لا يعظم القرآن.. من لا يعظم السنة
لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي
زين العابدين الركابي
الارجاف حول السنة بمقولات: الاكتفاء بالقرآن، وان السنة ليست مصدرا للتشريع، ولا مبينة للقرآن، وان اللغة العربية هي الطريق الوحيد لفهم القرآن.. هذا الارجاف، من الايهام المضل: الادعاء بأنه (عملة عصرية) صكها فكر تقدمي من معطيات العصر الحديث او الحقبة المعاصرة. فالحقيقة انه ارجاف قديم، وهي حقيقة ترقى الى ان تكون (قاعدة) فكرية اجتماعية تاريخية مطردة، ونعني بها: انه ما من فرية تثار اليوم ويروج لها الا هي (احياء) لمفتريات غابرة، موغلة في القدم.
مثلا: هل الالحاد والكفر (موهبة حديثة) او (ابداع عصري) اقتضاه التقدم المتتابع المذهل في علم الفيزياء؟.. لا.. فما هما بموهبة حديثة، ولا ابداع عصري، ولا تجديد متألق منبثق من مخ عليم بـ(الانفجار العظيم) الذي كان بداية تكوّن الكون وتشكّله.. ثم انتظامه.. فاذا صعدنا بتاريخ الالحاد والكفر رأسيا وجدناهما ماثلين في ابليس: «فسجد الملائكة كلهم اجمعون. الا ابليس استكبر وكان من الكافرين».. ثم اذا استقرأنا تاريخ الكفر والالحاد في حقب ادنى نسبيا من حقبة ابليس، وجدناه موغلا في القدم كذلك. فبعد الطوفان: ابتعث نوح وهود وصالح بالتوحيد والحق والهدى، فأعلن اقوامهم كفرهم الصريح بما ارسل به هؤلاء المرسلون: «ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم الا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا ايديهم في افواههم وقالوا انا كفرنا بما ارسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا اليه مريب».. هكذا.. «إنا كفرنا بما أرسلتم به»، انما هي مقولة غابرة جد غابرة، ليست موهبة عصرية، ولا ابداعا جديدا. ولئن كرر اقوام معاصرون هذه المقولة ـ بهذه الصيغة او تلك ـ، فإنما هم مقلدون لاحقون لمن سبقهم بألوف السنين.
ومن المرجفين المعاصرين من يصف الوحي ـ كتابا وسنة ـ بأنه (اساطير)، فهل هذا (فكر جديد)، انبثق من عبقرية معاصرة؟ لا.. فالارجاف بحكاية الاساطير هذه: فكر غابر، وتعبير قديم: «وقالوا اساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا».
كذلك الارجاف حول السنة: ليس ابداعا عصريا، ولا اجتهادا تجديديا: عجز الغابرون عن الإتيان بمثله!.
تقسيم الغنائم من السنة.. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقسم الغنائم: مرجعه من هوازن، وبينما هو يفعل: انبعث شقي يقال له ذو الخويصرة فاعترض على سنة النبي وارجف بهذه المقولة: «اعدل فإنك لم تعدل»!!!! وعلى سبيل المثال: متى عاش الامام عبد الله بن مسلم بن قتيبة؟. عاش في القرن الثالث الهجري فهو قد توفي عام 276 هـ، أي قبل اكثر من الف عام.
ولقد سبق وعاصره اقوام احترفوا الشغب على السنة والطعن فيها. ولأجل إبطال مقولاتهم هذه الف ابن قتيبة كتابا بعنوان (تأويل مختلف الحديث).. وبمطالعة الكتاب: نرى كمّا من المفتريات التي افتراها المرجفون الغابرون حول السنة. نرى نقض ابن قتيبة لها.. لندعه يتحدث: 1 ـ «قالوا: رويتم حديثا يبطله القرآن فرويتم ان رجلا قال لنبيه: اذا أنا مت فأحرقوني ثم اذروني في اليم، لعلي أضل الله، ففعلوا ذلك، فجمعه الله ثم قال له: ما حملك على ما فعلت؟.
قال: مخافتك يا رب، فغفر الله له. قالوا: وهذا كافر، والله لا يغفر للكافر، وبذلك جاء القرآن.. ونحن نقول: في (اضل الله) انه بمعنى أفوت الله، تقول ضللت كذا وكذا وأضللته، ومنه قوله تعالى «في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى» أي لا يفوت ربي شيئا.. وهذا رجل مؤمن بالله، مقرّ به، خائف له، الا انه جهل صفة من صفاته فظن انه اذا احرق وذري في الريح انه يفوت الله تعالى، فغفر الله تعالى له بمعرفته تأنيبه، وبمخافته من عذابه: جهله بهذه الصفة من صفاته. وقد يغلط في صفات الله تعالى قوم من المسلمين ولا يحكم عليهم بالنار، بل تُرجأ امورهم الى من هو اعلم بهم وبنياتهم».
