتركيا هذه تعد جديدة ومبنية على تحليل واقعي للوضع الذي نشأ في أعقاب العالم الثنائي القطب وكذلك في أثناء تراجع الأحادية القطبية. إن دعم الإسلام الراديكالي- بنسختيه السلفية والإخوانية- هو أشبه بحركة القصور الذاتي التي نشأت نتيجة الحرب الباردة والأحادية القطبية. يُنظر إلى أنظمة الشرق الأوسط العربي من منظور الإستراتيجية المتعددة الأقطاب (الأوراسية) على أنها يمكن أن تصبح “كبش فداء” نتيجة للسياسة التقليدية التي ما زالت تلتزم بها. وهذه السياسة ليست رد فعل، بل بالعكس، التعددية القطبية هي التي تستجيب للتحدي القائم بالفعل، وتسعى إلى إضعاف أولئك الذين يقاتلون على الجانب الآخر من الجبهة الجيوسياسية العالمية، وفي النهاية تدميرهم. والمقصود هنا بـ “الجانب الآخر من الجبهة الجيوسياسية العالمية” هو جانب الغرب وعالم العولمة.
إذا قارنا النظام السياسي في مصر، أو المملكة السعودية، أو الإمارات، بمعايير الديمقراطية الليبرالية، يتضح لنا أنه إذا لم تكن هناك مشكلات خطيرة في علاقات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع روسيا والصين وإيران وتركيا، ستتعرض هذه النظم لضغوط أمريكية وغربية لا مثيل لها.
بالإضافة إلى ذلك، فإنه من وجهة نظر عملية بحتة، حصلت دول الشرق الأوسط العربي على كل المكاسب الممكنة من تحالفها مع الغرب. بعدما أدرك الأتراك ذلك، بدأوا بالبحث عن طرق جديدة، حيث إنهم بعد أن أخذوا كل شيء من الغرب، لم ينتظرهم في المستقبل سوى خسارة ما لديهم. لقد رأوا ذلك بوضوح في خطة الشرق الأوسط الكبير حيث برزت ملامح كردستان الكبرى على الأراضي الحالية لتركيا والعراق وسوريا. كان المحافظون الجدد في عهد جورج بوش الابن يخططون للقيام بشيء مماثل مع المملكة العربية السعودية، كما فعلوا مع السودان، التي قسموها إلى نصفين.
لكن، ماذا إن لم يكن ذلك؟
لن يكون لدى روسيا والصين أي تفضيلات على حساب العرب. في حال تشكل المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات كتلة ذات سياسة مختلفة عن سياسة الغرب الذي يرغب في الحفاظ على هيمنته في الشرق الأوسط، فلا توجد أسباب لمنح الأولوية لدعم الشيعة والأتراك. إضافة إلى ذلك، على عكس الولايات المتحدة والغرب، ليس لدى روسيا أو الصين أيديولوجية تود فرضها. تأتي روسيا والصين إلى الشرق الأوسط كبناة للتعددية القطبية، وليس كإمبرياليين. بالطبع تعمل كل دولة لمصلحتها الخاصة، ولكن فرض الأرثوذكسية، أو النموذج الصيني، على الشرق الأوسط الإسلامي لم يكن، ولا يمكن أن يكون- ولو نظريًّا- ضمن خطط موسكو وبكين. من مصلحة كل من موسكو وبكين أن يصبح العالم الإسلامي قطبًا مستقلاً، لكن كيف سيتم تشكيله؟ وما الطوائف الدينية التي ستغلب عليه؟ فهذا ليس ذا أهمية بالنسبة إليهما. كل ما يهمهما هو أنها لا تعملان لصالح الهيمنة الغربية، ولا تزعزعان استقرار الوضع في روسيا، وفي الصين، حيث يعيش عدد كبير من السكان المسلمين. في هذا الصدد، يعد الإسلام، الذي يدعو إلى الخير والتأمل والتسامح والإيثار، خاصة الصوفية، هو الأقرب بالطبع إلى روسيا والصين. كما أن هذا النمط الروحاني من الإسلام، يشكل جدار حماية ومواجهة تجاه أفكار الغرب الليبرالي، التي يمكن أن تخترق أفكاره المجتمعات العربية، وتزعزع استقرارها، وكذلك الإسلام السياسي المدعوم- بشكل أو بآخر- من الغرب.
بعبارة أخرى، يمكن أن تصبح المصالح الوطنية للقوى العربية في الشرق الأوسط عنصرًا أساسيًّا في بناء عالم متعدد الأقطاب؛ بل عالم إسلامي متعدد الأقطاب؛ حينها من الممكن أن تعترف روسيا والصين بالشرعية الجيوسياسية لمراكز القوى الثلاث في الشرق الأوسط- الإيرانية، والتركية، والعربية- معتبرتَين إياها متساوية، وتتطلب مشاركة إيجابية في مشروع بنّاء. اسمحوا لي أن أوضح أننا هنا ننحي جانبًا بلدان المغرب العربي ووضعها الجيوسياسي.
