أسد الاردن / قصة ملك

معمر القذافى

عضو مميز
إنضم
8 أكتوبر 2008
المشاركات
2,471
التفاعل
81 0 0
أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة الأولى) ـ الملك حسين والفخ الإسرائيلي

الطريق إلى حرب 1967 بدأت بالنسبة للأردن من هجوم إسرائيل على قرية فلسطينية في الضفة الغربية وإحساس عمان بأن تل أبيب غيرت سياساتها





لندن: «الشرق الأوسط»
لا يختلف اثنان على أن العاهل الأردني الراحل الملك حسين قاد الأردن في مراحل هي الأدق في تاريخه، واستطاع الإبحار في بحر المنطقة الهائج بالأزمات والحروب والتي كان الأردن في وسطها محاطا بالعديد من الأعداء والخصوم والقليل من الأصدقاء في فترات كثيرة. ورغم أن الكثير كتب عن كثير من الأحداث التي عاشتها المنطقة خصوصاً منذ نكبة 1948 ثم حرب 1967 وما تلاهما من أحداث وحروب وخطوب، إلا أن الكثير من الأمور بقيت أسراراً لم يكشف النقاب عنها، وحتى القليل الذي كشف عنه حول ما كان يدور في دهاليز السياسة، لم يكن كافيا لإلقاء الضوء على الكثير من الأحداث والمراحل.
اعتباراً من اليوم تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات من كتاب جديد مثير سينزل إلى الأسواق قريباً باللغة الإنجليزية من دار «بنجوين» بعنوان «أسد الأردن» يحكي عن قصة الملك حسين ومراحل مهمة في حياته وفي تاريخ المنطقة. ويكشف الكتاب الذي أعده بعد سنوات من البحث والتدقيق في أوراق بعضها يعود إلى العاهل الأردني الراحل وعشرات المقابلات ومئات الوثائق السرية في إسرائيل وخارجها، المؤرخ البارز البروفسور آفي شليم الأستاذ في جامعة أوكسفورد البريطانية العريقة، أسرارا من تلك المرحلة. ويروي قصة الطريق إلى حرب 1967 ويكشف المفاوضات السرية بين الملك حسين والإسرائيليين من غولدا مئير إلى إسحق رابين، وهي المفاوضات التي بدأت لأول مرة في لندن عام 1963، واستغرقت أكثر من ألف ساعة من المحادثات مع عدد من الزعماء الإسرائيليين على مدى السنوات التالية. كذلك تتناول الحلقات قصة أحداث أيلول الأسود ومفاوضات السلام والصلح مع إسرائيل، والعلاقة بين الملك حسين والرئيس العراقي الراحل صدام حسين مرورا بغزو الكويت وحرب الخليج، وكذلك قصة الرحلة الأخيرة للعاهل الاردني الراحل مع الامراض وتفاصيل ترتيبات انتقال الحكم وما صاحبها من تطورات. وتبدأ الحلقة الأولى من قصة الهجوم الإسرائيلي على قرية في الضفة الغربية والأحداث التي تسارعت بعد ذلك وقادت إلى حرب عام 1967.

شنت قوات الدفاع الإسرائيلية في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 1966 هجوما مدمرا على قرية السموع، جنوب الخليل في الضفة الغربية، على بعد حوالي أربعة أميال من الحدود مع اسرائيل. شنت إسرائيل الهجوم نهارا بقوة هائلة من المشاة ولواء مدرعا ومدفعية ثقيلة وقذائف هاون ووحدات تابعة لسلاح المهندسين بالإضافة إلى سربين من طائرات الميج. نقلت على وجه السرعة وحدة تابعة للجيش الأردني إلى منطقة الهجوم، لكنها وقعت في كمين وتكبدت خسائر كبيرة. فقد قتل 15 جنديا أردنيا و5 مدنيين وجرح 36 جنديا و4 مدنيين، ودمر 93 منزلا ومخفرا للشرطة ومدرسة القرية وعيادة ومسجدا. اسقطت أيضا طائرة أردنية حربية من طراز «هانتر» في معركة جوية وقتل قائدها.

جاء الهجوم الإسرائيلي ردا على انفجار لغم ارضي في اليوم السابق على الجانب الإسرائيلي من الحدود أسفر عن مقتل ثلاثة جنود إسرائيليين. وشنت اسرائيل، كعادتها، هجوما انتقاميا قويا، إلا ان ردها هذه المرة أخطأ الهدف. فالقادة الإسرائيليون كانوا يدركون جيدا ان العاهل الأردني، الملك حسين، كان يفعل ما بوسعه لمنع «فتح» من شن عمليات من داخل حدود الأردن، لأنهم سمعوا ذلك مباشرة منه ومن ممثليه في «لجنة الهدنة المشتركة». وكان الجانب الإسرائيلي يدرك جيدا ان النظام السوري الذي وصل إلى السلطة في فبراير (شباط) من ذلك العام كان يدرب عناصر العمليات في حركة «فتح» ويدعم عملياتها ضد اسرائيل انطلاقا من الأردن. وظل القادة الإسرائيليون لفترة يشيرون بأصابع الاتهام إلى سورية ويهددون بعواقب وخيمة في حال عدم وقف تلك الهجمات. لذا، فقد جاء الهجوم الإسرائيلي على المدنيين الأردنيين مفاجأة تامة داخل اسرائيل وخارجها. السبب الذي ساقه الناطق باسم قوات الدفاع الإسرائيلية تلخص في ان الذين زرعوا الألغام على الجانب الإسرائيلي من الحدود جاءوا من منطقة الخليل، إلا انه لم يكن هناك توضيح مقنع بشأن مستوى أو كثافة الهجوم. لم يكن ذلك الهجوم غارة روتينية للرد وإنما أكبر عملية لقوات الدفاع الإسرائيلية لأول منذ حرب السويس. على الصعيد الداخلي في الأردن، كانت آثار الهجوم الإسرائيلي بمثابة زعزعة بالغة للاستقرار، وفتح جروحا قديمة وكشف بصورة دراماتيكية ضعف الجيش الأردني وهشاشته، فضلا عن إثارته تململا واسع النطاق واحتجاجات عنيفة ضد النظام.

على الجانب الشخصي، شعر العاهل الأردني بالخيانة من الطرف الإسرائيلي، ذلك ان الهجوم الذي حدث كان يناقض الالتزام الذي عبّر عنه الطرفان الإسرائيلي والأردني مسبقا تجاه سلامة واستقرار الأردن. علاوة على ذلك، وقع الهجوم في يوم عيد الميلاد الـ31 للعاهل الأردني، فضلا عن ان الطيار الذي اسقطت طائرته وقتل كان واحدا من أصدقائه. وآثر الملك حسين، بعد مرور 30 عاما على ذلك الهجوم، الحديث حول الطبيعة التي تنم عن افتقار ذلك الهجوم إلى التوازن والمعقولية، إذ قال: «ترك الهجوم أثرا مدمرا داخل الأردن، ذلك ان العملية، إذا انطلقت بالفعل من الأردن، فإن الأردن لم يسمح بها أو يرعاها أو يؤيدها بأي صورة. كما ان ما لم استطع فهمه هو السبب وراء أن يكون رد الفعل بتلك الصورة إذا جرى تفجير بركة أو أنبوب (على افتراض ان ذلك حدث بالفعل، وهو ما لم أعرفه على نحو مؤكد)؟ هل هناك أي توازن بين الهجوم والرد عليه؟ ولماذا شن الجانب الإسرائيلي هجوما بدلا عن محاولة التوصل إلى وسيلة للتعامل مع المهددات بصورة مختلفة وعلى نحو مشترك؟ ما حدث كان صدمة، ولم يكن هدية عيد ميلاد لطيفة»(1).

نظر الملك حسين وقتها إلى الهجوم الإسرائيلي على السموع بصورة أكثر خطورة واعتبره مؤشرا على تغير في الموقف الإسرائيلي تجاه نظامه، بل وكجزء من مخطط أكبر حجما لإثارة حرب تتمكن قوات الدفاع الإسرائيلية من خلالها من الاستيلاء على الضفة الغربية، إلا انه لم يظهر دليل يعزز شكوكه في هذا الشأن، على الأقل من جانب الحكومة الإسرائيلية بقيادة حزب العمل. ومن الجانب الإسرائيلي زعم اسحق رابين، الذي كان في ذلك الوقت رئيسا لأركان قوات الدفاع الإسرائيلية، ان بعضا من العواقب الخطيرة لم يكن متعمدا، وأكد مرارا على ان المشكلة من الجانب السوري تتمثل في النظام، فيما المشكلة من جانب الأردن لم تكن النظام وإنما المدنيين الذين كانوا يدعمون الفلسطينيين. كما ان خطة العمل التي اقترحها على الحكومة الإسرائيلية لم تكن قائمة على أساس إلحاق خسائر في صفوف الجيش الأردني، بل تحذير السكان المدنيين كي لا يتعاونوا مع العناصر الفلسطينية. الأضرار التي تسبب فيها الهجوم الإسرائيلي تجاوزت كثيرا التقديرات التي اقترحها رابين على الحكومة، بل انه أقر في وقت لاحق بأن لدى ليفي اشكول سببا وجيها للشعور بالغضب تجاهه، إذ قال رابين في هذا السياق: «لم تكن لدينا أسباب سياسية أو عسكرية لإثارة مواجهة مع الأردن أو لإذلال الملك حسين»(2).

كان ليفي اشكول في واقع الأمر يشعر بغضب بالغ تجاه رابين بسبب نزيف الدم والدمار الذي حدث. وشعر بأن كبار ضباط قوات الدفاع الإسرائيلية قد قدموا للحكومة نصائح سيئة، وأن سورية كان من المفترض أن تكون هي الهدف، وليس الأردن. وكانت النتيجة، على حد تعبير ليفي اشكول هي ان «اسرائيل وجهت ضربة للزوجة بدلا من الحماة الشريرة». كانت هناك مسألة مبدئية أيضا، وهي ان ديفيد بن غوريون عندما كان رئيسا للحكومة نادرا ما دعا إلى مساءلة قوات الدفاع الإسرائيلية عن أفعالها. يضاف إلى ذلك ان اشكول أيضا جمع بين رئاسة الحكومة وحقيبة الدفاع، لكنه كان مصمما على التأكيد على سيطرة المدنيين على الجيش. وقد أشارت مريم اشكول، زوجة رئيس الوزراء، في يومياتها إلى المرارة التي كان يشعر بها زوجها تجاه قادة قوات الدفاع الإسرائيلية في ذلك الوقت. وجاء في يوميات مريم اشكول ان زوجها عقب الهجوم على السموع قال لها: «اكتبي في يومياتك انني، على خلاف سلفي، لست ممثلا للجيش في الحكومة»(3). السبب الرئيسي لغضب اشكول تجاه الهجوم على السموع يكمن في انه جاء معاكسا لسياسته القائمة على أساس دعم الملك حسين ومساعدته في جهوده ضد المنظمات الفلسطينية. نظر الملك حسين إلى الهجوم على قرية السموع كونه عملا حربيا أكثر منه هجوما روتينيا للرد على هجوم سابق. وفسر ما حدث على اعتبار انه مؤشر على ان اسرائيل لم تعد ملتزمة ببقاء واستمرار نظامه وان الإسرائيليين يضعون الضفة الغربية لمملكته نصب أعينهم. بالنسبة للملك حسين، لم يكن الهجوم على السموع حادثة منفصلة، بل جزءا من مخطط إسرائيلي واسع لتصعيد النزاع على الحدود إلى حرب توسعية واسعة النطاق. اما زئيف بار ـ لافي، الذي كان يعمل في القسم الخاص بالأردن في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية والذي كان يحتفل بعيد ميلاد الملك حسين، فقد كتب التقييم التالي للعواقب المترتبة على الهجوم الإسرائيلي على السموع: «مسألة السموع أثارت قلقا بالغا لدى الملك حسين. فقد نظر إلى الهجوم كونه نية من جانب اسرائيل لتمهيد الطريق لغزو الضفة الغربية ومحاولة تهدف لتطويق خط الدفاع الأردني من اتجاه الجنوب. كل المحاولات لتهدئته من جانب القوى الغربية باءت بالفشل. الملك حسين لم يشعر بالارتياح، واستمر خوفه من ان اليهود سينتزعون من الأردن ثمن الهجمات السورية وعمليات المخربين. لماذا يقنع اليهود أنفسهم بتدمير بضعة ألوية سورية غير ذات اهمية؟ لا، اليهود سيتجهون صوب شيء ملموس، مثل غزو الضفة الغربية في أي لحظة يجدون فيها مبررا»(4).

وصفي التل كان من جانبه أيضا على قناعة بأن اسرائيل كانت بصدد جر الأردن إلى رد فعل يدفع اسرائيل إلى خوض حرب. باختصار، كان كل من وصفي التل والملك حسين يشك في ان اسرائيل كانت بصدد نصب فخ للأردن، وكانا حذرين من الوقوع فيه. وبدلا من الرد على الهجوم الإسرائيلي آثرا إحالة المسألة إلى مجلس الأمن. الهجوم على السموع وفشل الملك حسين في الرد عليه بقوة أثارا عداء فلسطينيا كبيرا تجاهه وصب ما حدث في مصلحة أعدائه. وهكذا، فإن الهجوم على السموع وسّع من الشقة الموجودة أصلا بين النظام الأردني والفلسطينيين في الأردن. واتُهم النظام الأردني وقتها داخليا وعربيا بإهمال دفاعات الأردن والفشل في حماية سكان قرية السموع من العدو. منظمة التحرير الفلسطينية وسورية ومصر أججت من جانبها العداء الشعبي تجاه النظام الأردني من خلال شن هجوم دعائي شرس كان معظمه موجها ضد الملك حسين شخصيا، وانفجر الإحباط المكبوت فجأة وأشعل احتجاجات غاضبة وعنيفة، واندلعت مظاهرات في مخيمات اللاجئين في مدن الضفة الغربية. كما اندلعت أعمال شغب خطيرة في كل من الخليل وأريحا والقدس ورام الله ونابلس وجنين وطولكرم وقلقيلية، وسار المتظاهرون في الشوارع يحملون لافتات عليها شعارات قومية ويرددون شعارات مؤيدة لجمال عبد الناصر وبانتهاء الملك حسين إلى مصير نوري السعيد. استهدف المتظاهرون المكاتب الحكومية وسيارات الشرطة، واستدعي الجيش وصدرت له تعليمات باستخدام إجراءات مشددة لإخماد أعمال الشغب فرضت بموجبها حالة حظر التجول، كما جرت حملات اعتقالات جماعية واستخدم الغاز المسيل للدموع وأطلق الرصاص الحي على التجمعات. على الرغم من هذه الإجراءات المشددة لم تستطع قوات الجيش استعادة الأمن والنظام إلا بعد حوالي اسبوعين. ولكن ثمة ملمحا جديدا ظهر في تلك الأزمة، ألا وهو المشاركة النشطة لقادة وعُمد الضفة الغربية في الاحتجاجات المناوئة للنظام الأردني. بعض هؤلاء الأعيان طرحوا أنفسهم كـ«قيادة وطنية» وطالبوا بعقد «اجتماع شعبي لمناقشة القضايا الرئيسية المتعلقة بالوطن»، وصاغوا «مانفستو وطنيا» نادى بوجود للجيوش العربية فوق الأراضي الاردنية وأيد منظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد لإرادة الشعب الفلسطيني، إلا أن المانفستو لم يتضمن تأكيدا على إعلان فلسطيني من جانب واحد لاستقلال الضفة الغربية، لكنه شكّل تحديا للنظام الهاشمي لم يستطع النظام الأردني التغاضي عنه.

الهجوم الإسرائيلي على قرية السموع، كما هو واضح من ردود الفعل العنيفة على الصعيد الداخلي، كان بمثابة نقطة تحول في العلاقات بين المملكة الهاشمية وفلسطينيي الضفة الغربية، وشكّل على حد وصف الخبير الإسرائيلي موشي شيميش نقطة تحول في «موقف الأردن تجاه اسرائيل، من حالة تعايش خاضع للحراسة إلى حالة إحباط وتشاؤم». وكتب شيميش ان التفكير الذي كان سائدا ومسيطرا على المستويين العسكري والمدني في الأردن هو أن: «خطة اسرائيل الرئيسية كانت ترمي إلى غزو الضفة الغربية، وان اسرائيل كانت تعمل جاهدة لاستدراج الدول العربية كافة إلى حرب عامة تستطيع اسرائيل من خلالها الاستيلاء على الضفة الغربية. وطبقا لهذا التفكير، وعلى ضوء الضعف العسكري الأردني والتردد العربي، كانت تعتقد اسرائيل انها لن تواجه مشكلة تُذكر في الاستيلاء على الضفة الغربية. أقلقت هذه المخاوف الأردنيين عقب الهجوم الإسرائيلي على قرية السموع إلى حد بالغ على نحو يستدعي اعتبارها عاملا أساسيا في قرار الملك حسين بالمشاركة في حرب الأيام الستة. فقد كان مقتنعا بأن اسرائيل ستحتل الضفة الغربية إذا شارك الأردن في الحرب أو لم يشارك.

القلق الذي شعر به القادة الإسرائيليون عقب الهجوم على قرية السموع تركز في احتمال انهيار نظام الملك حسين ونقل قوات من الدول العربية إلى الأردن. وأرسل د. ياكوف هيرزوغ على وجه السرعة إلى لندن لمعالجة جزء على الأقل من الأضرار التي لحقت بالعلاقات مع الأردن نتيجة هجوم السموع. عقد اجتماع مع الملك حسين كان امرا مستبعدا، لذا فقد صاغ هيرزوغ خطابا الى الدكتور ايمانويل هيربيرت لإرساله بدوره إلى صديقه الملك حسين. وعلى الرغم من ان هيربيرت كان يشعر بغضب بالغ تجاه أصدقائه الإسرائيليين، إلا انه آثر إرسال الخطاب إلى الملك حسين لكي ينقذ ما وصفه هيرزوغ بـ«مشروع أساسي في السياسة الخارجية الإسرائيلية». عبّر الخطاب عن أسف بالغ تجاه الخسائر في الأرواح وأكد للملك حسين استنادا على «معلومات موثوقة للغاية من أعلى سلطة» ان لا تغيير أيا كان في السياسة الأساسية. ووصف الخطاب الهجوم كونه «خطأ بالغ الفداحة»، لكنه أشار أيضا إلى الاستفزاز الذي تعرضت له اسرائيل من «جانب عصابات الإرهابيين»، واختتم الخطاب بمناشدة الطرفين ببذل جهد في سبيل تخفيف التوتر، مثلما فعلا في السابق. ولم يتلق هيربيرت ردا على ذلك الخطاب، وقال ان أصدقاء الملك حسين الذين جاءوا لمقابلته عقب الهجوم تحدثوا حول اسرائيل بأسلوب مختلف وطريقة عدائية للغاية. جرت عدة مناقشات في ديسمبر (كانون الأول) 1966 في القدس حول السياسة تجاه الأردن بمشاركة ممثلين عن وزارة الخارجية والاستخبارات العسكرية والموساد. كان ثمة إجماع عام على ان النظام الأردني قد عبّر عن تصميمه على البقاء والاستمرار خلال السنوات الـ18 السابقة لكنه ظل يفتقر تماما إلى أي فرصة للاستمرار على المدى الطويل، وتركز السؤال حينها على كيف كان استمرار النظام الأردني عاملا حاسما بالنسبة لدولة اسرائيل. برز موقفان تجاه هذه القضية، فقد كان هناك من يرى ان وجود الملك حسين يمثل مشكلة لأن وجود الضفة الغربية بصورتها تلك كان يشكل كارثة على اسرائيل وان الملك حسين يشكل عقبة في طريق التغيير. اما الرأي الآخر، فقد كان مخالفا تماما، ذلك ان أصحاب هذا الرأي كانوا يعتقدون ان الوضع المناسب هو ان يعمل الملك حسين على تعزيز الوضع الراهن حينها، وكانوا يتطلعون إلى تعايش معه، فيما وُصف موقف قوات الدفاع الإسرائيلية بأنه وسط بين الموقفين. لم يكن مستغربا ارتباك الملك حسين تجاه الموقف الإسرائيلي في ظل تلك المواقف المتباينة. ويمكن القول ان عدم الثقة في اسرائيل دفع الملك الحسين باتجاه الولايات المتحدة، علماً بأن إدارة الرئيس جونسون كانت قد وبخت إسرائيل بحدة بسبب هجوم السموع وصوتت في مجلس الأمن لصالح قرار يدين الهجوم. وتلقى الملك حسين مساندة قوية من فيندلي بيرنز، السفير الأميركي في عمان، ومن جاك اوكونيل، مدير مكتب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) في عمان خلال الفترة 1967ـ1971. وكان بيرنز يشك في ان مصر وسورية وإسرائيل لم تكن تشعر بقلق إزاء اندلاع حرب عربية ـ إسرائيلية قصيرة تنتهي بانهيار الأردن. كانت تربط الملك حسين علاقة وثيقة مع جاك اوكونيل أكثر من أي مسؤول أميركي آخر قبله أو بعده، وكانت علاقتهما قائمة على الاحترام المتبادل والثقة المطلقة. حصل اوكونيل على الماجستير في القانون الإسلامي من جامعة البنجاب، وعاد بعد ذلك إلى جامعة جورجتاون ليحصل على درجة الدكتوراه في القانون الدولي. وخلال أزمة عام 1958 اُرسل اوكونيل لتعزيز فريق وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في الأردن، وكانت تلك هي الفترة التي توثقت علاقته خلالها مع الملك حسين. ونتيجة للثقة والاحترام بين الملك حسين وأوكونيل استمرت علاقة العمل بينهما في انسجام وفعالية. اوكونيل من جانبه قدم مساعدات هائلة للملك حسين ومملكته، واستمرت العلاقة بينهما حتى عقب تقاعد اوكونيل من العمل في وكالة الاستخبارات المركزية عام 1971 ليلتحق بعد ذلك بالعمل في شركة للمحاماة في واشنطن، وأصبح فيما بعد محامي الأسرة الهاشمية ومستشارا ومحاميا للحكومة الاردنية. اقتنع الرئيس الأميركي ليندون جونسون من جانب مستشاريه بالحاجة إلى دعم الأردن. ففي 23 نوفمبر (تشرين الثاني) 1966 بعث جونسون خطابا خاصا إلى الملك حسين استهله بـ«كلمات التعاطف لا تساوي كثيرا عندما تزهق أرواح من دون مبرر». تضمن خطاب جونسون إلى الملك حسين نقطتين أولاهما طمأنته للملك حسين بأن الإدارة الأميركية لا تزال لها مصلحة في أمن وسلامة الأردن وصالح شعبه. ثانيا، عقب علمه من بيرنز بمخاوف الملك حسين تجاه اسرائيل، أراد جونسون طمأنة العاهل الأردني بأن سياسات اسرائيل لم تتغير وأن اسرائيل لا تعتزم احتلال الضفة الغربية لنهر الأردن. فمعارضة الولايات المتحدة لاستخدام القوة بغرض تعديل الحدود في الشرق الأدنى كانت واضحة تماما لدى اسرائيل بصورة مباشرة وفي التصريحات الرسمية، وكان الرئيس جونسون على قناعة بأنها مفهومة تماما لدى الجانب الإسرائيلي. كان خطاب جونسون مهما فيما يتعلق بوعده بمعارضة أي محاولة من جانب اسرائيل لتغيير الحدود على حساب الأردن، لكنه لم يبدد مخاوف الملك حسين، الذي وجه الدعوة إلى كل من اوكونيل وبيرنز في 10 ديسمبر من ذلك العام. ويقول بيرنز انه في تلك المناسبة رأى الملك حسين لأول مرة عابسا وتبدو عليه آثار الضغوط واضحة. وقال أيضا انه كان واضحا ان الملك حسين كان يحاول ما بوسعه للسيطرة على مشاعره من الانفجار علنا. قال الملك حسين لضيفيه إنه على الرغم من ان حدة المظاهرات قد تراجعت، فإن ضغوطا كانت تعتمل بصورة متزايدة، على حد قوله. وقال أيضا ان الشقة المتزايدة بين الضفة الغربية والشرقية قد دمرت أحلامه، وقال أيضا لضيفيه أيضا ان الشيء الوحيد الذين كان يربط بينه والجيش هو الولاء التقليدي، إلا ان هذا الولاء، كما قال، بات في حالة تراجع مؤكدا ان «هناك حالة أقرب إلى اليأس في أوساط الجيش». شكا الملك حسين أيضا من انه محاصر بالأعداء من كل الجهات، خارج الأردن وداخلها. فسورية كانت تنادي علنا بإطاحته وتسهّل تسلل الإرهابيين إلى سورية وتزودهم بالسلاح لتحقيق هذا الهدف، واختتم الملك حسين حديثه مؤكدا على ضرورة اتخاذ واشنطن قرارا بشأن طلبه للمساعدة. فقد كانت تربطه وواشنطن على مدى عقد من الزمن علاقة شراكة، وكانت واشنطن في تلك الظروف الحرجة الصديق الوحيد الذي يمكنه اللجوء إليه، وكانت الاستجابة المناسبة، في نظره، ستمكنه، كما قال، من تبرير سياسته السابقة لجيشه ولشعبه ولمنظمة التحرير الفلسطينية وللجميع. وقال في ختام حديثه مع أوكونيل وبيرنز ان التأخير المتكرر من جانب الولايات المتحدة في هذا الشأن لم يترك له خيارا سوى الموافقة على قرار مجلس الدفاع العربي في القاهرة بإرسال قوات سعودية وعراقية إلى الأردن. إذا رفضت الولايات المتحدة طلب الملك حسين المساعدة، فإن هناك ثلاثة خيارات مفتوحة أمامه، حسب قوله. فإما الاستعداد لكارثة وشيكة، أو مواجهة كل أعدائه أو إعلان الضفة الغربية منطقة عسكرية ومناشدة الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية إرسال قوات لحمايتها. وبدا له الخيار الثالث هو الوحيد الذي سيمكّنه من تحصين الضفة الشرقية وتوفير فرصة أخيرة له لخدمة قضيته.


