الالحاد عدة أنواع وليس نوعا واحدا وكلمة الالحاد تندرج تحت مفاهيم خمسة وهي : اللاأدرية ، اللادينية ، الطبيعية الوجودية ، العلمانية ، لا توحيدية . ولكن اشدها هو الالحاد الديني وهو موقف فكري لا يؤمن بوجود إله واعي للوجود . فيصبح الملحد بلا رقيب حيث يتجرد حتى من ضميره فينطلق وراء عقله القاصر فيحدث فسادا كبيرا ، لأن أي انسان لو عاش في دولة لا يعتقد بوجود القانون فيها لأصبح ذلك البلد فوضى عارمة كما في الغابة حيث أن قانون الغريزة هو الحاكم. ولكن الملحد مهما ابتعد عن الدين وانكره وانكر وجود الحاكمية المطلقة لهذا الكون فإنهه في كثير من الاحيان يلجأ ولو سرا إلى تلك القدرة فيناشدها ويطلب منها العون وفي ظروف معينة يلجأ الملحد إلى الدين لحل مشاكله فيجده خير ناصر ومعين.
فمن خلال بحثي عن كل ماهو جديد في ضمن اختصاصي في علم الاديان وجدت ظاهرة شائعة لدى الملحدين . حيث وجدت أن كل من تخلوا عن الدين وانكروا وجود إله خالق لهذا الكون وحاربوا الاديان بكل شراسة وتسببوا في مآسي مروعة للبشرية ، وتبعهم في ذلك كل من زينت له نفسه التحلل من ضوابط الاخلاق والقيم واتخذوا من الإلحاد مطية يركبونها للانغماس في الشهوات بلا حدود. هؤلاء عادوا إلى أحضان الدين مرة أخرى ، إما سرا أو علانية . وذلك لأن الإلحاد خارجي ، والايمان داخلي ومهما حاول الملحد ان يكتُم ما في داخله من إيمان فشل حيث أنه في بعض لحظات الضعف يلتجئ الملحد إلى داخله يبحث عن القوة والقدرة التي تخلصه مما فيه من ألم او مشاكل .
في سنة (1922) انطلقت الشرارة الأولى للثورة في روسيا وتشكّل على اثر ذلك اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية الذي كان يتكون من الجمهوريات الاربع الأولى كانت روسيا الاكبر مساحة واهمية سياسية بينهما ثم توسعت بعد ذلك لتحتل جمهوريات أخرى لتحتل بعد ذلك سدس مساحة الكرة الأرضية تقريبا. ولكن هذه الجمهورية الملحدة لم تصمد أكثر من سبعين عاما حيث انهارت سنة (1991) فجأة فأحدث سقوطها صدى مدويا في كل ارجاء الكرة الأرضية لازلنا نسمع فرقعة عظامها إلى هذا اليوم. والسبب المعلن هو حرب الرأسمالية الغربية لها. ولكن هذا سبب ظاهري يكمن خلفه سبب آخر وهو فقدان الايمان بالدين والايمان بوجود اله واخلاق وقيم وفضائل يعني افراغ البناء من اساساته.
أول رئيس لهذا الكيان الجديد كان (فلاديمير ايلتش لينين) وهو من اصول يهودية متطرفة ، كان متأثرا جدا بأفكار كارل ماركس الذي وصف المسيحية بأنها أداة ظلم. لقد ادعى كارل ماركس أن الدين ((افيون الشعوب)) وأن الكنائس اماكن لرمي النفايات والواعظون فيها كلاب .انعكست هذه الثقافة على لينين فاعلن فيما بعد أن كل مفهوم ديني ، كل فكرة تتعلق بأي إله ، إنما هي امور تثير الاشمئزاز إلى حد يفوق الوصف.