المركز الثالث
من الصعب في الوقت الحالي تحديد ما إذا كان سيظهر هذا المركز الثالث من التعددية القطبية في الشرق الأوسط أم لا. لا يمكن لجيل جديد من القادة العرب والدوائر الفكرية الجديدة التي أتقنت الجغرافيا السياسية، والتحليل الحضاري، والاتجاهات الجديدة في نظرية العلاقات الدولية، إلا أن يقوموا بالعمل نفسه الذي قام به سابقًا الإستراتيجيون العسكريون الأتراك، أو الأيديولوجيون الإيرانيون الذين اكتشفوا الجغرافيا السياسية، والأوراسية، والنظرية السياسية الرابعة، وفلسفة المدرسة التقليدية النظرية والعملية، وعلم الأخرويات السياسية. يعود بعض تأخر العرب في ذلك إلى العوامل التاريخية والسياسية التي وصفناها سابقًا. يجب ألا ننسى أن هيمنة الغرب لا تقوم فقط على السياسة والدبلوماسية، والاقتصاد، والموارد العسكرية، حيث يسعى العولميون وأنصار النظام الأحادي القطب- قبل كل شيء- إلى السيطرة على الدوائر الفكرية، وعقول أولئك الذين يريدون إخضاعهم لسيطرتهم. تبدأ كل ثورة وكل تحرير بتحرير الوعي، وهذا- في رأيي- ما ستفعله النخبة المثقفة العربية في المستقبل القريب. إذا اكتشفت هذه النخبة الجغرافيا السياسية الأوراسية المتعددة الأقطاب، فسيؤدي ذلك حتمًا إلى حقيقة أن كلاً من المراكز الأوراسية والمتعددة الأقطاب ستولي مزيدًا ومزيدًا من الأهمية للشرق الأوسط العربي، معترفة به تدريجيًّا كـ “فاعل”، وليس “مفعولا به”.
يفضل الحكام السياديون دائمًا التعامل مع أولئك الذين يتخذون القرارات بناءً على تفكيرهم وإرادتهم الخاصة. إذا كان على قادة العالم المتعدد الأقطاب التحدث إلى عدو، فإنهم يفضلون التوجه إلى واشنطن وبروكسل، بدلاً من وارسو أو تورنتو. هكذا الحال في العالم الإسلامي؛ حيث إن روسيا والصين مستعدتان للتحدث إلى زعماء العالم العربي الأحرار ذوي السيادة. هنا، في مجال التعددية القطبية، تُفتح آفاق لا نهاية لها للحوار والتعاون في مجال الجغرافيا السياسية، والشراكة العسكرية الإستراتيجية، وحتى الأيديولوجية. لكن الشرط الأساسي هو وجود السيادة الفكرية من بين الأمور الأخرى. يجب على الحكام العرب أن يرسموا سياساتهم بأنفسهم، وليس تحت تأثير الغرب. إن العالم يتغير، وهو ما يتطلب فهم هذه التغييرات، واتخاذ المشاركة الفعالة فيها بقدر الإمكان، وإلا ستكون الخشية عليهم كبيرة، وبلا مبالغة يمكن أن يجدوا أنفسهم “كبش فداء” لنظام عالمي جديد تتفق فيه القوى الكبرى على تقاسم النفوذ، ومنحه لقوى إقليمية، وهم خارج هذا النطاق.
يتم تحديد الصورة الحديثة للعلاقات الدولية- بشكل أساسي- من خلال الانتقال من النموذج الأحادي القطب، الذي تبلور في تسعينيات القرن العشرين، بالتزامن مع انهيار الاتحاد السوڤيتي، إلى نموذج متعدد الأقطاب لم تتضح معالمه بشكل كامل بعد، على الرغم من وجود ثلاثة من هذه الأقطاب بالفعل، هم:
1- الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
2- الصين.
3- روسيا.
بالطبع، ترفض كل من الولايات المتحدة ونخب الاتحاد الأوروبي- رفضًا قاطعًا- الاعتراف بأنفسهم مجرد قطب ضمن مجموعة من الأقطاب. يواصل العديد- وخاصة دعاة العولمة المخلصين مثل بايدن، وتلك الأوساط التي تدعمه من الديمقراطيين والمحافظين الجدد- رؤية العالم كنظام أحادي القطب ظهرت بعض الصعوبات الفنية في طريق إنشائه. في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين- بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر مباشرة- غالبًا ما كان يعد من ضمن هذه “الصعوبات المؤقتة” الإسلام الراديكالي، بدءًا من “القاعدة” و”طالبان” إلى “الإخوان المسلمون” و”داعش” (منظمات محظورة في روسيا). ناسب هذا الوضع دعاة العولمة بشكل عام، ويرجع ذلك- في المقام الأول- إلى وجود تلك القوى التي تم وضعها في مصاف “الأعداء الرئيسيين للغرب كذلك” خارج حدودهم الإقليمية.
تحت ذريعة محاربة “الإرهاب الإسلامي”، استطاعت الولايات المتحدة أن تغزو أراضي أي دولة تقريبًا؛ مما كان يعزز سيطرتها على العالم ويطلق لها حرية التصرف. كان وجود هذا “العدو” المزعوم مفيدًا؛ لأنه لم يشكل تهديدًا خطيرًا؛ ومن هنا جاءت فكرة أن “الإسلام الراديكالي” هو أداة جيوسياسية للعولمة، حيث إنه يمنح الولايات المتحدة ودول الناتو مبررات لغزو أي منطقة؛ ومن ثم الاستمرار في محو الحدود الوطنية، أو إعادة تشكيلها، خاصة أن الدول الإسلامية التي دعمت هذه التيارات كانت- على الرغم من غرابة الأمر حليفة للولايات المتحدة. وقد أكد هذا كذلك النظرية القائلة إنه تم تحويل الإسلام الراديكالي إلى أداة، تحديدًا من أولئك الذين تم توجيهه رسميًّا ضدهم.
