مهما بدت ربما تلك الدروس المدرسية ممللة تبعث في النفس الضجر، ومهما كانت المعلومات التي يزودك بها مدرسوك رتيبة، تبقى تستحق الاهتمام فعلاً. اسأل ديفيد سكوت وجيمس إروين، اللذين تتلمذا في الجيولوجيا (علم طبقات الأرض) على يدي البروفيسور سيلفر. وقبل 50 عاماً في مثل الشهر الحالي، عثرا على ما سُمي منذ ذلك الحين "جينيسيس روك" Genesis Rock أو "صخرة التكوين".
لما كان الاثنان رائدي فضاء في "أبولو 15"، البعثة المأهولة الرابعة التي استهدفت هبوط البشر على سطح القمر، ازداد اكتشافهما (صخرة جينيسيس) عظمة. اللافت أن سكوت وإيروين لم يكونا عالمين، إنما طيارين في القوات الجوية الأميركية، جرى تجنيدهما في فيلق رواد الفضاء "أبولو" التابع لوكالة الفضاء الأميركية "ناسا"، وقبل اختيارهما للتحليق على متن المركبة الفضائية "أبولو 15" لم يكن بمقدورهما التمييز بين صخرة قمريةMoonrock وقطعة من الجبن الأخضر. بيد أن "ناسا" ارتأت أن صناعة عالِمين من رائدي فضاء أهون من تدريب عالِمين كي يصبحا رائدين فضائيين. لذا، قصد سكوت وإيروين المدرسة مجدداً ليتعلما الأمور كافة، بدءاً من الفيزياء الفلكية مروراً بقياس الطيف. وليس انتهاءً بالجيولوجيا.
كان شاغل بعثات برنامج "أبولو" السابقة كلها تحقيق الهدف المتمثل في الهبوط المأهول بالبشر على سطح القمر. أما "أبولو 15" فكانت مختلفة، وسميت "البعثة جيه" J Mission (تذكيراً، صنفت بعثات برنامج "أبولو" ضمن فئات عدة، كانت الأولى بينها الفئة "أي" A، أما الهبوط الأول على سطح القمر، الذي حققته "أبولو 11"، فكان ضمن الفئة "جي" (G)، وكانت "أبولو 15" البعثة الأولى ضمن الفئة "جيه" (J) أو، وفق تعبير "ناسا"، "استكشاف علمي مستفيض للقمر على سطح القمر ومن المدار القمري). ستكون "أبولو 15" البعثة الأولى التي تضع العلوم في صميم مهامها، فقد "تبددت تأثيرات بروباغندا الهبوط الأول على سطح القمر. والآن يريد العلماء في "ناسا" أن تحظى اهتماماتهم بالأولوية"، حسبما يقول تيسل موير هارموني، أمين مجموعة المركبة الفضائية "أبولو" في "متحف الطيران والفضاء الوطني" التابع لمؤسسة "سميثسونيان"Smithsonian Air and Space Museum ، في العاصمة واشنطن.
في الواقع، لقد تضاءل اهتمام الناس ببرنامج "أبولو" الفضائي منذ أن سار رائد الفضاء الأميركي نيل أرمسترونغ على سطح القمر في يوليو (تموز) 1969، وكانت البعثات الثلاث اللاحقة كافة عبارة عن أعمال متكررة لرواد فضاء يمضون وقتاً قصيراً على سطح القمر قبل عودتهم إلى الأرض. أثيرت أسئلة في الكونغرس الأميركي حول التكلفة المالية التي تتكبدها الأمة الآن وقد "فازت" الولايات المتحدة بسباق الفضاء ضد منافستها في الاتحاد السوفياتي. يقول موير هارموني، إنه "بالنسبة إلى أميركا، لطالما كان برنامج "أبولو" عبارة عن مفاضلة بين مخصصات الميزانية من جهة والمكاسب من جهة أخرى". سبق أن أرجئت أو ألغيت البعثات الفضائية المستقبلية، وأرادت "ناسا" أن توضح للأمة لماذا كان الذهاب إلى القمر ما زال عملية ذات جدوى، ذلك أن مشكلات كثيرة على الأرض من قبيل فيتنام وحركة الحقوق المدنية (المعروفة أيضاً باسم حركة الحقوق المدنية الأميركية الأفريقية)، كانت تشغل بال الشعب الأميركي. ويضيف موير هارموني، أن "علم القمر لم يستحوذ على اهتمام كبير من جانب السياسيين، كذلك الحال بالنسبة إلى الناخبين الذين لم يأبهوا به كثيراً، بيد أن "ناسا" أرادت أقله أن تثبت أن دافعاً ما يحملها على متابعة برنامج أبولو".
هبطت "أبولو 15" على سطح القمر في 30 يوليو 1971، وستبقى هناك طوال أكثر من ثلاثة أيام. ستستخدم المركبة القمرية "لونر روفر" Lunar Roving Vehicle (اختصاراً "أل آر في" LRV)، أو "عربة القمر" moonbuggy كما يسميها الصحافيون، التي تعمل بالبطارية، ما سيتيح لرائدي الفضاء أن يتنقلا مسافات أكبر مما تسمح به مركبتهما القمرية "فالكون" Falcon(الصقر). للمرة الأولى، كان للبعثة هدف يفوق أي فائدة دعائية، والأهم، أنه سيستقطب جماهير التلفزيون. على المركبة "لونر روفر"، سيُصار إلى تثبيت كاميرات تلفزيونية، كانت قادرة على البث بالألوان، بعدما كان العالم شاهد بعثة "أبولو 11" بالأبيض والأسود. ظهرت بعض المخاوف من أن تعجز "لونر روفر" ربما عن العمل بكامل طاقتها لأن الجدول الزمني لتطويرها كان ضيقاً وكان تصميمها، في نواح عدة، يستند إلى مجموعة من التخمينات، إذ إن أحداً لم تكن لديه معرفة تامة بشأن مستوى أدائها على سطح القمر. في نهاية المطاف، عملت المركبة كما ينبغي، قاطعة مسافة 30 كيلومتراً تقريباً بسرعة قصوى بلغت 12 كيلومتراً في الساعة، وحتى أنها نجت من عقبة بسيطة واجهتها في اليوم الأول عندما تعطل توجيه العجلتين الأماميتين. لحسن الحظ، سرعان ما جرى تصحيح المشكلة.
بطبيعة الحال، نتيجة الجاذبية المنخفضة للقمر راحت "لونر روفر" تهتز وتتخبط، ما خلف أعمدة ضخمة من الغبار على السطح. ممازحاً، وصف إروين قيادة سكوت للمركبة بـ"المتهورة"، على الرغم من أن الأخير أصر على أنه كان يتجنب الصخور والحفر التي يمكن أن تلحق الضرر بالعربة. يقول موير هارموني إنه "على الرغم من أن "لونر روفر" كانت تتخبط طلوعاً ونزولاً ولم تكن مستقرة، إلا أنها عملت على نحو مثالي. لمن المؤسف أنه كان علينا أن نتركها وراءنا". ما زالت هناك، بالطبع، إلى جانب مركبتين قمريتين أخريين من "لونر روفر" استخدمتا في المهمتين الأخيرتين للبرنامج، "أبولو 16" و"أبولو 17".