«قالوا: وهذا حديث يكذبه النظر. فقد رويتم ان رسول الله توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بأصواع من شعير. فيا سبحان الله اما كان من المسلمين: مواس ولا مؤثر ولا معترض؟ وقد اكثر الله الخير.. وكيف يجوع من يجهز الجيوش، ومن يسوق المئين من البدن؟.. ونحن نقول: انه ليس في هذا ما يستعظم، بل ما ينكر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤثر على نفسه بأمواله، ويفرقها على المستحقين من اصحابه، وعلى الفقراء والمساكين، وفي النوائب التي تنوب المسلمين، ولا يرد سائلا. وإنما رهن درعه عند يهودي لأن اليهود في عصره كانوا يبيعون الطعام، ولم يكن المسلمون يبيعونه لنهيه عن الاحتكار. فما الذي انكروه من هذا حتى اظهروا التعجب منه»؟
ونحن نضيف: ان رهن درع النبي عند يهودي: سلوك يتضمن من المفاهيم ما يكاد يبلغ مرتبة (الاعجاز الاجتماعي والسياسي) من حيث شيوع العدل والمساواة والأمن والطمأنينة. فهذا السلوك دليل على (مكانة المواطنة) في دولة النبي. فهذا اليهودي (مواطن) عامله النبي بهذا المعيار فلم يأخذ منه ما يريد غصبا.. ودليل على شعور اليهودي الغامر بالأمن والطمأنينة. فهو لم يقبل الرهان إلا وهو آمن مطمئن.. ودليل على العدالة والضمان في التعامل (شعير مقابل درع).. وتصوروا: كيف يكون حجم التدفق الاعلامي ـ المعلوماتي والدعائي ـ ، في عصرنا هذا: لو ان الرئيس الامريكي رهن سلاحه الشخصي لدى رجل يمني مسلم في ديترويت مقابل: اشياء يحتاجها الرئيس؟! 3 ـ «وقالوا: قد رويتم ان النبي قال: «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة». وهذا خلاف قول الله عز وجل: «وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا. يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيا لم نجعل له من قبل سميا».. وخلاف قول الله عز وجل «وورث سليمان داود».. ونحن نقول: ان قول النبي ليس مخالفا لهذه الآيات، لأن زكريا لم يرد (يرثني مالي) فيكون الأمر على ما ذهبوا اليه.. وأي مال كان لزكريا عليه السلام، وقد كان نجارا؟.. ومن الدليل ايضا: ان يحيى لم يرث مالا من ابيه زكريا، بل دخل يحيى عليه السلام بيت المقدس وهو غلام صغير، وكان يخدم فيه».
لقد تبين من النماذج الآنفة (عوج التفكير) في السنة عند الغابرين، فلننظر الآن في (عوج التفكير) عند مقلديهم المعاصرين.
ان من طبيعة العوج او الخطأ المنهجي في التفكير: تناسل الأخطاء، بمعنى: انه يقود الى سلسلة من الاخطاء لا نهاية لها.. برهان ذلك: ان منكري السنة (يجردون) النبي من خاصية بيان القرآن بسنته، ثم يزعمون ـ في الوقت نفسه ـ انهم اختصوا بمهمة هذا البيان دون الرسول صلى الله عليه وسلم. وهو زعم ينتحل صفة النبي وخاصية اصطفائه.. نعم. فالنبي كما اصطفاه الله لتلقي الرسالة: «وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم»: اصطفاه لتلقي (بيان القرآن منه جل ثناؤه: «ولا تحرف به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه».. ثم ان علينا بيانه: هذا برهان مبين لا ريب فيه على ان (بيان القرآن بالسنة): وحي من الله تعالى، ولذا حدث النبي فقال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» أي من البيان.
وعند التحقيق العقدي والعلمي يثبت ـ بلا شك ـ انه لا يعظم القرآن من لا يعظم السنة. أوليس القرآن هو الذي قال:
أ ـ «من يطع الرسول فقد أطاع الله».
ب ـ «وان تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين».
جـ ـ «وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون».
د ـ «يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط اعمالكم وانتم لا تشعرون».
* لزوم السنة في تلاوة القرآن والبراهين على اقتران السنة بالقرآن ـ تبيينا وتفصيلا وتطبيقا ـ يتعذر حصرها، فوقع الاضطرار ـ من ثم ـ الى ضرب الامثال:
أ ـ لزوم السنة في تلاوة القرآن حق تلاوته.
من وظائف النبي العظمى: تلاوة القرآن على الناس:
أ ـ «وأن أتلو القرآن».
ب ـ «هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته» وهذه التلاوة (علم) يتعلمه الناس من النبي: «ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم».. والنبي داخل ـ بالضرورة ـ في قوله هو نفسه عليه الصلاة والسلام ـ : «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». فهو قد تعلم القرآن من ربه، وعلمه الناس، فهو معلم المعلمين وخيرهم: فداه ابي وامي.