ظهور أقطاب جديدة: روسيا والصين
هذا الوضع تغير تدريجيًّا؛ حيث بدأت قوى أكثر جدية تظهر في العالم الأحادي القطب، وتحل محل ذلك الخصم الثانوي والمفيد إلى حد ما. وتمثلت تلك القوى في روسيا پوتين والصين اللتين ظهرتا ظهورًا متوازيًا، خاصة بعد وصول شي جين بينغ إلى السلطة على رأس الحزب الشيوعي الصيني. توقفت روسيا في عهد پوتين عن التفكك (كما كانت في عهد يلتسين وغورباتشوڤ )، وبدأت بالتحول مرة أخرى إلى قوة عظمى في المجال العسكري والطاقة؛ ومن هنا جاءت شيطنة پوتين ونظامه، التي نمت واستمرت في النمو مع تزايد سيادة روسيا واستقلالها عن الغرب؛ أي إن مسار پوتين أدى تدريجيًّا إلى استعادة روسيا مكانة القطب الدولي. لكن من الواضح أنه لم تكن هناك موارد كافية لروسيا لاستعادة وضعها مرة أخرى بشكل كامل كقوة عظمى ثانية في إطار نموذج ثنائي القطب، حيث إنه كان بإمكانها الخروج من الهيمنة الغربية جزئيًّا ومحليًّا فقط.ولكن في غضون ذلك، ازدادت قوة الصين، التي استغلت فرص العولمة الاقتصادية لصالحها، إلى درجة جعلتها تتحول- بدورها- إلى قطب مستقل؛ ومن هنا جاء خطاب الغرب المعادي للصين، الذي لم يختلف كثيرًا بين ترامب وبايدن.
إذا كانت روسيا قد حققت تكافؤًا معينًا- وإن كان نسبيًّا- مع الغرب في المجال الإستراتيجي، فإن الصين قد حققته في المجال الاقتصادي. ومع ذلك، أصبحت روسيا والصين بالفعل الآن، من خلال توحيد إمكاناتهما معًا، قوتين متوازنتين تمامًا مع القطب الغربي.
بعبارة أخرى، بفضل روسيا والصين، وبالنظر إلى أن پوتين وشي جين بينغ يدركان جيدًا أن مفتاح التعددية القطبية هو التحالف الروسي الصيني الذي يوقف الهيمنة الغربية، بل يقلبها، فإن العالم الأحادي القطب لم يواجه “صعوبات فنية” فحسب؛ بل يكاد يكون قد وصل إلى طريق مسدود. على عكس الراديكالية الإسلامية، يمثل القطبان المقابلان للغرب- هذه المرة- أنظمة جيوسياسية يمكن تمييزها بوضوح؛ لأنها دول ضخمة تدافع بصرامة عن أراضيها، وعن مناطق نفوذها الحدودية- كذلك- ضد تعديات الغرب.
لا تشجع روسيا والصين العولمة الأحادية القطب بأي شكل من الأشكال؛ بل على العكس، تتصدى لها تصديًّا فعالًا، وتدعم نموذجًا متعدد الأقطاب، حيث لن يكون هناك ببساطة مركز واحد لصنع القرار؛ وإنما سيتم تحديد كل شيء من خلال نظام قائم على الاتفاقات بين كثير من مراكز القوى التي تتمتع بسيادة جيوسياسية كاملة لا جدال فيها.
العالم الإسلامي في سياق التعددية القطبية: إيران، وتركيا، وباكستان
من البَدَهي أنه لم يكن من الممكن لهذه التغييرات في هيكل ميزان القوى العالمي ألا تؤثر في العالم الإسلامي.أولاً: تعرض الإسلام السياسي الراديكالي، الذي سعى في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى أن يكون القاسم المشترك للسياسات الإسلامية، تعرض لهزيمة ساحقة. انفصلت الجماعات الأكثر تطرفًا بعضها عن بعض، ولم يتم تطوير إستراتيجية أو أيديولوجية مشتركة. أصبح دورها كأداة أيضًا ثانويًّا في سياق التحكم الغربي. على مدى السنوات العشر الماضية، شهدنا تراجعًا في الإسلام السياسي الراديكالي. كما أن تلك الدول والأنظمة التي دعمته هي أيضًا تغير سياساتها أمام أعيننا من الآن فصاعدًا، أصبح الإسلام الراديكالي على الأرجح ظاهرة هامشية، معادية للجميع، أي للغرب الأحادي القطب، وروسيا والصين المتعددي الأقطاب. ولكن من المستحيل في مثل هذه الحالة معاداة الجميع، بالإضافة إلى مقاومة الاتجاهات الأخرى في العالم الإسلامي نفسه، والعمل في سياق وطني مختلف كذلك. لقد فشلت الوحدة الدولية للعالم الإسلامي القائم على الفكر السلفي والإخواني فشلاً نهائيًّا. يجب الاعتراف بذلك.
ثانيًا: على خلفية تراجع المشروع الإسلامي الكوني، بدأت نسخ أكثر محلية للجغرافيا السياسية الإسلامية بالظهور أكثر فأكثر. هنا، أولاً وقبل كل شيء، ينبغي الإشارة إلى اثنين من أكثر الأمثلة وضوحًا، وهما إيران الشيعية، وتركيا السنية.