حققت بعثة "أبولو 15" أهدافها العلمية. على الرغم من أنهما آتيان من سلاح الجو الأميركي، أثبت كل من سكوت، قائد البعثة، وإروين زميله، أنهما كانا تلميذين متحمسين للعلوم وجاهزين لتطبيقها. حتى أنهما، وفق موير هارموني، "لم يكتفيا باتباع التعليمات، بل أصبحا عالمين". تبدى ذلك واضحاً لمشاهدي التلفزيون خصوصاً، إذ أثبت سكوت وإروين أن عالم الرياضيات الإيطالي غاليليو كان على صواب قبل 400 عام تقريباً عندما افترض أن الأجسام على اختلاف كتلتها تسقط بالتسارع نفسه في فراغ (داحضاً نظرية الجاذبية لأرسطو التي تنص على أن الأجسام الثقيلة تسقط على الأرض بصورة أسرع من نظيرتها الخفيفة). في تجربة فيزيائية، أفلت سكوت من يديه مطرقة وريشة (مأخوذة من "صقر" بما يتناسب مع اسم المركبة القمرية) في الوقت عينه تماماً وانتظر، وجراء غياب المقاومة في الغلاف الجوي، وصل كلاهما إلى سطح القمر معاً. كانا أيضاً أول رائدين فضائيين ينامان فعلاً على القمر، إذ لم يأخذا قيلولة فقط ("سدادات الأذنين ساعدتهما"، يضيف موير هارموني)، ما أعطى علماء الفزيولوجيا الفرصة لدراسة إيقاعات الساعة البيولوجية على جسم كوني آخر غير الأرض. كذلك أنجزا أعمال تنقيب عبر سطح القمر لمعرفة أي مواد يمكن استخراجها، وجمعا عينات من التربة، ونهضا بتجارب تتعلق بدراسة الرياح الشمسية، ودرسا الزلازل والقياس الطيفي، بل وأطلقا قمراً صناعياً في مدار القمر لرسم خريطة مجال جاذبية القمر، وقياس البلازما وشدة الجسيمات في الفضاء. ولكن أثناء وجودهما في المركبة القمرية "لونر روفر" لمسح الحفرة القمرية "سبور"Spur Crater، على بعد خمسة كيلومترات من موقع هبوطهما، ستتجلى أهمية تدريبهما العلمي الذي حصلا عليه حديثاً.
سكوت تحديداً وجد دروس لي سيلفر في الجيولوجيا رائعة. يقول في هذا الصدد، "لطالما كنت مهتماً بعلم الآثار والتاريخ. وقد أثار اهتمامي المستكشفان البريطانيان جيمس كوك وروبرت سكوت، اللذان جعلا العلم محوراً رئيساً في رحلاتهما". يُشار إلى أنه تكريماً لوحدة القيادة في "أبولو 11"، أطلق عليها اسم "إندوفر" (المسعى) Endeavour، بالتهجئة الإنجليزية البريطانية، تيمناً باسم سفينة كوك. يقول موير هارموني، إن "التدريب الجيولوجي لبعثة "أبولو 15" كان أكثر شمولية من أي بعثة أخرى. أمضى ديفيد سكوت ثلث فترة تدريبه في دراسة الجيولوجيا وحدها، وقام برفقة إروين برحلات ميدانية مرة واحدة في أقل تقدير شهرياً بدءاً من عام 1970 فصاعداً. حتى أن زوجة سكوت أخذت دورة في الجيولوجيا كي تتمكن من اختبار قدراته أثناء تناول طعام العشاء".
يتابع سكوت، "بدت الجيولوجيا بطريقة ما امتداداً لاهتماماتي هذه. حظيت بمدرس ملهم. أحببت الرحلات الميدانية إلى هاواي وأريزونا، حتى أننا تدربنا على جمع العينات ونحن نرتدي بدلات الفضاء، وخضنا فن ترجمة ملايين السنين عبر تفحص عينات مختلفة من الصخور. رأيت أن الجيولوجيا يجب أن تكون المحور الرئيس للعلم الذي سنقوم به على القمر، بيد أن إثارة حماسة التقنيين في "ناسا" لم تكن سهلة". كان ديك سيلايتون مدير عمليات طاقم الرحلة، التي كان أحد أدوارها الرئيسة التأكد من أن تكون المركبة الفضائية خفيفة الوزن قدر الإمكان. كان الوزن مسألة بالغة الأهمية، فكل كيلوغرام إضافي، سيلزمه مزيداً من الوقود، إنها حلقة مفرغة نوعاً ما. حتى أننا كنا محكومين بعدد محدد من اللاصقات في حقيبة الإسعافات الأولية. يوضح سكوت، "لذا عندما حاولت أن أشرح لديك سبب حاجتي إلى مدمة جيولوجية كان ذلك أشبه بمعركة شاقة. كان يقول "إنك بمجرد أن ترى صخرة واحدة، ستراها كلها". ولكن، لكم سيتبين عدم صحة هذا الرأي لاحقاً.
عندما هبط فالكون للمرة الأولى في وادي "هادلي ريل"Hadley Rille (يقع غرب موقع هبوط أبولو 15) على حافة "ماري إمبريوم" (أو "بحر إمبريوم")Mare Imbrium، كان سكوت قد وقف محدقاً عبر الفتحة العلوية لمركبة الهبوط شارحاً لمركز المراقبة في البعثة وللجيولوجيين الذين يستمعون إليه، مشاهداته والعوارض التي كان ينوي عبورها" بواسطة "لونر روفر". قال روبن بريت، عالم في الجيوفيزياء في "ناسا إن "توصيفات سكوت وشروحاته كانت جيدة جيداً كما شروحات أي جيولوجي محترف". لقد اختير وادي "هادلي ريل" تحديداً لأن طبقات الأرض في هذه المنطقة كانت تعد مثمرة ومثيرة للفضول. بعد شرح مفصل بشأن الجبال والتلال والحفر، قال سكوت بشيء من الحنكة والبصيرة، "أخبر علماء الجيولوجيا في الغرفة الخلفية أن يستعدوا لأننا حصلنا على شيء يهمهم فعلاً."
لقد وجدا شيئاً مهماً لا ريب. في اليوم الثاني من مهمتهما، كانت مركبة "لونر روفر" متجهة نحو قمة "مونس هادلي دلتا" Mons Hadley Delta التي يبلغ ارتفاعها أربعة آلاف و500 متر فوق قاع الوادي، والقريبة من الحفرة القمرية "سبور". على بعد خطوات قليلة من القمة، اكتشف رائدا الفضاء صخرة ذات مسحة باللون الأخضر اعتقدا أن أهميتها ربما تتبين لاحقاً. ولكن أثناء الاقتراب منها، بدأت المركبة "لونر روفر" تواجه تربة رخوة، حيث راحت عجلاتها تغرق وتدور. قال إروين في وقت لاحق، إن القلق أخذ يعتريهما. وذكر في هذا الصدد، "لم نكن نتحرك، وكانت الأرض شديدة الانحدار". في مرحلة ما، صعد وأمسك بعربة القمر لمنعها من الانزلاق إلى الحفرة.