كانت اقوى شخصية تقف بوجه الحكم الجديد وتحارب الالحاد الشيوعي في روسيا هو شخصية البطريرك الارثوذكسي الروسي تييخُن والذي استمر في تصديه لموجة الإلحاد حتى سنة 1925 حيث مات بطريقة غامضة ، وعندها شن البلاشفة اللينينين هجومهم الأعنف الكاسح ضد الدين ومنع انتخاب الكنيسة من انتخاب بطريركا آخر. وأدى هجوم البلاشفة إلى تدمير معظم الكنائس والمساجد وتحويل البعض الآخر إلى متاحف واماكن غير دينية ومقرات للحزب الشيوعي . ثم تلتها موجه تم فيها اعتقال كافة رجال الدين والقي الكهنة في السجون وحُكم عليهم بالأشغال الشاقة في معسكرات العمال. حيث مات العديد منهم بصورة مأساوية. وفي حكم ستالين في أواخر عشرينات وثلاثينات سنة 1900 عانت الديانة المسيحية والاسلامية اضطهادا دمويا مريعا حصد ملايين الضحايا . وبحلول سنة 1939 انتهى الدين رسميا في الاتحاد السوفيتي . (1) ونال المسلمون حصة الاسد من هذه الاضطهادات المروّعة . وقد تم استثناء الدين اليهودي من كل ذلك وتم الحفاظ على معابد اليهود وعدم المساس بهم بحجة أن اليهود اقلية مضطهدة.
ولكن ما ان حلت الحرب العالمية الثانية حتى حدث تغيير مذهل في طريقة نمط تفكير ستالين ففي سنة (1941) شنت المانيا هجوما ضاريا خاطفا على الاتحاد السوفيتي ، بحيث تفاجأ ستالين واخذ على حين غرة وخلال سنة واحدة كانت القوات الألمانية قد بلغت ضواحي موسكو، وبدا سقوط الاتحاد السوفيتي وشيكا.
سعى ستالين يائسا إلى التعبئة العامة لكل الشعب الروسي لخوض حرب دعاها ستالين الحرب الوطنية الكبرى ، ولكن لم تكن هناك همة لدى الناس الذين فقدوا المحرك الحقيقي لقيم الشهادة والتضحية من اجل الوطن وهو ((الدين)). وسقط نصف ستالين كراد واحكمت القوات النازية الطوق عليها.
وادرك ستالين السر في هزيمة الناس الروحية ، فسعى ستالين يائسا إلى تقديم تنازلات للدين في كل مكوناته لربح دعم الشعب من أجل المجهود الحربي فستالين يعرف ان هناك الملايين من الناس لا يزالون متعلقين بالدين ومستعدين للموت من اجل الدين وعاد ستالين مرة أخرى إلى احضان الدين ومنح ستالين صلاحيات واسعة إلى رجال الدين واعطاهم الحرية المطلقة في شحذ همم الناس وتعبئتهم من اجل انقاذ روسيا فذهب رجال الدين إلى القرى والمدن ورموا بأنفسهم في الخنادق مع الجنود ، فدبت روح جديدة في عروق الجنود والمتطوعين فنهضوا بروح معنوية عالية جدا وبحلول سنة 1945 حقق الاتحاد السوفيتي انتصارا ساحقا على القوات الألمانية ، فترك ستالين الدين يعمل بحرية جزئية وسمح لرجال الدين ان يفتحوا الكنائس والمساجد مرة أخرى واثبتت وقائع الحرب فشل كل العمليات القمعية في اسكات الدين في وجدان الناس .
يقول البروفيسور (ريتشارد اوفري) في اليوم نفسه الذي دعى فيه ستالين رجال الدين لحث الناس للدفاع عن الوطن وليس عن المبادئ الشيوعية هب رأس الكنيسة الاثوذكسية المتروبوليت (سرجيوس) لحث المؤمنين أن يعملوا ما بوسعهم من اجل نصرة روسيا واحراز النصر وكتب هذا الاب اكثر من ثلاث وعشرين رسالة (فتوى) خلال سنتين داعيا رعايا الكنيسة جميعا إلى القتال . وتدفقت جيوش القوقازيين الإسلامية وتبعتها الشيشان ثم التتار المسلمون وهي تمتطي خيولها وتكتسح من امامها الجنود الألمان . وتحقق النصر .