لدى إيران والشيعة التابعين لها في الشرق الأوسط، وفي مناطق أخرى، أيديولوجيتهم الخاصة المبنية بوضوح، وتحليل أخروي حاد للتاريخ، وشبكة دينية وسياسية فعالة تمامًا عارضت إيران من الأساس المشروع السلفي للإسلام السياسي الكوني؛ ولذلك سعت إلى التحالف مع قوى العالم المتعدد الأقطاب (روسيا والصين). اتضح أن هذه إستراتيجية ناجحة تمامًا؛ حيث لم تؤدِّ إلى الحفاظ على حكم ولاية الفقيه في إيران نفسها فحسب- رغم كل العقوبات والضغوط التي مارسها الغرب- بل عززت الكتلة الشيعية في مناطق أخرى أيضًا.
تركيا، التي شاركت منذ البداية في دعم سياسة “الإخوان” من ناحية، واتبعت الغرب في إطار الاتفاقيات مع الناتو من ناحية أخرى، اتجهت تدريجيًّا إلى سياسة مختلفة، تذكرنا أكثر بالكمالية أو العثمانية المحدودة. ومرة أخرى يهرب أردوغان في المسائل المبدئية من النفوذ الغربي، ويلعب بذكاء بورقة روسيا والصين لضمان مزيد من السيادة لتركيا.
باختصار، تبنت إيران وتركيا نموذج العالم المتعدد الأقطاب، وأخذتا تبحثان عن مكانهما فيه. لن يخطر ببالهما في مثل هذه الظروف أن تخضعا بشكل تام للغرب، وتنقلبا على روسيا أو الصين. إن وجود التوترات هو أمر جائز دائمًا، ولكن من الواضح أن السياق العام لسياسات هاتين القوتين الإسلاميتين القويتين يقع بالفعل في إطار هيكل متعدد الأقطاب، في حين ليس بإمكان إيران أو تركيا- على عكس روسيا أو الصين- أن تكون قطبًا مستقلًا تمامًا، حيث يتطلب هذا إقامة تحالفات جديدة. حتى إن روسيا، لكونها قوة مقابلة للصين، بالكاد تقوى على مواجهتها؛ لذلك، لا يوجد في العالم المتعدد الأقطاب طريق واحد؛ بل طرق عديدة. أما عددها وأنواعها، فهو ما تقوم أنقرة وطهران الآن بدراسته، مرتكبتَين الأخطاء في بعض الأحيان، ومعدلتَين سياساتهما في أحيان أخرى.
ثالثًا: لدينا نموذج آخر هو باكستان. لقد شاركت هذه الدولة الإسلامية بنشاط في التحالف مع الغرب، وكذلك في الترويج للإسلام السياسي الراديكالي، خاصة في أفغانستان لكن التحليل الواقعي للوضع أظهر أن باكستان حتمًا في كلتا الحالتين تضعف من سيادتها إن لم يكن تفقدها بالكامل. تزداد قوة العالم المتعدد الأقطاب، على خلاف العالم الأحادي القطب، الذي تضعف قواه؛ لذلك ليس لدى الغرب كحليف سابق، شيء جديد يقدمه، ولكنه على العكس من ذلك، يمكن أن يلحق الضرر بباكستان إذا استمرت في اتباعه. وليس عمران خان وحده من يدرك ذلك؛ ولكن أيضًا القيادة العسكرية لباكستان، والدولة الباكستانية العميقة (Deep state). وبناءً على ذلك، خلصت إسلام أباد إلى نتيجة مفادها أنه قد حان الوقت لتعزيز التحالف مع الصين قدر الإمكان، وفي المستقبل مع روسيا كذلك، بالإضافة إلى اتباع سياسة إقليمية مستقلة ذات سيادة، في المناطق الحدودية مع الهند، وأفغانستان، وآسيا الوسطى.
رابعًا: حاول الإسلام في كل من ماليزيا وإندونيسيا- بشكل عام- اتباع منطق مناهضة الإمبريالية والمصالح القومية. ظهر الإسلام الراديكالي في هذه المنطقة، وكانت له تبعات، لكنه لم ينتشر؛ لذلك نرى مرة أخرى في هذا السياق بُعدًا عن الغرب الأحادي القطب، وعن الكونية الإسلامية التي تعارض دائمًا الدول القومية باسم دولة الأمة الواحدة لا تعارض هذه الأيديولوجية الأنظمة السياسية في عالم الملايو فحسب؛ بل المجتمعات الإسلامية التقليدية أيضًا. وتتلاشي مثل هذه الحركات تدريجيًّا مع تراجع الدعم الخارجي (الغربي والعربي) لها.
الجزء الثاني: الدول العربية في الشرق الأوسط في ظل تعددية الأقطاب
الدول العربية في عالم ثنائي القطب وأحادي القطب
فلننتقل الآن إلى المجموعة المتبقية من المراكز المؤثرة في العالم الإسلامي، وهي الدول العربية.تميزت العقود الأخيرة في العالم العربي بأزمة خطيرة شهدتها الهياكل السياسية التي تشكلت خلال عملية إنهاء الاستعمار بعد الحرب العالمية الثانية، حيث قُسِّمَت جميع البلدان إلى أنظمة تميل نحو الاشتراكية، وغيرها نحو الرأسمالية. مع ذلك، في كلتا الحالتين، أدّى العامل القومي من جهة، والطابع الديني الخاص من جهة أخرى، دورًا مهمًّا. ومع أن الدول البعثية القومية قد اختلف بعضها مع بعض منذ فترة طويلة، وفقدت الأفكار الاشتراكية مصداقيتها، وانهار معقلها الرئيسي (الاتحاد السوڤيتي)، فإن بقايا العالم الثنائي القطب ما زالت- مثل الألم الوهمي- تهيمن على العالم العربي من الشرق الأوسط إلى المغرب العربي.