 
رد: أسد الاردن / قصة ملك

أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة الثانية) ـ الانزلاق إلى الكارثة

واجه الملك حسين موقفا صعبا وكانت أمامه مجموعة من الخيارات لكنه انتهى إلى خيار خاطئ



لندن: «الشرق الأوسط»
اتخذ الملك حسين قرارا بالتوجه إلى القاهرة بغرض التصالح مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر، ووصل بالفعل إلى قاعدة الماظة العسكرية بالقرب من القاهرة صبيحة يوم 30 مايو (أيار) 1967 على متن طائرة كارافيل قادها بنفسه وهو يرتدي بزة عسكرية كاكية عليها شارة فيلد مارشال وكان بصحبته عدد محدود من مستشاريه. وتفاجأ عبد الناصر عندما وجد الملك حسين مرتديا الزي العسكري. وقال: «بما ان زيارتك هذه سرية، ترى ما الذي يمكن ان يحدث إذا أعتقلناك؟»، رد الملك حسين مبتسما: «لم يخطر ذلك على بالي مطلقا». كانت تلك بداية غير سارة للمحادثات التي جرت في قصر القبة، حيث قدّم الملك حسين التنازل تلو الآخر.
وفي حلقة اليوم من الكتاب الجديد الذي سينزل الاسواق باللغة الانجليزية عن دار بنجوين بعنوان أسد الاردن والذي تنفرد «الشرق الاوسط» بنشر حلقات منه يكشف المؤلف آفي شليم المؤرخ البارز والبروفسور في جامعة اوكسفورد العريقة الكثير من الاسرار التي سبقت نشوب حرب يونيو (حزيران) 1967 وخسر فيها الملك حسين الضفة الغربية التي احتلتها اسرائيل. وتكشف حلقات هذا الكتاب الذي أعد بعد سنوات من البحث والتدقيق في اوراق يعود بعضها الى العاهل الاردني الراحل وعشرات المقابلات ومئات الوثائق السرية، في اسرائيل وخارجها، المفاوضات السرية بين الملك حسين والاسرائيليين واحداث ايلول الاسود ومفاوضات السلام والصلح مع اسرائيل والعلاقة بين الملك حسين والرئيس العراقي صدام حسين مرورا بغزو الكويت وحرب الخليج، وكذلك قصة الرحلة الاخيرة للملك حسين مع الامراض وتفاصيل ترتيبات انتقال الحكم وما صاحبها من تطورات.

ظهرت عدة مؤشرات خلال حديث الملك حسين مع جاك أوكونيل مدير مكتب وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي آي إيه) وفيندلي بيرنز السفير الأميركي في عمان على أنه بات متشككا إزاء نوايا الولايات المتحدة فيما يتعلق بالأردن. فواشنطن كانت على علاقة وثيقة مع إسرائيل، وهذا أمر من المحتمل أن يؤثر على قدرتها على الاستجابة لطلبه المساعدة. كان الملك حسين يشعر أيضا بأن أميركا لم تكن تقدّر خطورة الوضع في المملكة الأردنية أو رغبة أعدائه في التخلص منها، وأعرب الملك حسين عن رغبته في إبلاغ وجهة نظره الشخصية هذه لعناية الرئيس الأميركي. انتهى بذلك الحديث الجزء الرسمي من اللقاء وطلب الملك حسين من اوكونيل وبيرنز البقاء لبعض الوقت. وفي حديث خاص في مقر إقامته بعيدا عن القيود الرسمية للبلاط واصل الملك حسين حديثه وكشف لضيفيه، اللذين أصابتهما الدهشة، انه ظل يجري اتصالات سرية مع قادة إسرائيليين على مدى السنوات الثلاث السابقة في إطار لقاءات سرية بين الجانبين. وأوضح الملك حسين ان الغرض من تلك الاتصالات كان التوصل إلى تفاهم يضمن السلام بين الأردن وإسرائيل على أمل التوصل في نهاية الأمر إلى تسوية للقضية الفلسطينية من خلال التفاوض. وقال لهما أيضا انه لا يعرف ما كان يجب عليه فعله كي لا يحدث ما حدث، في إشارة إلى الهجوم الإسرائيلي على قرية السموع. وأضاف قائلا بهدوء إن لا أحد سواه في الأردن يعرف شيئا عن المناقشات التي أجراها مع الإسرائيليين. وأكد الملك حسين لهما أيضا انه لا يؤمن بالحرب كوسيلة لحل المشكلة الفلسطينية. فقد ظل باستمرار يتبع نهجا معتدلا في تعامله مع المسألة الفلسطينية على أمل ان يضطلع أشخاص يتميزون بالمعقولية بالتفاوض يوم ما للتوصل إلى تسوية عادلة من خلال التفاوض. بذل الملك حسين أيضا كل ما يستطيع للقضاء على الإرهاب ضد اسرائيل عبر حدود الأردن، والولايات المتحدة وإسرائيل على حد سواء كانتا تدركان كل هذه الأشياء، وقال ان الإسرائيليين كانوا يدركون هذه الحقيقة لأنه «شخصيا أبلغهم بذلك». نبّه الملك حسين الإسرائيليين إلى ان الأردن لا يمكن ان يتحمل هجوما انتقاميا، وقبل الإسرائيليون بذلك، ووعدوه بأن شيئا من هذا القبيل لن يحدث. إلى جانب اللقاءات السرية كانت هناك اتصالات سرية ايضا على المستوى الشخصي بينه والقادة الإسرائيليين، وكانت تلك الاتصالات بمثابة تأكيد على التفاهم. أما آخر رسالة تلقاها من الجانب الإسرائيلي، فقد تضمنت تأكيدا على ان اسرائيل لا تعتزم شن هجوم على الأردن. تلقى الملك حسين تلك الرسالة في 13 نوفمبر (تشرين الثاني)، وهو نفس اليوم الذي هاجمت فيه القوات الإسرائيلية قرية السموع. وأوضح أيضا انه لم يكن يتوقع تلك الرسالة ولم يطلبها أصلا، كما أوضح أيضا انه ربما تكون قد أرسلت قبل 24 ساعة أو 48 ساعة من موعد تسلمه لها. وفي هذا السياق قال حسين لضيفيه الأميركيين ان ذلك الهجوم كان «خيانة تامة من الجانب الإسرائيلي لكل ما حاول فعله خلال السنوات الثلاث السابقة في سبيل السلام والاستقرار والاعتدال على حساب مخاطر سياسية شخصية». وقال في ذات السياق: «الغريب في الأمر انه على الرغم من المناقشات والاتصالات السرية، وعلى الرغم من الاتفاقيات والتفاهمات والضمانات السرية لم يحدث ان وثقت كل الثقة بنواياهم تجاهي أو تجاه الأردن. فيما يتعلق بتقييم نوايا الإسرائيليين، اطلب منكم ان تضعوا تجاربي معهم في ميزانكم للأمور». أنهى الملك حسين حديثه قائلا: «هذا ما يتلقاه المرء جزاء عندما يحاول ان يكون معتدلا، وربما عندما يكون غبيا». وطلب عقب ذلك ان تظل هذه المعلومات طي الكتمان وفي غاية السرية بين اقل عدد ممكن من الأشخاص. وعندما كتب بيرنز في وقت لاحق حول هذا الحديث سلط الضوء على طلب الملك حسين وأشار إلى ان الملك عبد الله اغتيل بواسطة فلسطيني عندما كُشف النقاب عن اتصاله بالجانب الإسرائيلي. التقارير ذات الصلة بما دار من حديث شبه رسمي وشبه خاص بين الملك حسين وأوكونيل وبيرنز استخدمت في إعادة النظر في السياسة الأميركية تجاه الأردن التي كانت قيد الإجراء في واشنطن. وكانت وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية قد شاركت في هذا الأمر بمذكرة من 11 صفحة تحت عنوان «النظام الأردني: آفاق مستقبله وعواقب زواله» أعدها مكتب التقييم الوطني بالتنسيق مع «مكتب الاستخبارات والخدمات السرية». وحُذف من المذكرة اسم الشخص الذي أعدها، بيد ان محتواها عكس معلومات جاك اوكونيل الخاصة وآراءه. بصرف النظر عن هوية الشخص الذي أعدها، فإن المذكرة سلطت الكثير من الضوء على أكثر الأزمات خطورة خلال فترة حكم الملك حسين. وتضمنت المذكرة إشارة إلى أن الملك حسين «بقي في العرش على الرغم من التأييد السياسي الضئيل والضعف العسكري النسبي مقارنة مع أعدائه والعداء الذي ناصبه إياه العرب الراديكاليون الذين كانوا يعتبرونه دمية في يد الغرب». بقاؤه في الحكم كان يعزى من ناحية إلى شجاعته وسعة حيلته، ومن ناحية ثانية إلى تأييد الولايات المتحدة له. ثمة سبب آخر هو ان العرب الراديكاليين احتملوا حكمه كبديل للنزاع مع اسرائيل، وهو نزاع كانوا يدركون انهم ليسوا على استعداد له. ويبقى القول إن الأحداث تركت الأردن في وضع لا يحسد عليه وهددت الوضع الراهن آنذاك. فمنظمة التحرير الفلسطينية أصبحت أكثر عنفا في انتقادها للملك حسين بسبب رفضه قبول قوات عسكرية عربية في الأردن ووضعها على الحدود مع اسرائيل. كما ان منظمة «فتح» كثفت من هجماتها داخل اسرائيل، وكان معظمها انطلاقا من أراضي الأردن، الذي بذل قصارى جهده لمنعها. هجوم اسرائيل على قرية السموع أحدث هزة عنيفة للملك حسين وحكومته وأذلت جيشه. وظهر الملك حسين أمام مواطنيه وجيرانه، وربما أمام نفسه، بمظهر من خذلته الولايات المتحدة. الفلسطينيون سيروا مظاهرات على مدى ثلاثة أسابيع ضده وضد حكومته، وشجعتهم على ذلك الحملات الدعائية للحكومتين السورية والمصرية ومنظمة التحرير الفلسطينية. كما ان السخط في أوساط القوات المسلحة الاردنية كان في تزايد مستمر، وكان الملك حسين مدركا ضعف موقفه على الصعيد الداخلي، كما كان يعتقد فيما يبدو ان الخطر الذي تشكله اسرائيل أكبر مما كان يتصور. يضاف إلى ذلك انه كان يشعر بقلق عميق إزاء احتمال فشل الولايات المتحدة في مساندته بقوة. لذا، فقد كان في صدارة أولوياته ان يبرهن للجيش الأردني ولمواطنيه انه يتلقى باستمرار تأييدا كاملا من الولايات المتحدة، وكان قد طلب بالفعل من الولايات المتحدة إمدادات إضافية من السلاح لمساعدته في تبديد الاستياء في أوساط القوات المسلحة.

استجابة الولايات المتحدة لطلب الملك حسين كان بمثابة عامل حاسم للوضع القائم آنذاك: «فالمساعدات العسكرية الأميركية كانت ستدعم موقفه بصورة كبيرة. اما رفضها زيادة حجم المساعدات، أو تقديم مساعدات بكميات اسمية، فكان من شأنه إضعاف موقفه وتثبيط عزيمته».

كان لدى الملك حسين بعض الشكوك في ان الولايات المتحدة وإسرائيل تتعاونان ضده، وربما تكون تلك الشكوك قد تأكدت له بالفعل. ورد في المذكرة ان أي كمية من المساعدات الأميركية ربما لا تضمن استمرار حكمه، وأشارت أيضا إلى ان تقديم مساعدات كبيرة وفورية من المحتمل ان تساعده على استمرار سيطرته سياسيا. جاء في المذكرة أيضا: «يمكن القول باختصار إن فرص الملك حسين في تجاوز هذه الأزمة تعتمد على عدة احتمالات، جميعها خارج نطاق سيطرته. من الواضح انه في ورطه عميقة، كما ان هناك مخاطر كبيرة تتهدده وتتهدد الاتفاقيات المؤقتة التي ساعدت على وجود سلام صعب في المنطقة». عملية إعادة النظر في السياسة تجاه الأردن أسفرت عن اتخاذ قرار بتزويده بمعدات عسكرية، لكنها لم تكن بالحجم الذي طلبه الملك حسين مسبقا. وبات الاعتقاد السائد ان انهيار نظامه من المحتمل ان يؤدي إلى حرب مفتوحة بين العرب وإسرائيل، وهذا أمر لم يكن في مصلحة الولايات المتحدة. وكدليل ملموس على دعم إدارته المستمر للأردن وافق جونسون على نقل معدات عسكرية بقيمة 4.7 مليون دولار إلى عمان بغرض تحسين فعالية وحركة الجيش الأردني وقوته النارية. وكان المسؤولون الأميركيون يأملون في ان يستخدم الملك حسين هذه الأسلحة «لمنع مجموعات حرب العصابات الفلسطينية من استخدام الأردن كقاعدة لانطلاق العمليات العسكرية ضد إسرائيل» وليس للاستعداد لحرب ضد الدولة اليهودية. وهكذا، فقد كان أمن إسرائيل هو القضية الرئيسية التي شغلت صناع السياسة في واشنطن من بداية هذه الأزمة وحتى انتهائها بتقديم مساعدات عسكرية متواضعة إلى الأردن. الملك حسين أرسل من جانبه خطابا إلى جونسون شكره فيه على تعاطفه واهتمامه وخطواته في مساعدة الأردن على تجاوز تلك الأزمة، لكنه لم يذكر خيبة أمل كبار العسكريين الأردنيين تجاه بعض الجوانب الخاصة بالمساعدات العسكرية التي قدمتها واشنطن. وفي المفاوضات مع المبعوث الشخصي للرئيس جونسون، ويليام ماكومبر، أوضح الملك حسين انه لا يتفق مع اعتقاد واشنطن في ان إسرائيل لم تغير سياستها تجاه الأردن. وكان يدرك في نفس الوقت ان الاستجابة الأميركية فيما يتعلق بالمساعدات العسكرية كانت في الأساس وسيلة لتهدئة الأوضاع أكثر منها وسيلة للتعامل مع خطر طويل المدى. فيما يتعلق بالإبقاء على القوات العربية خارج الأردن، لم يستطع الملك حسين تقديم ضمانة بذلك لكنه وعد بفعل كل ما يستطيع في هذا الأمر، لأنه لم يكن في مصلحة الأردن. وأخيرا ابلغ الملك حسين ماكومبر بأنه يعتزم مواصلة سياساته وإجراءاته المعتدلة بغرض تحسين الاستقرار في المنطقة. على الصعيد الداخلي الأردني كان هناك موقفان في أوساط مؤسسة الأمن الوطني تجاه الهجوم على السموع. فقد كانت هناك مجموعة ترى ان الأردن في حاجة إلى الدول العربية الأخرى كاحتمال أوحد للدفاع عن أراضي الأردن في مواجهة أي عدوان إسرائيلي مستقبلا، وهذا يعني التقارب مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وكانت هناك مجموعة أخرى، بقيادة وصفي التل، ترى ان الهجوم الإسرائيلي على السموع اثبت ان «القيادة العربية المشتركة» لم تكن ذات جدوى، وبالتالي من الأفضل ان يركز الأردن على تطوير دفاعاته بنفسه. وكان وصفي التل ينتهج بصورة عامة سياسة مواجهة مع كل منظمة التحرير الفلسطينية وسورية وعبد الناصر. كان الملك حسين على إدراك بمقدرات ودينامية وإخلاص وصفي التل، لكنه كان يريد رئيس وزراء أقل صرامة بغرض تحسين العلاقات مع العالم العربي. ففي ابريل (نيسان) 1967 أصدر الملك حسين قرارا بتعيين سعد جمعة رئيسا للوزراء، لكنه أبقى على وصفي التل رئيسا للديوان الملكي. وبعد حوالي ستة أسابيع من انتهاج الملك حسين سياسته الجديدة دخل الأردن في حرب واسعة النطاق في مواجهة إسرائيل انتهت بخسارة الأردن للضفة الغربية. المحسوبون على مؤسسة الحكم ودوائر صناعة السياسات في الأردن قالوا إنه لم يكن هناك من خيار سوى القتال إلى جانب الأشقاء العرب، إلا انه لم يكن هناك أي شيء حتمي فيما يتعلق بوتيرة سير الأحداث التي قادت إلى حرب يونيو (حزيران) 1967، وهي حرب لم تكن لها ضرورة أصلا وانتهت بنتائج كارثية لكل الأطراف العربية المشاركة فيها، لا سيما الأردن. ويمكن القول هنا ان مفهوم «عدم وجود خيار آخر» ابتكره من كانوا يعملون في دوائر صنع السياسات في الأردن بغرض التغطية على أخطائهم ومسؤولياتهم الشخصية تجاه الكارثة التي جلبوها على بلدهم. وواجه الملك حسين موقفا صعبا، فقد كانت أمامه مجموعة من الخيارات كان بوسعه الانتقاء منها، لكنه انتهى إلى خيار خاطئ. وكان وصفي التل قد ظل يحذر الملك حسين مرارا من أن السير وراء مصر سيورد إلى الحرب وإلى خسارة الضفة الغربية، وهذا ما حدث بالفعل. وبسبب قراره فقد الملك حسين السيطرة على سير الأحداث وانتهى إلى خسارة نصف مملكته. التنافس العربي الداخلي كان بمثابة العامل الحاسم في إشعال فتيل الأزمة التي قادت إلى حرب يونيو (حزيران) 1967. القول بأن سبب الحرب ناجم عن التنافس والخلاف العربي الداخلي أكثر منه عن النزاع بين الدول العربية وإسرائيل ربما يبدو بعيدا عن الواقع، بيد ان هناك حقائق تدعم هذا القول. فالعالم العربي حينها كان في حالة اضطراب بالغ ناجم عن النزاع والتشكيك فيما بين الأنظمة العربية الراديكالية والمحافظة. استولى النظام البعثي على السلطة في سوريا في فبراير (شباط) عام 1966 ورفع شعار الوحدة العربية وكان يحرض على إشعال حرب شعبية لتحرير فلسطين. فهو لم يكتف فقط بدعم وحدات حركة «فتح» لمهاجمة إسرائيل انطلاقا عبر الحدود الأردنية، بل دخل في مناوشات مع الجيش الإسرائيلي على طول الحدود المشتركة، وبلغ تصعيد العنف ذروته باندلاع معركة جوية في 7 ابريل (نيسان) عام 1967 اسقطت خلالها ست طائرات ميغ سورية سوفييتية الصنع بواسطة سلاح الجو الإسرائيلي، وبتلك الحادثة بدأ العد التنازلي لحرب يونيو (حزيران) 1967. النزاع بين سورية وإسرائيل لم يسفر عن أي تحسن في العلاقات بين دمشق وعمان. ووصلت العلاقات بين البلدين إلى قمة التوتر عندما انفجرت ناقلة سورية محملة بالديناميت في نقطة للجمارك الأردنية في الرمثاء في 21 مايو (أيار). وعند ذلك بات الملك حسين على قناعة بأن العناصر الراديكالية في سورية تنظر إلى الأردن، وليس إلى إسرائيل، بوصفه العدو الحقيقي ووصف الإرهاب وسيلة يهدف من خلالها أعداؤه السوريون إلى دفع إسرائيل لتوجيه ضربة انتقامية لتدمير الأردن. واتخذ الملك حسين حينها قرارا بقطع العلاقات الدبلوماسية مع سورية لدى عودته من مسرح الانفجار في الرمثاء. الرئيس المصري جمال عبد الناصر كان يواجه من جانبه مأزقا يتلخص في كيفية لجم العناصر المتهورة في النظام السوري إلى حين تحقيق هدفين رئيسيين كان ينظر إليهما كشرطين يجب تحقيقهما قبل الدخول في حرب مع إسرائيل وهما تحقيق الوحدة العربية وتحقيق تكافؤ في القوة العسكرية بين العرب وإسرائيل. وكخطوة أولى في هذا الاتجاه وقّع عبد الناصر اتفاقية دفاع مشترك مع سورية في 7 نوفمبر (تشرين الثاني) 1966، إلا أن فشل عبد الناصر في مساعدة سورية في المعركة الجوية بين الطائرات السورية والإسرائيلية في 7 ابريل 1967 كشف خواء تلك الاتفاقية وأضعف مصداقيته كحليف. استغل الملك حسين تلك الفرصة وشن هجوما قاسيا على عبد الناصر انتقد فيه خطابه المناوئ لإسرائيل في ظل عدم اتخاذ أي عمل ملموس. ووجد عبد الناصر نفسه في موقف دفاع، وشرع في اتخاذ سلسلة من الخطوات بهدف تعزيز هيبته على الصعيد الداخلي في مصر وعلى مستوى العالم العربي، وأبدى أيضا لهجة تحد لمواجهة إسرائيل. يضاف إلى ذلك انه تلقى تقريرا من الاستخبارات السوفياتية زعم ان إسرائيل تعمل على حشد قواتها على الحدود السورية، واتخذ اثر ذلك ثلاث خطوات متتالية جعلت من الحرب أمرا حتميا، أولاها نشر قوات مصرية في سيناء بالقرب من الحدود مع إسرائيل في 16 مايو (أيار) وطرد قوة الأمم المتحدة من قطاع غزة في 19 مايو وفي 22 مايو وإغلاق مضيق تيران أمام الملاحة الإسرائيلية. الملك حسين من جانبه شعر بقلق بالغ إزاء هذه الخطوات. فمن ناحية كان يدرك ان الخطوات التي اتخذها عبد الناصر قد زادت من خطر وقوع الحرب في وقت لم يكن العرب على استعداد لخوضها ولم يكن فيه تعاون عربي أو تنسيق أو خطة مشتركة. ومن الناحية الأخرى، أسفر التحدي الذي أبداه عبد الناصر في مواجهة إسرائيل عن ازدياد شعبيته بصورة دراماتيكية داخل الأردن وجعل الشارع العربي يتطلع إلى معركة المصير وتحرير فلسطين الوشيك. المد المتزايد لمشاعر القومية العربية ترك أثرا عميقا لدى غالبية الأردنيين، الأمر الذي شكل خطرا على النظام الأردني، الذي جاء رد فعله في صورة تأكيد على توجهه القومي من خلال محاولات التقارب مع الدول العربية الراديكالية وتحريك وحدات مدرعة من الضفة الشرقية باتجاه وادي الأردن، إلا ان مصر وسورية والعراق لم تبادل الأردن إيماءات التوفيق والمصالحة وتركته معزولا. وسعيا لكسر طوق تلك العزلة اتخذ الملك حسين قرارا بالتوجه إلى القاهرة بغرض التصالح مع عبد الناصر، ووصل بالفعل إلى قاعدة الماظة العسكرية بالقرب من القاهرة صبيحة يوم 30 مايو 1967 على متن طائرة كارافيل قادها بنفسه وهو يرتدي بزة عسكرية كاكية عليها شارة فيلد مارشال وكان بصحبته عدد محدود من مستشاريه. وصل عبد الناصر إلى قاعدة الماظة الجوية لاستقبال ضيفه وتفاجأ عندما وجد الملك حسين مرتديا الزي العسكري. قال عبد الناصر مخاطبا الملك حسين: «بما ان زيارتك هذه سرية، ترى ما الذي يمكن ان يحدث إذا اعتقلناك؟»، رد الملك حسين مبتسما: «لم يخطر ذلك على بالي مطلقا».