إن تلاوة القرآن لا تكون ولا تصح إلا وفق السنة. فكيف تلقى النبي القرآن من جبريل؟.. سؤال لا يمكن الجواب عنه إلا من سنة النبي او حديثه. ولقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم ان جبريل عليه السلام كان يتلقى القرآن من الله ثم يعلّمه النبي كما اراد الله، والى هذا تشير الآية: «فإذا قرأناه فاتبع قرآنه». واخبرنا ان جبريل كان يدارسه القرآن في كل رمضان حتى اذا كان الرمضان الاخير في حياة النبي: دارسه القرآن مرتين قال: «ان جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وانه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي».. وما يقرؤه المسلمون اليوم في كتاب الله، إنما هو وفق (الختمة الاخيرة) التي عرضها النبي على جبريل فكانت تماما على الذي احسن. وهذه القراءة هي المنقولة عن النبي بواسطة سنته في تلاوة القرآن.. روى البخاري عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمد مدا: إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم. يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم».. وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: «..لقد أخذت من في (فم) رسول الله بضعا وسبعين سورة.. واخذت بقية المصحف من اصحابه».. وهؤلاء الاصحاب انما تلقوا تلاوة القرآن من النبي الذي اجازهم بالتلاوة. قال عليه الصلاة والسلام: «خذوا القرآن من اربعة: عبد الله بن مسعود. وسالم. ومعاذ بن جبل. وأبي بن كعب».. فكيف يستطيع جاحد السنة: تلاوة القرآن المتلقاة من فم النبي؟.. كيف يستطيع ان يعطي كل حرف حقه من اشباع المد، وتحقيق الهمزة، واتمام الحركات، واعتماد الاظهار والتشديدات، وتوفية الغنّات، وتفكيك الحروف او اخراج بعضها عن بعض بالسكت والترسل واليسر والتؤدة.. كيف يستطيع جاحد السنة ان يتلو هذه التلاوة الشرعية وليس لها إلا مصدر واحد توقيفي وهو سنة النبي في التلاوة؟
2 ـ وجاحد السنة ومنكرها من اين يعلم: القرآن المفروض في كل ركعة من الصلاة؟.. من اين يعلم ان لا «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب»؟.. ليس في القرآن (تخصيص) بقراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة. وانما السنة هي التي جاءت بالتخصيص والتعيين بموجب نص الحديث النبوي الانف.
ثم ننزع بالسياق الى مزيد من تجديد الحديث في قضايا: لم تسلم من الشبهات والاراجيف.. ومن ذلك:
1 ـ الاستخفاف بـ (الاجماع) بل انكاره.. وهذا الاطلاق بهتان. فللإجماع سند من الكتاب: «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا».
وللإجماع صور عملية لا مرية فيها: أبرزها واعظمها اجماع الصحابة على جمع القرآن في عهد الصديق ابي بكر رضي الله عنهم اجمعين.. ولقد اجمع المسلمون ـ في العصور كافة على وجوب طاعة الرسول.. وعلى ان النبوات ختمت به عليه الصلاة والسلام.. وعلى ان استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة.. وعلى ان القرآن محفوظ من التحريف والتبديل.. وعلى عالمية رسالة الاسلام.. وعلى ان القرآن نزل بلسان عربي مبين.. وقد يعجل عجل فيقول: هذا كله منصوص عليه في القرآن، فأين الاجماع ها هنا؟.. وما قيمته وما مقتضاه؟..
والجواب هو: أن: الاجماع ـ هنا: على (دلالات) الآيات التي نصت على ذلك كله، فليس هناك مسلم صحيح الاسلام يشذ عن هذا الاجماع فينكر او يجادل في طاعة النبي، وختم النبوات بمحمد، واستقبال القبلة في الصلاة، وحفظ القرآن من التبديل، وعالمية الاسلام، وان القرآن نزل بلسان العرب.
2 ـ الحط من قيمة القياس وجدواه.. وهذا اتجاه غريب ممن يقولون انهم (عقلانيون). فالقياس عمل عقلي حر مستبصر يحفز صاحبه على الاجتهاد والتجديد.. وهو اتجاه غريب ـ من جهة اخرى ـ لأن المنادي به كأنه لم يلحظ ان الامة مصفدة بأغلال التخلف الفكري والفقهي، وانه لا سبيل الى التحرر من هذه الاغلال الا باجتهاد علمي عميق المضامين، واسع المجالات، وانه لا سبيل الى هذا الاجتهاد الواجب الا بالقياس سواء عرّف بأنه (التقدير، اي تقدير احد الامرين بالآخر)، او عرف بأنه (المساواة او المماثلة: الحسية او المعنوية).. والحجة البالغة في القياس ان النبي استعمله. فقد سألت المرأة الخثعمية فقالت: يا رسول الله: ان ابي ادركته فريضة الحج شيخا زمناً لا يستطيع ان يحج، ان حججت أينفعه ذلك؟ قال النبي: «أرأيت لو كان على ابيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك»؟.. قالت: نعم. قال: «فدين الله أحق أن يقضى».