خلال ما يسمى “الربيع العربي”، انهارت جميع الهياكل القديمة تقريبًا، أو طرأ عليها تحول كبير. اندلعت حروب أهلية دامية في ليبيا، والعراق، وسوريا (في ثلاث دول كانت يسارية بعثية- سابقًا). كما شهدت تونس ومصر اليمينيتان ثورات وانتفاضات. أدّى الإسلام السلفي الراديكالي و”الإخوان” في كل هذه الأحداث دورًا مهمًّا (وأحيانًا رئيسيًّا) لكنه لم يؤدِّ إلى أي استنتاجات واضحة في أي مكان. وهذا دليل آخر على طبيعته الأداتية؛ فقد استخدم الغرب هذا الاتجاه لزعزعة استقرار الوضع، كأداة لإثارة الصراعات الدموية، لكنه لم يتوصل إلى أي نتائج إيجابية، ولم تكن هناك أي إستراتيجية مؤكدة ومقنعة.
عرب الشرق الأوسط وعرب المغرب العربي
هنا يجب تقسيم العالم العربي إلى جزأين جيوسياسيين، بعد استبعاد الشيعة والقوى التابعة لتركيا (الإخوان المسلمون): مجموعة بلدان المغرب العربي (الجزائر، وتونس والمغرب، وموريتانيا)، ومجموعة دول الشرق الأوسط العربي (السعودية، ومصر، والإمارات العربية المتحدة، وغيرها). تقع ليبيا بينهما، وتمثل حدًّا حضاريًّا وجيوسياسيًّا يتطلب دراسة منفصلة.هاتان كتلتان مستقلتان إلى حد كبير، لا تعتمدان- بأي شكل من الأشكال- (باستثناء دولة قطر الصغيرة) على طهران، أو أنقرة. حتى لحظة معينة، ظلت تلك المناطق تحت التأثير السائد للغرب الرأسمالي. وفي التسعينيات من القرن الماضي، عندما نشأت “الأحادية القطبية”، وانهار الاتحاد السوڤيتي، وضعفت الأنظمة البعثية، أصبح الشرق الأوسط مكانًا تشكّل فيه الإسلام السياسي الراديكالي، في حين ظل المغرب العربي- عمومًا- نموذجًا للسياسة العلمانية ما بعد الاستعمار، الموالية للغرب بشكل عام، ولكن ذات طابع وطني خاص. باستثناء الأحداث الدموية في ليبيا، عندما انحاز ساركوزي- تحت تأثير اللوبي الموالي لأمريكا (برنار هنري ليفي في المقام الأول)- إلى الجماعات السلفية المتطرفة وساعد على القضاء على القذافي، كان الاتحاد الأوروبي يدعم بشدة السلطة العلمانية في المغرب العربي، مساعدًا على التصدي للمتمردين الإسلاميين.
على الجانب الآخر من الديكوتومية: “الإسلاموية مقابل العلمانية”.
إن التكوين لعالم متعدد الأقطاب يزداد بشكل أكثر وضوحًا، والنجاحات الواضحة للدول الإسلامية التي تبنت نموذجًا متعدد الأقطاب، ورفضت اتباع تيار العولمة أحادية القطب سعيًا إلى التقارب مع روسيا أو الصين، يضع العالم العربي في المعضلة نفسها. هل يجدر بنا أن نكتفي بالديكوتومية الجيوسياسية والأيديولوجية الحالية؟
الراديكالية الإسلامية (السلفية الإخوانية) في الشرق الأوسط مقابل النمط العلماني الموالي للغرب في دول المغرب العربي الذي يصاحبه أحيانًا عناصر قومية واضحة؟
كلتا النسختين فرضتها رؤية أحادية القطب للنظام العالمي، وبطبيعة الحال، يريد دعاة العولمة أنفسهم إقناع الجميع بأنه لا يوجد بديل آخر، لكن حقيقة وجود هذا البديل المتمثل في التعددية القطبية قد تم بالفعل فهمها بوضوح، واختبارها على أرض الواقع، خاصةً في سوريا وليبيا والعراق، من جانب كل من الشيعة والأتراك. في الوقت نفسه، تستخدم كل من طهران وأنقرة- ببراعة- العامل الروسي- على سبيل المثال- في مصلحتهما الخاصة، متنافستين إحداهما مع الأخرى في شراء الأسلحة الروسية، ومنسقتين إستراتيجيتهما مع الروس، بالطبع فيما يخدم مصلحتهما. وفي غضون ذلك تبني باكستان وإيران وتركيا شراكتها الاقتصادية مع الصين كجزء أساسي من مشروع التكامل الصيني “حزام واحد طريق واحد”، وذلك في الوقت الذي يظل فيه قادة العالم العربي مترددين وأكثر قربًا إلى أمريكا بسياساتها الفظة، دون أن يحصلوا على شيء نتيجة لذلك؛ بل يفقدون ما لديهم.