كانت تلك بداية غير سارة للمحادثات التي جرت في قصر القبة، حيث قدّم الملك حسين التنازل تلو الآخر. قبل ذلك بدأ حديثه بالتأكيد على ضرورة ان تنهض «القيادة العربية المشتركة» لمواجهة التحديات، إلا ان عبد الناصر اقترح عليه صياغة اتفاقية بين البلدين. وبناء على طلب الملك حسين أرسل عبد الناصر شخصا لإحضار نص معاهدة الدفاع المشترك المبرمة بين مصر وسورية. الملك حسين نفسه قال في حديث له حول تلك اللحظات إنه كان متعجلا للتوصل إلى نوع من الاتفاق إلى درجة أنه قرأ نص الاتفاقية المصرية ـ السورية بسرعة وقال مخاطبا عبد الناصر: «أعطني نسخة أخرى. ضع الأردن بدلا عن سورية وتكون المسألة بذلك قد حُلت». الطريقة التي تفاوض بها الملك حسين بشأن تلك الاتفاقية الدولية المهمة كانت غريبة، لكنها عكست الجانب المتعجل والمتهور وغير المسؤول فيه، فضلا عن نزوعه إلى المغامرة. فالاتفاقية المذكورة كانت للدفاع المشترك، أي ان يتعهد كل من البلدين بالدفاع عن الآخر في حال تعرضه لهجوم مسلح. الأحكام المفصلة للاتفاقية منحت عبد الناصر كل مطالبه. أولا، وضعت القوات المسلحة الأردنية تحت قيادة مصرية ـ الجنرال عبد المنعم رياض. ثانيا، وافق الملك حسين على دخول قوات من مصر وسورية والعراق والسعودية الأراضي الأردنية. ثالثا، كان على الملك حسين الموافقة على إعادة فتح مكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في عمان والمصالحة مع أحمد الشقيري، الذي استدعي إلى القاهرة من مدينة غزة في ذلك اليوم. كما وافق الملك حسين على مضض على اصطحاب الشقيري معه عائدا إلى عمان على متن طائرته. وكان دور الأردن في حال اندلاع الحرب اعتراض قسم كبير من الجيش الإسرائيلي ومنعه من مهاجمة دول المواجهة الأخرى واحدة تلو الأخرى، وفي المقابل وافق عبد الناصر على تعزيز القوة الجوية الأردنية المحدودة بدعم من مصر والعراق. حذر الملك حسين الجانب المصري من خطر هجوم جوي إسرائيلي مفاجئ، وأشار إلى ان أول هدف لإسرائيل سيكون القوات الجوية العربية، إلا ان عبد الناصر رد بصورة واثقة مطمئنا الملك حسين بأن جيشه وقواته الجوية على استعداد لمواجهة إسرائيل. وجرى بث الاحتفال بتوقيع المعاهدة حيا عبر راديو القاهرة تبعه مؤتمر صحافي شارك فيه كل من الرئيس جمال عبد الناصر والملك حسين وأحمد الشقيري. ولدى عودته إلى الأردن في نفس اليوم غاصت الشوارع بمستقبلي الموكب الملكي في طريقه إلى القصر. تأكد الملك الحسين ان شعبه رحب بهذه الخطوة، وفي اليوم التالي صوّت مجلس النواب لصالح الاتفاق وبعث ببرقيات تهنئة إلى الملك والرئيس جمال عبد الناصر.
 
رد: أسد الاردن / قصة ملك

أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة الثالثة) ـ ابتسم الملك حسين وقال: البعض يظن أنني أفضل أصدقاء إسرائيل

العاهل الأردني الراحل صدم عندما طالبته إسرائيل بالتنازل عن أجزاء من الضفة والقدس الشرقية



لندن: «الشرق الاوسط»
كان الملك حسين يعتقد ان لا خيار أمام إسرائيل والعرب سوى التعايش في نهاية الأمر. وكان في بعض الأحيان يفكر في احتمالات مبادرة سلام فردية من جانب الاردن، ولكن فقط في حال نجاحه في عودة حكم العرب في الأراضي المحتلة. ظل شعاره باستمرار ان بوسع إسرائيل الاحتفاظ بالأرض أو السلام ولكن ليس كلاهما معا. وهذا بالطبع لم يكن بعيدا عن ان يصبح إجماعا دوليا، وكان الملك حسين أول زعيم عربي يجعله كذلك. كما ادرك انه ليس لدى العرب خيار عسكري، لكنه كان يشعر أيضا بأنه ليس لدى الإسرائيليين رغبة في السلام، وتوصل إلى نتيجة تتلخص في ان إسرائيل تريد لأسباب دينية وثقافية الاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها.
وتروي الحلقة الثالثة من كتاب «أسد الاردن» الذي سينزل الى الاسواق قريبا عن دار بنجوين لمؤلفه آفي شليم المؤرخ البارز والبروفسور في جامعة اكسفورد العريقة تفاصيل اللقاءات السرية بين الاردن وإسرائيل بعد حرب يونيو 1967.

ويشير ابا ايبان وزير خارجية اسرائيل وقتها في المجلد الثاني من مذكراته إلى أهمية تلك اللقاءات والسمات الفريدة للملك حسين: «مجرد انعقاد تلك المحادثات أعطى إسرائيل إحساسا بأن النزاعات العربية ـ الإسرائيلية ليست بالضرورة غير قابلة للتسوية والمصالحة.

الأمر الجدير بالملاحظة هو ان الأردن أصبح طرفا أساسيا في الدبلوماسية العربية، على الرغم من أنه حتى غداة حرب يونيو (حزيران) لم يكن يحظى بوزن يذكر. ترى، كيف تمكنت دولة صغيرة وفقيرة وغير مهمة من ان تشغل حيزا مهما في السياسة الإقليمية والدولية؟ تكمن الإجابة إلى حد كبير في شخصية وسياسات الملك حسين. فقد كان زعيما قويا ونشطا وصاحب كاريزما مميزة اجتذب اهتمام القوى الكبرى من خلال الدأب وقوة الشخصية. ومكّنت الدبلوماسية الشخصية الفريدة للملك حسين الاردن من فرض نفوذه في الشؤون الخارجية على نحو اكبر من قوته الحقيقية. فالملك حسين كان الزعيم العربي الوحيد الذي ارتبط بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة، فضلا عن العلاقة مع إسرائيل، وهذه من المحرمات في ساحة السياسة العربية. كما انه وضع نفسه بعناية وحذر في موقع بين العالم العربي والولايات المتحدة وإسرائيل. لا شك في ان ذلك الأمر كان يتطلب توازنا صعبا، إلا ان الملك حسين نجح في استمرار هذا التوازن. وكان الزعماء العرب الآخرون، بمن في ذلك عبد الناصر، يعرفون عن اتصالات الملك حسين مع إسرائيل فقط ما اختار هو إطلاعهم عليه. فعبد الناصر كان في حاجة إلى الملك حسين كقناة مع واشنطن والقدس، كما ان الملك حسين واصل علاقته بإسرائيل على نحو لم يؤد إلى عزله عن العرب مثلما فعل أنور السادات في النصف الثاني من عقد السبعينات، فضلا عن انه لم يدفع الثمن الذي دفعه السادات عندما طردت مصر من الجامعة العربية اثر إبرامه اتفاقا منفصلا مع إسرائيل. وبصورة عامة، نجح الملك حسين في إيجاد شبكة من العلاقات الثنائية، وكان يعرف وحده أين يقف مع كل من واحد من شركائه. وفيما كانت إسرائيل قبل عام 1967 في حاجة إلى الاردن، انقلب الوضع عقب حرب يونيو (حزيران) 1967 تماما، وبات الملك حسين في حاجة ماسة إلى استعادة أراضيه من إسرائيل. وعلى الرغم من العقبات التي اعترضت طريقه، لم يشعر الملك حسين باليأس إزاء التوصل إلى تسوية سلمية. فقد طلب اتصالا مباشرا مع إسرائيل على أعلى المستويات. لم تكن لدى ليفي اشكول رغبة في ان يلتقي شخصيا مع الملك حسين، إلا ان الحكومة الإسرائيلية وافقت على إرسال وزير خارجيتها، ابا ايبان، للقاء الملك حسين في العاصمة البريطانية. وتلقى ابا ايبان تعليمات بالتأكيد على نقطة محددة تتخلص في انه سيطرح فقط مقترحات خاصة دون ان تكون هذه المقترحات مصادق عليها من جانب الحكومة الإسرائيلية. جرى اللقاء في منزل الدكتور هيربيرت في ضاحية «سينت جونز وود» بالعاصمة البريطانية في 3 مايو (أيار) 1968. رافق أبا ايبان في ذلك اللقاء الدكتور هيرزوغ، وكان بصحبة الملك حسين سكرتيره الخاص زيد الرفاعي. ولعب زيد الرفاعي دورا رئيسيا خلال العقدين التاليين إلى جانب صديقه الملك حسين في إجراء المحادثات السرية مع المسؤولين الإسرائيليين، وكان بمثابة المستشار والمنظِم والمفاوض. لذا، تستحق أفكار ووجهات نظر الرفاعي حول تلك المحادثات اهتماما جديا. كان الرفاعي يعتقد ان فهم سير الأحداث على مدى العقود الثلاث التالية يتطلب في المقام الأول فهم شخصية الملك حسين. فقد كان الملك حسين بحق رجل سلام يمقت الحرب. كان ذكيا وعمليا وبراغماتيا على نحو كاف جعله يدرك ان النزاع العربي الإسرائيلي لا يمكن التوصل إلى حل بشأنه من خلال العنف وإنما من خلال التفاوض والاتفاق بين الشعبين من اجل العيش في سلام. كانت تلك هي الأرضية التي انطلق منها الملك حسين قبل وبعد حرب يونيو (حزيران). خسارة القدس أثرت عليه أكثر من أي شيء آخر. فقد كانت تحت السيادة العربية لكنها احتلت على مرأى منه. لذا، فإن استعادتها كانت ذات أهمية قصوى لديه، وهنا أدرك مجددا ان تحقيق هذا الهدف لا يمكن ان يتأتى من خلال الحرب، وكان يشعر بقوة انه من خلال المفاوضات والاتفاق فقط يمكن تحقيق انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية والقدس الشرقية. الرفاعي يعتقد ان الملك حسين كان يشك منذ البداية في ان خوض إسرائيل حرب يونيو (حزيران) كان دفاعا عن نفسها من خطر هجوم عربي وشيك، أو الحصول على اعتراف من الدول العربية. بدأ العاهل الأردني يشك في ان إسرائيل تعتزم التوسع في كل الاتجاهات، وكان أكثر ما أثار قلقه هو رد إسرائيل على عرض تقدم به خلال اللقاءات الأولى مع الإسرائيليين عقب حرب يونيو (حزيران) عندما اقترح عليهم مرارا توقيع اتفاق سلام رسمي مقابل انسحاب إسرائيل الكامل من الضفة الغربية والقدس الشرقية. كان الملك حسين يدرك انه كان بصدد مخاطرة كبيرة، لكنه كان على استعداد على تغيير مقترحه وقبول حكم شعبه والأمة العربية والتاريخ. كان يعتقد أيضا ان العرض الذي تقدم به كان بمثابة تضحية كبيرة لأنه يعني انتهاك واحد من المحرمات العربية. وشعر بالصدمة عندما جاء الرد على عرضه بأن إسرائيل على استعداد لتوقيع اتفاق سلام مع الاردن ولكن فقط إذا وافق الاردن على التنازل عن أجزاء من الضفة الغربية وكل القدس الشرقية لإسرائيل. المسألة التي طرحت خلال أول لقاء للرفاعي من الإسرائيليين تلخصت في كيفية استغلال حرب يونيو (حزيران) كمدخل للتوصل إلى سلام. وكان واضحا لديه منذ البداية ان الأمر لن يكون صعبا على نحو استثنائي. فالطرفان راغبان في التوصل إلى سلام، وأن واحدا من الطرفين يريد ضم القدس وبعض أراضي الضفة الغربية، فيما الطرف الآخر لم يكن على استعداد حتى لمجرد النظر في التنازل عن أي أراض. كان ذلك طريقا مسدودا منذ البداية. ويمكن القول ان النية في التوصل إلى سلام كانت متوفرة لدى الطرفين، إلا ان الملك حسين كان مصرا بقوة على انسحاب إسرائيل من كافة الأراضي التي استولت عليها في حرب يونيو (حزيران)، إلا ان الإسرائيليين من جانبهم لم يكونوا على استعداد لقبول ذلك. ويمكن القول هنا ان ادعاء الرفاعي ان الأطماع التوسعية الإسرائيلية وتعنتها الدبلوماسي عقب الحرب تدعمه تماما سجلات الوثائق الإسرائيلية. طبقا للسجلات الإسرائيلية حول اللقاء الأول، قال ابا ايبان انه لم يأت للتفاوض أو تقديم التزامات وإنما لتوضيح مسألتين، الأولى معرفة ما إذا كان الاردن قادر على التفاوض وتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل على نحو منفرد دون الاعتماد على أي دولة مجاورة أخرى، والثاني معرفة ما إذا كان الملك حسين قادر على ضمان وقف (النشاطات الإرهابية). جاء رد الملك حسين على المسألة الأولى بأنها ليست مستحيلة، لكنه كان يريد ان يعرف أولا قبل اتخاذ هذه الخطوة نوع التسوية التي كانت إسرائيل على استعداد للتوصل إليها. وجاء رد ابا ايبان مراوغا على هذه النقطة، إذ قال ان حكومته لا ترى سببا لعدم التوصل إلى قرار ملزم إلى أن تقتنع بأن لديها شريكا عربيا جادا لصنع السلام. أوضح ابا ايبان أيضا ان هناك ثلاثة اتجاهات. أولا من يريد الاحتفاظ بكل الأراضي الواقعة إلى الغرب من نهر الأردن، وثانيا هناك من يفضل التوصل إلى تسوية مع عرب فلسطين، واتجاه ثالث يفضل التوصل إلى سلام مع الاردن على أساس حدود جديدة آمنة ومتفق عليها. وحتى أصحاب الاتجاه الأخير، كما أوضح، لديهم أربعة شروط هي أن لا عودة إلى حدود 4 يونيو (حزيران) 1967، وأن تأخذ التغييرات في الاعتبار الاحتياجات الأمنية والارتباط التاريخي، وجعل المنطقة الواقعة إلى الغرب من نهر الاردن منزوعة السلاح، ورابعا، بقاء القدس عاصمة موحدة كعاصمة لإسرائيل. تجاهل الملك حسين الشروط المحددة، واقترح ان يلتقوا برعاية غونار جارينغ، وسيط الأمم المتحدة، وطلب أيضا التشاور مع القاهرة قبل المضي قدما في إجراء مفاوضات منفصلة. وكان الرفاعي أكثر تشددا وبدا قلقا من أن الملك حسين لم يرد على جوهر ما طرحه ابا ايبان. وقال الرفاعي لأبا ايبان: «كل الأفكار التي طرحتها تعني استسلام العرب وليس التوصل إلى اتفاق». وكان واضحا ان موقف الاردن كان قائما على استعادة أراضي 4 يونيو (حزيران) مع تغييرات طفيفة وعلى أساس متبادل، فضلا عن التأكيد على الوضع العربي، وليس الإسلامي فقط، للقدس، بالإضافة إلى ان أمن إسرائيل يكمن في التوصل إلى تسوية سلمية كاملة وليس طبوغرافية. وكانت آخر كلمات الملك حسين حينها قد أكدت على ضرورة الحصول على موافقة مصرية كافية كي تجرى مفاوضات مفتوحة. بادر هيرزوغ بعد يومين بالترتيب لإجراء لقاء للمتابعة مع الرفاعي. وأكد الرفاعي في اللقاء الثاني على ان موافقة القاهرة أمر حاسم بالنسبة لهم لأنهم مقيدون بقرارات مؤتمر القمة العربية الذي عقد في العاصمة السودانية الخرطوم بعد حرب يونيو (حزيران): لا اعتراف ولا تفاوض ولا تصالح مع إسرائيل (اللاءات الثلاث). خلال الاجتماع التالي للرفاعي مع هيرزوغ في لندن يومي 19 و20 يونيو (حزيران) جرت ترتيبات لقيام الملك حسين بزيارة إلى خليج العقبة في 8 أغسطس (آب) على متن سفينة. إلا ان طائرات تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي أغارت مرتين على معسكرات لحركة «فتح» بالقرب من السلط على الضفة الشرقية وأوقعت خسائر كبيرة وسط المدنيين وأصابت أربع سيارات إسعاف. ووصلت بعد يومين برقية من الدكتور هيربيرت أوضح فيها ان المشاورات قد ألغيت بسبب الأعمال العدائية. وخلال زيارة له إلى لندن، قابل الملك حسين طبيبه وناقش مسألة إجراء لقاء آخر هناك. أوضح الملك حسين في بداية الأمر انه لن يقابل هيرزوغ إلا إذا كان لديه جديد، لكنه عدل عن رأيه فيما بعد، وأبلغ الرفاعي هيرزوغ بأن الملك حسين يريد مقابلته يوم 24 أغسطس الساعة السادسة مساء بمنزل هيربيرت. التقى هيرزوغ والرفاعي مساء ذلك اليوم قرابة منتصف الليل وقرأ هيرزوغ ملاحظاته حول موقف الملك حسين وتسلم تعليقات الرفاعي، وحضر هيربيرت كل تلك اللقاءات. قال الملك حسين ان الهجمات الإسرائيلية، مثل التي استهدفت الكرامة والسلط، لن تحل مشكلة بل ستجعل حركة «فتح» أكثر قوة، وقال في هذه السياق: «هل يعتقد الإسرائيليون انهم من خلال استعمال القوة سيحصلون على قبول من العرب؟». النتيجة العملية التي خرجت بها المناقشات التي جرت في لندن خلال شهري يونيو (حزيران) وأغسطس (آب) تمثلت في القرار الذي اتخذ بعقد لقاءات على مستوى عال في لندن نهاية سبتمبر (أيلول). وعلى الرغم من عدم التوصل إلى نتائج ملموسة من تلك اللقاءات مع الملك حسين، فإنها كانت بالغة الأهمية لدى إسرائيل، ذلك ان ابا ايبان أشار في المجلد الثاني من مذكراته إلى أهمية تلك اللقاءات والسمات الفريدة للملك حسين: «مجرد انعقاد تلك المحادثات أعطى إسرائيل إحساسا بأن النزاعات العربية ـ الإسرائيلية ليست بالضرورة غير قابلة للتسوية والمصالحة. فهناك رجل دولة عربي يتحدر أصله من النبي محمد. قاد بلدا عربيا لفترة طويلة ويعبر عن اعتقاده، ولو على مضض، في ان إسرائيل جزء ثابت من الشرق الأوسط. كان يحرص باستمرار على التعبير عن اعتزازه كعربي، لكنه كان أيضا يحترم انتماءات محاوريه الإسرائيليين. لقاءاتي معه والتمعن في بلاغته وأسلوبه في الكلام واختياره كانت بالنسبة لي ترياقا ضد نظرية دايان المعتمة التي تقول ان النزاع بات مكتوبا للأبد كقانون للعلاقات العربية الإسرائيلية.... الانطباع الذي خرجت به من اللقاءات مع الملك حسين هو انه يتعامل مع محاوريه الإسرائيليين بحد أقصى من الاحترام وحد أدنى من الالتزام». كان الملك حسين صارما باستمرار في صياغة دوره، وكان يعتقد ان لا خيار أمام إسرائيل والعرب سوى التعايش في نهاية الأمر. وكان في بعض الأحيان يفكر في احتمالات مبادرة سلام فردية من جانب الاردن، ولكن فقط في حال نجاحه في عودة حكم العرب في الأراضي المحتلة. ظل شعاره باستمرار ان بوسع إسرائيل الاحتفاظ بالأرض أو السلام ولكن ليس كلاهما معا. وهذا بالطبع لم يكن بعيدا عن ان يصبح إجماعا دوليا، وكان الملك حسين أول زعيم عربي يجعله كذلك. لم يعد هيرزوغ متأكدا من جدوى وقيمة اللقاءات مع الجانب الأردني. ومن أول الأشياء التي قالها هيرزوغ للملك حسين في لقائهما بتاريخ 22 أغسطس (آب) ان لقاءاتهما، من وجهة نظره لم تكن مضيعة للوقت، لكنها لم تسفر عن أي تقدم فيما يبدو. ثمة سؤال يطرح نفسه هنا: لماذا استمر الملك حسين في الاتصالات مع الجانب الإسرائيلي ما دام يدرك بوضوح انه لا يبدو في الأفق شيء ملموس من الجانب الإسرائيلي؟ الإجابة: الخوف والأمل. الخوف من ان تصبح السيطرة في إسرائيل في يد المتطرفين الذين قد يحاولون إطاحة الملك حسين، وربما يحاولون أيضا الاستيلاء على المزيد من الأراضي في الضفة الشرقية لمملكته، مثل الجبال المحيطة بالكرامة. كان الملك حسين يدرك تماما انه ليس لدى العرب خيار عسكري، وكان يشعر أيضا بأنه ليس لدى الإسرائيليين رغبة في السلام، وتوصل إلى نتيجة تتلخص في ان إسرائيل تريد لأسباب دينية وثقافية الاحتفاظ بالأراضي التي احتلتها وتحتاج إلى أراض إضافية بغرض تعزيز موقفها، وكانت (مكافحة الإرهاب) سببا في المزيد من التوسع من جانبها. كان الملك حسين يشعر في ذلك الوقت بقلق إزاء شائعات تحدثت عن محاولة إسرائيلية وشيكة للاستيلاء على أراض على الضفة الشرقية لنهر الاردن كان يستخدمها بعض الفدائيين الفلسطينيين، وذلك الشعور بالقلق دفعه إلى مطالبة السفير الأميركي هاريسون سايمز الحصول على بيان من أعلى سلطة في الحكومة الأميركية توضح فيها موقفها تجاه استقلال وسلامة أراضي الاردن. لم تأبه واشنطن كثيرا بالشائعات التي أثارت قلق الملك حسين، وأكد له الأميركيون مجددا التزامهم بسلامة الاردن، لكنهم رغم ذلك لم ينجحوا في تبديد مخاوف الملك حسين، الذي حاول من خلال الاستمرار في اتصاله مع الإسرائيليين عرقلة وإحباط أي توغل إسرائيلي محتمل يستهدف أراضيه. كان يأمل الملك حسين أيضا في ان تنفذ الولايات المتحدة وعدها في نهاية الأمر وتضغط على إسرائيل بغرض حملها على الانسحاب من الضفة الغربية. وكان في الواقع الشخص الوحيد وسط النخبة الأردنية الذي لم ييأس من دور للولايات المتحدة. اما في مواجهة إسرائيل، فلم يكن في يد الملك حسين أوراق يضغط بها أو شيء ملموس يقدمه بخلاف السلام، لكنه رغم ذلك ظل يحدوه الأمل باستمرار في النجاح نهاية المطاف في إقناع إسرائيل بالتوصل إلى اتفاق سلام مع الاردن على أساس حدود عام 1967. كان الأميركيون على اطلاع بما يجري في المحادثات الثنائية من خلال اسحق رابين، رئيس هيئة الأركان السابق والسفير الإسرائيلي في ذلك الوقت لدى الولايات المتحدة. حدث لرابين تحول مثير للاهتمام من الخيار الفلسطيني إلى ما يسمى بالخيار الأردني. ففي أعقاب حرب يونيو (حزيران) نصح رابين ليفي اشكول بأن الحل الوحيد الممكن بالنسبة للضفة الغربية، من وجهة النظر الأمنية، هو إقامة دويلة فلسطينية. وبنهاية العام رجحت كفة التوصل إلى اتفاق مع الاردن وتحول رابين إلى الخيار الأردني وحاول ان يعمل على دفع هذا الخيار كسفير لدى واشنطن. عومل رابين باحترام بالغ في واشنطن لأنه كان عسكريا متميزا سجل انتصارا حاسما على العرب، على العكس من الأداء الضعيف لجنرالات أميركا في فيتنام. خلال حديث حول قضايا أخرى تتعلق بـ4 يونيو مع عدد من كبار المسؤولين الأميركيين، ألمح رابين إلى مسألة محادثات السلام الأردنية الإسرائيلية. وقال رابين ان عبد الناصر أعطى الملك حسين الضوء الأخضر في هذا الشأن. وقال عبد الناصر في هذا السياق ان الملك حسين لا يستطيع إبرام اتفاق يؤثر على القدس دون موافقة العالم العربي. ولا بد من الإشارة هنا إلى ان لدى إسرائيل معلومات جيدة حول تفكير الملك حسين ومن هم حوله، إلا ان ثمة التزاما بعدم مناقشة هذا الأمر بالتفصيل، لذا كان رابين خاضعا للقيود المفروضة في هذا الجانب. ابلغهم بالطبع بان الملك حسين على استعداد للتوصل إلى اتفاق سلام من خلال مفاوضات سرية ومباشرة تحت غطاء مساعي جارينغ. إلا ان ثمة جدلا داخل إسرائيل حول ما إذا يمكن الاعتماد على الملك حسين. سياسة الحكومة كانت قائمة على استمرار مساعي وجهود جارينغ مع مواصلة محاولة إحراز تقدم سرا مع الملك حسين. توفير الغطاء لهذه المحادثات السرية كان ضروريا إذا أخذنا في الاعتبار الخلافات الأساسية بين الملك حسين وجمال عبد الناصر. إسرائيل كانت تدرك نوع التسوية التي كان يريدها الملك حسين، وكان هناك أمل في التوصل إلى تسوية مع الاردن. لم تعد هناك أحاديث حول إطاحته، ووافق كل الأعضاء الرئيسيين في الحكومة الإسرائيلية على «تكييف كل شيء كي يتماشى مع هذه السياسة». مكجورج بندي، المستشار الخاص للرئيس ليندون جونسون، كان لديه وجهة نظره أيضا حول كيفية تفكير الملك حسين. فقد أعرب بندي عن اعتقاده في ان الملك حسين استعاد بعضا من الثقة التي كان يفتقر إليها خلال صيف عام 1967. أكد أيضا الملك حسين على ضرورة إحراز تقدم باتجاه حل عادل بنهاية العام وأهمية ان يكون هناك شيء ملموس قبل ان يواجه الفدائيين الفلسطينيين بصورة مباشرة. بندي، الذي كان قد عاد لتوه من إسرائيل، التقى الملك حسين وحثه على عدم انتظار الآخرين كي يحلوا له مشكلته والاتجاه بدلا عن ذلك إلى التعامل معها بصورة مباشرة مع شخص مثل موشيه دايان، وزير الدفاع. أبلغ بندي أيضا الملك حسين بتحذير وزير الدفاع دايان من ان هجمات الفدائيين إذا استمرت على إسرائيل، فإنها ربما تضطر لتوجيه ضربة للاردن مرة أخرى، الأمر الذي من المحتمل ان يؤدي إلى المزيد من عمليات النزوح. الملك حسين كان يستخدم كلمة «عادل» على نحو متكرر بنفس الطريقة التي يستخدم بها الإسرائيليون كلمة «سلام». وكان أيضا يكرر لبندي وصف إسرائيل بأن لها ثلاثة وجوه: الوجه المتطرف الذي سعى إلى سقوط الاردن واحتلال إسرائيل للضفة الغربية، والوجه الذي يبدو معقولا ويريد ان يكون هناك كيان فلسطيني، والوجه المعتدل. وقال الملك حسين في ذلك السياق ان الوجه الذي ظل يحاول العثور عليه هو وجه الاعتدال. النزعة المعتدلة للملك حسين ساعدته في كسب أصدقاء ومعجبين داخل إسرائيل مثل غولدا مائير، التي التقته وجها لوجه في باريس عام 1965 عندما كانت وزيرة للخارجية الإسرائيلية في حكومة بن غوريون. وفي أغسطس (آب) 1968 زار ثيودور سورينسين، المستشار السابق للرئيس كينيدي، منطقة الشرق الأوسط، وبواسطة سورينسين بعثت غولدا مائير برسالة إلى الملك حسين جاء فيها: «أتمنى ان تكون جلالتكم على علم بأن إسرائيل أفضل أصدقائك في الشرق الأوسط». وعندما تلقى الملك حسين تلك الرسالة ابتسم وقال: «البعض يظن انني أفضل أصدقاء إسرائيل في الشرق الأوسط».
 