3 ـ الادعاء المريض بأن قول عمر وفعله ليس حجة.. وهذا ادعاء منقوض بقول النبي: «لقد كان فيمن كان قبلكم مُحدّثُون من غير ان يكونوا أنبياء، فان يكن في امتي أحد، فإنه عمر».. ومن معاني محدثون: ملهمون، والملهم هو من يقول الرأي او يخبر الخبر فيصيب الحقيقة والصواب على بديهته، ووفق ملكة مستمرة:
لا مجرد فلتة لا ثاني لها.. ولقد وافق القرآن فراسة عمر في أكثر من قضية. وكانت له مواقف عجب في السياسة الشرعية. ففي تقسيم الفيء شاور عمر الناس، فرأى عامتهم ان يقسمه، وكان بلال بن رباح من أشدهم في ذلك. وهكذا كان رأي عبد الرحمن بن عوف. وقد مال عثمان وطلحة الى رأي عمر الذي رأى ان يترك الفيء ولا يقسمه. فلما ألح عليه المختلفون معه قال (اللهم أكفني بلالاً وأصحابه).. ثم بعد أيام جاء عمر فقال: قد وجدت حجة في تركه، وألا أقسمه، قول الله تعالى: «للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا». فتلا عليهم حتى بلغ إلى قوله تعالى: «والذين جاؤوا من بعدهم». قال: فكيف أقسمه لكم، وأدع من يأتي بغير قسم؟ فأجمع على تركه، وجمع خراجه، وإقراره في أيدي أهله. فصار هذا تشريعا على مستوى الدولة.. ومن الأدلة على اعتبار قول عمر واجتهاده في التشريع الاسلامي قول النبي: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ».
ـ الزعم بأن اللغة العربية هي المصدر الوحيد لفهم القرآن.. والخطأ المنهجي والفكري هنا هو: العمّ والاطلاق ونفي المصادر الأخرى، وإلا فليس يماري امرؤ عليم بالقرآن وبيانه المعجز في ان اللغة العربية أصل من أصول تفسير القرآن وفهمه.. أ ـ لأن القرآن نزل بلسان العرب: «نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين».. ب ـ لأن كثيرا من القرآن يفهم باللغة العربية فهو ميسر للفهم بها: «فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون». وحتى نوضح أن القرآن يفهم باللغة العربية وحدها، فإنه يجب ان يؤخذ التفسير من النبي لأنه أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء وقد أوتي جوامع الكلم.. بيد ان من القرآن ما لا يفهم بمجرد اللفظ اللغوي، بل لا بد من السنة في بيانه وفهمه.. مثال ذلك: العبادة الأولى الأعظم في الاسلام وهي (الصلاة). فأصل هذه المفردة العربية (الصلاة) هو (الدعاء) قال الراعي:
صلى على عزة الرحمن وابنتها ليلى وصلى على جاراتها الأُخرا وتقول العرب: كل داع فهو مصل. وقد جاء في حديث النبي: «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطراً فليطعم، وإن كان صائما فليصل»، أي فليدع لأصحاب الطعام بالبركة.. وبهذا المعنى تنزل قرآن: «ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول»، أي دعوات الرسول.. «وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم».. والمعنى: ادع لهم فإن دعاءك سكن لهم.
فجاء القرآن فاستعمل المفردة العربية استعمالا واسعا، وتسامى بوظيفتها تساميا عظيما، إذ منحها (مفهوما جديدا) تمثل في الصلاة التي فرضت ـ في رحلة الإسراء والمعراج ـ: خمس مرات في اليوم، وهي الصلاة المخصوصة ذات الأركان والهيئات المعلومة من الدين بالضرورة.. وبهذا المفهوم الجديد للصلاة تنزل قرآن:
أ ـ : «.. فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً».
ب ـ : «.. حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين».
ج ـ : «الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور».. فهذه الآيات تعني الصلاة المخصوصة المفروضة ذات الهيئات والحركات المعروفة في دين الاسلام وعند المسلمين. ومن هنا، فإن الصلاة في هذه الآيات ليست هي مجرد (الدعاء) كما في أصل اللغة.. ومن المقطوع به: أن السنة هي التي بينت وفصلت ـ بالقول والفعل ـ هذه الصلاة المخصوصة المفروضة. وليس ذلك للغة العربية وحدها، لأن أصل الكلمة وهو (الدعاء) لا يحمل المفاهيم التفصيلية التوقيفية التطبيقية للصلاة التي صلاها الرسول ويصليها المسلمون.