كما الحال مع كل موقف خطير يُحتمل أن يواجهه الرواد على القمر، توفر بروتوكول للعمل به في حال تعرضت "لونر روفر" لأضرار غير قابلة للإصلاح، أو بقيت عالقة أثناء الخروج من حاجز ما. قدمت أجهزة الجيروسكوب (بوصلة دوارة تساعد في تحديد الجهة المعينة في الفضاء) الموجودة على كل عجلة من عجلات المركبة، التي جرى ضبطها قبل المغادرة، معلومات حول مكان وجود المركبة القمرية "فالكون" تحديداً في حال احتاجا إلى السير في خط مستقيم عائدين إلى بر الأمان. إذا أخفقا، كان البديل اتباع مسارات "عربة القمر"، لكن ذلك سيستغرق وقتاً أطول. يوضح سكوت أن "الأوكسجين سيكون محدوداً، لذلك كنا بحاجة إلى معرفة مكاننا دائماً. ونظراً إلى أن خط الأفق يبعد كيلومتراً واحداً فقط على القمر، سرعان ما عجزنا عن رؤية "فالكون". وليس للقمر مجال مغناطيسي، لذا كان علينا استخدام بوصلة الشمس، ساعة شمسية عملياً، لتوجيه أنفسنا باستخدام مكان الشمس في جميع الأوقات".
لحسن الحظ، لم يحتاجا إلى بروتوكول التعافي على القمر، فقد تمكن سكوت من عكس اتجاه المركبة "لونر روفر" (كانت خفيفة جداً على القمر، بوزن 36 كيلوغراماً فقط، إلى حد أن بإمكان رائدي الفضاء جرها أيضاً) وبعد أخذ عينة من الصخرة، التي سيتبين لاحقاً أنها من معدن "الأوليفين" أو "الزبرجد الزيتوني" olivine، بدأ سكوت رحلته مجدداً إلى "حفرة سبور". وما زال يتذوق، كما يقول، "طعم الإثارة الذي تركه في نفسي ما اكتشفناه هناك". عندما وقفا على حافة حفرة بعمق 50 متراً من سطح القمر، وقعت عينا إيروين على بلورات لامعة تنعكس في ضوء الشمس. صاح، "أوه، يا رجل". إنها صخرة بيضاء صغيرة تقف هناك في مقابل كل اللون الرمادي المحيط. كان الانعكاس قادماً من بلورات بيضاء على سطح الصخرة. قال إروين إنها "صخرة بلورية، أليس كذلك". أجاب سكوت، "أعتقد أننا ربما حصلنا على معدن أقرب إلى "الآنورثوسايت" anorthosite".
في كتابه "إرث أبولو" Apollo’s Legacy، كتب المؤرخ الرئيس السابق لوكالة "ناسا" رودجر لونيوس، أن "رائدي الفضاء اكتشفا ما جاءا من أجله، صخرة قد تحمل الإجابة عن سؤال بشأن تكوين القمر". في الأيام التي أعقبت عودة "أبولو 15"، وفي مؤتمر صحافي عقد بالمناسبة، أشار أحد العلماء إلى الصخرة، بشكل عابر، باسم "صخرة جينيسيس"، وهو الاسم الذي رافقها دائماً منذ ذلك الحين. لم يأل العلماء جهداً في سبيل التأكد من أن لدى فرق "أبولو" المعرفة اللازمة لإنجاز عمل مجد. وكان نجاحهم مدهشاً. أدرك رائدا الفضاء بشكل صحيح أهمية اكتشافهما".
الاسم العلمي للصخرة "العينة 15415"، وكما اعتقد سكوت وكان مصيباً في ظنه، إنه "الآنورثوسايت"، صخر مكون أساساً من معدن "بلاجيوجلاز" الذي ينتمي إلى طائفة "الفلدسبار". فيما كانت الأرض في طور تكوين قشرتها الصلبة، كانت المعادن التي تشكل صخر "الآنورثوسايت" ترتفع لتطفو على قمة الصهارة المذابة. ولكن سطح القمر احتضن "آنورثوسايت" عمره 4.1 مليارات سنة. لطالما كان احتمال العثور على "آنورثوسايت" على سطح القمر موضوع نقاش بين الجيولوجيين، ولكن كما يقول سكوت، "كانت المفاجأة هناك."
مع مرور الوقت، تطورت ثلاث نظريات متنافسة في ما يتعلق بتكوين الأرض وقمرها. اقترحت نظرية "الشقيقة" (sister theory) أن الأرض والقمر تشكلا في وقت متزامن من سحابة غاز وغبار واحدة. أما نظرية "الزوج" (spouse theory) فأشارت إلى أن القمر قد تشكل في مكان آخر، ثم التحق بمدار الأرض بفعل جاذبية الكوكب. وفي الوقت نفسه، فإن نظرية "الابنة" (daughter theory) (على الرغم من أنها تبدو أكثر غرابة) اقترحت أن القمر والأرض كانا ذات يوم كتلة واحدة، ثم انفصل القمر عن الأرض بعد فترة وجيزة من تكوينهما.
ولكن مع اكتشاف الصخرة، صار نطاق نظريات تكوين القمر ضيقاً، على الرغم من أن الجيولوجيين استغرقوا بضع سنوات قبل أن يتوصلوا إلى نتيجة بعد دراستها. إذا كان القمر يحتوي على كميات كبيرة من "الآنورثوسايت"، فلا بد من أنه مصنوع أيضاً من الصهارة المذابة، ما يدفع إلى التساؤل عن مصدر الطاقة اللازمة لإنتاج الصهارة. ترتكن الغالبية هذه الأيام إلى فكرة مفادها أن الأرض والقمر كانا في يوم من الأيام جسماً واحداً، وأن حطاماً مقذوفاً في المدار شكل القمر على الأرجح بعد اصطدام الأرض بكوكب صغير آخر قبل حوالى 4.5 مليار سنة- نظرية الابنة (فرضية الاصطدام العملاق).
في النتيجة، كانت صخور ذلك القمر البدائي ستكون في حالة شبه منصهرة، ما يعني أن الفارق بين عمر "صخرة جينيسيس" (4.1 مليار سنة) وتاريخ التصادم الذي أدى إلى قذفها، هو المدة التي استغرقتها "الآنورثوسايت" ليصير صلباً، 0.4 مليار سنة. كذلك ساعد "الزبرجد الزيتوني" الذي وجده رائدا الفضاء قبل دقائق فقط من العثور على "صخرة التكوين" في تأكيد النظرية. كان الجيولوجيون يأملون في أن تحتوي منطقة الهبوط على "بلاجيوجلاز الفلدسبار" المتبلور وقد أطلعوا رائدا الفضاء على كيفية اكتشافه. "بالتدريب والحدس كان في مقدور سكوت أن يتعرف إلى الصخرة. أثبتت صفوف لي سيلفر الجيولوجية قيمتها. كان هذا بلا شك أهم اكتشاف تحققه بعثات أبولو"، كما يقول موير هارموني. في الواقع، يتنافس هذا الاكتشاف على احتلال مكانة كأحد أعظم الاكتشافات العلمية على الإطلاق.