من هذه اللحظة، يأخذ تحليلنا منعطفًا جديدًا. إن الصورة التي وصفناها تتوافق مع ما رأيناه في العقود الأخيرة، وما نراه الآن في العالم بشكل عام، وفي العالم الإسلامي بشكل خاص. وقد أدّى كل هذا إلى حقيقة أن جميع الأقطاب القائمة حاليًّا تنطلق في تحليلها تحديدًا من هذا التوزيع للقوى. اعتمدت روسيا والصين، وكذلك إيران وتركيا وباكستان التي تميل نحوهما- بشكل أو بآخر- على عالم متعدد الأقطاب في معظم الصراعات، والخلافات، والعمليات الإقليمية.
جدير بالذكر هنا أن الأحادية القطبية والتعددية القطبية يجب اعتبارهما لعبة محصلتها صفر (zero sum game). هناك مواقف لا تنجح فيها إستراتيجية (win-win) الشهيرة. إن العالم إما أن يظل أحادي القطب مع بقاء هيمنة الغرب، وإما أن يصبح متعدد الأقطاب على حساب تلك الهيمنة التي تضعف ويتقلص حجمها ونطاقها؛ لذلك فإن العالم الإسلامي في مثل هذه الحالة يُبنى وفقًا لعوامل جديدة- وهو ما يعد منطقيًّا- ليس من ضمنها الأنظمة السياسية، سواء اليمينية أو اليسارية، الاشتراكية أو الرأسمالية، الدينية أو العلمانية، ولكن حسب علاقته بمعضلة الأحادية القطبية/ التعددية القطبية.
وهنا نرى ما يلي: لقد اتخذت إيران وتركيا وباكستان خيارها بشكل شبه قاطع. بالطبع، لا تزال أنقرة، وإلى حد ما إسلام أباد، على اتصال مع الغرب، وتستخدمان ذلك حتى لا تقعا في تبعية جديدة للصين وروسيا. لكن هذه السياسة تقل مكاسبها شيئًا فشيئًا، وتؤدي فقط إلى إبطاء بناء التعددية القطبية؛ لذلك تمثل إيران وتركيا وباكستان- في المجمل، في بعض النواحي- معسكر الإسلام المتعدد الأقطاب. بالطبع، في الوقت الذي يسعى فيه الغرب إلى مواجهة ذلك، تعمل روسيا والصين على تشجيعه.
ولكن هذا يعني أيضًا شيئًا آخر: تلك الدول الإسلامية التي لا تزال تعترف بالأحادية القطبية، وتتبع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي- على سبيل المثال، لأنها لا تقبل لا الشيعة، ولا القومية العثمانية لأردوغان- قد تجد نفسها “كبش فداء”. اسمحوا لي أن أذكركم مرة أخرى أن التعددية القطبية تنشأ عن تفكيك الأحادية القطبية؛ لذلك يقوى الرابحون من خلال إضعاف الخاسرين، وهذا ينطبق- في المقام الأول- على الموقف من أيديولوجية الإسلام السياسي الراديكالي، الذي وقف خلفه- حتى وقت قريب- بعض الدول العربية بموافقة ضمنية واستخدام مستهدف من الولايات المتحدة، وفي بعض الأحيان حليفتها إسرائيل. يعارض الأيديولوجية الإسلاموية جميع مؤيدي التعددية القطبية الذين يوحدون جهودهم بشكل علني ضدها (باستثناء تركيا، التي تستخدم اليوم “الإخوان” إلى حد كبير، في حين كانت المبادرة في وقت سابق في أيدي المخابرات الغربية، التي استخدمت “الإخوان” ضد الأنظمة العلمانية والموالية للسوڤيت)، وهنا قد يعترض بعضهم قائلين إن تحالف روسيا مع طهران وتركيا من شأنه أن يدفع العرب إلى طلب الدعم من دعاة العولمة في الغرب؛ ذلك لأن لا الإسلام السياسي الشيعي التابع لطهران، ولا العثمانية الجديدة التركية مقبولة لديهم. هذا صحيح جزئيًّا، لكن تجدر الإشارة إلى أن هذه الحجة تخالف التسلسل الزمني والمنطقي؛ حيث إن سياسة روسيا وإيران وتركيا هذه تعد جديدة ومبنية على تحليل واقعي للوضع الذي نشأ في أعقاب العالم الثنائي القطب وكذلك في أثناء تراجع الأحادية القطبية. إن دعم الإسلام الراديكالي- بنسختيه السلفية والإخوانية- هو أشبه بحركة القصور الذاتي التي نشأت نتيجة الحرب الباردة والأحادية القطبية. يُنظر إلى أنظمة الشرق الأوسط العربي من منظور الإستراتيجية المتعددة الأقطاب (الأوراسية) على أنها يمكن أن تصبح “كبش فداء” نتيجة للسياسة التقليدية التي ما زالت تلتزم بها. وهذه السياسة ليست رد فعل، بل بالعكس، التعددية القطبية هي التي تستجيب للتحدي القائم بالفعل، وتسعى إلى إضعاف أولئك الذين يقاتلون على الجانب الآخر من الجبهة الجيوسياسية العالمية، وفي النهاية تدميرهم. والمقصود هنا بـ “الجانب الآخر من الجبهة الجيوسياسية العالمية” هو جانب الغرب وعالم العولمة.