وبذا يتضح: ان مقولة الاكتفاء بالقرآن غير منهجية، وغير عليمة، وغير معتبرة: عقلا وشرعا وحالا.
http://www.aawsat.com/details.asp?section=17&issueno=10026&article=362547&feature=1
لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي
زين العابدين الركابي
الارجاف حول السنة بمقولات: الاكتفاء بالقرآن، وان السنة ليست مصدرا للتشريع، ولا مبينة للقرآن، وان اللغة العربية هي الطريق الوحيد لفهم القرآن.. هذا الارجاف، من الايهام المضل: الادعاء بأنه (عملة عصرية) صكها فكر تقدمي من معطيات العصر الحديث او الحقبة المعاصرة. فالحقيقة انه ارجاف قديم، وهي حقيقة ترقى الى ان تكون (قاعدة) فكرية اجتماعية تاريخية مطردة، ونعني بها: انه ما من فرية تثار اليوم ويروج لها الا هي (احياء) لمفتريات غابرة، موغلة في القدم.
مثلا: هل الالحاد والكفر (موهبة حديثة) او (ابداع عصري) اقتضاه التقدم المتتابع المذهل في علم الفيزياء؟.. لا.. فما هما بموهبة حديثة، ولا ابداع عصري، ولا تجديد متألق منبثق من مخ عليم بـ(الانفجار العظيم) الذي كان بداية تكوّن الكون وتشكّله.. ثم انتظامه.. فاذا صعدنا بتاريخ الالحاد والكفر رأسيا وجدناهما ماثلين في ابليس: «فسجد الملائكة كلهم اجمعون. الا ابليس استكبر وكان من الكافرين».. ثم اذا استقرأنا تاريخ الكفر والالحاد في حقب ادنى نسبيا من حقبة ابليس، وجدناه موغلا في القدم كذلك. فبعد الطوفان: ابتعث نوح وهود وصالح بالتوحيد والحق والهدى، فأعلن اقوامهم كفرهم الصريح بما ارسل به هؤلاء المرسلون: «ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم الا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا ايديهم في افواههم وقالوا انا كفرنا بما ارسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا اليه مريب».. هكذا.. «إنا كفرنا بما أرسلتم به»، انما هي مقولة غابرة جد غابرة، ليست موهبة عصرية، ولا ابداعا جديدا. ولئن كرر اقوام معاصرون هذه المقولة ـ بهذه الصيغة او تلك ـ، فإنما هم مقلدون لاحقون لمن سبقهم بألوف السنين.
ومن المرجفين المعاصرين من يصف الوحي ـ كتابا وسنة ـ بأنه (اساطير)، فهل هذا (فكر جديد)، انبثق من عبقرية معاصرة؟ لا.. فالارجاف بحكاية الاساطير هذه: فكر غابر، وتعبير قديم: «وقالوا اساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا».
كذلك الارجاف حول السنة: ليس ابداعا عصريا، ولا اجتهادا تجديديا: عجز الغابرون عن الإتيان بمثله!.
تقسيم الغنائم من السنة.. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقسم الغنائم: مرجعه من هوازن، وبينما هو يفعل: انبعث شقي يقال له ذو الخويصرة فاعترض على سنة النبي وارجف بهذه المقولة: «اعدل فإنك لم تعدل»!!!! وعلى سبيل المثال: متى عاش الامام عبد الله بن مسلم بن قتيبة؟. عاش في القرن الثالث الهجري فهو قد توفي عام 276 هـ، أي قبل اكثر من الف عام.
ولقد سبق وعاصره اقوام احترفوا الشغب على السنة والطعن فيها. ولأجل إبطال مقولاتهم هذه الف ابن قتيبة كتابا بعنوان (تأويل مختلف الحديث).. وبمطالعة الكتاب: نرى كمّا من المفتريات التي افتراها المرجفون الغابرون حول السنة. نرى نقض ابن قتيبة لها.. لندعه يتحدث: 1 ـ «قالوا: رويتم حديثا يبطله القرآن فرويتم ان رجلا قال لنبيه: اذا أنا مت فأحرقوني ثم اذروني في اليم، لعلي أضل الله، ففعلوا ذلك، فجمعه الله ثم قال له: ما حملك على ما فعلت؟.
قال: مخافتك يا رب، فغفر الله له. قالوا: وهذا كافر، والله لا يغفر للكافر، وبذلك جاء القرآن.. ونحن نقول: في (اضل الله) انه بمعنى أفوت الله، تقول ضللت كذا وكذا وأضللته، ومنه قوله تعالى «في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى» أي لا يفوت ربي شيئا.. وهذا رجل مؤمن بالله، مقرّ به، خائف له، الا انه جهل صفة من صفاته فظن انه اذا احرق وذري في الريح انه يفوت الله تعالى، فغفر الله تعالى له بمعرفته تأنيبه، وبمخافته من عذابه: جهله بهذه الصفة من صفاته. وقد يغلط في صفات الله تعالى قوم من المسلمين ولا يحكم عليهم بالنار، بل تُرجأ امورهم الى من هو اعلم بهم وبنياتهم».