رد: أسد الاردن / قصة ملك

أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة الرابعة) ـ الملك حسين رد على آلون: أريد كل شبر كنت مسؤولا عنه

أشكول كان يسمي إيبان «المغفل الذكي» وأرسل معه آلون صاحب النزعة التوسعية والموقف العدائي من الأردن





لندن: «الشرق الأوسط»
جاءت كلمات الملك حسين واضحة ومباشرة ردا على الخطة التي طرحها آلون إذ قال: «الخطة كانت مرفوضة تماما. وفي واقع الأمر، عرضت خلال فترة المفاوضات والمناقشات إعادة حوالي 90 في المائة من الأراضي، بل وحتى 98 في المائة منها، باستثناء القدس، لكنني لم أقبل. الأمر بالنسبة لي كان إما كل شبر كنت مسؤولا عنه، أو لا شيء. فقد كان ذلك ضد خلفية ما حدث عام 1948 عندما أنقذت الضفة الغربية بكاملها، بما في ذلك المدينة القديمة. جدي دفع حياته ثمنا لمحاولاته التوصل إلى سلام. إذا كان على مسؤوليتي، يجب علي إعادة كل شيء، ليس إلي أنا شخصيا، وإنما لوضع الأراضي تحت رعاية دولية حتى يقرر الشعب ما يجب ان يكون عليه مستقبله».
وتروي الحلقة الرابعة من كتاب أسد الأردن الذي سينزل الى الأسواق قريبا بالانجليزية لمؤلفه آفي شليم المؤرخ البارز والبروفيسور في جامعة اكسفورد العريقة وتنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه المزيد من تفاصيل اللقاء السرية الأردنية ـ الإسرائيلية والخطة التي اقترحها ييغال آلون نائب رئيس الوزراء ووزير العمل، في الحكومة الإسرائيلية وأحد الصقور وقتها الذين يؤمنون بالتوسع ورفض العاهل الأردني لهذه المقترحات.

وسلم الملك حسين ويليام سكرانتون، مبعوث الرئيس ريتشارد نيكسون الخاص إلى الشرق الأوسط، في ديسمبر (كانون الأول) ورقة ضمنها النتائج التي توصل إليها وهي ان اسرائيل ليست جادة في التفاوض ومصممة على ضم مساحات كبيرة من أراضي الضفة الغربية بغرض تحسين وضعها الأمني، كما أكد أيضا انه ليس على استعداد ولا يستطيع التخلي عن القدس الشرقية، وأن الدولة الوحيدة القادرة على ممارسة الضغط على اسرائيل هي الولايات المتحدة. شجعت الولايات المتحدة إسرائيل على تطوير هذه العلاقة الخاصة مع الاردن إلى التوصل إلى تسوية منفصلة مع الملك حسين. وكان إرضاء الرئيس ليندون جونسون، واحدا من الأسباب التي أشار إليها ليفي اشكول في اجتماع لحكومته بهدف تجاوز معارضة إجراء محادثات مع الملك حسين. وكان ليفي اشكول نفسه مصرا بعناد على عدم لقاء الملك حسين بنفسه، لكنه كان مرتاحا لتمثيل ابا ايبان الحكومة الإسرائيلية في تلك المحادثات. كما انه كان ينظر إلى ابا ايبان كمتحدث رسمي أكثر منه صانع سياسة، وكان يطلق عليه «المغفل الذكي» لأنه كان يحسن الحديث، لكنه لم يكن يتمتع بحس بديهي. وكان ابا ايبان في واقع الأمر ينتمي إلى التيار الذي فضل التوصل إلى تسوية مع الملك حسين. ولكن بما ان بضعة أعضاء فقط من زملائه في حكومة ليفي اشكول، كانوا على استعداد لقبول هذا الخيار، بدأ ابا ايبان يؤكد على أهمية القيمة التكتيكية للمحادثات مع الأردن، ولخص ذلك في أن القناة المفتوحة مع الملك حسين، يمكن ان تستغل في تفادي ضغوط واشنطن والأمم المتحدة لحمل إسرائيل على تطبيق القرار 242، مؤكدا على ان مواصلة الاتصال بالملك حسين أمر مهم لأنه «ما دامت القوى العظمى تعتقد ان لدى إسرائيل اتصالات مستقلة، فإن ذلك سيحد من ضغوط جارينغ والولايات المتحدة».

سعيا لإيجاد توازن مضاد لأبا ايبان المعتدل، اقترح هيرزوغ على ليفي اشكول ان يمثل ييغال آلون نائب رئيس الوزراء ووزير العمل، الحكومة الإسرائيلية إلى جانب وزير الخارجية، ابا ايبان. وكان آلون جنرالا سابقا في الجيش الإسرائيلي ومحسوبا على تيار الصقور وأصحاب النزعة التوسعية. وكان إرسال آلون إلى لقاء الملك خطأ فادحا إذا كان الغرض من المحادثات التوصل إلى تسوية، اما إذا كان غرض تلك المحادثات الوصول إلى طريق مسدود، فإن اختيار آلون كان موفقا بالتأكيد. ففي واقع الأمر كان عدائيا تجاه الملك حسين على المستويين الشخصي والسياسي، إذ قال خلال اجتماع للحكومة الإسرائيلية في 7 ابريل (نيسان): «على العموم لسنا مدينين للملك حسين بأي شيء. فهو قد خرق التزامه للولايات المتحدة عشية حرب الأيام الستة بتحريكه دبابات إلى الضفة الغربية. لن أبادر بإطاحة الملك حسين، لكنني لن أتردد في اتخاذ أية إجراءات أراها ضرورية للدفاع عن إسرائيل». ولدهشة زملائه في الحكومة، أردف آلون قائلا: «إذا ظهرت حكومة فلسطينية في الاردن، فلا استبعد احتمال ان تجرؤ على التفاوض معنا أكثر من حكومة الملك حسين». وفي وقت لاحق تقدم آلون للحكومة الإسرائيلية بمقترح خطة سميت باسمه تهدف إلى ضم شريط من الأرض يتراوح عرضه بين 10 و15 كيلومترا بمحاذاة نهر الأردن، فضلا عن أجزاء واسعة من المنطقة الصحراوية حول البحر الميت ومنطقة كبيرة حول القدس، بما في ذلك اللاترون. وكانت تهدف الخطة إلى ضم أقل عدد ممكن من العرب وإقامة مستوطنات وقواعد للجيش الإسرائيلي في هذه المناطق. نادت الخطة أيضا بفتح مفاوضات مع القادة المحليين بصدد جعل الأجزاء المتبقية من الضفة الغربية منطقة حكم ذاتي تكون مرتبطة اقتصاديا بإسرائيل. لكنه عندما فقد الأمل في التوصل إلى اتفاق مع قادة الضفة الغربية، اقترح آلون إعادة تسليم أجزاء من الضفة الغربية لا تحتاجها إسرائيل إلى الأردن. لم يغيّر آلون خارطة يوليو (تموز) 1967، لكنه بدلا عن اقتسام الضفة الغربية مع الفلسطينيين عرض اقتسامها مع الملك حسين. لم يتخذ قرارا بشأن خطة آلون، لكنه تلقى تفويضا بمناقشتها بصورة عامة مع الملك حسين في لقائهما المقبل. انعقد ذلك اللقاء في لندن في 27 سبتمبر (أيلول) 1968، وكان بصحبة الملك حسين مستشاره زيد الرفاعي، وحضر في معية ابا ايبان كل من آلون وهيرزوغ. استهل ايبان اللقاء واصفا إياه بأنه مناسبة تاريخية. وقال ان قد جرى تفويضهم لمناقشة احتمالات التوصل إلى سلام دائم مع الاردن، لكنه لمح إلى انه في حال رفض الملك حسين للمبادئ المطروحة عليه، فإنه سيتعين عليهم البحث عن سبل إلى التوصل إلى تسوية مع الفلسطينيين من دون الأردن. أما آلون فقد وصف اللقاء ذلك اللقاء مع الملك حسين كأسعد لحظة في حياته، وتحدث عن الأخطار التي يشكلها التعاون السوفييتي ـ العربي على النظام الأردني، مشيرا إلى ان التوصل إلى اتفاق مع إسرائيل سيضمن سلامة النظام الأردني في مواجهة أي تدخل خارجي، وعدم استقرار داخلي. أوضح ابا ايبان أيضا ان الهدف هو التحول من حالة الحرب إلى السلام المتبادل مجسدا في اتفاق بين الطرفين، ثم طرح بعد ذلك سلسلة من الأسئلة: هل الملك حسين قادر على السيطرة على «فتح»؟ هل باستطاعة الملك حسين توقيع اتفاق سلام بدون موافقة عبد الناصر. وأشار كل من ايبان وآلون إلى ان الحكومة الإسرائيلية لم تتوصل بعد إلى قرار حول مستقبل الضفة الغربية، وأن الملك حسين إذا كان راغبا في الأفكار التي طرحوها، فإنهم سيسعون إلى الحصول على تخويل من الحكومة الإسرائيلية للتفاوض. أجاب الملك حسين قائلا: «مشاعري صادقة. آمل في ألا نفوت فرصة التوصل إلى سلام. وكي يكون هذا السلام سلاما دائما، يجب ان يكون في المقام الأول سلاما تحترمه وتلتزم به الأطراف المعنية، وإلا لن يكون سلاما دائما. نريد سلاما دائما. نعترف بأنك طرف قوي، وانه بوسعكم استخدام قواتكم لبعض الوقت. وإذا حدث ذلك، فسيكون هناك رابحون وخاسرون. ولكنن بصراحة، إذا أصبحت القوة هي الحل الوحيد للمشكلة، فإن سلام المنطقة، وبالتأكيد سلام العالم، سيتهدده الخطر. ربما تحققون الكثير من الانتصارات، لكنهم لن تستطيعوا خسارة معركة واحدة. إذا تحقق سلام عادل ودائم، فسنربح جميعا. أتمنى ان أساهم خلال ما تبقى من حياتي في تحقيق هذا الهدف. أخيرا، اشعر بالارتياح لسماع موقف الحكومة الإسرائيلية».

حدد ابا ايبان عند ذلك ستة مبادئ ترتكز عليها إسرائيل في التوصل إلى تسوية مع الأردن. وقال آلون من جانبه، انه لا يستطيع ان يؤيد أي اتفاق لا يتضمن تغييرات كبيرة في خارطة الأراضي والحدود الدفاعية لإسرائيل. إسرائيل لا تسعى، كما قال، إلى الحصول على أراض خصبة أو عدد إضافي من السكان، وإنما تسعى إلى تحقيق أمنها، وبدون الأمن لن تكون هناك أية تنازلات، على حد قوله. هنا رد الملك حسين قائلا ان هناك عدة آراء أيضا داخل العالم العربي. مشكلة الملك حسين كانت تكمن في كيفية توضيح الحل لشعبه، وكان يعتقد ان مجلس الأمن يمكن ان يشكل إطارا لحل شامل في المنطقة، علاوة على ان الأمن في نظره لم يكن مسألة أراض، وإنما قضية ثقة بين الدول. إلا ان آلون أعرب عن اختلافه، وقال ان الطبوغرافيا أكثر أهمية من حسن النوايا. واقترح أيضا في إطار ترقية وتطوير الأمن المشترك عقد لقاء بين رئيسي هيئة أركان البلدين. فيما يتعلق بقرار مجلس الأمن، قال ابا ايبان انه ليس هناك خلاف وان مبادئ إسرائيل تتماشى مع القرار. تدخل زيد الرفاعي وأشار إلى ان قرار مجلس الأمن أدان الاستيلاء على الأراضي بالقوة. وجاء رد ايبان على حديث الرفاعي بأن قرار مجلس الأمن تحدث ان الانسحاب من «أراض» وليس من «الأراضي». رد الرفاعي على وجه السرعة قائلا ان أفكار ابا ايبان لا تضيف شيئا إلى ما قيل في لقائهم السابق في مايو (أيار). جاء في السيرة الذاتية لأبا ايبان انه كان من الواضح ان الملك حسين قد رأي انه من الأفضل ان يترك إسرائيل تحت رحمة الانتقادات العالمية بسبب الاستيلاء على الضفة الغربية، بدلا عن تحمل مسؤولية التنازل عن 33 في المائة منها لإسرائيل. وقال أيضا ان الملك حسين اتخذ موقفا مبدئيا بموافقته على اتفاق سلام بين الجانبين يقوم على أساس تغييرات طفيفة على الحدود، كما انه كان معارضا بشدة لاحتفاظ إسرائيل بثلث الضفة الغربية. وفي مذكرة بخط اليد إلى ليفي اشكول، كتب ابا ايبان انه بات من الضروري على إسرائيل ان تركز على الهدف التكتيكي المتعلق بضمان استمرار المحادثات مع الاردن. كتب ايبان أيضا في نفس المذكرة انه سيتأكد من ان واشنطن تعرف ان لإسرائيل اتصالات حقيقية مع حكومة الملك حسين وانهم عرضوا عليه مخرجا مشرّفا من محنته وانه من الضروري ان تكون هناك ضغوط عليه لحمله على إبداء موقف أكثر واقعية وألا يفقد الفرصة. جاء المقترح الإسرائيلي بصورة عامة منتقصا في حق الجانب الأردني ونقيضا لمفهوم الملك حسين حول السلام العادل والمشرّف. مضت 16 شهرا على نهاية الحرب، وكان ذلك أول مقترح ملموس من الجانب الإسرائيلي بشأن التوصل إلى تسوية، وكان مقترحا إشكاليا وغير مرض. إلا ان الأسوأ من كل ذلك انه حتى في حال موافقة الملك حسين، لم يكن هناك ما يشير إلى ما إذا كان الحكومة الإسرائيلية ذات النزعة التوسعية ستوافق من جانبها. على الرغم ان الملك حسين رفض خطة آلون من دون أدنى تردد، اقترح الوزراء الإسرائيليون عقد لقاء آخر خلال فترة اسبوعين لإعطائه فرصة في النظر مجددا إلى موقفه. لم يكن الملك حسين في حاجة إلى اسبوعين، فقد اتصل زيد الرفاعي بهيرزوغ وأجريا ترتيبات بشأن عقد لقاء معه في اليوم التالي. سلم الرفاعي هيرزوغ وثيقة تتضمن ستة مبادئ من جانب الملك حسين ردا على مبادئ ايبان الستة، وتناولت الفقرة الخامسة مسألة الحدود الآمنة وتضمنت ردا واضحا وجليا من جانب الملك حسين على خطة آلون: «الخطة برمتها غير مقبولة لأنها تنتهك السيادة الأردنية. السبيل الوحيد هو تبادل الأرضي على أساس مشترك».

أوضحت الوثيقة مدى الهوة الشاسعة بين الموقفين الإسرائيلي والأردني، وهكذا، فقد كان اللقاء بمثابة ضربة لفكرة التوصل إلى تسوية إسرائيلية ـ أردنية منفصلة في غياب أي دول عربية أخرى.

على الرغم من ان الملك حسين رفض الشروط الإسرائيلية للتوصل إلى تسوية، فإن اللقاءات السرية تواصلت إلى ان تم التوصل إلى اتفاق سلام بين الاردن وإسرائيل في أكتوبر (تشرين الأول) 1994، ولم يتحدث الملك حسين علنا بشأن اللقاءات السرية مع قادة إسرائيليين على مدى العقود الثلاث السابقة إلا بعد التوقيع على ذلك الاتفاق.

عندما ناقش خطة آلون، جاءت كلمات الملك حسين واضحة ومباشرة: «الخطة كانت مرفوضة تماما. وفي واقع الأمر، عرضت خلال فترة المفاوضات والمناقشات إعادة حوالي 90 في المائة من الأراضي، بل وحتى 98 في المائة منها، باستثناء القدس، لكنني لم اقبل. الأمر بالنسبة لي كان إما كل شبر كنت مسؤولا عنه، أو لا شيء. فقد كان ذلك ضد خلفية ما حدث عام 1948 عندما أنقذت الضفة الغربية بكاملها، بما في ذلك المدينة القديمة. جدي دفع حياته ثمنا لمحاولاته التوصل إلى سلام. إذا كان على مسؤوليتي، يجب علي إعادة كل شيء، ليس إلي أنا شخصيا، وإنما لوضع الأراضي تحت رعاية دولية حتى يقرر الشعب ما يجب ان يكون عليه مستقبله».