قادة الشرق الأوسط العربي الجدد وآفاق جيوسياسية جديدة
هنا يبدأ أهم شيء. بقدر ما يمكننا الحكم به من خلال عدد من المبادرات السياسية والإستراتيجية، فإن القادة السياسيين والفكريين في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر بدأوا تدريجيًّا يدركون الوضع الحالي، وأصبحوا مستعدين لقبول الخرائط الجيوسياسية الجديدة. من الواضح تمامًا أن الجيل الجديد من قادة هذه الدول (السيسي في مصر، ومحمد بن سلمان في المملكة العربية السعودية، ومحمد بن زايد في الإمارات) غير راضين عن السيناريو القائم على حركة القصور الذاتي، ويفكرون جديًّا في إيجاد إستراتيجيات جديدة، ولكن هذه المرة في سياق عالم متعدد الأقطاب.إذا قارنا النظام السياسي في مصر، أو المملكة السعودية، أو الإمارات، بمعايير الديمقراطية الليبرالية، يتضح لنا أنه إذا لم تكن هناك مشكلات خطيرة في علاقات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مع روسيا والصين وإيران وتركيا، ستتعرض هذه النظم لضغوط أمريكية وغربية لا مثيل لها.
بالإضافة إلى ذلك، فإنه من وجهة نظر عملية بحتة، حصلت دول الشرق الأوسط العربي على كل المكاسب الممكنة من تحالفها مع الغرب. بعدما أدرك الأتراك ذلك، بدأوا بالبحث عن طرق جديدة، حيث إنهم بعد أن أخذوا كل شيء من الغرب، لم ينتظرهم في المستقبل سوى خسارة ما لديهم. لقد رأوا ذلك بوضوح في خطة الشرق الأوسط الكبير حيث برزت ملامح كردستان الكبرى على الأراضي الحالية لتركيا والعراق وسوريا. كان المحافظون الجدد في عهد جورج بوش الابن يخططون للقيام بشيء مماثل مع المملكة العربية السعودية، كما فعلوا مع السودان، التي قسموها إلى نصفين.
الشرق الأوسط العربي ومشروع التعددية القطبية
في الوقت الحالي، نشأت مسألة مفادها أن الشرق الأوسط العربي قد يبحث عن مكانه في عالم متعدد الأقطاب. ونرى بعض الدلائل على ذلك في رغبة الرياض في إبرام اتفاق بشأن توريد صواريخ (S-400) مع روسيا، وفي المضي قدمًا للتوصل إلى اتفاق مع روسيا بشأن أسعار النفط، وفي علاقة الرئيس المصري السيسي الودية بپوتين على الصعيد الشخصي، والعلاقات الإماراتية الروسية المتنامية في عدة مجالات، مع توسيع الشراكة العربية الصينية. حتى الآن، لم يتحول هذا إلى اتجاه، ولكن مع ذلك، إذا استمر هذا الخط في المستقبل، فيمكننا أن نتخيل مشروع الشرق الأوسط في سياق التعددية القطبية، وبشكل تصبح فيه الدول العربية ليس موضع مواجهة بين معسكر متعدد الأقطاب ومعسكر أحادي القطب؛ بل تصبح كيانًا كاملًا، وطرفَا نشطًا يقف على هذا الجانب، وليس الجانب الآخر، الذي يفصل بين العالم الأحادي القطب والعالم المتعدد الأقطاب.لكن السؤال هنا، فِيمَ يكمن جوهر مثل هذا المشروع من وجهة نظر أيديولوجية؟
أولاً: من الممكن أن يتمثل جوهر هذا المشروع الأبرز في الحساب المتوازن والعقلاني للمصالح الوطنية للدول الخليجية العربية الكبيرة والغنية والقوية، ومصر. بشكل عام، لا يمكن لهذه الدول أن تكون جزءًا من المشروع الإيراني أو التركي، حيث تمثل الشيعة أقلية محدودة في تلك المنطقة (باستثناء بعض مناطق اليمن)، كما أنه من الواضح أن أحدًا لا يريد العودة إلى ما يشبه- ولو قليلًا- الإمبراطورية العثمانية. في المنطقة، يمكن أن تمثل هذه الدول القطب الثالث للإسلام، وبالنظر إلى المكانة الدينية للمملكة العربية السعودية، والإمكانات الاقتصادية للإمارات العربية المتحدة، والقوة العسكرية لمصر، يمكننا القول إننا نتعامل مع قطب مستقل في العالم الإسلامي. يختلف هذا القطب السعودي المصري الإماراتي في معظم القضايا والمواقف المثيرة للجدل عن السياسة الإيرانية والتركية، فهو حتى الآن يعد نصيرًا لعالم أحادي القطب؛ ما يجعله- بطبيعة الحال- خصمًا لكل من روسيا والصين اللتين لا تفضلان جانبًا على آخر في التوترات الدينية بين المسلمين، التي تنشأ لأسباب واضحة تمامًا، وهو ما يغيب عن ذهن المحلل السياسي العربي، عندما يقيم علاقات روسيا ببلدان المنطقة، حيث تنطلق موسكو وبكين- انطلاقًا أساسيًّا- من التعددية القطبية، فإذا كانت الدول العربية في الشرق الأوسط مؤيدة للأحادية القطبية، فإن موسكو وبكين ستتحولان- بطبيعة الحال- إلى إيران وتركيا.لكن، ماذا إن لم يكن ذلك؟
لن يكون لدى روسيا والصين أي تفضيلات على حساب العرب. في حال تشكل المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات كتلة ذات سياسة مختلفة عن سياسة الغرب الذي يرغب في الحفاظ على هيمنته في الشرق الأوسط، فلا توجد أسباب لمنح الأولوية لدعم الشيعة والأتراك. إضافة إلى ذلك، على عكس الولايات المتحدة والغرب، ليس لدى روسيا أو الصين أيديولوجية تود فرضها. تأتي روسيا والصين إلى الشرق الأوسط كبناة للتعددية القطبية، وليس كإمبرياليين. بالطبع تعمل كل دولة لمصلحتها الخاصة، ولكن فرض الأرثوذكسية، أو النموذج الصيني، على الشرق الأوسط الإسلامي لم يكن، ولا يمكن أن يكون- ولو نظريًّا- ضمن خطط موسكو وبكين. من مصلحة كل من موسكو وبكين أن يصبح العالم الإسلامي قطبًا مستقلاً، لكن كيف سيتم تشكيله؟ وما الطوائف الدينية التي ستغلب عليه؟ فهذا ليس ذا أهمية بالنسبة إليهما. كل ما يهمهما هو أنها لا تعملان لصالح الهيمنة الغربية، ولا تزعزعان استقرار الوضع في روسيا، وفي الصين، حيث يعيش عدد كبير من السكان المسلمين. في هذا الصدد، يعد الإسلام، الذي يدعو إلى الخير والتأمل والتسامح والإيثار، خاصة الصوفية، هو الأقرب بالطبع إلى روسيا والصين. كما أن هذا النمط الروحاني من الإسلام، يشكل جدار حماية ومواجهة تجاه أفكار الغرب الليبرالي، التي يمكن أن تخترق أفكاره المجتمعات العربية، وتزعزع استقرارها، وكذلك الإسلام السياسي المدعوم- بشكل أو بآخر- من الغرب.