«قالوا: وهذا حديث يكذبه النظر. فقد رويتم ان رسول الله توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بأصواع من شعير. فيا سبحان الله اما كان من المسلمين: مواس ولا مؤثر ولا معترض؟ وقد اكثر الله الخير.. وكيف يجوع من يجهز الجيوش، ومن يسوق المئين من البدن؟.. ونحن نقول: انه ليس في هذا ما يستعظم، بل ما ينكر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤثر على نفسه بأمواله، ويفرقها على المستحقين من اصحابه، وعلى الفقراء والمساكين، وفي النوائب التي تنوب المسلمين، ولا يرد سائلا. وإنما رهن درعه عند يهودي لأن اليهود في عصره كانوا يبيعون الطعام، ولم يكن المسلمون يبيعونه لنهيه عن الاحتكار. فما الذي انكروه من هذا حتى اظهروا التعجب منه»؟
ونحن نضيف: ان رهن درع النبي عند يهودي: سلوك يتضمن من المفاهيم ما يكاد يبلغ مرتبة (الاعجاز الاجتماعي والسياسي) من حيث شيوع العدل والمساواة والأمن والطمأنينة. فهذا السلوك دليل على (مكانة المواطنة) في دولة النبي. فهذا اليهودي (مواطن) عامله النبي بهذا المعيار فلم يأخذ منه ما يريد غصبا.. ودليل على شعور اليهودي الغامر بالأمن والطمأنينة. فهو لم يقبل الرهان إلا وهو آمن مطمئن.. ودليل على العدالة والضمان في التعامل (شعير مقابل درع).. وتصوروا: كيف يكون حجم التدفق الاعلامي ـ المعلوماتي والدعائي ـ ، في عصرنا هذا: لو ان الرئيس الامريكي رهن سلاحه الشخصي لدى رجل يمني مسلم في ديترويت مقابل: اشياء يحتاجها الرئيس؟! 3 ـ «وقالوا: قد رويتم ان النبي قال: «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة». وهذا خلاف قول الله عز وجل: «وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا. يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيا لم نجعل له من قبل سميا».. وخلاف قول الله عز وجل «وورث سليمان داود».. ونحن نقول: ان قول النبي ليس مخالفا لهذه الآيات، لأن زكريا لم يرد (يرثني مالي) فيكون الأمر على ما ذهبوا اليه.. وأي مال كان لزكريا عليه السلام، وقد كان نجارا؟.. ومن الدليل ايضا: ان يحيى لم يرث مالا من ابيه زكريا، بل دخل يحيى عليه السلام بيت المقدس وهو غلام صغير، وكان يخدم فيه».
لقد تبين من النماذج الآنفة (عوج التفكير) في السنة عند الغابرين، فلننظر الآن في (عوج التفكير) عند مقلديهم المعاصرين.
ان من طبيعة العوج او الخطأ المنهجي في التفكير: تناسل الأخطاء، بمعنى: انه يقود الى سلسلة من الاخطاء لا نهاية لها.. برهان ذلك: ان منكري السنة (يجردون) النبي من خاصية بيان القرآن بسنته، ثم يزعمون ـ في الوقت نفسه ـ انهم اختصوا بمهمة هذا البيان دون الرسول صلى الله عليه وسلم. وهو زعم ينتحل صفة النبي وخاصية اصطفائه.. نعم. فالنبي كما اصطفاه الله لتلقي الرسالة: «وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم»: اصطفاه لتلقي (بيان القرآن منه جل ثناؤه: «ولا تحرف به لسانك لتعجل به. إن علينا جمعه وقرآنه. فإذا قرأناه فاتبع قرآنه. ثم إن علينا بيانه».. ثم ان علينا بيانه: هذا برهان مبين لا ريب فيه على ان (بيان القرآن بالسنة): وحي من الله تعالى، ولذا حدث النبي فقال: «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه» أي من البيان.
وعند التحقيق العقدي والعلمي يثبت ـ بلا شك ـ انه لا يعظم القرآن من لا يعظم السنة. أوليس القرآن هو الذي قال:
أ ـ «من يطع الرسول فقد أطاع الله».
ب ـ «وان تطيعوه تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ المبين».
جـ ـ «وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم ولعلهم يتفكرون».
د ـ «يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا اصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط اعمالكم وانتم لا تشعرون».
* لزوم السنة في تلاوة القرآن والبراهين على اقتران السنة بالقرآن ـ تبيينا وتفصيلا وتطبيقا ـ يتعذر حصرها، فوقع الاضطرار ـ من ثم ـ الى ضرب الامثال:
أ ـ لزوم السنة في تلاوة القرآن حق تلاوته.
من وظائف النبي العظمى: تلاوة القرآن على الناس:
أ ـ «وأن أتلو القرآن».
ب ـ «هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته» وهذه التلاوة (علم) يتعلمه الناس من النبي: «ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم».. والنبي داخل ـ بالضرورة ـ في قوله هو نفسه عليه الصلاة والسلام ـ : «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». فهو قد تعلم القرآن من ربه، وعلمه الناس، فهو معلم المعلمين وخيرهم: فداه ابي وامي.