رأي الجانب الإسرائيلي ان من مصلحته مواصلة الاتصالات السرية على الرغم من رفض الملك حسين الواضح للتسوية بشأن الأراضي. من ضمن الأغراض التي خدمتها الاتصالات السرية التعامل مع المسألة الأمنية، وعلى وجه التحديد الضغط على الملك حسين للجم هجمات الفدائيين ضد إسرائيل انطلاقا من الأراضي الأردنية. أرسل رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي حاييم بار ـ ليف إلى لندن للقاء نظيره الأردني عامر خماش. وتلقى بار ـ ليف تعليمات صارمة من الحكومة الإسرائيلية بتناول الوضع الأمني فقط وعدم الدخول في أية مسائل سياسية. عقد اللقاء في 16 أكتوبر (تشرين الأول) في منزل هيربيرت بحضور الرفاعي وهيرزوغ، وناقش الجنرالان على مدى ساعتين الوضع على الحدود وسبل ووسائل الحد من هجمات الفدائيين والرد الإسرائيلي على أهداف أردنية. جرى لقاء آخر بعد يومين، وانضم الملك حسين بمبادرة شخصية إلى المشاركين الأربعة. طرح بارليف آراءه مجددا حول أمن الحدود، وقال الملك حسين ما طرحه رئيس هيئة أركانه مسبقا انهم يفعلون ما بوسعهم لمنع هجمات الفدائيين وانهم لا يستطيعون وقف هذه الهجمات تماما في غياب تسوية. فالتسوية، كما أوضح الجانب الأردني، ستمكّنهم من اتخاذ إجراءات إضافية ضد الفدائيين. بار ـ ليف قال من جانبه ان الضفة الغربية في وجهة نظره منطقة حيوية لأمن إسرائيل وأن الحدود الطبيعية، من وجهة النظر الأمنية، هي نهر الأردن. وحتى إذا جرى التوصل إلى تسوية مع الأردن، فسيكون هناك خطر من العراق وسورية ومصر. وكان ذلك سببا إضافيا لتأسيس (أمن إسرائيل على الضفة الغربية ونهر الاردن). وناقش هيرزوغ مع الملك حسين آخر التطورات فيما يتعلق بمهمة جارينغز، وشكا من انه على الرغم من وعد الملك حسين بمنحهم مزيدا من الوقت، فإنهم ظلوا يتعرضون لضغوط من جانب جارينغ بشأن قبول قرار الأمم المتحدة رقم 242. وأكد الملك حسين على ان القرار هو الإطار الوحيد لتحقيق تقدم في الوضع، إلا ان هيرزوغ إلى أشار من جانبه إلى ان القرار قابل لمختلف التفسيرات. أكد الجانب الإسرائيلي أيضا على استعداد إسرائيل للتوصل إلى اتفاق سلام، وان خطة آلون هي الحد الأدنى الذي يتطلعون إليه. ورد الجانب الأردني غاضبا بأنه كان يعتقد ان خطة آلون حد أقصى. تواصل الأخذ والرد ورد هيرزوغ قائلا ان الحكومة الإسرائيلية لم تصادق على خطة آلون، وأن ابا ايبان وآلون ينظرون إلى الخطة بوصفها حدا أدنى ويأملان في المزيد. أشار بار ـ ليف إلى ان وجود الجيش الإسرائيلي على طول وادي الاردن بكامله أمر مهم بالنسبة لأمن إسرائيل، ورد الملك حسين قائلا انه يتفهم وجهة النظر الإسرائيلية، ولكن يتعين عليه ان يقنع العالم العربي بأي اتفاق يجري التوصل إليه وانه يستطيع ان يفعل ذلك فقط، إذا كان الاتفاق عادلا. رغم كل ذلك لم يوصد الباب، وأضاف الملك حسين قائلا ان بعض القوى الكبرى تؤيد موقفه وانه ينسق خطواته مع عبد الناصر. كان من الضروري على إسرائيل ان تعلن موقفها بوضوح إزاء تطبيق قرار مجلس الأمن. إلا ان الملك حسين كان في مأزق حاد. فقد كان في حاجة ماسة إلى تصريح إسرائيلي مقنع كي يستطيع ان يقنع شعبه وبقية العالم العربي بفكرة التفاوض. اما إذا لم يحقق تقدما في المفاوضات عبر جارينغ، فإن إفلاس سياسته السابقة سينكشف وستتزايد عليه الضغوط كي يتبنى نهجا أكثر تشددا. كما انه كان في حاجة ماسة أيضا إلى المفاوضات لكي يبرر الإجراءات ضد مجموعات الفدائيين التي كانت تعمل انطلاقا من الاردن. فكل شيء الآن بات يعتمد على إسرائيل. استمر الجانب الإسرائيلي في المماطلة لأسباب من بينها الاختلافات داخل الحكومة، وانعقد لقاء آخر على مستوى عال في 19 نوفمبر (تشرين الثاني) على متن سفينة إسرائيلية في خليج العقبة بالقرب من ايلات. مثل الجانب الأردني الملك حسين وزيد الرفاعي والشريف ناصر بن جميل، فيما مثل الجانب الإسرائيلي ابا ايبان وآلون وهيرزوغ. كان ذلك أول لقاء بين الجانبين الإسرائيلي والأردني يعقد في المنطقة، واستفاد الإسرائيليون من وضعهم كمضيفين وسجلوا المناقشات سرا. تحدث آلون وايبان مطولا، ولكن لم يكن في جعبتهما من جديد، وتحدث الجانب الإسرائيلي مطولا حول خطة آلون، التي وصفها الجانب الأردني مسبقا بأنها «غير مقبولة مطلقا»، فضلا عن ان الحكومة الإسرائيلية لم تصادق عليها. شعر الملك حسين بأن الجانب الإسرائيلي كان يداور، فيما كان هدفه هو التوصل إلى سلام دائم وعادل. وكل ما قاله في ذلك اللقاء تمحور حول قبول قرار مجلس الأمن. أما الفكرة الجديدة الوحيدة التي طرحها خلال النقاش، فقد تلخصت في التخلي عن أراض في الضفة الغربية مقابل سيطرة الاردن على قطاع غزة ومنفذ للبحر، وقال إن ميزة هذا المقترح انه سيضع كل الفلسطينيين تحت مظلة واحدة، إلا ان ممثلي إسرائيل لم يكونوا مفوضين لمناقشة مقترحه. واعترفوا بأن وجود حدود مشتركة بين الاردن وإسرائيل ليس من مصلحتهم في شيء. كما انهم كانوا يدركون ان حكومتهم كانت تعتزم ضم قطاع غزة وان لديها خطة سرية لـ«تشجيع» هجرة اللاجئين الفلسطينيين من هذه المناطق المزدحمة. وبات واضحا ان فكرة الملك حسين لا تلائم هذه الخطط التوسعية. أوضح الملك حسين مجددا، انه لا يمكن التوصل إلى أي اتفاق إذا تضمن ضم إسرائيل لأراض أردنية. وطبقا للشروط المطروحة كان من المستحيل عليه التوصل إلى اتفاق سلام. فالأساس الوحيد للسلام هو تعديل خطوط الهدنة على أساس مشترك. فالأردن قبل بقرار مجلس الأمن 242 وبحق إسرائيل في العيش في سلام وأمن ضمن حدود معترف بها. ولكن في المقابل يتعيّن على إسرائيل قبول مبدأ الانسحاب بدون شروط. لم يثمر ذلك اللقاء عن أي شيء سوى الاتفاق على عقد لقاء آخر في أوروبا خلال الشهر التالي. من الصعب معرفة ما إذا كان الملك حسين أكثر إحباطا، إسرائيل أم الولايات المتحدة. من المؤكد انه كان يشعر بأنه يجب على الولايات المتحدة من أجل نفسها ومن أجل أصدقائها العرب ومن اجل تيار الاعتدال في إسرائيل ان تستخدم نفوذها بهدف التوصل إلى تسوية سلمية. لكنه أكد على ان فشل الولايات المتحدة في لعب دور لتحقيق السلام في الشرق الأوسط يشجع فقط المتطرفين في إسرائيل. لم يفوت الملك حسين أي فرصة في التأكيد على هذه النقاط في لقاءاته مع أي مسؤول أميركي زار الاردن.

فقد سلم الملك حسين ويليام سكرانتون، مبعوث الرئيس ريتشارد نيكسون الخاص إلى الشرق الأوسط، في ديسمبر (كانون الأول) ورقة ضمنّها النتائج التي توصل إليها: اتصالات الأردن مع إسرائيل، المباشرة منها وغير المباشرة، فشلت في تحقيق تقدم باتجاه التوصل إلى تسوية سلمية. وأن إسرائيل، لأي سبب من الأسباب، لم تكن جادة بالفعل في التفاوض من أجل التوصل إلى تسوية مع الاردن، وأن إسرائيل مصممة على ضم مساحات كبيرة من أراضي الضفة الغربية بغرض تحسين وضعها الأمني، كما أكد أيضا انه ليس على استعداد ولا يستطيع التخلي عن القدس الشرقية، وان الشروط التي وضعتها إسرائيل لا يستطيع هو أو أي زعيم عربي آخر قبولها، وانه لا يستطيع فعل أي شيء أكثر مما فعل من أجل التوصل إلى تسوية. وأكد أيضا في الورقة التي سلمها لسكرانتون ان الضغط الخارجي وحده ربما يحمل إسرائيل على الموافقة على شروط معقولة يمكن ان يقبلها العرب، وأن الدولة الوحيدة القادرة على ممارسة هذا القدر من الضغط هي الولايات المتحدة.
 
رد: أسد الاردن / قصة ملك

أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة الخامسة) ـ عام الأزمة .. الشريف ناصر أبلغ الملك حسين بالتفكير في المغادرة

المنظمات الفلسطينية أسست دولة داخل الدولة والجيش الأردني كان على وشك التمرد لو لم يتحرك العاهل الراحل لمواجهتها



لندن: «الشرق الأوسط»
حاصرت الصعوبات الملك حسين من كل حدب وصوب، في عام 1970، ففيما كان يعمل جاهدا لمنع الفدائيين الفلسطينيين من استفزاز وإثارة إسرائيل، كان يجب عليه أيضا لجم الجيش الأردني من تصفية أي حسابات معهم. ووضع غرور الفدائيين الفلسطينيين وعدم انضباطهم الملك حسين في ورطة حقيقية. فإذا استخدم القوة لسحقهم سيثير استياء الفلسطينيين والعالم العربي، وإذا فشل في اتخاذ خطوة ضدهم، فإنه سيفقد احترام الأردنيين وحتى احترام الجيش، الذي يعتبر ركيزة أساسية لنظامه.
وكان شهر يونيو (حزيران) 1970 من أسوأ الفترات التي واجهت الحكم الهاشمي في الاردن. فغالبية المراقبين الأجانب، بمن في ذلك دبلوماسيون أميركيون في عمان، أعربوا عن اعتقادهم في أن سير الأحداث جاء في مصلحة منظمات حرب العصابات الفلسطينية، وأن إزالة الحكم الهاشمي باتت مسألة وقت فقط. حتى ان بعض أعضاء الأسرة المالكة بدأوا يتساءلون عن مدى الفترة الزمنية التي يستطيعون خلالها الصمود أمام هذا المد المتزايد.

وتكشف الحلقة الخامسة من كتاب «أسد الاردن» الذي سينزل الأسواق قريبا بالانجليزية لمؤلفه آفي شليم، المؤرخ البارز والبروفسور في جامعة اكسفورد العريقة، والذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه، الكثير من أسرار ذلك العام العصيب الذي مر فيه الملك حسين بورطة حقيقة حقيقية واضطر الى التضحية باثنين من اقرب أقربائه، الشريف زيد بن شاكر والشريف ناصر بن جميل، بناء على طلب المنظمات الفلسطينية التي اقامت دولة داخل الدولة، وهي كانت تضحية مؤلمة بالنسبة له، فكلاهما يعتبر من أعمدة المؤسسة الحاكمة ومن رموز الحكم الهاشمي في الاردن.

طغى النزاع بين الجيش الأردني والفدائيين على الأحداث التي جرت عام 1970 في الاردن. وكانت النزاعات المتلاحقة بين الجانبين قد أدت في نهاية الأمر إلى اندلاع حرب في سبتمبر (أيلول) من ذلك العام. المواجهة بين الجانبين كانت قصيرة الأمد وعنيفة، إلا ان العملية التي قادت إلى هذه المواجهة كانت شائكة ومعقدة. قوة وهيبة الفدائيين في المنطقة، وعلى وجه الخصوص في الاردن، ازدادت بصورة سريعة غداة معركة الكرامة، وتلقت مجموعات الفدائيين مساعدات من عدة حكومات عربية وتمتعت بتأييد شعبي واسع. واستمرت هجمات الفدائيين على إسرائيل والضفة الغربية المحتلة في إثارة ضربات انتقامية وحشية ضد المدنيين في الضفة الشرقية، إلا ان تلك الضربات زادت من تأييد الفدائيين وليس العكس. كما أن فشل النضال المسلح لتحرير جزء من فلسطين أو الأراضي المحتلة لم يمنع نمو وتزايد حركة المقاومة الفلسطينية، بل على العكس، زاد النضال المسلح ضد العدو الصهيوني من شرعية منظمة التحرير الفلسطينية ومكتب المنظمة من بناء مؤسساتها السياسية الاقتصادية والاجتماعية. سار النضال المسلح وبناء الدولة جنبا إلى جنب كل منهما يعضد الآخر، وتمتعت مجموعات الفدائيين الفلسطينيين داخل المعسكرات باستقلالية إدارية كبيرة وكانت لها إدارتها المالية وكانت تدير الخدمات الخاصة بها. اما خارج المعسكر، فقد كانت تتمتع حركة الفدائيين الفلسطينيين بحرية حركة وحقوق خاصة، فضلا عن ممارسة أفراد هذه المجموعات نفوذا متزايدا على جزء من السكان، وفي بداية عام 1970 أسست حركة المقاومة الفلسطينية، دولة داخل دولة في الاردن. حركة المقاومة لم تكن كيانا واحدا، وإنما مجموعات مختلفة ومنقسمة من منظمات حرب العصابات مجتمعة تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية. المنظمة نفسها لم تكن كيانا مستقلا تماما وإنما نموذجا مصغرا للسياسة العربية تمثل توجهات أيديولوجية مختلفة فضلا عن مصالح الدول التي كانت تدعم مختلف الفصائل الفلسطينية. كانت حركة «فتح» اكبر هذه المجموعات، وكان قائدها، ياسر عرفات، زعيما لمنظمة التحرير الفلسطينية. وفضلا عن كونها الأكبر حجما، كانت حركة «فتح» الأكثر اعتدالا وسط مجموعات المقاومة الفلسطينية. فقد كانت ايديولوجيتها الرئيسية تقوم على أساس عدم التدخل في شؤون الدول العربية. وبالتالي لم تكن قيادة حركة «فتح» راغبة في اتخاذ موقف ضد النظام الأردني. إلا ان التنظيمات الفلسطينية الأخرى، مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، بقيادة جورج حبش، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، لم تراعيا مبدأ عدم التدخل، كما لم تراعيه تنظيمات أخرى ايضا مثل الجناح التابع لحزب البعث السوري والمجموعة التابعة لحزب البعث العراقي.

كانت هذه المجموعات تنظر إلى الملك حسين كـ«رجعي» و«تابع للامبريالية الغربية» و«أداة صهيونية». لذا فإن المواجهة معه لم تكن تعتبر فقط مرغوبة بل ضرورية ايديولوجيا. مع بداية عام 1970 نادى حبش وحواتمة (نايف حواتمة زعيم الجبهة الديمقراطية) علنا بإطاحة الحكم الملكي الأردني وإحلال نظام ثوري محله. كانا يريدان تحويل عمان إلى هانوي عربية، وإعلان ان الطريق إلى تل أبيب يمر عبرها. تزايد سلطة وهيبة حركات المقاومة الفلسطينية صاحبه نوع من الغرور والغطرسة والسلوك الأخرق. على سبيل المثال، كان الفدائيون على اختلاف تنظيماتهم يقودون بصورة مزعجة سيارات الجيب المحملة بالأسلحة في شوارع عمان وكأنهم جيش احتلال، كما كانوا يتجاهلون قواعد حركة المرور، ويحصلون على مساهمات مالية من الأفراد، وفي بعض الأحيان من الأجانب سواء كان في منازلهم أو في الأماكن العامة، فضلا عن انهم لم يسجلوا أو يرخصوا سياراتهم، وكانوا أيضا يرفضون التوقف عن نقاط التفتيش التابعة للجيش الأردني ويقللون من قيمته. ويمكن القول ان مجرد وجودهم في عمان بعيدا عن ميدان المعركة كان يبدو تحديا للنظام الأردني. مأزق الملك حسين لم يخفف منه الضغط من جانب الجيش لمواجهة التحدي الذي بات يشكله الفدائيون. وفي فبراير (شباط) 1970 توجه الملك حسين إلى القاهرة لمقابلة الرئيس جمال عبد الناصر والحصول على تأييده، أو موافقته على الأقل، في اتخاذ سياسة أكثر تشددا في التعامل مع الفدائيين. كان عبد الناصر على استعداد لاستخدام نفوذه لحمل الفدائيين لتخفيف ضغوطهم على النظام الأردني. وغداة عودة الملك حسين من القاهرة أصدرت الحكومة الأردنية لوائح جديدة تنص على عدد من الإجراءات من بينها حمل الفدائيين لبطاقات هوية وترخيص سياراتهم شأنهم شأن غيرهم. اللوائح الجديدة حظرت أيضا حمل السلاح في الأماكن العامة وعقد الاجتماعات وتسيير المظاهرات غير القانونية، وجاء رد فعل الفدائيين حادا وعنيفا واجبروا الملك حسين على التراجع و«تجميد» اللوائح الجديدة. قدم الملك حسين تنازلا آخر تحت ضغوط الفدائيين تمثل في عزل وزير الداخلية المتشدد اللواء محمد رسول الكيلاني.

بدأت الصحف الغربية تنشر في ذلك الوقت تقارير تفيد بأن الملك حسين ربما يتنازل عن العرش في وقت قريب لأنه بدأ يفقد السيطرة على مملكته، إلا ان تلك التقارير كانت قائمة على أساس شائعات وليس حقائق. لم يكن الملك حسين يفكر في التنحي عن العرش، بل كان يستعد للجولة المقبلة التي كان يعتبرها أمرا لا مفر منه. تنازلاته للفدائيين كانت خطوة تكتيكية الغرض منها كسب الوقت وليس الاعتراف بالهزيمة، ويضاف إلى ما سبق انه تمشيا مع سياسة الموازنات التي كان يتبعها، بدأ يسعى لتأييد خارجي لمساعدته في معركته ضد المعارضين الداخليين. وعلى وجه التحديد استعان الملك حسين بالولايات المتحدة وإسرائيل، إلا ان أنباء لجوئه إلى أميركا وإسرائيل لمساعدته ضد رفقائه العرب ستصب في مصلحة أعدائه وستمكنهم من إثبات تهَمِهم له بأنه «تابع للامبريالية الغربية» و«أداة صهيونية»، ولكن لم تكن لديه خيارات أخرى. وفي 17 فبراير وصل نائب رئيس البعثة الدبلوماسية الأميركية في إسرائيل، اوين زورهيلين، رسالة من الملك حسين إلى وزير الخارجية الإسرائيلي ابا ايبان طرح فيها ثلاثة اسئلة: 1. هل إسرائيل موافقة على تحاشي الاستفادة من فرصة خفض القوات الأردنية في مناطق الحدود للتعامل مع العناصر المخربة في الداخل؟ 2. هل يمكن ان توافق إسرائيل على تحاشي الرد على استفزازات الإرهابيين الذين سيحاولون شن هجمات خلال عمليات خفض حجم القوات الأردنية، بغرض جر إسرائيل إلى عمليات انتقامية؟ 3. هل يمكن ان يعتمد الملك حسين على القوات الإسرائيلية في مساعدته في حال اتجاه قوات دول عربية مجاورة إلى مساعدة الإرهابيين الفلسطينيين خلال محاولة الملك حسين إخراجهم من البلاد؟ لم يكن ايبان مندهشا إزاء اختيار الملك حسين إيصال هذه الأسئلة إلى اسرائيل عبر واشنطن، على الرغم من ان لديه وسيلة لطرح الأسئلة وتلقي إجابات عليها بصورة مباشرة. أدرك ابا ايبان أيضا ان الملك حسين لم يكن يسعى إلى الحصول على وعد من إسرائيل فحسب، وإنما أيضا إلى ضمانة أميركية. وفي مناقشة الحكومة حول الأردن كان لدى وزير الدفاع موشي دايان أكبر تحفظات تجاه مساعدة جارهم المحاصر. لم يكن دايان يريد المساعدة ولم يكن مقتنعا في نفس الوقت بأن الملك حسين قادر على حسم الوضع الذي يواجهه. إلا ان هناك غالبية في الحكومة الإسرائيلية كانت تقف إلى جانب اتخاذ خطوة ايجابية. تبعا لذلك، كانت الرسالة التي طُلب من الأميركيين توصيلها إلى الملك كما يلي: 1. لن تحاول إسرائيل استغلال عمليات خفض القوات الأردنية على الحدود بغرض مهاجمة الاردن. 2. في حال حدوث استفزازات من جانب الإرهابيين عبر حدود الأردن فإن إسرائيل سترد بقوة. 3. إسرائيل على استعداد لمناقشة مسألة مساعدة الأردن، إذا دعت الحاجة. حادثة فبراير (شباط) مهدت لتطورات ومسيرة أحداث الشهور السبعة حتى سبتمبر (أيلول) والحرب الأهلية. فقد تعرضت مدينة إربد الأردنية في 3 يونيو (حزيران) 1970 إلى هجوم بالطائرات والمدفعية الإسرائيلية ردا على هجوم شنه الفدائيون على بيت شين، وأسفر الهجوم الإسرائيلي على إربد عن مقتل سبعة مدنيين وجندي واحد وجرح 26 آخرين. وفي نفس اليوم قصف الجيش الأردني طبرية لأول مرة منذ عام 1948، وأدرك الملك حسين، الذي اصدر تعليمات القصف، ان ما يحدث عبارة عن دوامة جديدة من العنف يجب ان تتوقف. لذا فقد اتصل بالإسرائيليين عبر سفارة الولايات المتحدة في عمان بغرض طرح اقتراح فحواه ان إسرائيل إذا توقفت عن الضربات الانتقامية لفترة فإن ذلك سيمكن الاردن من اتخاذ إجراءات صارمة ضد الفدائيين. وجاء في الرسالة: «تفعل حكومة الأردن كل ما في وسعها لمنع الهجمات الصاروخية على إسرائيل. الملك حسين يشعر بأسف عميق للهجمات الصاروخية. الجيش الأردني تلقى تعليمات لإطلاق النار بغرض قتل أي فدائيين يحاولون إطلاق صواريخ، كما تم إبلاغ قادة الفدائيين مساء 3 يونيو (حزيران) أن كل من يخالف الأوامر سيتعرض لإطلاق الرصاص فورا».

اعتقد الأميركيون ان الأردن لا يرغب في زيادة التصعيد، لكنهم يريدون التأكد من طي هذه الصفحة. إربد كانت النقطة الرئيسية، وإذا تعرضت لأي قصف مرة أخرى، أو جددت إسرائيل هجماتها ضد المدنيين، فإن الأردنيين ربما يشعرون بأنه يتوجب عليهم الرد مجددا على الهجمات. بالنظر إلى هذه المؤشرات، حث الأميركيون الحكومة الإسرائيلية على إعطاء الأردن فرصة لالتقاط أنفاسه بغرض السماح بإجراء المزيد من المناقشات سعيا لوقف العنف المتصاعد ولإعلان وقف إطلاق النار مجددا.

قرر الإسرائيليون من جانبهم منح الملك حسين ما يريد. وكان الملك حسين قد عبر عن احتجاجه في السابق بشأن السيطرة على الفدائيين، بيد ان قوة لهجته هذه المرة أثارت اهتمام الجانب الإسرائيلي. يضاف إلى ما سبق ان إسرائيل لم تفرض أي قيد زمني على الهدنة. اما الجانب المهم في نظرهم هذه المرة، فقد تلخص في الانتظار لرؤية ما إذا كانت نواياه ستصبح فاعلة تجاه وقف هجمات الفدائيين. حاصرت الصعوبات الملك حسين من كل حدب وصوب، ففيما كان يعمل جاهدا لمنع الفدائيين من استفزاز وإثارة إسرائيل، كان يجب عليه أيضا لجم الجيش الأردني من تصفية أي حسابات معهم. عقب طرد قوات الدفاع الإسرائيلية الفدائيين من وادي الأردن، انتقلت قوات الفدائيين إلى المدن وفرضت ما يمكن تسميته بالإرهاب، ونهبت قواعد الجيش الأردني الموجودة خارج المدن، إلا ان عائلات كثير من الجنود كانت تقطن المدن. نفد صبر أفراد الجيش الأردني من جراء الممارسات المخالفة للقانون من جانب الفدائيين وبسبب إطلاق يدهم في بلد ليس بلدهم، فضلا عن سوء معاملتهم للمدنيين. وهنا بدأ قادة الجيش الأردني أخذ القانون في يدهم، وبدا واضحا ان الملك حسين إذا فشل في اتخاذ خطوة ضد الفدائيين فإن الجيش سيتمرد ضده لأنه لم يعد في مقدور قادته وأفراده تحمل المزيد من الإذلال من جانب الفدائيين. تحركت كتيبة دبابات من منطقة وادي الاردن من دون ان تتلقى تعليمات بذلك، وتطلب الأمر تدخل الملك حسين والشريف زيد بن شاكر، قائد الفرقة المدرعة الثالثة، لوقف هجوم كانت الكتيبة تعتزم شنه على الفدائيين. تحرك الملك حسين وشاكر لاعتراض الدبابات، ووقف شاكر في الطريق أمام رتل الدبابات واصدر تعليماته لقائد الكتيبة بالعودة إلى القاعدة، ولدى رفض القائد ذلك قال له شاكر انه باسم الملك يأمره بتنفيذ التعليمات. رفض القائد تنفيذ تعليمات العودة مرة أخرى، وهدد بدهس شاكر إذا لم يبتعد عن الطريق. ترجل الملك حسين من السيارة التي كان على متنها وكرر التعليمات للقائد بعودة القوة إلى قاعدتها، وهنا انصاع القائد للتعليمات على مضض. تلك الحوادث تثبت ان الجيش الأردني كان يرغب بشدة في مواجهة الفدائيين، ذلك ان القوات الأردنية لم تعد قادرة على تحمل الإذلال والاعتداءات التي انهالت على الجيش من جانب ضيوفهم الفلسطينيين. وفي مقابلة أجريت في وقت لاحق معه، قال الملك حسين عن تلك الأحداث: «وقعت آلاف الحوادث المخالفة للقانون من جراء مهاجمة السكان. كانت الأوضاع منفلتة في الدولة وواصلت محاولة تهدئة الأمور. توجهت إلى مصر، وناشدت العرب المساعدة بأي طريقة يستطيعون ـ خصوصا ان بعضهم كان يدعم بعض هذه الحركات بطريقة أو بأخرى ـ إلا ان تلك المساعي لم تحقق نجاحا كبيرا. وفي نهاية الأمر شعرت بأنني بدأت افقد السيطرة، كما ان الجيش بدأ يتمرد خلال الشهور الستة التي سبقت الأزمة. اضطررت لقضاء معظم وقتي في التردد على تلك الوحدات التي تركت مواقعها وكانت في طريقها إلى العاصمة أو إلى أجزاء أخرى من الاردن بغرض الحسم ضد من كانوا يهاجمون أسرهم أو يهاجمون الجنود الذين كانوا في عطلات. ظننت ان انقساما سيحدث في صوف الجيش، إلا ان ذلك لم يحدث والحمد الله».