بعبارة أخرى، يمكن أن تصبح المصالح الوطنية للقوى العربية في الشرق الأوسط عنصرًا أساسيًّا في بناء عالم متعدد الأقطاب؛ بل عالم إسلامي متعدد الأقطاب؛ حينها من الممكن أن تعترف روسيا والصين بالشرعية الجيوسياسية لمراكز القوى الثلاث في الشرق الأوسط- الإيرانية، والتركية، والعربية- معتبرتَين إياها متساوية، وتتطلب مشاركة إيجابية في مشروع بنّاء. اسمحوا لي أن أوضح أننا هنا ننحي جانبًا بلدان المغرب العربي ووضعها الجيوسياسي.
المركز الثالث
من الصعب في الوقت الحالي تحديد ما إذا كان سيظهر هذا المركز الثالث من التعددية القطبية في الشرق الأوسط أم لا. لا يمكن لجيل جديد من القادة العرب والدوائر الفكرية الجديدة التي أتقنت الجغرافيا السياسية، والتحليل الحضاري، والاتجاهات الجديدة في نظرية العلاقات الدولية، إلا أن يقوموا بالعمل نفسه الذي قام به سابقًا الإستراتيجيون العسكريون الأتراك، أو الأيديولوجيون الإيرانيون الذين اكتشفوا الجغرافيا السياسية، والأوراسية، والنظرية السياسية الرابعة، وفلسفة المدرسة التقليدية النظرية والعملية، وعلم الأخرويات السياسية. يعود بعض تأخر العرب في ذلك إلى العوامل التاريخية والسياسية التي وصفناها سابقًا. يجب ألا ننسى أن هيمنة الغرب لا تقوم فقط على السياسة والدبلوماسية، والاقتصاد، والموارد العسكرية، حيث يسعى العولميون وأنصار النظام الأحادي القطب- قبل كل شيء- إلى السيطرة على الدوائر الفكرية، وعقول أولئك الذين يريدون إخضاعهم لسيطرتهم. تبدأ كل ثورة وكل تحرير بتحرير الوعي، وهذا- في رأيي- ما ستفعله النخبة المثقفة العربية في المستقبل القريب. إذا اكتشفت هذه النخبة الجغرافيا السياسية الأوراسية المتعددة الأقطاب، فسيؤدي ذلك حتمًا إلى حقيقة أن كلاً من المراكز الأوراسية والمتعددة الأقطاب ستولي مزيدًا ومزيدًا من الأهمية للشرق الأوسط العربي، معترفة به تدريجيًّا كـ “فاعل”، وليس “مفعولا به”.
يفضل الحكام السياديون دائمًا التعامل مع أولئك الذين يتخذون القرارات بناءً على تفكيرهم وإرادتهم الخاصة. إذا كان على قادة العالم المتعدد الأقطاب التحدث إلى عدو، فإنهم يفضلون التوجه إلى واشنطن وبروكسل، بدلاً من وارسو أو تورنتو. هكذا الحال في العالم الإسلامي؛ حيث إن روسيا والصين مستعدتان للتحدث إلى زعماء العالم العربي الأحرار ذوي السيادة. هنا، في مجال التعددية القطبية، تُفتح آفاق لا نهاية لها للحوار والتعاون في مجال الجغرافيا السياسية، والشراكة العسكرية الإستراتيجية، وحتى الأيديولوجية. لكن الشرط الأساسي هو وجود السيادة الفكرية من بين الأمور الأخرى. يجب على الحكام العرب أن يرسموا سياساتهم بأنفسهم، وليس تحت تأثير الغرب. إن العالم يتغير، وهو ما يتطلب فهم هذه التغييرات، واتخاذ المشاركة الفعالة فيها بقدر الإمكان، وإلا ستكون الخشية عليهم كبيرة، وبلا مبالغة يمكن أن يجدوا أنفسهم “كبش فداء” لنظام عالمي جديد تتفق فيه القوى الكبرى على تقاسم النفوذ، ومنحه لقوى إقليمية، وهم خارج هذا النطاق.