إن تلاوة القرآن لا تكون ولا تصح إلا وفق السنة. فكيف تلقى النبي القرآن من جبريل؟.. سؤال لا يمكن الجواب عنه إلا من سنة النبي او حديثه. ولقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم ان جبريل عليه السلام كان يتلقى القرآن من الله ثم يعلّمه النبي كما اراد الله، والى هذا تشير الآية: «فإذا قرأناه فاتبع قرآنه». واخبرنا ان جبريل كان يدارسه القرآن في كل رمضان حتى اذا كان الرمضان الاخير في حياة النبي: دارسه القرآن مرتين قال: «ان جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وانه عارضني العام مرتين، ولا أراه إلا حضر أجلي».. وما يقرؤه المسلمون اليوم في كتاب الله، إنما هو وفق (الختمة الاخيرة) التي عرضها النبي على جبريل فكانت تماما على الذي احسن. وهذه القراءة هي المنقولة عن النبي بواسطة سنته في تلاوة القرآن.. روى البخاري عن أنس قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمد مدا: إذا قرأ بسم الله الرحمن الرحيم. يمد بسم الله، ويمد بالرحمن، ويمد بالرحيم».. وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال: «..لقد أخذت من في (فم) رسول الله بضعا وسبعين سورة.. واخذت بقية المصحف من اصحابه».. وهؤلاء الاصحاب انما تلقوا تلاوة القرآن من النبي الذي اجازهم بالتلاوة. قال عليه الصلاة والسلام: «خذوا القرآن من اربعة: عبد الله بن مسعود. وسالم. ومعاذ بن جبل. وأبي بن كعب».. فكيف يستطيع جاحد السنة: تلاوة القرآن المتلقاة من فم النبي؟.. كيف يستطيع ان يعطي كل حرف حقه من اشباع المد، وتحقيق الهمزة، واتمام الحركات، واعتماد الاظهار والتشديدات، وتوفية الغنّات، وتفكيك الحروف او اخراج بعضها عن بعض بالسكت والترسل واليسر والتؤدة.. كيف يستطيع جاحد السنة ان يتلو هذه التلاوة الشرعية وليس لها إلا مصدر واحد توقيفي وهو سنة النبي في التلاوة؟
2 ـ وجاحد السنة ومنكرها من اين يعلم: القرآن المفروض في كل ركعة من الصلاة؟.. من اين يعلم ان لا «لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب»؟.. ليس في القرآن (تخصيص) بقراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة. وانما السنة هي التي جاءت بالتخصيص والتعيين بموجب نص الحديث النبوي الانف.
ثم ننزع بالسياق الى مزيد من تجديد الحديث في قضايا: لم تسلم من الشبهات والاراجيف.. ومن ذلك:
1 ـ الاستخفاف بـ (الاجماع) بل انكاره.. وهذا الاطلاق بهتان. فللإجماع سند من الكتاب: «ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا».
وللإجماع صور عملية لا مرية فيها: أبرزها واعظمها اجماع الصحابة على جمع القرآن في عهد الصديق ابي بكر رضي الله عنهم اجمعين.. ولقد اجمع المسلمون ـ في العصور كافة على وجوب طاعة الرسول.. وعلى ان النبوات ختمت به عليه الصلاة والسلام.. وعلى ان استقبال القبلة شرط في صحة الصلاة.. وعلى ان القرآن محفوظ من التحريف والتبديل.. وعلى عالمية رسالة الاسلام.. وعلى ان القرآن نزل بلسان عربي مبين.. وقد يعجل عجل فيقول: هذا كله منصوص عليه في القرآن، فأين الاجماع ها هنا؟.. وما قيمته وما مقتضاه؟..
والجواب هو: أن: الاجماع ـ هنا: على (دلالات) الآيات التي نصت على ذلك كله، فليس هناك مسلم صحيح الاسلام يشذ عن هذا الاجماع فينكر او يجادل في طاعة النبي، وختم النبوات بمحمد، واستقبال القبلة في الصلاة، وحفظ القرآن من التبديل، وعالمية الاسلام، وان القرآن نزل بلسان العرب.
2 ـ الحط من قيمة القياس وجدواه.. وهذا اتجاه غريب ممن يقولون انهم (عقلانيون). فالقياس عمل عقلي حر مستبصر يحفز صاحبه على الاجتهاد والتجديد.. وهو اتجاه غريب ـ من جهة اخرى ـ لأن المنادي به كأنه لم يلحظ ان الامة مصفدة بأغلال التخلف الفكري والفقهي، وانه لا سبيل الى التحرر من هذه الاغلال الا باجتهاد علمي عميق المضامين، واسع المجالات، وانه لا سبيل الى هذا الاجتهاد الواجب الا بالقياس سواء عرّف بأنه (التقدير، اي تقدير احد الامرين بالآخر)، او عرف بأنه (المساواة او المماثلة: الحسية او المعنوية).. والحجة البالغة في القياس ان النبي استعمله. فقد سألت المرأة الخثعمية فقالت: يا رسول الله: ان ابي ادركته فريضة الحج شيخا زمناً لا يستطيع ان يحج، ان حججت أينفعه ذلك؟ قال النبي: «أرأيت لو كان على ابيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك»؟.. قالت: نعم. قال: «فدين الله أحق أن يقضى».