"يعود الفضل في ذلك في جزء كبير منه إلى تدريب لي"، كما يوضح سكوت، مضيفاً، "كان (لي) قادراً على شرح الأمور المعقدة ببساطة وجعل جيولوجيا القمر، التي بدت لنا كتلة رمادية، شيئاً مهماً ومدهشاً وساحراً. لقد علمنا أيضاً أنه، خلافاً للحال على الأرض، ليس في وسعنا أن نمضي ساعات في تفحص منطقة واحدة على القمر. كان علينا أن نصل إليها، ونعود منها سريعاً، ما يعني أنه كان علينا أن نتعلم كيف نكتشف على نحو سريع العينات التي تحمل أهمية محتملة. لأكون صادقاً، عندما اكتشفنا "15415"، علي أن أعترف، لم أكن أدرك مدى أهميتها. لكن كلانا عرف أنها كانت مختلفة. لذا جلبناها معنا. في ذلك الوقت قلت، "أعتقد أننا وجدنا ما جئنا من أجله، في اقتراح بدا تنبؤياً، وقد كان كذلك فعلاً، لكنني لم أدرك الصورة كاملة إلى أن خضعت الصخرة للتحليل مجدداً على الأرض، علماً أنه من دون لي، ما كان ذلك ليتحقق. طوال الوقت على سطح القمر، كان شاغلي الجيولوجيا المحيطة بي".
كان رائدا الفضاء مفتونين جداً باكتشافهما لدرجة أن وحدة القيادة اضطرت إلى تحذيرهما من أن إمدادات الأوكسجين كانت على وشك النفاد. اعتقد سكوت أن "حفرة سبور" ربما كشفت عن مزيد من الكنوز الجيولوجية، ويصفها بأنها "منجم ذهب"، ولكن لم يحدث أن زارتها أي بعثة منذ ذلك الحين. في المساء التالي، انطلق سكوت وإروين من "هادلي ريل" للالتقاء مع عضو طاقمهما آل ووردن في مركبة القيادة المدارية استعداداً للعودة إلى الأرض. لكن إرثهما العلمي كان أصبح في مأمن. قال مدير رحلة "أبولو 15" جيرالد غريفين لاحقاً، "شهدنا بلا شك أعظم يوم للاستكشاف العلمي على الإطلاق في برنامج الفضاء."
يوضح رودجر لونيوس أن "قصة "صخرة جينيسيس" قد كتبت ذروة العلوم التي كان القمر مسرحها. وكان ثمة الكثير جداً بعد. ولكن يصعب قياس مدى تأثير ذلك الاكتشاف في الرأي العام. استند البرنامج برمته تقريباً إلى منافسات الحرب الباردة، ورغبة الولايات المتحدة في إظهار تفوقها التكنولوجي للعالم. ولكن مع ذلك، أظهرت البعثات قدراً كبيراً من المعرفة العلمية. في حالات كثيرة، أُعيدت كتابة الكتب المدرسية العلمية تماماً لتتوافق مع الاكتشاف".
ديفيد بيكر، يكتب في "دليل ناسا لعمليات بعثات القمر"Nasa Moon Missions Operations Manual قائلاً إنه "من بين جميع عمليات الهبوط على القمر، تبرز "أبولو 15" في عملها الرائد... كانت الأعظم من بين جميع البعثات". وقد أثبتت شعبيتها لدى مشاهدي التلفزيون، ليس بسبب الاكتشافات غير العادية والنجاحات العلمية التي حققها رائدا الفضاء، بل نتيجة التغطية التلفزيونية المتطورة التي قدمت صوراً مذهلة، إذ نقلت رحلة المركبة "لونر روفر" وهي تتحرك عبر سطح القمر، منحرفة عن مساراتها ومستثيرة ضباباً من الغبار. حتى أن نسخة غير مستخدمة محفوظة في "متحف الطيران والفضاء الوطني" في العاصمة واشنطن ما زالت تحظى بقدر أكبر كثيراً من الاهتمام، مقارنة مع صخرة جينيسيس المحفوظة الآن ضمن المجموعة في "منشأة مختبر العينات القمرية" في هيوستن، بتكساس، خاملة هناك من دون حراك، وغافلة عن أهميتها في تاريخ العلوم.
فهل أعيد إحياء "برنامج أبولو" في نظر الشعب الأميركي، وربما الأهم من ذلك، في عيون السياسيين الذين كانوا يمسكون بزمام الأمور؟ يقول موير هارموني الذي تولى بحوثاً كثيرة في السياسة الكامنة وراء البرنامج، "وددت لو أجيب بنعم، ولكن علي أن أقول لا. بصرياً، كان الأمر مثيراً للإعجاب، فقد حصل رائدا الفضاء اللذان تجولا بمركبتهما في أرجاء القمر على تقييمات تلفزيونية أفضل من أي بعثة منذ "أبولو 11"، وكان مشهد القمر مع الجبال الشاهقة كجبال "إيفرست" والأودية العميقة مثيراً للإعجاب. وبالطبع، كانت الاكتشافات العلمية مذهلة بالنسبة إلى المهتم تماماً بتاريخ النظام الشمسي. ولكن إذا كان تركيزك الوحيد ينصب في إعادة انتخابك، سيبقى الاقتصاد والمستشفيات والتعليم، وفي ذلك الوقت، فيتنام، على رأس جدول أعمالك دائماً".
من ثم، على المدى الطويل، تلاشت الإرادة السياسية لمواصلة برنامج "أبولو"، إذ تصارع "ناسا" من أجل استمرارية الهبوط على سطح القمر في مواجهة الرأي العام المتشكك والكونغرس. تباعد المعسكران بشكل أكبر، إذ أشارت الوكالة إلى نجاحات "أبولو 15" ومركبة " لونر روفر"، فيما تعالت أكثر صرخات منتقدي البرنامج، حتى أن البعض أشار إلى أن "ناسا" قد أخبرت سكوت أن يعلن أنه وزميله قد "وجدا ما جئنا من أجله" بغية تبرير الزوايا العلمية للبعثات اللاحقة والحفاظ على تدفق الأموال. في العادة، يجيب سكوت متهكماً، "بالتأكيد، لقد زارنا الفضائيون أثناء تواجدنا هناك أيضاً."