وهكذا سمح ستالين للدين أن ينشط مجددا. (2)
على اثر ذلك لم يستطع ستالين ان يُصحر بحرب الدين مجددا فعيّن البطريارك سرجيوس رأسا للكنيسة الارثوذكسية. وقد فرض الاب سرجيوس نفسه بقوة من خلال دعم الناس له . بعكس البطريرك الكسيس الأول الذي كان يسير في ركب ستالين ويؤيد كل سياسته وهو القائل : ((بأن سياسة ستالين تنسجم مع مبادئ الكنيسة المسيحية )) وهذا القول نفسه او قريب منه قاله بابا الكنيسة الكاثوليكية العظمى في روما عن هتلر حيث قال : (( أن هتلر تُسدده العناية الإلهية)).
ولكن اوامر ستالين كانت كما يلي : يقوم رجال الدين بحث الشعب على الدفاع عن روسيا بقولهم أن الدفاع عن الوطن هو التقيد الايماني بالله وستالين . وقام رجال الدين المسيحي بجمع التبرعات المالية من المواطنين لدعم فرقة المدرعات الروسية . لقد كان رجال الدين السائرين في ركاب النازية والروسية احد اهم اسباب انكشاف سياسة النفاق الستالينية تجاه الدين ورموزه فبينما كان ستالين وخروشوف وغيرهم يصفون الدين بأنه افيون الشعوب نراهم يهرعون إليه وقت الازمات لحل مشاكلهم والحفاظ على منجزاتهم الالحادية. فلولا الدين الذي كانوا يُنكرونه ويُحاربونه لما بقي لهم من باقية.
فقد وصف العالم الديني الروسي (ايفانينكو) هذه الحقبة بقوله : ((لقد وصفت الكنيسة الروسية ستالين بانه اعظم قائد ومعلّم في كل الاوقات والامم ، مرسل من الله ليخلص الامة من الاضطهاد الرأسمالي ودعت المواطنين إلى بذل آخر قطرة من دمهم في الدفاع عن الوطن وبناء الشيوعية)). (3) لقد كان الدين الذي اسسه ستالين في زمن الحرب لخدمة اهدافه بقي مفيدا جدا لاستالين وهو نفسه الدين الذي يُمثله وعاظ السلاطين في الدين الاسلامي.
ولكن هدف رؤساء الاتحاد السوفيتي بشأن استئصال الدين والقضاء على فكرة الله لم يتغير. فبمجرد أن شعر ساسة الاتحاد السوفيتي بالأمان شن رئيس الوزراء نيكيتا خروتشيف حملة جديدة ضد الدين استمرت من سنة 1959 وحتى سنة 1964 فاغلق الكنائس والمساجد . لقد كان الهم الأكبر للزعماء الروس يأتي من الديانة المسيحية والاسلامية حيث كانت تقارير (الكي جي بي) تأتي بالمعلومات المذهلة عن صمود هؤلاء وتفانيهم من اجل دينهم. وبناء على تلك التقارير فقد مات الملايين من العلماء والناس في معسكرات الاشغال الشاقة في سيبيريا.