اندلع قتال في 7 يونيو (حزيران) 1970 بين الجيش الأردني والفدائيين في مدينة الزرقا، وتعرض الملك حسين نفسه لمحاولتي اغتيال. ففي 9 يونيو أطلق بعض الفدائيين النار على المقر الرئيسي للاستخبارات في العاصمة عمان وأصر الملك حسين على التوجه إلى موقع مسرح الهجوم، وتعرضت قافلة الملك لإطلاق نار مكثف أسفر عن مقتل أحد حراسه. بعد ذلك تعرض مخيما «الوحدات» و«الحسينية»، وهما اكبر معسكرين للاجئين الفلسطينيين للقصف، واندلع قتال عنيف بين الجيش الأردني والفدائيين استمر ثلاثة أيام. توجه زيد الرفاعي إلى السفارة الأميركية وابلغهم بأن الملك حسين تعرض لمحاولة اغتيال لكنه نجا منها. وقال الرفاعي ان الوضع بات خطرا للغاية وان الملك حسين قد يضطر لسحب بعض قواته من مناطق الحدود. طلب الملك حسين من الأميركيين إبلاغ هذه المعلومات للجانب الإسرائيلي وحثهم على التحلي بأكبر قدر من ضبط النفس في حال وقوع هجمات على الحدود. رد الجانب الإسرائيلي قائلا ان الملك حسين إذا أراد ان يفعل ذلك فلا مانع لديهم. تابع الإسرائيليون تطورات الأحداث عن كثب على الجانب الآخر من الحدود، وأعطى الجنرال أهارون يعريف، مدير الاستخبارات العسكرية، قادة قوات الدفاع الإسرائيلية تقريرا كاملا عن القتال. تبعا لذلك أصدر الملك حسين تعليمات بجلب تعزيزات للمعركة في عمان، حيث يوجد عدد يتراوح بين 1500 و2000 من مقاتلي حركة «فتح» المزودين بصواريخ «كاتيوشا» و«هاون». وعلى الرغم من تفوق الجيش الأردني من جانب القوة البشرية والقوة النارية، فإن يعريف كان يرى ان الملك حسين تراجع، مثلما حدث في مرات سابقة، عن استخدام القوة المتاحة له بأنه لا يريد ان تحدث مذبحة على يده، لا سيما مذبحة تطال المدنيين. وتردد أيضا ان مستشاري الملك كانوا منقسمين في الرأي، فقد حثه بعضهم على المضي قدما وإنهاء المهمة، فيما حذره آخرون من ان إنجاز هذه المهمة سيؤدي إلى وقوع آلاف الضحايا وأن هذا أمر غير مقبول. تراجع الملك حسين وجاءت النتيجة غير حاسمة. فقد أسفر القتال عن وقوع 250 ـ 300 قتيل وحوالي 700 جريح، بعضهم من المدنيين. بعد ثلاثة أيام من القتال أعلن كل من الملك حسين وياسر عرفات شروط وقف إطلاق النار وحثا أتباعهما على العودة إلى حياتهم العادية. ومن السمات الرئيسية لوقف إطلاق النار اتفاق الجانبين على عودة كل طرف إلى قواعده والالتزام بإطلاق سراح السجناء. إلا ان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين رفضت الانصياع لاتفاق وقف إطلاق النار واحتجزت 68 رهينة من الأجانب في فندقين في عمان وهددت بنسف المباني إذا لم تصدر قرارات عزل ضباط بارزين في الجيش الأردني، من ضمنهم الشريف زيد بن شاكر، والشريف ناصر بن جميل، وتسريح وحدة المظلات التابعة للقوات الخاصة الأردنية. الخوف من الخسارة في أوساط الرأي العام أمام الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين دفعت ياسر عرفات إلى الوقوف إلى جانب مطالب الجبهة الشعبية، ورضخ الملك حسين للضغوط واصدر قرارا بعزل كل من الشريف زيد بن شاكر والشريف ناصر بن جميل. وبعد وقت قصير من عزلهما استقال الطلحوني وحكومته، وجرى تشكيل حكومة جديدة برئاسة عبد المنعم الرفاعي، وهو شخص مقبول لدى الجانبين، لكنه سياسي ضعيف. كما ان ستة من وزراء الحكومة الجديدة كانوا من العناصر القومية المؤيدة للفلسطينيين. اما على صعيد الجيش، فقد جرى تعيين منصور حديثة رئيسا لهيئة أركان الجيش، وهو ينتمي إلى جناح معتدل داخل الجيش الأردني أكثر ميلا للتسوية. وكانت تجمع بين الرئيس الجديد لهيئة الأركان وياسر عرفات علاقة جيدة. كما انه من المؤيدين لفتح جبهة ثانية في حرب الاستنزاف ضد إسرائيل والتعاون مع الفدائيين. وطبقا لتقارير الاستخبارات الإسرائيلية، كان منصور حديثة يتمتع بنفوذ كبير في صفوف الجيش الأردني، ذلك ان اثنين من كل ثلاثة من قادة الفرق في الجيش الأردني كانوا من أصدقائه المقربين. ليس ثمة شك في ان الملك حسين خرج من تلك الأزمة وقد ضعفت سلطته وقوته بصورة بالغة. فقد آثر التسوية والتعايش مع حركة المقاومة الفلسطينية، بيد ان ذلك تطلب إجراء تغييرات في سياسته وفي العاملين معه. كما ان التضحية باثنين من اقرب أقربائه، الشريف زيد بن شاكر والشريف ناصر بن جميل، كانت مؤلمة بالنسبة له، فكلاهما يعتبر من أعمدة المؤسسة الحاكمة ومن رموز الحكم الهاشمي في الاردن.

وكان هنري كيسنجر، مستشار شؤون الأمن القومي للرئيس الأميركي الأسبق ريتشارد نيكسون، قد شجع الملك حسين على شن حملة مشددة على الفدائيين. وحول هذا السياق، كتب كيسينجر في مذكراته: «بنهاية صيف عام 1970 كان الملك الشاب والمقتدر والشجاع في ورطة بالغة. فمنظمات حرب العصابات، التي كانت تشعر بالاستياء إزاء مساعيه للتوصل إلى تسوية سياسية مع إسرائيل، شكلت تحديا لجيشه». وأطرى كيسنجر في مذكراته بالملك حسين، إذ كتب: «ظل الملك حسين مؤيدا باستمرار لنهج الاعتدال وقاوم المد المتطرف وتجنب الشعارات الرائجة المناوئة للغرب. الصعوبات التي واجهت الملك حسين كانت نابعة من إحجامه عن إطلاق يد مجموعات حرب العصابات. سقوطه سيؤدي إلى انتشار التطرف في منطقة الشرق الأوسط بكاملها. إسرائيل لن تذعن لتأسيس قواعد لمجموعات حرب العصابات على طول حدودها مع الأردن، واندلاع حرب أخرى في منطقة الشرق الأوسط أمر وارد الحدوث. لذا، فإن الاردن في وجهة نظري يمثل اختبارا لمقدرتها على السيطرة على الأحداث في المنطقة، والرئيس نيكسون يتفق وهذا الرأي».

شهر يونيو 1970 كان من أسوأ الفترات التي واجهت الحكم الهاشمي في الاردن. فغالبية المراقبين الأجانب، بمن في ذلك دبلوماسيون أميركيون في عمان، أعربوا عن اعتقادهم في أن سير الأحداث جاء في مصلحة منظمات حرب العصابات الفلسطينية، وأن إزالة الحكم الهاشمي باتت مسألة وقت فقط. حتى بعض أعضاء الأسرة المالكة بدأوا يتساءلون عن مدى الفترة الزمنية التي يستطيعون خلالها الصمود أمام هذا المد المتزايد. من ضمن هؤلاء الشريف ناصر، الذي توصل إلى خلاصة فحواها انه لم يعد هناك مستقبل للأسرة الهاشمية في الاردن. لذا توجه إلى ابن عمه الملك حسين وأبلغه بأنه بات عليهم التفكير في المغادرة. إلا ان الذين يعرفون الشريف ناصر لا يصدقون انه يمكن ان ينصح بالمغادرة هكذا بكل سهولة. ففي الجيش عرفت عنه الشجاعة وليس التخوف.
 
رد: أسد الاردن / قصة ملك

أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة السادسة) ـ القشة الأخيرة: خطف الطائرات قاد إلى المواجهة

المتطرفون الفلسطينيون شجعوا المتطرفين في الجانب الأردني ونسفوا أي موقف وسط



لندن: «الشرق الأوسط»
لم يكن الملك حسين أو ياسر عرفات يرغبان في خوض معركة شرسة بغرض تسوية مسألة من كان يسيطر على الاردن، فكلاهما كان معتدلا يسعى إلى تثبيت أسس للتعايش، إلا ان كلاهما لم يكن يملك زمام السيطرة على بيته الداخلي. كلاهما عمل جاهدا على تفادي الاستقطاب، إلا ان المتطرفين في الجانب الفلسطيني شجعوا المتطرفين في الجانب الأردني ونسفوا بذلك أي موقف وسط في خضم تلك الأوضاع.
وقد شعر الفدائيون (المنظمات الفلسطينية) بالخيانة من جانب الرئيس المصري جمال عبد الناصر، الذي قبل خطة روجرز، ولكن لم يكن في يدهم ما يفعلونه تجاهه وصبوا جام غضبهم على صديقه في الاردن. وقال عرفات في 15 أغسطس (آب): «قررنا ان نجعل من الاردن مقبرة لكل المتآمرين، وستكون عمان هانوي الثورة». القشة الاخيرة التي قادت الى المواجهة، كانت اختطاف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أربع طائرات غربية تقل عدة مئات من الركاب واجبارها على الهبوط في مهبط مهجور بالقرب من مدينة الزرقاء.

وفي حلقة اليوم من كتاب «أسد الأردن»، الذي تنفرد «الشرق الاوسط» بنشر حلقات منه وسينزل الى الاسواق قريبا لمؤلفه المؤرخ البارز آفي شليم البروفسور في جامعة اكسفورد العريقة، الكثير من اسرار هذه الازمة، وقصة التدخل العسكري السوري في الاردن، واتصالات الملك حسين لتأمين غطاء جوي، ومواقف البريطانيين الذين كانوا يعتقدون ان النظام لن يقوى على البقاء والخلاف بين الخارجية الاميركية والاستخبارات (سي آي ايه) حول الازمة.

رفض الملك حسين نصيحة الشريف ناصر بن جميل، مثلما رفض نصيحة مماثلة إبان أزمة ابريل (نيسان) 1957. التنازل والمنفى كانا في ما يبدو سيان بالنسبة للشريف ناصر، إلا أن الأمر لم يكن كذلك بالنسبة للمك حسين. فالشريف ناصر ينتمي إلى فرع الأسرة الهاشمية، الذي طرد من بغداد عام 1958، والعيش في المنفى بالنسبة لهم كان وضعا مألوفا. اما بالنسبة للملك حسين، فقد ولد ونشأ في الاردن ولم يعان من الشعور بأنه غريب. كما ان إحساسه بالانتماء للأردن وشعبه عزز لديه الشعور القوي بأن واجبه، كهاشمي، ان يحكم ويقود البلاد. وكان مصمما تماما على التمسك بموقفه والمضي قدما والدفاع عن حكمه. ويمكن القول ان التنازل بدا بالنسبة له خيارا سهلا معادلا للجبن والخيانة.

اجتاز الملك حسين في نظر الأمير زيد بن الحسين اختبار الملك الهاشمي بنجاح تام. زيد هو الابن الأصغر للحسين شريف مكة، والوحيد الذي لم يصبح ملكا عقب التمرد العربي ضد الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى. زار الأمير زيد بن الحسين الاردن مطلع يونيو (حزيران) 1970، وكان في ذلك الوقت مقيما في بغداد، واستقبل الملك حسين الأمير زيد، الذي كان في ذلك الوقت في الثانية والسبعين من عمره، في المطار واصطحبه إلى قصر الندوة. اندلع القتال بين الجيش الأردني والفدائيين (المنظمات الفلسطينية) في اليوم التالي لوصول الضيف الملكي، وتعيّن عليه البقاء داخل القصر لفترة عشرة أيام، توفرت له الفرصة خلالها في الوقوف عن كثب على كيفية تعامل الملك حسين مع الجيش والحكومة وترتيبات وقف إطلاق النار مع منظمة التحرير الفلسطينية. تركت تلك التجربة انطباعا ايجابيا لدى الأمير زيد عن الملك الشاب، وهو يحاول معالجة الأوضاع في خضم المشاكل والضغوط والتحديات التي كانت تواجه البلاد خلال تلك الفترة. وابلغ الأمير زيد قبل مغادرته الاردن ابنه رعد بأنه يعتبر الملك حسين العضو الأكثر أصالة واقتدارا وشجاعة في الأسرة الهاشمية وأعظم زعيم وسط ملوك الأسرة الهاشمية. لم يكن أي من الملك حسين أو ياسر عرفات يرغب في خوض معركة شرسة بغرض تسوية مسألة من كان يسيطر على الاردن. فكلاهما كان معتدلا يسعى إلى تثبيت أسس للتعايش، إلا ان كلاهما لم يكن يملك زمام السيطرة على بيته الداخلي. كلاهما عمل جاهدا على تفادي الاستقطاب، إلا ان المتطرفين في الجانب الفلسطيني شجعوا المتطرفين في الجانب الأردني ونسفوا بذلك أي موقف وسط في خضم تلك الأوضاع. وفي 10 يوليو (تموز) 1970 وقّع كل من الملك حسين وياسر عرفات اتفاقا لوقف إطلاق النار اعترف باللجنة المركزية للمقاومة الفلسطينية، وأضفى شرعية على وجود الفدائيين في الاردن. وتعهدت الحكومة الأردنية من جانبها بإلغاء إجراءات الطوارئ التي تبنتها خلال الأزمة، فيما التزم الفدائيون من جانبهم بالسيطرة على أعضاء المنظمات الفلسطينية، وجرى تشكيل لجنة مشتركة لتطبيق الاتفاق. إلا ان النزاع بين الجانبين برز مجددا اثر الإعلان عن مبادرة دبلوماسية أميركية جديدة للتوصل إلى سلام بين الدول العربية وإسرائيل، إذ اعلنت «خطة روجرز» الثانية التي نادت بوقف لإطلاق النار وتهدئة الأوضاع على طول قناة السويس وتفعيل مساعي غونار جارينغ مجددا لحمل طرفي النزاع على التوصل إلى اتفاق سلام على أساس قرار مجلس الأمن رقم 242. كان الملك حسين مؤيدا لخطة روجرز الثانية، لكنه كان في حاجة إلى توفيق خطواته مع عبد الناصر (الرئيس المصري)، الذي كان تأييده أمرا ضروريا في النزاع الذي كان يعتمل داخل الاردن مع الفدائيين. وفي 24 يوليو (تموز) قبلت الحكومة المصرية المبادرة الأميركية الجديدة وأعلن الاردن بعد يومين من ذلك التاريخ قبوله له، وكتب الملك حسين برقية إلى عبد الناصر جاء فيها: «ما تقبلونه نقبله، وما ترفضونه نرفضه». إلا ان عرفات من جانبه رفض المقترحات الأميركية، لكنه تحاشى شن هجوم شخصي على عبد الناصر أو الملك حسين. اما اللجنة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، فقد أدانت المقترحات ووصفتها بأنها مخطط يهدف إلى تصفية المقاومة الفلسطينية. هاجمت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين عبد الناصر والملك حسين بصورة مباشرة وبلهجة قوية ونظمتا مظاهرات سلمية ضد الخطة. قبلت الحكومة الإسرائيلية خطة روجرز الثانية، ولكن بعد ان انسحب مناحيم بيغن ورفاقه في حزب جاحل اليميني احتجاجا على ما اعتبروه مخططا لإخراج إسرائيل من الضفة الغربية. شعر الفدائيون بالخيانة من جانب عبد الناصر، ولكن لم يكن في يدهم ما يفعلونه تجاه ذلك، لذا صب الفدائيون جام غضبهم على صديقه في الاردن. وقال عرفات في 15 أغسطس (آب) قررنا ان نجعل من الاردن مقبرة لكل المتآمرين، وستكون عمان هانوي الثورة». شأن كل الحروب الأهلية، لم تكن الحرب الأهلية في الاردن استثناء في التعقيد والتشابك وتداخل الأمور مع بعضها بعضا. كان للجيش الأردني تفوق واضح في العدد والعتاد مقارنة بالفدائيين. فقد كان يتشكل من قوات جيدة التدريب والتجهيز قوامها 56000 جندي وضابط في مواجهة 15000 من أفراد ميليشيات فلسطينية مزودين بأسلحة خفيفة وتم تدريبهم على عجل، إلا ان وجود آلاف الفلسطينيين في صفوف الجيش الأردني كان مصدر خطر لحدوث انقسام في أوساط الجيش واحتمال ترك بعض القادة الفلسطينيين صفوف الجيش الأردني إذا تلقوا تعليمات بإطلاق النار على الفدائيين الفلسطينيين. وعلى الجانب الآخر، هناك عدد من مجموعات حرب العصابات المنفصلة والمنقسمة، التي تدعمها دول عربية منافسة، وبصورة عامة لم تكن المسألة مواجهة مباشرة بين الجيش الأردني والفدائيين، بقدر ما كانت حربا أهلية عربية داخلية يتلقى الفدائيون الدعم فيها من كل من سورية والعراق والجزائر وليبيا ضد الحكم الملكي الأردني، وتقف فيها مصر موقفا وسطا غير مؤكد. كان يدرك الملك حسين ان تحت تصرفه قوة عسكرية تمكنه من سحق الفدائيين، إلا انه كان من الصعب التكهن بالنتيجة النهائية لمواجهة يتلقى فيها الفدائيون دعما خارجيا. وبما ان الكثير من الاحتمالات لم تكن في صالحه، فقد كان احتمالا واردا ان ينتهي إلى الخسارة في نهاية الأمر إذا لم يتلق هو أيضا دعما خارجيا. وفي ظل تلك الأوضاع كان مصدر الدعم الوحيد أمامه الولايات المتحدة وإسرائيل. استهل الفدائيون المواجهة في 1 سبتمبر (أيلول) 1970 عندما تعرض موكب للملك حسين في طريقه إلى المطار لإطلاق نار مكثف، وكانت تلك هي المرة الثانية التي يتعرض فيها العاهل الأردني للاغتيال خلال فترة ثلاثة أشهر. وأشعلت تلك الحادثة القتال بين القوات الموالية للملك حسين والفدائيين في عدة مناطق في العاصمة عمان. أرسلت الحكومة العراقية إشارة إلى الاردن أوضحت فيها ان القصف الأردني إذا لم يتوقف فإنها «لن تتمكن من وقف أفراد القوات العراقية من التدخل لصالح الفدائيين. وكانت القوات العراقية المؤلفة من 17000 جندي وضابط مرابطة في الأردن منذ حرب يونيو (حزيران) 1967. وفي وقت لاحق من نفس اليوم توجه زيد الرفاعي، الذي كان وقتها رئيسا للديوان الملكي، إلى السفارة الأميركية في عمان، وأبلغ مسؤوليها بالتحذير العراقي وأعرب عن أمله في تلقي الاردن دعما أميركيا. طلب الرفاعي أيضا معرفة ما إذا كان لدى السفارة الأميركية أي فكرة حول رد إسرائيل المحتمل في حال تحرك العراق. جدير بالذكر ان الرفاعي كان طالبا لهنري كيسينغر في جامعة هارفارد، وكان من مؤيدي وجهة نظر لكيسينغر تتلخص في أن العلاقات الدولية أمر يتصل بالقوة ومصالح الدول أكثر منها بالمشاعر والأخلاقيات. إلا ان الجانب الأميركي واجه صعوبة في الإجابة على تساؤلات الرفاعي بسبب خلاف جدي في الرأي بين وزارة الخارجية الأميركية من جهة ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والبيت الأبيض من الجهة الأخرى. فوجهة نظر وزارة الخارجية الأميركية كانت تتلخص في أن النظام الملكي الأردني لن يصمد وأن الفدائيين سيفرضون سيطرتهم، وبالتالي فإن أفضل سياسة هي عدم المراهنة عليه بصورة كاملة وانه من الأفضل فتح خطوط اتصال بالمعارضة. كانت تلك في واقع الأمر وجهة نظر السفير هاري سيمز، الذي كان متعاطفا مع الفلسطينيين. وبتنصت أجهزة الأمن على هاتفه تبيّن انه كان على اتصال ببعض قادة الفدائيين، واعتبرته السلطات الأردنية شخصا غير مرغوب فيه وجرى استدعاؤه للولايات المتحدة. افترض كيسينغر ان إسرائيل لن تقف متفرجة في حال تحرك القوات العراقية المرابطة في الاردن باتجاه حدودها في حال احتلال الفدائيين منطقة وادي الأردن، كما انه أدرك ان انضمام قوات إسرائيلية إلى جانب الملك حسين في هذا النزاع ليس بالأمر العادي، وكتب في هذا السياق: «في إطار دفاعه عن استقلاله السياسي، ليس للملك حسين دافع في نسف موقفه الأخلاقي في العالم العربي». كما جاء رد القائم بالأعمال الأميركي في سفارة الولايات المتحدة في عمان على استفسارات الاردن المتكررة حول النوايا الإسرائيلية بأنه لا يستطيع ان يتخيل قبول الاردن مساعدة من عدوتها إسرائيل ضد دولة عربية.