لطالما كان "أبولو" عملية موازنة بين سياسات الحرب الباردة والمال، فيما احتل العلم المركز الثالث. يقول لونيوس، "أولئك الذين ينتقدون الهبوط على سطح القمر من الانتماءين السياسيين اليسار واليمين يجيبون بالنفي عن سؤال ما إذا كان الكد والمشقة، والتكلفة خصوصاً، تستحق العناء". ومن الإنصاف القول إن الهبوط على القمر لم يكن مبنياً على العلم. لكن انظر إلى ما الذي كان سيفوتنا لو أننا لم نزره أبداً".
لما كان الاثنان رائدي فضاء في "أبولو 15"، البعثة المأهولة الرابعة التي استهدفت هبوط البشر على سطح القمر، ازداد اكتشافهما (صخرة جينيسيس) عظمة. اللافت أن سكوت وإيروين لم يكونا عالمين، إنما طيارين في القوات الجوية الأميركية، جرى تجنيدهما في فيلق رواد الفضاء "أبولو" التابع لوكالة الفضاء الأميركية "ناسا"، وقبل اختيارهما للتحليق على متن المركبة الفضائية "أبولو 15" لم يكن بمقدورهما التمييز بين صخرة قمريةMoonrock وقطعة من الجبن الأخضر. بيد أن "ناسا" ارتأت أن صناعة عالِمين من رائدي فضاء أهون من تدريب عالِمين كي يصبحا رائدين فضائيين. لذا، قصد سكوت وإيروين المدرسة مجدداً ليتعلما الأمور كافة، بدءاً من الفيزياء الفلكية مروراً بقياس الطيف. وليس انتهاءً بالجيولوجيا.
كان شاغل بعثات برنامج "أبولو" السابقة كلها تحقيق الهدف المتمثل في الهبوط المأهول بالبشر على سطح القمر. أما "أبولو 15" فكانت مختلفة، وسميت "البعثة جيه" J Mission (تذكيراً، صنفت بعثات برنامج "أبولو" ضمن فئات عدة، كانت الأولى بينها الفئة "أي" A، أما الهبوط الأول على سطح القمر، الذي حققته "أبولو 11"، فكان ضمن الفئة "جي" (G)، وكانت "أبولو 15" البعثة الأولى ضمن الفئة "جيه" (J) أو، وفق تعبير "ناسا"، "استكشاف علمي مستفيض للقمر على سطح القمر ومن المدار القمري). ستكون "أبولو 15" البعثة الأولى التي تضع العلوم في صميم مهامها، فقد "تبددت تأثيرات بروباغندا الهبوط الأول على سطح القمر. والآن يريد العلماء في "ناسا" أن تحظى اهتماماتهم بالأولوية"، حسبما يقول تيسل موير هارموني، أمين مجموعة المركبة الفضائية "أبولو" في "متحف الطيران والفضاء الوطني" التابع لمؤسسة "سميثسونيان"Smithsonian Air and Space Museum ، في العاصمة واشنطن.
في الواقع، لقد تضاءل اهتمام الناس ببرنامج "أبولو" الفضائي منذ أن سار رائد الفضاء الأميركي نيل أرمسترونغ على سطح القمر في يوليو (تموز) 1969، وكانت البعثات الثلاث اللاحقة كافة عبارة عن أعمال متكررة لرواد فضاء يمضون وقتاً قصيراً على سطح القمر قبل عودتهم إلى الأرض. أثيرت أسئلة في الكونغرس الأميركي حول التكلفة المالية التي تتكبدها الأمة الآن وقد "فازت" الولايات المتحدة بسباق الفضاء ضد منافستها في الاتحاد السوفياتي. يقول موير هارموني، إنه "بالنسبة إلى أميركا، لطالما كان برنامج "أبولو" عبارة عن مفاضلة بين مخصصات الميزانية من جهة والمكاسب من جهة أخرى". سبق أن أرجئت أو ألغيت البعثات الفضائية المستقبلية، وأرادت "ناسا" أن توضح للأمة لماذا كان الذهاب إلى القمر ما زال عملية ذات جدوى، ذلك أن مشكلات كثيرة على الأرض من قبيل فيتنام وحركة الحقوق المدنية (المعروفة أيضاً باسم حركة الحقوق المدنية الأميركية الأفريقية)، كانت تشغل بال الشعب الأميركي. ويضيف موير هارموني، أن "علم القمر لم يستحوذ على اهتمام كبير من جانب السياسيين، كذلك الحال بالنسبة إلى الناخبين الذين لم يأبهوا به كثيراً، بيد أن "ناسا" أرادت أقله أن تثبت أن دافعاً ما يحملها على متابعة برنامج أبولو".
هبطت "أبولو 15" على سطح القمر في 30 يوليو 1971، وستبقى هناك طوال أكثر من ثلاثة أيام. ستستخدم المركبة القمرية "لونر روفر" Lunar Roving Vehicle (اختصاراً "أل آر في" LRV)، أو "عربة القمر" moonbuggy كما يسميها الصحافيون، التي تعمل بالبطارية، ما سيتيح لرائدي الفضاء أن يتنقلا مسافات أكبر مما تسمح به مركبتهما القمرية "فالكون" Falcon(الصقر). للمرة الأولى، كان للبعثة هدف يفوق أي فائدة دعائية، والأهم، أنه سيستقطب جماهير التلفزيون. على المركبة "لونر روفر"، سيُصار إلى تثبيت كاميرات تلفزيونية، كانت قادرة على البث بالألوان، بعدما كان العالم شاهد بعثة "أبولو 11" بالأبيض والأسود. ظهرت بعض المخاوف من أن تعجز "لونر روفر" ربما عن العمل بكامل طاقتها لأن الجدول الزمني لتطويرها كان ضيقاً وكان تصميمها، في نواح عدة، يستند إلى مجموعة من التخمينات، إذ إن أحداً لم تكن لديه معرفة تامة بشأن مستوى أدائها على سطح القمر. في نهاية المطاف، عملت المركبة كما ينبغي، قاطعة مسافة 30 كيلومتراً تقريباً بسرعة قصوى بلغت 12 كيلومتراً في الساعة، وحتى أنها نجت من عقبة بسيطة واجهتها في اليوم الأول عندما تعطل توجيه العجلتين الأماميتين. لحسن الحظ، سرعان ما جرى تصحيح المشكلة.
بطبيعة الحال، نتيجة الجاذبية المنخفضة للقمر راحت "لونر روفر" تهتز وتتخبط، ما خلف أعمدة ضخمة من الغبار على السطح. ممازحاً، وصف إروين قيادة سكوت للمركبة بـ"المتهورة"، على الرغم من أن الأخير أصر على أنه كان يتجنب الصخور والحفر التي يمكن أن تلحق الضرر بالعربة. يقول موير هارموني إنه "على الرغم من أن "لونر روفر" كانت تتخبط طلوعاً ونزولاً ولم تكن مستقرة، إلا أنها عملت على نحو مثالي. لمن المؤسف أنه كان علينا أن نتركها وراءنا". ما زالت هناك، بالطبع، إلى جانب مركبتين قمريتين أخريين من "لونر روفر" استخدمتا في المهمتين الأخيرتين للبرنامج، "أبولو 16" و"أبولو 17".