3 ـ الادعاء المريض بأن قول عمر وفعله ليس حجة.. وهذا ادعاء منقوض بقول النبي: «لقد كان فيمن كان قبلكم مُحدّثُون من غير ان يكونوا أنبياء، فان يكن في امتي أحد، فإنه عمر».. ومن معاني محدثون: ملهمون، والملهم هو من يقول الرأي او يخبر الخبر فيصيب الحقيقة والصواب على بديهته، ووفق ملكة مستمرة:
لا مجرد فلتة لا ثاني لها.. ولقد وافق القرآن فراسة عمر في أكثر من قضية. وكانت له مواقف عجب في السياسة الشرعية. ففي تقسيم الفيء شاور عمر الناس، فرأى عامتهم ان يقسمه، وكان بلال بن رباح من أشدهم في ذلك. وهكذا كان رأي عبد الرحمن بن عوف. وقد مال عثمان وطلحة الى رأي عمر الذي رأى ان يترك الفيء ولا يقسمه. فلما ألح عليه المختلفون معه قال (اللهم أكفني بلالاً وأصحابه).. ثم بعد أيام جاء عمر فقال: قد وجدت حجة في تركه، وألا أقسمه، قول الله تعالى: «للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا». فتلا عليهم حتى بلغ إلى قوله تعالى: «والذين جاؤوا من بعدهم». قال: فكيف أقسمه لكم، وأدع من يأتي بغير قسم؟ فأجمع على تركه، وجمع خراجه، وإقراره في أيدي أهله. فصار هذا تشريعا على مستوى الدولة.. ومن الأدلة على اعتبار قول عمر واجتهاده في التشريع الاسلامي قول النبي: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ».
ـ الزعم بأن اللغة العربية هي المصدر الوحيد لفهم القرآن.. والخطأ المنهجي والفكري هنا هو: العمّ والاطلاق ونفي المصادر الأخرى، وإلا فليس يماري امرؤ عليم بالقرآن وبيانه المعجز في ان اللغة العربية أصل من أصول تفسير القرآن وفهمه.. أ ـ لأن القرآن نزل بلسان العرب: «نزل به الروح الأمين. على قلبك لتكون من المنذرين. بلسان عربي مبين».. ب ـ لأن كثيرا من القرآن يفهم باللغة العربية فهو ميسر للفهم بها: «فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون». وحتى نوضح أن القرآن يفهم باللغة العربية وحدها، فإنه يجب ان يؤخذ التفسير من النبي لأنه أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء وقد أوتي جوامع الكلم.. بيد ان من القرآن ما لا يفهم بمجرد اللفظ اللغوي، بل لا بد من السنة في بيانه وفهمه.. مثال ذلك: العبادة الأولى الأعظم في الاسلام وهي (الصلاة). فأصل هذه المفردة العربية (الصلاة) هو (الدعاء) قال الراعي:
صلى على عزة الرحمن وابنتها ليلى وصلى على جاراتها الأُخرا وتقول العرب: كل داع فهو مصل. وقد جاء في حديث النبي: «إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطراً فليطعم، وإن كان صائما فليصل»، أي فليدع لأصحاب الطعام بالبركة.. وبهذا المعنى تنزل قرآن: «ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول»، أي دعوات الرسول.. «وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم».. والمعنى: ادع لهم فإن دعاءك سكن لهم.
فجاء القرآن فاستعمل المفردة العربية استعمالا واسعا، وتسامى بوظيفتها تساميا عظيما، إذ منحها (مفهوما جديدا) تمثل في الصلاة التي فرضت ـ في رحلة الإسراء والمعراج ـ: خمس مرات في اليوم، وهي الصلاة المخصوصة ذات الأركان والهيئات المعلومة من الدين بالضرورة.. وبهذا المفهوم الجديد للصلاة تنزل قرآن:
أ ـ : «.. فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً».
ب ـ : «.. حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين».
ج ـ : «الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور».. فهذه الآيات تعني الصلاة المخصوصة المفروضة ذات الهيئات والحركات المعروفة في دين الاسلام وعند المسلمين. ومن هنا، فإن الصلاة في هذه الآيات ليست هي مجرد (الدعاء) كما في أصل اللغة.. ومن المقطوع به: أن السنة هي التي بينت وفصلت ـ بالقول والفعل ـ هذه الصلاة المخصوصة المفروضة. وليس ذلك للغة العربية وحدها، لأن أصل الكلمة وهو (الدعاء) لا يحمل المفاهيم التفصيلية التوقيفية التطبيقية للصلاة التي صلاها الرسول ويصليها المسلمون.
وبذا يتضح: ان مقولة الاكتفاء بالقرآن غير منهجية، وغير عليمة، وغير معتبرة: عقلا وشرعا وحالا.
http://www.aawsat.com/details.asp?section=17&issueno=10026&article=362547&feature=1