خلال انتظار الاردن استجابة من حلفائه تعرضت سلطة الملك حسين لتحد خطير، عندما اختطفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أربع طائرات غربية تقل عدة مئات من الركاب، وأجبرتها على الهبوط في «دوسونز فيلد»، وهو مهبط مهجور بالقرب من مدينة الزرقاء. عرض الخاطفون إطلاق سراح الرهائن باستثناء من يحملون جنسيات إسرائيلية أو إسرائيلية ـ أميركية مزدوجة مقابل إطلاق معتقلين فلسطينيين في سجون سويسرية وألمانية وبريطانية. وفي 14 سبتمبر (أيلول) ناشدت صحيفة كانت تصدرها حركة فتح بالدخول في إضراب عام في الأردن وإقامة سلطة وطنية في البلاد تعزل «العناصر الحاقدة والعملاء من الدولة والجيش وأجهزة الأمن». وفي اليوم التالي استولى الفدائيون على مدينة اربد وأعلنوها منطقة محررة تحت حكومة شعبية. بدأ المجتمع الدولي يشك في مقدرة الملك حسين على حكم مملكته. كما بدأت تشك أيضا في اعداد متزايدة من قوات البدو الموالية له. اختطاف الطائرات كان بالنسبة للملك حسين بمثابة القشة الأخيرة. فمنذ بداية أزمة الاختطاف ظل يخضع لضغوط متواصلة من جانب الجيش ومستشاريه المقربين ومن اخويه محمد وحسن كي يتخذ خطوات لتعزيز سلطته. الجيش كان على حافة التمرد، وسيطر المتشددون في أوساطه على الأمور ولم يعد ممكنا حملهم على المزيد من ضبط النفس. وفي قمة تلك الأزمة استقال رئيس هيئة أركان الجيش الأردني، منصور حديثة، وهو معروف بتأييده للفلسطينيين، ليحل محله المشير حابس المجالي، الذي استدعي من التقاعد. بعض المراقبين كان يعتقد بان الملك حسين فقد أعصابه خلال الأزمة، إلا ان التفسير الأرجح هو انه آثر عدم اتخاذ أي خطوة عنيفة وقاسية لأنه لم يكن يرغب في التأثير سلبا على موقفه كملك لجميع الأردنيين. فهو صبور بطبعه ويدرك جيدا أهمية التوقيت. ويمكن بصورة عامة تحديد ثلاث مراحل في سياسة الملك حسين في تعامله مع منظمة التحرير الفلسطينية عام 1970: التصالح ثم الاحتواء ثم المواجهة. كان يريد العاهل الأردني ان يدرك شعبه جيدا انه فعل كل ما لديه لتجنب نزيف الدم. وكانت عمليات خطف الطائرات في ذلك الوقت قد أحدثت تحولا في اتجاهات الرأي العام، في نهاية المطاف لم يكن في صالح الفدائيين داخل الأردن وخارجه. استدعي الملك حسين أقرب مستشاريه إلى اجتماع طارئ، وكان من بين المدعوين وصفي التل وزيد الرفاعي والشريف زيد بن شاكر وحابس المجالي، وجميع هؤلاء من الذين ظلوا يحثون الملك حسين على مدى فترة على شن حملة مشددة على الفدائيين. وقال العسكريون في ذلك الاجتماع ان عملية إخراج الفدائيين من المدن الرئيسية ربما تستغرق يومين أو ثلاثة. قبل اصدار تعليمات للجيش بالتحرك اتخذ الملك حسين قرارا بعزل الحكومة المدنية وتعيين حكومة عسكرية برئاسة اللواء محمد داؤود، وهو اصلا فلسطيني، لكنه من الموالين للملك حسين ومن المؤيدين لاتخاذ خطوة صارمة دفاعا عن النظام. وكان الملك حسين يفضل النظر إلى المواجهة المحتملة ليس على اعتبار كونها حربا بين الأردنيين والفلسطينيين، وإنما صراع بين قوى القانون والنظام وقوى الفوضى. بدأت الحرب الأهلية في ساعة مبكرة من صباح يوم 17 سبتمبر (أيلول). دخل اللواء 60 المدرع العاصمة عمان من اتجاهات مختلفة وبدأ في قصف معسكري الوحدات والحسيني للاجئين الفلسطينيين، حيث المقر الرئيسي للفدائيين الفلسطينيين، وكان الفدائيون على استعداد جيد وابدوا مقاومة ضارية. لم تقتصر عمليات القصف المتواصل بالدبابات والمدفعية والهاون على معاقل الفدائيين فحسب، بل اشتملت على مراكز يقطنها مدنيون فلسطينيون داخل وخارج العاصمة عمان. تواصل القتال المكثف من دون توقف على مدى الأيام العشرة التالية، وظل الجيش الأردني في نفس الوقت يحاصر ويقصف مدنا أخرى يسيطر عليها الفدائيون، مثل اربد وجرش والسلط والزرقاء، لكنه لم يحاول دخولها. لم يكن هناك قتال من منزل إلى منزل ومن شارع إلى آخر، مثلما هو الحال في العاصمة عمان، وإنما سويت الكثير من أبنية الشقق السكنية بالأرض، وأسفر الدمار عن وقوع عدد كبير من الضحايا، وكان عدد القتلى، طبقا لإحصائيات منظمة التحرير الفلسطينية 3400 خلال الأيام العشرة الأولى من القتال. ويلاحظ عدم دقة تقديرات العسكريين الأردنيين المبكرة التي قالوا فيها ان عملية إخراج الفدائيين من المدن الأردنية تحتاج إلى يومين أو ثلاثة أيام. ومع استمرار القتال زادت ضغوط القادة العرب على الملك حسين لحمله على التوصل إلى تسوية مع الفدائيين. التدخل الخارجي الذي كانت تتخوف منه الاردن أصبح واقعا عندما عبرت قوة سورية مدرعة صغيرة الحدود الأردنية بالقرب من الرمثاء باتجاه مدينة اربد، التي كانت تحت سيطرة الفدائيين، تبعه توغل آخر أكبر حجما في وقت لاحق من نفس اليوم. لم تتضح دوافع التوغل السوري ولم يصدر بيان بشأنه، إلا ان كل المؤشرات كانت تدل على ان القيادة السورية كانت تهدف إلى مساعدة الفدائيين في إطاحة الملك حسين. ولكن حتى إذا كان ذلك هو هدف القيادة السورية، لم يتضح أيضا السبب وراء حذر التدخل السوري وحصره ضمن دائرة محددة. إلا ان التفسير الأرجح هو ان القادة السوريين كانوا يريدون حماية الفلسطينيين من حدوث مذبحة، وذلك من خلال تأمين ملاذ لهم شمال الأردن يمكنهم منه التفاوض مع الملك حسين. دعا الملك حسين إلى اجتماع طارئ مساء ذلك اليوم كان الغرض منه الحصول على موافقة الحكومة الأردنية الجديدة، التي لم يتعد عمرها ثلاثة أيام، على طلب مساعدة خارجية إذا دعت الضرورة. غالبية وزراء تلك الحكومة كانوا من العسكريين، وكان الملك حسين قائدهم العام، لذا كان الاكثر اثارة للدهشة ان الملك اختار ان يستشيرهم بدلا من ان يصدر أوامر. تركز حديث الملك حسين إلى حكومته في ذلك الاجتماع الطارئ في ان قوات سورية دخلت الاردن وتتقدم باتجاه اربد، على الرغم من تصدي القوات الأردنية لها، وانه كخطوة احترازية ربما تحتاج البلاد إلى طلب مساعدة من أصدقاء، وانه يريد منهم منحه تفويضا لطلب هذا المساعدة إذا دعا الأمر. لاحظ الملك حسين نوعا من عدم الشعور بالارتياح على وجوه وزرائه وقال لهم انه أراد فقط طرح الفكرة عليهم على ان يناقشوها ويبلغوه برأيهم عندما يتوصلون إلى قرار بشأنها، وغادر غرفة الاجتماعات. برزت مواقف متباينة إزاء مقترح الملك حسين. ففريق من الوزراء كان يرى ان القضية مسألة عربية داخلية، وعارضوا بشدة طلب مساعدة خارجية، فيما كان يرى فريق ثان ان الأردن يخوض صراعا من أجل البقاء ورأوا تبعا لذلك ان لا غضاضة في طلب مساعدة من دولة صديقة، على ان تكون الولايات المتحدة أو بريطانيا وليست إسرائيل. لم يساور أي من أفراد الفريقين شك في ان (الدولة الصديقة) المذكورة من المحتمل ان تكون إسرائيل. وفي نهاية النقاش غلب رأي الفريق الثاني ومنح الملك حسين التفويض الذي طلبه. تقدم الملك حسين بأول طلب للمساعدة إلى السفارة البريطانية، بسبب تعذر الاتصال بالسفارة الأميركية، وطلب على وجه التحديد «تدخلا جويا من إسرائيل أو غيرها» ضد القوات السورية، وطلب من الحكومة البريطانية النظر في هذا الطلب وتوصيله إلى إسرائيل. قوبل الطلب بمعارضة بالإجماع من جانب بريطانيا، ذلك ان خبراء الخارجية البريطانية كانوا يعتقدون ان الفلسطينيين سيكسبون الصراع في نهاية المطاف، وأن أي تدخل من جانب بريطانيا لإنقاذ عرش الملك حسين سيلحق ضررا بمصالحها في العالم العربي، وسيقابل باستياء واسع من جانب الدول العربية، فضلا عن وجهة نظر طرحت بصورة واضحة ومباشرة، تلخصت في ان «الاردن دولة غير قابلة للبقاء والاستمرار». رفضت الحكومة البريطانية فكرة التدخل العسكري في الاردن واكتفت بإبلاغ الرسالة إلى الجانب الأميركي، وتركت أمر إبلاغ الرسالة إلى إسرائيل لتقدير الجانب الأميركي. عقب الاتصال بالسفير البريطاني أجرى الملك حسين مباشرة اتصالا بالسفير الأميركي، دين براون، الذي كان قد وصل إلى الاردن إبان أزمة الرهائن ووصل إلى القصر الملكي على متن مركبة مصفحة لتقديم أوراق اعتماده. وتقدم الملك حسين للسفير الأميركي بطلب لتنفيذ ضربات جوية وغطاء جوي «من أي طرف»، لكنه لم يذكر اسم إسرائيل على وجه التحديد، غير ان مضمون طلبه أرسل إلى ممثل إسرائيل في واشنطن. نيكسون وكيسينغر كانا ينظران إلى دخول القوات السورية الاردن كونه تحديا سوفياتيا وان السوفيات يدفعون السوريين، والسوريون بدورهم يدفعون الفلسطينيين. كان نيكسون يعتقد أيضا ان الكرملين هو الذي دبر الأزمة الأردنية بغرض تشكيل تحد أمام مصداقية الولايات المتحدة في العالم الثالث. مضى نيكسون وكيسينغر قدما في الاستجابة بقوة لطلب الملك حسين المساعدة، وصادق نيسكون على كل توصيات كيسينغر بشأن إعادة نشر قوات أميركية، وصدرت بالفعل التعليمات بوضع الفرقة 82 الأميركية المحمولة جوا على اهبة الاستعداد، كما صدرت تعليمات أيضا بتوجه الأسطول السادس باتجاه منطقة النزاع شرق المتوسط. وكان كيسينغر يفضل تدخلا عسكريا إسرائيليا ضد القوات السورية مع تأهب الولايات المتحدة لمنع أي تدخل سوفياتي ضد العمليات الإسرائيلية، إلا ان نيكسون لم يكن ميالا إلى الاعتماد على القوات الإسرائيلية وكان يريد ان تستخدم القوات الأميركية فقط إذا باتت المواجهة خيارا لا بد منه. في مساء نفس اليوم تلقى نيكسون رسالة عاجلة من الملك حسين عكست قلقا بالغا من جانب الملك حسين وحملت نيكسون على العدول عن رأيه فيما يتعلق بتدخل القوات الإسرائيلية. فقد ابلغ الملك حسين نيكسون في تلك الرسالة بأن القوات السورية احتلت مدينة اربد وان قلقا وانزعاجا قد بدأ وسط القوات الأردنية في العاصمة عمان. جاء في الرسالة أيضا ان توجيه ضربات جوية للقوات الغازية السورية بات أمرا لا بد منه بهدف إنقاذ البلاد وانه ربما يطلب عاجلا قوات أرضية أيضا. كما طلب أيضا من الأميركيين إبلاغ بريطانيا بمحنته. وفي مساء 21 سبتمبر (أيلول) 1970 تلقى الملك حسين رسالة من آلون، الذي كان في ذلك الوقت رئيس وزراء مكلفا، سعى من خلالها إلى طمأنة جاره إلى ان إسرائيل لن تستغل الصعوبات التي يعاني منها على الصعيد الداخلي، وان إسرائيل على استعداد لمساعدته ضد اي واحد من أعدائه العرب. وبعد حوالي ساعة تقريبا رد الملك حسين على آلون شاكرا له اهتمامه، ومؤكدا له ان الوضع لا يزال خطرا للغاية في الشمال وان حدوث تطورات أمر وارد، كما أبلغه أيضا ان ذلك سيتطلب خطوة فورية. أبلغ الملك حسين آلون في نفس الرسالة انه كان يود ان يكون اللقاء شخصيا إلا ان ذلك غير ممكن في تلك الظروف، لكنه أعرب عن أمله في ترتيب لقاء قريب. ويمكن القول ان رد الملك حسين لآلون عكس ارتياحه لعودة الاتصال المباشر «عبر النهر» ورغبته في الإبقاء على كل الاحتمالات مفتوحة. جزء من المشكلة كان يكمن في ان الملك حسين ظل يعدل عن رأيه باستمرار خلال ذلك اليوم بشأن المساعدة التي كان يحتاجها الجيش الأردني. ففي الصباح طلب تنفيذ ضربات جوية عاجلة لوقف تقدم المدرعات السورية، وفي رسالة ثانية بدا منزعجا وقلقا وأشار إلى انه ربما يطلب مساعدة في شكل قوات أرضية أيضا. شهد يوم 22 سبتمبر (أيلول) تحولا كاملا في الوضع. فقد اصدر الملك حسين تعليمات لقواته الجوية بشن غارات على مواقع القوات السورية شمال الاردن. وبفعل الهجوم الجوي والبري تكبدت القوات السورية خسائر كبيرة، ودلت مؤشرات مبكرة على ان القوات السورية بدأت تستعد للانسحاب من اربد والمنطقة المحيطة بها وبدأت تنسحب بالفعل عبر الحدود بعد ان خسرت 120 دبابة وحوالي 600 قتيل. كما ان الانسحاب السوري مكّن الجيش الأردني من شن هجوم شامل على الفدائيين وإخراجهم من المدن ومن معاقلهم الرئيسية. وقعت خسائر كبيرة في صفوف الفلسطينيين والقي القبض على بعض قادتهم، إلا ان 300 جندي وضابط انشقوا عن الجيش الأردني من بينهم قائد لواء للمشاة. النجاح الذي حققه الجيش الأردني في ميدان المعركة جعل الملك حسين مترددا مرة أخرى تجاه طلبه مساندة إسرائيلية ضد سورية. الإسرائيليون كانوا على استعداد لتنفيذ عمليات أرضية ولكن داخل حدود الاردن فقط، وليس داخل الأراضي السورية، إلا ان المساعدة الإسرائيلية لم تعد مطلوبة. وصل الملك حسين إلى القاهرة في 26 سبتمبر للمشاركة في القمة العربية وسط استقبال عدائي من رؤساء وقادة الدول العربية ولقاء بارد مع عرفات، إلا أنهما وقّعا اتفاقا في اليوم الثاني بحضور عبد الناصر الذي لعب دور الوسيط، ونص اتفاق القاهرة على وقف فوري لإطلاق النار في كل أنحاء الاردن وسحب الجيش الأردني وقوات المقاومة الفلسطينية من كل المدن في مساء نفس اليوم، وإطلاق سراح كل المعتقلين وتشكيل لجنة عربية لمراقبة تنفيذ الاتفاق الذي جرى التوصل إليه. أزمة سبتمبر 1970 بالنسبة للملك حسين ترتبت عليها عواقب وأفرزت دروسا أيضا. فمن ناحية، سلطت الأزمة الضوء على عزلة الأردن في العالم العربي واعتماده على الدعم الغربي والإسرائيلي. الدول العربية المنتجة للنفط قطعت دعمها للأردن عقب قمع الفدائيين، ولكن من الناحية الأخرى، أثارت شجاعة وحسم الملك حسين في الدفاع عن حكمه في مواجهة التحدي الفلسطيني ـ السوري إعجاب القوى الغربية وإسرائيل.

* غدا : حرب اكتوبر: السادات قال للرفاعي أدرك أنني لست طرزان
 
رد: أسد الاردن / قصة ملك

أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة السابعة) - حرب أكتوبر.. السادات قال للرفاعي «أدرك أنني لست طرزان»

الملك فيصل طلب من الملك حسين السماح للواء السعودي المرابط في الأردن بالانتقال إلى سورية في حرب 1973



لندن «الشرق الأوسط»
التعنت الدبلوماسي الإسرائيلي والاستعدادات المصرية ـ السورية لشن حرب وضعت الملك حسين في وضع صعب. فهو لا يريد خطأ حرب يونيو (حزيران) 1967، عندما استدرج إلى حرب لم يكن على استعداد لخوضها، كما ان المشاركة في حرب أخرى كانت تتطلب منه بالضرورة الاتصال مع قادة دول المواجهة الأخرى، في وقت كانت مصر وسورية قد قطعتا علاقاتهما الدبلوماسية مع الأردن. وفي مطلع ديسمبر (كانون الأول) 1972 أرسل الملك حسين زيد الرفاعي في مهمة سرية للقاء الرئيس أنور السادات في القاهرة، حيث استمر اجتماعهما لمدة ست ساعات، وكان السادات صريحا إذ قال مخاطبا الرفاعي: «أدرك انني لست طرزان. أعرف جيدا مقدراتي. أنا لا أجيد الحرب الخاطفة. الإسرائيليون يجيدون الحرب الخاطفة. سأخوض حربا بهدف إعادة تنشيط الوضع السياسي وليس التحرير العسكري. سأشن حربا محدودة أعبر فيها قناة السويس واؤمن فيها موقعا محصنا وأتوقف، ثم أطلب من مجلس الأمن المناشدة بوقف إطلاق النار».
وفي حلقة اليوم من كتاب «أسد الأردن» الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه، بالاتفاق مع الدار الناشرة «بنغوين»، ومع المؤلف آفي شليم البروفسور في جامعة أوكسفورد، ترد الكثير من الأسرار عن الاجتماعات التي سبقت حرب أكتوبر.

عُلق كل النشاط الدبلوماسي الرامي لحل النزاع العربي ـ الإسرائيلي خلال النصف الثاني من عام 1972. فإسرائيل لم تكن لديها رغبة في التفاوض مع أي من جيرانها العرب، ذلك ان الهدف الأساسي لسياستها كان قائما على أساس الإبقاء على الوضع الراهن، في ما يتعلق بالأراضي على كل الجبهات، وعدم تقديم أي تنازلات من أجل السلام. ارتكز ذلك الموقف في الأساس على افتراض أن الوضع الذي كان قائما آنذاك يمكن الاستمرار فيه إلى أجل غير مسمى، لأن القوة العسكرية الإسرائيلية كانت قادرة على ردع العرب ومنعهم من خوض أي حرب. كانت مصر، بوصفها أكبر وأقوى الدول العربية نفوذا، هدفا لاستراتيجية الاستنزاف الإسرائيلية. الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون وهنري كيسنجر، الذي حل محل ويليام روجرز وزيرا للخارجية، توقفا عن مساعي التوسط بين الدول العربية وإسرائيل، وتبنيا اعتقاد إسرائيل في ان حالة الجمود في الشرق الأوسط تخدم مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل على حد سواء، ولا تصب بأية حال في مصلحة الاتحاد السوفياتي وحلفائه العرب. حتى تجاه الاردن لم يبد القادة الإسرائيليون أي مرونة دبلوماسية أو رغبة في التوصل إلى اتفاق سلام. وتحت تأثير موشيه دايان واصلت الحكومة الإسرائيلية، التي كان يقودها حزب العمل تعزيز سيطرتها العسكرية على الضفة الغربية وبناء المزيد من المستوطنات في وادي الاردن. تواصل التعاون العملي مع السلطات الأردنية في عدد من القضايا العملية، بما في ذلك الزراعة وإدارة موارد المياه والتجارة والضرائب والمصارف والكهرباء وتوفير الخدمات الصحية وعودة اللاجئين. إلا ان الوضع كما لخصه المراقبون هو ان التعاون الفاعل بين الأردن وإسرائيل ساهم في الجمود الدبلوماسي آنذاك في منطقة الشرق الأوسط. وكان الملك حسين على قناعة بأن الفشل في كسر هذا الجمود سيؤدي إلى عدم الاستقرار والاضطراب والحرب في نهاية المطاف. وفي مطلع فبراير (شباط) 1973 وصل الملك حسين إلى واشنطن لطرح قلقه وهواجسه تجاه الوضع مع الرئيس ريتشارد نيكسون وكبار المسؤولين في دوائر صنع السياسة في الإدارة الأميركية. ووصف كيسنجر محنة الملك حسين بعمق ونوع من التعاطف: «كرر الملك حسين استعداده مجددا للتوصل إلى سلام مع إسرائيل، لكنه على الرغم من الاتصالات السرية واجه طريقا مسدودا. يجسد الملك حسين مصير المعتدلين العرب، فقد وجد نفسه محاصرا بين عجزه عن الدخول في حرب مع إسرائيل وعدم رغبته في ان تجمع بينه وبين العرب الراديكاليين قضية مشتركة. إنه على استعداد للتوصل إلى حل دبلوماسي، إلا ان إسرائيل لا ترى وجود ما يحفزها على التفاوض ما دام الملك حسين واقفا لوحده. كما ان إعادة الأراضي التي استولت عليها تبدو في نظر إسرائيل أقل أمنا من الوضع الراهن. الضفة الغربية، بما تعكسه من ارث تاريخي، من المحتمل ان تشعل جدلا عنيفا على الصعيد الداخلي في إسرائيل ـ الحزب الوطني الديني، الذي لا يستطيع الائتلاف الحالي الحكم بدونه، يعارض بقوة إعادة أي جزء من الضفة الغربية».

عندما عاد الملك حسين مجددا إلى واشنطن في 27 فبراير (شباط) أطلعه كيسنجر على المقترحات المصرية للتوصل إلى حل للنزاع. وعكس رد الملك حسين عمق ثقته في أنور السادات. كيسنجر بدوره لمس مؤشرات نهجين منفصلين من جانب القادة العرب، الذين يحول تشكيكهم في بعضهم بعضا دون التوصل إلى موقف مشترك. أنور السادات كان يستغل الفلسطينيين بهدف الاعتراض على خطوات الأردن، فيما عمل الملك حسين على إثارة مخاوف واشنطن من تعنت سوفياتي لإبطاء التوصل إلى سلام بين مصر وإسرائيل. الملك حسين، الذي كان في ذلك الوقت يقف لوحده بين القادة العرب، كان على استعداد لطرح شروط محددة للسلام. ففي لقائه الثاني مع كيسنجر سلمه ورقة حدد فيها العناصر التي كان قد طرحها في البداية: «الأردن على استعداد للتفاوض بصورة مباشرة مع إسرائيل بشأن الضفة الغربية. ستكون هناك تعديلات على الحدود شريطة إعادة قطاع غزة. إذا استعاد الاردن سيادته، فمن الممكن السماح بإقامة نقاط عسكرية إسرائيلية على طول نهر الأردن، وربما حتى مستوطنات إسرائيلية، شريطة ان تكون جيوبا معزولة على أراض أردنية». وقال الملك موضحا لكيسنجر أن تلك المقترحات كانت قد طرحت مباشرة على إسرائيل لكنها رفضتها. ورأى كيسنجر ان ثمة حاجة إلى طرح مقترح أميركي وليس مقترحا أردنيا مرة أخرى. عكست تلك الورقة، في واقع الأمر، تحسنا في الشروط الأردنية. ففي لقاء سري له مع موشيه دايان في 29 يونيو (حزيران) 1972، استبعد الملك حسين إقامة قواعد ومستوطنات إسرائيلية على الأراضي الأردنية، في ما وافق الملك حسين، حسبما جاء في الورقة التي قدمها إلى كيسنجر، بوجود مستوطنات ونقاط عسكرية إسرائيلية. تلت زيارة الملك حسين إلى واشنطن زيارة لغولدا مائير، التي التقت الرئيس نيكسون في 1 مارس (آذار) 1973 وأعلنت ان الوضع بالنسبة لإسرائيل «لم يحدث ان كان بتلك الايجابية». وعلى حد قولها، فإن حالة الجمود أسلم بالنسبة لإسرائيل لأن العرب لم يكن في يدهم خيار عسكري. قبلت واشنطن ما ذهبت إليه غولدا مائير وسرّعت الولايات المتحدة من مساعدتها الاقتصادية والعسكرية لإسرائيل. لم يصدر الأميركيون مقترحا عقب زيارة الملك حسين، ولم تفض محادثاته مع كيسنجر إلى شيء. الغرور والإعجاب الذاتي اللذان أبدتهما غولدا مائير في واشنطن عكسا موقفها تجاه الأردن. فقد التقت الملك حسين سرا في إسرائيل في 9 مايو (أيار) 1973، في وقت كانت تدور فيه مناوشات بين الجيش اللبناني وقوات تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في جنوب لبنان. كانت هناك أيضا مؤشرات مبكرة على إجراء كل من مصر وسورية استعدادات لعمل عسكري ضد إسرائيل. وكان الملك حسين قد أرسل تحذيرات إلى واشنطن بشأن استعدادات عسكرية سورية ومصرية أكثر جدية من أن تعتبر مجرد مناورات. وفي ذلك اللقاء طلب الملك حسين من غولدا مائير وقف تحليق الطائرات الإسرائيلية فوق أراضي الأردن لدى عودتها من مهام الاستطلاع فوق سورية، إلا انها رفضت طلب الملك حسين رفضا قاطعا، وقالت في هذا السياق ان تهديدات سورية بشن هجوم على إسرائيل يجعل من المستحيل تلبيتها لطلب الملك حسين. عقد لقاء آخر في 6 أغسطس (آب)، لكنه اقتصر بصورة رئيسية على قضايا اقتصادية، مثل تشجيع إسرائيل على الاستثمار في الاردن والتعاون الأردني ـ الإسرائيلي في استغلال الموارد المعدنية في البحر الميت، فضلا عن الإجراءات اللازمة لتخفيف مشكلة النقص في المساكن في العاصمة الأردنية والتنمية الزراعية في وادي الاردن. باختصار، لم تعد التسوية السلمية في جداول أعمال اللقاءات الثنائية على مستوى عال. التعنت الدبلوماسي الإسرائيلي والتهديدات العربية بشن حرب جعلت الملك حسين في وضع لا يحسد عليه. فهو لا يريد تكرار الخطأ الذي ارتكبه في حرب يونيو (حزيران) 1967 بالسماح للقادة العرب باستدراج بلده إلى حرب مع إسرائيل لم يكن على استعداد لخوضها. المشاركة في حرب أخرى كانت تتطلب منه بالضرورة الاتصال مع قادة دول المواجهة الأخرى، إلا أن مصر وسورية قطعتا علاقاتهما الدبلوماسية مع الأردن. وفي مطلع ديسمبر (كانون الأول) 1972 أرسل الملك حسين زيد الرفاعي في مهمة سرية للقاء الرئيس أنور السادات في القاهرة، حيث استمر اجتماعهما لمدة ست ساعات، وكان السادات صريحا في ذلك اللقاء وقال مخاطبا الرفاعي: «أدرك انني لست طرزان. أعرف جيدا مقدراتي. أنا لا أجيد الحرب الخاطفة. الإسرائيليون يجيدون الحرب الخاطفة. سأخوض حربا بهدف إعادة تنشيط الوضع السياسي وليس التحرير العسكري. سأشن حربا محدودة أعبر فيها قناة السويس واؤمن فيها موقعا محصنا وأتوقف، ثم أطلب من مجلس الأمن المناشدة بوقف إطلاق النار. هذه الإستراتيجية ستضمن لي انتصارا وتقلل الخسائر وتؤدي إلى تنشيط عملية السلام مجددا».