حققت بعثة "أبولو 15" أهدافها العلمية. على الرغم من أنهما آتيان من سلاح الجو الأميركي، أثبت كل من سكوت، قائد البعثة، وإروين زميله، أنهما كانا تلميذين متحمسين للعلوم وجاهزين لتطبيقها. حتى أنهما، وفق موير هارموني، "لم يكتفيا باتباع التعليمات، بل أصبحا عالمين". تبدى ذلك واضحاً لمشاهدي التلفزيون خصوصاً، إذ أثبت سكوت وإروين أن عالم الرياضيات الإيطالي غاليليو كان على صواب قبل 400 عام تقريباً عندما افترض أن الأجسام على اختلاف كتلتها تسقط بالتسارع نفسه في فراغ (داحضاً نظرية الجاذبية لأرسطو التي تنص على أن الأجسام الثقيلة تسقط على الأرض بصورة أسرع من نظيرتها الخفيفة). في تجربة فيزيائية، أفلت سكوت من يديه مطرقة وريشة (مأخوذة من "صقر" بما يتناسب مع اسم المركبة القمرية) في الوقت عينه تماماً وانتظر، وجراء غياب المقاومة في الغلاف الجوي، وصل كلاهما إلى سطح القمر معاً. كانا أيضاً أول رائدين فضائيين ينامان فعلاً على القمر، إذ لم يأخذا قيلولة فقط ("سدادات الأذنين ساعدتهما"، يضيف موير هارموني)، ما أعطى علماء الفزيولوجيا الفرصة لدراسة إيقاعات الساعة البيولوجية على جسم كوني آخر غير الأرض. كذلك أنجزا أعمال تنقيب عبر سطح القمر لمعرفة أي مواد يمكن استخراجها، وجمعا عينات من التربة، ونهضا بتجارب تتعلق بدراسة الرياح الشمسية، ودرسا الزلازل والقياس الطيفي، بل وأطلقا قمراً صناعياً في مدار القمر لرسم خريطة مجال جاذبية القمر، وقياس البلازما وشدة الجسيمات في الفضاء. ولكن أثناء وجودهما في المركبة القمرية "لونر روفر" لمسح الحفرة القمرية "سبور"Spur Crater، على بعد خمسة كيلومترات من موقع هبوطهما، ستتجلى أهمية تدريبهما العلمي الذي حصلا عليه حديثاً.
سكوت تحديداً وجد دروس لي سيلفر في الجيولوجيا رائعة. يقول في هذا الصدد، "لطالما كنت مهتماً بعلم الآثار والتاريخ. وقد أثار اهتمامي المستكشفان البريطانيان جيمس كوك وروبرت سكوت، اللذان جعلا العلم محوراً رئيساً في رحلاتهما". يُشار إلى أنه تكريماً لوحدة القيادة في "أبولو 11"، أطلق عليها اسم "إندوفر" (المسعى) Endeavour، بالتهجئة الإنجليزية البريطانية، تيمناً باسم سفينة كوك. يقول موير هارموني، إن "التدريب الجيولوجي لبعثة "أبولو 15" كان أكثر شمولية من أي بعثة أخرى. أمضى ديفيد سكوت ثلث فترة تدريبه في دراسة الجيولوجيا وحدها، وقام برفقة إروين برحلات ميدانية مرة واحدة في أقل تقدير شهرياً بدءاً من عام 1970 فصاعداً. حتى أن زوجة سكوت أخذت دورة في الجيولوجيا كي تتمكن من اختبار قدراته أثناء تناول طعام العشاء".
يتابع سكوت، "بدت الجيولوجيا بطريقة ما امتداداً لاهتماماتي هذه. حظيت بمدرس ملهم. أحببت الرحلات الميدانية إلى هاواي وأريزونا، حتى أننا تدربنا على جمع العينات ونحن نرتدي بدلات الفضاء، وخضنا فن ترجمة ملايين السنين عبر تفحص عينات مختلفة من الصخور. رأيت أن الجيولوجيا يجب أن تكون المحور الرئيس للعلم الذي سنقوم به على القمر، بيد أن إثارة حماسة التقنيين في "ناسا" لم تكن سهلة". كان ديك سيلايتون مدير عمليات طاقم الرحلة، التي كان أحد أدوارها الرئيسة التأكد من أن تكون المركبة الفضائية خفيفة الوزن قدر الإمكان. كان الوزن مسألة بالغة الأهمية، فكل كيلوغرام إضافي، سيلزمه مزيداً من الوقود، إنها حلقة مفرغة نوعاً ما. حتى أننا كنا محكومين بعدد محدد من اللاصقات في حقيبة الإسعافات الأولية. يوضح سكوت، "لذا عندما حاولت أن أشرح لديك سبب حاجتي إلى مدمة جيولوجية كان ذلك أشبه بمعركة شاقة. كان يقول "إنك بمجرد أن ترى صخرة واحدة، ستراها كلها". ولكن، لكم سيتبين عدم صحة هذا الرأي لاحقاً.
عندما هبط فالكون للمرة الأولى في وادي "هادلي ريل"Hadley Rille (يقع غرب موقع هبوط أبولو 15) على حافة "ماري إمبريوم" (أو "بحر إمبريوم")Mare Imbrium، كان سكوت قد وقف محدقاً عبر الفتحة العلوية لمركبة الهبوط شارحاً لمركز المراقبة في البعثة وللجيولوجيين الذين يستمعون إليه، مشاهداته والعوارض التي كان ينوي عبورها" بواسطة "لونر روفر". قال روبن بريت، عالم في الجيوفيزياء في "ناسا إن "توصيفات سكوت وشروحاته كانت جيدة جيداً كما شروحات أي جيولوجي محترف". لقد اختير وادي "هادلي ريل" تحديداً لأن طبقات الأرض في هذه المنطقة كانت تعد مثمرة ومثيرة للفضول. بعد شرح مفصل بشأن الجبال والتلال والحفر، قال سكوت بشيء من الحنكة والبصيرة، "أخبر علماء الجيولوجيا في الغرفة الخلفية أن يستعدوا لأننا حصلنا على شيء يهمهم فعلاً."
لقد وجدا شيئاً مهماً لا ريب. في اليوم الثاني من مهمتهما، كانت مركبة "لونر روفر" متجهة نحو قمة "مونس هادلي دلتا" Mons Hadley Delta التي يبلغ ارتفاعها أربعة آلاف و500 متر فوق قاع الوادي، والقريبة من الحفرة القمرية "سبور". على بعد خطوات قليلة من القمة، اكتشف رائدا الفضاء صخرة ذات مسحة باللون الأخضر اعتقدا أن أهميتها ربما تتبين لاحقاً. ولكن أثناء الاقتراب منها، بدأت المركبة "لونر روفر" تواجه تربة رخوة، حيث راحت عجلاتها تغرق وتدور. قال إروين في وقت لاحق، إن القلق أخذ يعتريهما. وذكر في هذا الصدد، "لم نكن نتحرك، وكانت الأرض شديدة الانحدار". في مرحلة ما، صعد وأمسك بعربة القمر لمنعها من الانزلاق إلى الحفرة.