اضافة إلى ذلك فقد أضيف هم آخر من هموم الدين إلى كل من المانيا والاتحاد السوفيتي ، ذلك هم ((شهود يهوه)) الذي ثبُت لدى استخبارات الطرفين ولدى كل استخبارات العالم ان شهود يهوه منظمة سياسية سرية يعمل افرادها جواسيس للمعسكر الرأسمالي الغربي وقد كانوا يُثبطون الناس عن الالتحاق بالجيش بحجة الحيادية في كل من المانيا وروسيا ، في حين ان شهود يهوه في أمريكا كانوا من أكبر الناشطين لتجنيد الناس من أجل القضاء على النازية والشيوعية فيما بعد. والتشجيع على خدمة الاهداف الرأسمالية. وشكلوا فرقا كثيرة لإمداد الجبهة بالطعام والدعم الاعلامي . وقد برروا ذلك فيما بعد بقولهم أن النازيين والروس كانوا يضطهدون شهود يهوه ويمنعونهم من ممارسة حقهم في الدعوة والعبادة. بينما امريكا كانت تمنح شهود يهوه الحرية المطلقة. وقد صنّف الاتحاد السوفياتي شهود يهود بأنهم من اخطر الجواسيس والمجرمين بحق الوطن وذلك بعد منح ستالين الصلاحيات المطلقة لرجال الدين في ممارسة دورهم في الدفاع عن الوطن ، امتنع شهود يهود عن ذلك وحرضوا الناس على عدم الانضمام للجيش فكان الكي جي بي لهم بالمرصاد. (4) وقامت روسيا بإنتاج فلم يصور خيانات شهود يهوه لوطنهم بالأدلة والصور التي التقطها الكي جي بي وهذا الفلم أدى إلى عملية اضطهاد مريع لحركة شهود يهود (5)
ومرة أخرى باءت بالفشل كل جهود خروشوف بالقضاء على الدين ، ففي طريق نفيهم في القطارات الخشبية سمع الجنود الروس اصوات ترانيم المسيحيين وهي تردد صلواتها ، وكذلك سمعوا اصوات المؤذنين المسلمين تصدح من بين فتحات عربات القطار على الرغم من البرد القارص.
بدأت الحرب الباردة وسمح الاتحاد السوفيتي للدين أن يمارس دوره مرة أخرى، ولكن فقط لليهودية والمسيحية واما الدين الإسلامي فقد تعرض ايضا لموجة جديدة من الاضطهاد المريع.
((كان على ستالين أن يوافق على الكثير من متطلبات الكنيسة وان يغض الطرف عنها فهو يحتاج الدين أيضا في الحرب الباردة .ووقفت الكنيسة خلف ستالين ومن ثم خروشوف فقد انظم البطريرك الكسيس الأول الذي خلف سرجيوس سنة 1945 انظم إلى مجلس السلام الدولي، منظمة الجبهة السوفياتية التي تأسست سنة 1949)). (6)
وبدأت تداعيات سياسة القمع الديني تظهر على الكيان الشامخ للشيوعية في الاتحاد السوفيتي ولكن مرة أخرى وقفت الكنيسة تدعم النظام الشيوعي فأعلن البطريارك (الكسيس الأول) سنة 1955 : ((تدعم الكنيسة الأرثوذكسية الروسية السياسة الخارجية المسالمة كليا التي تتبعها حكومتنا، ليس لأن الكنيسة تفتقر إلى الحرية كما يُزعم ، بل لأن السياسة السوفياتية صالحة، وتنسجم مع المبادئ المسيحية التي تُبشّر بها)).(7)
ولكن بعد هروب الكاهن الأرثوذكسي المنشق (غيورغي إدلشتاين) تبين أن جميع ساسة الاتحاد السوفيتي ملاحدة من الطراز الرفيع ولكنهم لخوفهم من الدين وقوته وحاجتهم إليه في ترسيخ مبادئ الإلحاد فقد نافقوا الدين وحاولوا تطويعه لخدمتهم . وقد قال الكاهن المنشق غيورغي : ((كان يتم اختيار كل الاساقفة باعتناء بحيث يتعاونون مع الحكومة السوفياتية. كلهم كانوا عملاء للكي جي بي. ومن المعروف أن الكي جي بي استخدمت البطريرك ألكسيس تحت الاسم المستعار دروزدوف واليوم فإن الملاحدة الروس يستخدمون السياسة نفسها منذ ثلاثين سنة )). (8)
لقد قدم ستالين التنازلات الكثيرة للدين وعاملته الكنيسة كقيصر. واستخدم الشيوعيون الكنيسة كأداة للدولة السوفياتية (9) ولكن كل سياسة الترميم هذه لم تنفع الدولة الملحدة على الرغم من رجوعها الظاهري إلى احضان الدين فقد انهار بناءها الشامخ بعد ان تخلخلت اساساته وخويت من مقومات القوة التي تحمله وهكذا شاهدنا انهيار الاتحاد السوفيتي واعتراف هذا الاتحاد بالأديان عام 1991 حيث تم اعتماد المذهب الارثوذكسي وانبثاق اربع جمهوريات إسلامية.
المصدر