كما الحال مع كل موقف خطير يُحتمل أن يواجهه الرواد على القمر، توفر بروتوكول للعمل به في حال تعرضت "لونر روفر" لأضرار غير قابلة للإصلاح، أو بقيت عالقة أثناء الخروج من حاجز ما. قدمت أجهزة الجيروسكوب (بوصلة دوارة تساعد في تحديد الجهة المعينة في الفضاء) الموجودة على كل عجلة من عجلات المركبة، التي جرى ضبطها قبل المغادرة، معلومات حول مكان وجود المركبة القمرية "فالكون" تحديداً في حال احتاجا إلى السير في خط مستقيم عائدين إلى بر الأمان. إذا أخفقا، كان البديل اتباع مسارات "عربة القمر"، لكن ذلك سيستغرق وقتاً أطول. يوضح سكوت أن "الأوكسجين سيكون محدوداً، لذلك كنا بحاجة إلى معرفة مكاننا دائماً. ونظراً إلى أن خط الأفق يبعد كيلومتراً واحداً فقط على القمر، سرعان ما عجزنا عن رؤية "فالكون". وليس للقمر مجال مغناطيسي، لذا كان علينا استخدام بوصلة الشمس، ساعة شمسية عملياً، لتوجيه أنفسنا باستخدام مكان الشمس في جميع الأوقات".
لحسن الحظ، لم يحتاجا إلى بروتوكول التعافي على القمر، فقد تمكن سكوت من عكس اتجاه المركبة "لونر روفر" (كانت خفيفة جداً على القمر، بوزن 36 كيلوغراماً فقط، إلى حد أن بإمكان رائدي الفضاء جرها أيضاً) وبعد أخذ عينة من الصخرة، التي سيتبين لاحقاً أنها من معدن "الأوليفين" أو "الزبرجد الزيتوني" olivine، بدأ سكوت رحلته مجدداً إلى "حفرة سبور". وما زال يتذوق، كما يقول، "طعم الإثارة الذي تركه في نفسي ما اكتشفناه هناك". عندما وقفا على حافة حفرة بعمق 50 متراً من سطح القمر، وقعت عينا إيروين على بلورات لامعة تنعكس في ضوء الشمس. صاح، "أوه، يا رجل". إنها صخرة بيضاء صغيرة تقف هناك في مقابل كل اللون الرمادي المحيط. كان الانعكاس قادماً من بلورات بيضاء على سطح الصخرة. قال إروين إنها "صخرة بلورية، أليس كذلك". أجاب سكوت، "أعتقد أننا ربما حصلنا على معدن أقرب إلى "الآنورثوسايت" anorthosite".
في كتابه "إرث أبولو" Apollo’s Legacy، كتب المؤرخ الرئيس السابق لوكالة "ناسا" رودجر لونيوس، أن "رائدي الفضاء اكتشفا ما جاءا من أجله، صخرة قد تحمل الإجابة عن سؤال بشأن تكوين القمر". في الأيام التي أعقبت عودة "أبولو 15"، وفي مؤتمر صحافي عقد بالمناسبة، أشار أحد العلماء إلى الصخرة، بشكل عابر، باسم "صخرة جينيسيس"، وهو الاسم الذي رافقها دائماً منذ ذلك الحين. لم يأل العلماء جهداً في سبيل التأكد من أن لدى فرق "أبولو" المعرفة اللازمة لإنجاز عمل مجد. وكان نجاحهم مدهشاً. أدرك رائدا الفضاء بشكل صحيح أهمية اكتشافهما".
مع مرور الوقت، تطورت ثلاث نظريات متنافسة في ما يتعلق بتكوين الأرض وقمرها. اقترحت نظرية "الشقيقة" (sister theory) أن الأرض والقمر تشكلا في وقت متزامن من سحابة غاز وغبار واحدة. أما نظرية "الزوج" (spouse theory) فأشارت إلى أن القمر قد تشكل في مكان آخر، ثم التحق بمدار الأرض بفعل جاذبية الكوكب. وفي الوقت نفسه، فإن نظرية "الابنة" (daughter theory) (على الرغم من أنها تبدو أكثر غرابة) اقترحت أن القمر والأرض كانا ذات يوم كتلة واحدة، ثم انفصل القمر عن الأرض بعد فترة وجيزة من تكوينهما.
ولكن مع اكتشاف الصخرة، صار نطاق نظريات تكوين القمر ضيقاً، على الرغم من أن الجيولوجيين استغرقوا بضع سنوات قبل أن يتوصلوا إلى نتيجة بعد دراستها. إذا كان القمر يحتوي على كميات كبيرة من "الآنورثوسايت"، فلا بد من أنه مصنوع أيضاً من الصهارة المذابة، ما يدفع إلى التساؤل عن مصدر الطاقة اللازمة لإنتاج الصهارة. ترتكن الغالبية هذه الأيام إلى فكرة مفادها أن الأرض والقمر كانا في يوم من الأيام جسماً واحداً، وأن حطاماً مقذوفاً في المدار شكل القمر على الأرجح بعد اصطدام الأرض بكوكب صغير آخر قبل حوالى 4.5 مليار سنة- نظرية الابنة (فرضية الاصطدام العملاق).
في النتيجة، كانت صخور ذلك القمر البدائي ستكون في حالة شبه منصهرة، ما يعني أن الفارق بين عمر "صخرة جينيسيس" (4.1 مليار سنة) وتاريخ التصادم الذي أدى إلى قذفها، هو المدة التي استغرقتها "الآنورثوسايت" ليصير صلباً، 0.4 مليار سنة. كذلك ساعد "الزبرجد الزيتوني" الذي وجده رائدا الفضاء قبل دقائق فقط من العثور على "صخرة التكوين" في تأكيد النظرية. كان الجيولوجيون يأملون في أن تحتوي منطقة الهبوط على "بلاجيوجلاز الفلدسبار" المتبلور وقد أطلعوا رائدا الفضاء على كيفية اكتشافه. "بالتدريب والحدس كان في مقدور سكوت أن يتعرف إلى الصخرة. أثبتت صفوف لي سيلفر الجيولوجية قيمتها. كان هذا بلا شك أهم اكتشاف تحققه بعثات أبولو"، كما يقول موير هارموني. في الواقع، يتنافس هذا الاكتشاف على احتلال مكانة كأحد أعظم الاكتشافات العلمية على الإطلاق.
"يعود الفضل في ذلك في جزء كبير منه إلى تدريب لي"، كما يوضح سكوت، مضيفاً، "كان (لي) قادراً على شرح الأمور المعقدة ببساطة وجعل جيولوجيا القمر، التي بدت لنا كتلة رمادية، شيئاً مهماً ومدهشاً وساحراً. لقد علمنا أيضاً أنه، خلافاً للحال على الأرض، ليس في وسعنا أن نمضي ساعات في تفحص منطقة واحدة على القمر. كان علينا أن نصل إليها، ونعود منها سريعاً، ما يعني أنه كان علينا أن نتعلم كيف نكتشف على نحو سريع العينات التي تحمل أهمية محتملة. لأكون صادقاً، عندما اكتشفنا "15415"، علي أن أعترف، لم أكن أدرك مدى أهميتها. لكن كلانا عرف أنها كانت مختلفة. لذا جلبناها معنا. في ذلك الوقت قلت، "أعتقد أننا وجدنا ما جئنا من أجله، في اقتراح بدا تنبؤياً، وقد كان كذلك فعلاً، لكنني لم أدرك الصورة كاملة إلى أن خضعت الصخرة للتحليل مجدداً على الأرض، علماً أنه من دون لي، ما كان ذلك ليتحقق. طوال الوقت على سطح القمر، كان شاغلي الجيولوجيا المحيطة بي".
كان رائدا الفضاء مفتونين جداً باكتشافهما لدرجة أن وحدة القيادة اضطرت إلى تحذيرهما من أن إمدادات الأوكسجين كانت على وشك النفاد. اعتقد سكوت أن "حفرة سبور" ربما كشفت عن مزيد من الكنوز الجيولوجية، ويصفها بأنها "منجم ذهب"، ولكن لم يحدث أن زارتها أي بعثة منذ ذلك الحين. في المساء التالي، انطلق سكوت وإروين من "هادلي ريل" للالتقاء مع عضو طاقمهما آل ووردن في مركبة القيادة المدارية استعداداً للعودة إلى الأرض. لكن إرثهما العلمي كان أصبح في مأمن. قال مدير رحلة "أبولو 15" جيرالد غريفين لاحقاً، "شهدنا بلا شك أعظم يوم للاستكشاف العلمي على الإطلاق في برنامج الفضاء."
يوضح رودجر لونيوس أن "قصة "صخرة جينيسيس" قد كتبت ذروة العلوم التي كان القمر مسرحها. وكان ثمة الكثير جداً بعد. ولكن يصعب قياس مدى تأثير ذلك الاكتشاف في الرأي العام. استند البرنامج برمته تقريباً إلى منافسات الحرب الباردة، ورغبة الولايات المتحدة في إظهار تفوقها التكنولوجي للعالم. ولكن مع ذلك، أظهرت البعثات قدراً كبيراً من المعرفة العلمية. في حالات كثيرة، أُعيدت كتابة الكتب المدرسية العلمية تماماً لتتوافق مع الاكتشاف".
ديفيد بيكر، يكتب في "دليل ناسا لعمليات بعثات القمر"Nasa Moon Missions Operations Manual قائلاً إنه "من بين جميع عمليات الهبوط على القمر، تبرز "أبولو 15" في عملها الرائد... كانت الأعظم من بين جميع البعثات". وقد أثبتت شعبيتها لدى مشاهدي التلفزيون، ليس بسبب الاكتشافات غير العادية والنجاحات العلمية التي حققها رائدا الفضاء، بل نتيجة التغطية التلفزيونية المتطورة التي قدمت صوراً مذهلة، إذ نقلت رحلة المركبة "لونر روفر" وهي تتحرك عبر سطح القمر، منحرفة عن مساراتها ومستثيرة ضباباً من الغبار. حتى أن نسخة غير مستخدمة محفوظة في "متحف الطيران والفضاء الوطني" في العاصمة واشنطن ما زالت تحظى بقدر أكبر كثيراً من الاهتمام، مقارنة مع صخرة جينيسيس المحفوظة الآن ضمن المجموعة في "منشأة مختبر العينات القمرية" في هيوستن، بتكساس، خاملة هناك من دون حراك، وغافلة عن أهميتها في تاريخ العلوم.
فهل أعيد إحياء "برنامج أبولو" في نظر الشعب الأميركي، وربما الأهم من ذلك، في عيون السياسيين الذين كانوا يمسكون بزمام الأمور؟ يقول موير هارموني الذي تولى بحوثاً كثيرة في السياسة الكامنة وراء البرنامج، "وددت لو أجيب بنعم، ولكن علي أن أقول لا. بصرياً، كان الأمر مثيراً للإعجاب، فقد حصل رائدا الفضاء اللذان تجولا بمركبتهما في أرجاء القمر على تقييمات تلفزيونية أفضل من أي بعثة منذ "أبولو 11"، وكان مشهد القمر مع الجبال الشاهقة كجبال "إيفرست" والأودية العميقة مثيراً للإعجاب. وبالطبع، كانت الاكتشافات العلمية مذهلة بالنسبة إلى المهتم تماماً بتاريخ النظام الشمسي. ولكن إذا كان تركيزك الوحيد ينصب في إعادة انتخابك، سيبقى الاقتصاد والمستشفيات والتعليم، وفي ذلك الوقت، فيتنام، على رأس جدول أعمالك دائماً".
من ثم، على المدى الطويل، تلاشت الإرادة السياسية لمواصلة برنامج "أبولو"، إذ تصارع "ناسا" من أجل استمرارية الهبوط على سطح القمر في مواجهة الرأي العام المتشكك والكونغرس. تباعد المعسكران بشكل أكبر، إذ أشارت الوكالة إلى نجاحات "أبولو 15" ومركبة " لونر روفر"، فيما تعالت أكثر صرخات منتقدي البرنامج، حتى أن البعض أشار إلى أن "ناسا" قد أخبرت سكوت أن يعلن أنه وزميله قد "وجدا ما جئنا من أجله" بغية تبرير الزوايا العلمية للبعثات اللاحقة والحفاظ على تدفق الأموال. في العادة، يجيب سكوت متهكماً، "بالتأكيد، لقد زارنا الفضائيون أثناء تواجدنا هناك أيضاً."
لطالما كان "أبولو" عملية موازنة بين سياسات الحرب الباردة والمال، فيما احتل العلم المركز الثالث. يقول لونيوس، "أولئك الذين ينتقدون الهبوط على سطح القمر من الانتماءين السياسيين اليسار واليمين يجيبون بالنفي عن سؤال ما إذا كان الكد والمشقة، والتكلفة خصوصاً، تستحق العناء". ومن الإنصاف القول إن الهبوط على القمر لم يكن مبنياً على العلم. لكن انظر إلى ما الذي كان سيفوتنا لو أننا لم نزره أبداً".
هكذا غيرت صخرة صغيرة على القمر معرفتنا عن جارنا الأقرب
كان لي (ليون) سيلفر متحمساً، مغموراً بالحماسة. فعلاً يتوق الرياضي الأولمبي إلى نيل ميدالية ذهبية، والممثل الهوليوودي إلى أوسكار، أما سيلفر فكان جيولوجياً، وبقدر ما كان مهتماً بهذا العلم، حصل على جائزة أرفع بكثير. لقد حظي بصخرة، صخرة ستغير إلى الأبد فهمنا لكوكبنا ونظامنا الشمسي. لطالما وضع علماء...
www.independentarabia.com