أشار الرفاعي خلال الاجتماع إلى مخاطر تلك الإستراتيجية، إلا ان حديثه لم يكن مقنعا. ومن الناحية الأخرى، رحب السادات باقتراح الرفاعي زيارة للملك حسين إلى القاهرة للقائه ووضع شروطا لذلك، لكنه عاد وتغاضى عنها ووجه الدعوة إلى الملك حسين لزيارة القاهرة والمشاركة معه والرئيس السوري حافظ الأسد في قمة مصرية ـ سورية ـ أردنية لمدة ثلاثة أيام في القاهرة تبدأ في 10 سبتمبر (أيلول) 1973. تضمن جدول أعمال تلك القمة تسوية الخلافات بين الدول الثلاث وتنسيق إستراتيجيتها العسكرية ـ السياسية وإعادة العلاقات الدبلوماسية. أقر الملك حسين بأن إسرائيل إذا رفضت الانسحاب من الأراضي المحتلة، فإن ذلك لا يترك للعرب خيارا سوى تحريرها من خلال العمل العسكري، لكنه شدد على ان الحرب تتطلب استعدادا كافيا وتأييدا من جانب الدول العربية المنتجة للنفط. وعلق السادات من جانبه قائلا: ان دول المواجهة وحدها هي المسؤولة عن تحرير أراضيها. وضع السادات بعد ذلك موضوع الحرب جانبا وطرح مسألة منظمة التحرير الفلسطينية ولمح إلى أن الأردن يجب أن يسمح بعودة المنظمات الفلسطينية كمقابل لإعادة العلاقات الدبلوماسية. رفض الملك حسين بشدة وهدد بمغادرة القاهرة، وتراجع السادات ووافق على إعادة العلاقات الدبلوماسية مع الاردن فورا. تظاهر الأسد بأنه في حاجة إلى التشاور مع زملائه، وبعد بضعة أيام أعلنت سورية إعادة العلاقات الرسمية مع الاردن. وهكذا بدت القمة في نظر الملك حسين بمثابة انتصار، فالحرب نوقشت كخيار محتمل ولكن فقط بعد إجراء الاستعدادت اللازمة، وكل ما كان متوقعا من الأردن هو ان تردع أي هجمات إسرائيلية على الخطوط الخلفية للقوات السورية عبر الأردن. أعيدت العلاقات الدبلوماسية مع الاردن، ولم يخضع الملك حسين لشروط السادات. لم يدرك الملك حسين خلال ذلك الوقت ان أنور السادات وحافظ الأسد عقدا خلال وجوده في القاهرة إبان تلك الزيارة اجتماعا سريا لوضع اللمسات الأخيرة لخطة حرب مشتركة ضد إسرائيل. وما لم يدركه الأسد هو ان السادات كانت لديه خطته الخاصة للحرب. وبعد انتهاء الحرب قال الأسد لزيد الرفاعي ان السادات خدعه. فالزعيمان وافقا على شن حرب لتحرير الأراضي المحتلة، إلا ان السادات كان يخطط لحرب محدودة بغرض إعادة تنشيط العملية السياسية. وطبقا للخطة المشتركة، من المفترض ان يدخل الجيش السوري المعركة لتحرير كل مرتفعات الجولان، فيما كانت خطة السادات للحرب تهدف إلى عبور قناة السويس والتوقف، بدلا من شن هجوم على الجيش الإسرائيلي في سيناء والتقدم باتجاه ممري الجدي ومتلا. وفي وقت لاحق قال الأسد إن الخطة المصرية مكّنت إسرائيل من تركيز كل قوتها ضد سورية. تأكيدات الملك حسين على عدم إبلاغه خلال قمة القاهرة بخطة الحرب يدعمها ما جاء في مذكرات أبو إياد (صلاح خلف). فقد أورد أبو إياد في مذكراته ان ياسر عرفات وفاروق القدومي عرفا من السادات في 9 سبتمبر (أيلول) 1973 بشأن الحرب الوشيكة ضد إسرائيل، فيما لم يبلغ الملك حسين، الذي وصل إلى القاهرة في 10 سبتمبر، أي شيء بشأن هذه الحرب. فقد أكد لهما السادات انه لا يعتزم أن ينبس ببنت شفة للملك حسين بشأن الحرب. وقال السادات ان الغرض الأساسي لتلك القمة، التي جمعت السادات والأسد والملك حسين، هو إعادة العلاقات مع الاردن بغرض إيجاد الظروف المناسبة على «الجبهة الشرقية» خلال الحرب المقبلة. اجتماع الملك حسين السري التالي مع غولدا مائير انعقد بتل أبيب في 25 سبتمبر 1973، وبعد أقل من ثلاثة أسابيع شنت كل من مصر وإسرائيل هجوما منسقا بعناية ضد الجيش الإسرائيلي في سيناء ومرتفعات الجولان. التقارب في التواريخ بين قمة القاهرة بين الملك حسين والسادات الأسد ولقاء الملك حسين مع غولدا مائير، ثم اندلاع حرب أكتوبر، أثار الكثير من الشكوك في أن الملك حسين توجه للقاء غولدا مائير لتبليغها تحذيرا مسبقا من هجوم مصري ـ سوري وشيك. هذه الادعاءات جعلت من لقاء الملك حسين مع الجانب الإسرائيلي في 25 سبتمبر الأكثر إثارة للجدل أكثر من أي من لقاءاته المتعددة الأخرى مع القادة الإسرائيليين. كان الملك حسين ينفى عادة هذه اللقاءات، لكنه إذا تعرض إلى ضغوط فلربما قال ان تلك الاتصالات المباشرة كانت ضرورية من اجل الدفاع عن بلده، وان لم يحدث ان تخلى عن شبر من الأراضي العربية لإسرائيل. من الناحية الأخرى، إذا كشف الملك حسين النقاب للإسرائيليين عن خطط العرب السرية للحرب، ربما أصبح خائنا للقضية العربية، لذا لا بد ان يكون هناك تحليل بعناية لذلك اللقاء الذي سبق حرب أكتوبر. فقد جرى ترتيب اللقاء قبل فترة وجيزة من انعقاده بناء على طلب من الملك حسين في 23 سبتمبر. المشاركون الرئيسيون في اللقاء كانوا الملك حسين وزيد الرفاعي، الذي أصبح رئيسا للحكومة في مايو (أيار) 1973، والجنرال فتحي أبو طالب، مدير الاستخبارات العسكرية الأردنية، ومن الجانب الإسرائيلي غولدا مائير وموردخاي غازيت، المدير العام لمكتب رئيس الوزراء. قاد الملك حسين مروحيته الخاصة من منزله في الشونة وهبط بها في الجانب الإسرائيلي من البحر الميت على مقربة من منطقة كهوف قمران. وأقلت مروحية تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي الملك حسين ومرافقيه إلى أطراف تل أبيب، حيث استقلوا سيارات تابعة لجهاز الأمن العام (الشاباك) لاستكمال بقية الرحلة. جرى الاجتماع في المقر الرئيسي للموساد في هيرتسيليا شمال تل أبيب. اجتماع الملك حسين والرفاعي وغولدا مائير وغازيت جرى تصويره سرا، وتم بثه عبر دائرة تلفزيونية مغلقة إلى غرفة أخرى في المبنى كان بها السكرتير العسكري لغولدا مائير وثلاثة من كبار ضباط الاستخبارات. وفي ذلك الوقت اجتمع الجنرال فتحي أبو طالب في غرفة أخرى مع الكولونيل أهارون لافران من الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية وزافي زامير مدير الموساد. استهل الملك حسين الاجتماع بوصف لاجتماع قمة القاهرة من 10 إلى 12 سبتمبر مع السادات والأسد، وأثنى بصورة عامة خلال حديثه على تهذيب ولطف السادات، لكنه كان متحفظا في حديثه عن الأسد. وأكد الملك حسين ان الأسد والسادات على حد سواء ليسا على استعداد لاستمرار حالة اللاحرب واللاسلم، وأضاف انه يشاركهما الرأي في هذا الجانب، لكنه أعرب عن أمله في منع اندلاع الحرب. وفي هذا السياق قال الملك حسين ان السادات والأسد طلبا معرفة رأيه تجاه تشيط الجبهة الشرقية، ورد عليهما قائلا: «دعوني وشأني».

سألت غولدا مائير الملك حسين حول نيته السماح بعودة الفدائيين إلى الاردن، ورد قائلا انه يعتزم السماح لمنظمة التحرير الفلسطينية وتنظيمات أخرى للفدائيين بفتح مكاتب في الاردن، لكنه أكد انه لن يسمح لهم بالقيام بعمليات عسكرية أو إرهابية انطلاقا من أراضي الاردن. عقب انتهاء الحديث حول هذا الجانب انتقلت غولدا مائير في حديثها مع الملك حسين إلى مناقشة الأسلحة السوفياتية التي بدأت تتدفق إلى مصر وسورية. في تلك النقطة تحدث الملك حسين بصورة أكثر تحديدا: الملك حسين: تلقينا معلومات من مصدر حساس جدا جدا في سورية سبق ان تلقينا منه معلومات وأرسلناها في السابق، ان كل الوحدات التي كان من المفترض ان تكون في عمليات تدريب ومستعدة للمشاركة في هذا العمل العسكري السوري، خلال اليومين السابقين تقريبا، باتت الآن في وضع يسمح لها بالهجوم مجددا. كان من المفترض ان يكون ذلك جزءا من الخطة، باستثناء تعديلات ثانوية ـ من المفترض أيضا ان تكون الفرقة الثالثة مسؤولة عن أي تحرك إسرائيلي محتمل عبر الأردن. يتضمن ذلك طائراتهم وصواريخهم وكل شيء آخر في الجبهة، خلال هذه المرحلة. كل ذلك أصبح الآن تحت غطاء التدريب لكنه يتماشى مع المعلومات التي تلقيناها في السابق. هذه هي أوضاع ما قبل الانقضاض، وكل الوحدات الآن في هذا الوضع. بصرف النظر عما إذا كان ذلك يعني أي شيء، لا أحد يعلم ما يجري. ولكن لدي شكوكي. عموما، ليس هناك تأكيد لأي شيء. يجب ان نأخذ هذه الأشياء كحقائق. غولدا مائير: هل يمكن ان يفهم من ذلك ان السوريين يمكن ان يشرعوا في أي شيء من دون تعاون كامل مع المصريين؟ الملك حسين: لا اعتقد ذلك. اعتقد انهما سيتعاونان. بصرف النظر عما إذا يمكن اعتبار ما قاله الملك حسين تحذيرا من اندلاع حرب، فإن ما أدلى به كان موضع جدل في الجانب الإسرائيلي. فالملك حسين لم يتحدث عن خطة حرب عربية، وإنما تحدث حول الوضع على الجبهة السورية، وأشار إلى مصر فقط في سياق الرد على أسئلة طرحت عليه من الجانب الإسرائيلي. لم يقل ان مصر كانت تخطط لشن هجوم على إسرائيل، لكنه أشار إلى ان سورية كانت على استعداد للهجوم من دون إجراء المزيد من الاستعدادات. منتقدو غولدا مائير في إسرائيل قالوا من جانبهم انه كان بوسعها توجيه أسئلة أكثر للملك حسين، إلا ان الملك حسين لم يكن في ذلك السياق أسير حرب تحت الاستجواب، بل كان رأس دولة صديقا جاء إلى إسرائيل بمبادرة منه لأنه كان يشعر بقلق، وأراد أن يطرح مخاوفه مع واحد من الأطراف ذات الصلة بالنزاع. يضاف إلى ذلك ان اتهام غولدا مائير بأنها لم تكترث بالتحذيرات التي عبر عنها الملك حسين كان اتهامات لا أساس لها من الصحة. فقد اتصلت فور انتهاء ذلك اللقاء بوزير الدفاع موشيه دايان في منزله وأبلغته بما سمعت من الملك حسين. كما ان دايان من جانبه عقد اجتماعين في اليوم التالي لتقييم المعلومات التي أدلى به الملك حسين، فضلا عن المعلومات التي كانت لديهم مسبقا. الملك حسين أكد من جانبه انه فوجئ تماما باندلاع الحرب وانه ابلغ باندلاعها عندما كان وزوجته الراحلة عالية على متن دراجة نارية في ضواحي عمان. وقال ان سيارة أمن ظهرت خلفهما وأشار سائقها له بالتوقف مستخدما الأضواء الأمامية للسيارة ليبلغه باندلاع الحرب. وأكد أيضا ان لا فكرة لديه مطلقا بحدوث عمل عسكري بذلك المستوى وفي ذلك الوقت بالذات. اما زيد الرفاعي، فقد أصر على استحالة ان يكون الملك حسين قد ابلغ الإسرائيليين بالحرب مسبقا، وذلك لثلاثة أسباب. أولا، لا يمكن ان يخون الملك حسين القضية العربية من أجل الإسرائيليين أو من أجل أي طرف آخر. ثانيا، وجهت الدعوة للملك حسين للمشاركة في قمة القاهرة مع السادات والأسد بغرض إعادة العلاقات الدبلوماسية وليس للمشاركة في التخطيط للحرب. ثالثا، نفى الرفاعي ان تكون لدى الاردن في ذلك الوقت معلومات تجهلها أجهزة الاستخبارات الأخرى. جاء الهجوم يوم 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1973 مفاجئا تماما لإسرائيل، الأمر الذي ساعد العرب على تحقيق انتصارات عسكرية مؤثرة، خلال الأيام الأولى عقب اندلاع القتال. فالجيش المصري عبر قناة السويس واستولى على خط بار ـ ليف بمحاذاة القناة وتقدم عشرين كيلومترا داخل سيناء وألحق خسائر كبيرة في صفوف القوات الإسرائيلية وقواتها الجوية والمدرعة. كما شن الجيش السوري هجوما مدرعا مكثفا وفاعلا على مرتفعات الجولان. الأمر الرئيسي الذي كان يشغل ذهن الملك حسين عقب اندلاع الحرب كان حماية الاردن. إلا ان مستوى الاستعداد المتدني لقوات الدفاع الإسرائيلية، التي كانت تحتفظ بـ70 دبابة فقط متمركزة على طول الجبهة الشرقية، كان عاملا محفزا للأردن للانخراط في المعركة. إزاء ذلك انقسم مستشارو الملك حسين، فالرفاعي وعامر خماش، الرئيس السابق لهيئة الأركان، عارضا دخول الاردن الحرب، فيما رأى السكرتير الخاص للملك، وعدد من قادة الجيش ان على الاردن دخول الحرب. يضاف إلى ذلك ان عددا من أعضاء الحكومة كان يرى انه على الاردن الا يبقى خارج معركة يخوضها أشقاؤه العرب لتحرير الأراضي المحتلة. كان هناك تأييد شعبي عربي للمشاركة في ما وصفت بأنها معركة مصير، فقد طلب الملك فيصل من الملك حسين السماح للواء السعودي المرابط في الاردن بالانتقال إلى سورية. رفض الملك حسين في بداية الأمر، لكنه عاد وتراجع عن رفضه. منظمة التحرير الفلسطينية كانت تريد أيضا ان تكون جزءا من المعركة وبدأت الضغط على الملك حسين بهدف السماح لآلاف الفدائيين بالعبور من الاردن إلى داخل إسرائيل لتنفيذ عمليات تخريبية، إلا الملك حسين رفض ذلك الطلب وقال ان ذلك سيكون بمثابة فتح الاردن جبهة ثالثة ضد إسرائيل من داخل أراضيه. عند ذلك أجرى أبو إياد اتصالا بالسادات طالبا منه التدخل لمصلحة منظمة التحرير الفلسطينية، غير ان السادات كان يشك في دخول الملك حسين المعركة إلا إذا ضعف موقف إسرائيل تماما في الحرب على نحو يجعلها غير قادرة على تشكيل خطر على الأردن. كان الملك حسين يرغب في ان يفعل شيئا إلى جانب أشقائه العرب ويدعم جارته سورية ولكن من دون ان يترتب على ذلك هجوم إسرائيلي يستهدف الاردن. فكّر الملك حسين في إرسال لواء أردني مدرع إلى سورية، لكنه كان يريد أن تقبل إسرائيل ذلك أو تعطيه ضمانا على الأقل بعدم استخدام هذه الخطوة ذريعة لشن هجوم على الاردن. وفي هذا الشأن كتب كيسنجر في مذكراته: «لا يحدث إلا في الشرق الأوسط ان يطلب طرف في نزاع مسلح من خصمه الموافقة على المشاركة في حرب ضده».
 
رد: أسد الاردن / قصة ملك

أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة الثامنة) ـ الملك حسين قال لغولدا مائير: نرفض حصرنا في ممر ضيق

مصر وإسرائيل وأميركا توصلت إلى اتفاق سري قبل مؤتمر جنيف



لندن: «الشرق الأوسط»
كان الملك حسين يشعر بقلق واضح إزاء احتمال إهمال مصالحه في المسألة الفلسطينية، خلال عملية السلام التي كانت تهيمن عليها الولايات المتحدة. إلا ان هنري كيسنجر أبلغه بأن أفضل السبل لحماية هذه المصالح ان يصبح الاردن عضوا مؤسسا في «مؤتمر جنيف للسلام»، ذلك ان هذه الخطوة كانت ستجعله متحدثا باسم الفلسطينيين، على حد اقتراح كيسنجر.
وشارك الاردن في المؤتمر، لكن الملك حسين ترسخت لديه قناعة، بناء إلى النتائج التي توصل إليها المؤتمر، انه لم يكن سوى تمثيلية لإضفاء شرعية على اتفاق منفصل بين مصر وإسرائيل وتمهيد الطريق للتوصل إليه.

وتروي حلقة اليوم من كتاب «أسد الاردن»، الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه بالاتفاق مع دار نشر بنغوين ومؤلفه المؤرخ والبروفسور في جامعة اكسفورد آفي شليم قصة الطريق الى قمة الرباط ولماذا شعر الملك حسين بانها كانت هزيمة له.

وتورد هذه الحلقة اسرار استئناف الاتصالات المباشرة بين الملك حسين وغولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيل، بعدما شعر الملك حسين ان هنري كيسنجر لا يشرك الاردن في دبلوماسيته، التي كانت تركز على مصر وسورية وقتها.

أجاز مجلس الأمن في 22 أكتوبر (تشرين الأول) 1973 قراره رقم 338، مناشدا أطراف النزاع بوقف الحرب والشروع في مفاوضات مباشرة بهدف التوصل إلى تسوية للنزاع على أساس القرار 242. قبلت إسرائيل ومصر والأردن فورا، إلا ان سورية وافقت بعد ذلك بوقت قصير، بغرض إبداء احتجاجها على عدم التشاور معها. لم يكن الملك حسين موافقا فحسب، بل متلهفا للمشاركة في مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، بهدف استعادة السيادة الأردنية على الضفة الغربية، لكنه خُذل من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل. وقام كيسنجر بأول زيارة له إلى منطقة الشرق الأوسط للتمهيد لعقد مؤتمر دولي عقب تنفيذ وقف إطلاق النار، ووصل إلى عمان في 8 نوفمبر (تشرين الثاني) في نهاية جولة له في عواصم دول المنطقة. استقبل الملك حسين كيسنجر وطرح له موقفه بصورة واضحة، ولخصه في ان الاردن الدولة العربية الأكثر تأثرا بالنزاع من ناحية الأراضي ومن الناحية السكانية أيضا، مؤكدا ان واجبه هو استعادة الضفة الغربية مع تعديلات طفيفة من الجانبين، كما أكد الملك حسين لكيسنجر أيضا انه لا يستطيع التخلي عن مسؤوليته عن الأجزاء الخاصة بالمسلمين والمسيحيين في القدس. وكان كيسنجر قد أعرب عن أسفه، حسبما جاء في مذكراته، في ان يكون «أفضل الأصدقاء العرب للولايات المتحدة في تلك المرحلة على هامش عملية السلام»، إلا ان خطوات كيسنجر تشير إلى انه كان يتعامل بوجهين، فقد كان متواطئا مع مصر وإسرائيل بهدف تهميش الأردن. كان الملك حسين يشعر بقلق واضح إزاء احتمال إهمال مصالحه في المسألة الفلسطينية خلال عملية السلام التي كانت تهيمن عليها الولايات المتحدة. إلا ان كيسنجر أبلغه بأن أفضل السبل لحماية هذه المصالح ان يصبح الاردن عضوا مؤسسا في «مؤتمر جنيف للسلام»، ذلك ان هذه الخطوة كانت ستجعله متحدثا باسم الفلسطينيين، على حد اقتراح كيسنجر. وافق الملك حسين على المشاركة في المؤتمر، على أمل ان يؤدي إلى تسوية شاملة للنزاع على أساس قراري مجلس الأمن 242 و338. وكان غرض كيسنجر ينحصر على وجه التحديد في استمرار وقف إطلاق النار والفصل بين القوات وتمكين مصر وإسرائيل من التوصل إلى تسوية ثنائية. كان يدرك كيسنجر جيدا ان مشاركة الاردن تستوجب التفاوض حول الضفة الغربية والقدس، عاجلا أو آجلا، وهما قضيتان كان كيسنجر يعمل على تفاديهما. افتتح المؤتمر في جنيف في 21 ديسمبر (كانون الأول) بصورة رسمية، تحت رعاية الأمم المتحدة وبمشاركة كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. وترأس جلسة الافتتاح كورت فالدهايم، الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك. قبلت إسرائيل ومصر والأردن الدعوة للمؤتمر، إلا ان الرئيس السوري حافظ الأسد رفض مشاركة بلاده، لأن المؤتمر لم يهدف، على حد رأي سورية، بصورة واضحة إلى حمل إسرائيل على الانسحاب من كل الأراضي العربية المحتلة. كما ان إسرائيل رفضت مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية. ومثل الاردن في المؤتمر زيد الرفاعي، الذي أصر في الجلسة الافتتاحية على انسحاب إسرائيل الكامل من كل الأراضي المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية، مؤكدا ان غياب سورية عن المؤتمر لا ينتقص بأية حال من حقها في مطالبة إسرائيل بالانسحاب من مرتفعات الجولان، كما أعلن أمام المؤتمر ان «مسألة الانسحاب والحدود وحقوق الفلسطينيين واللاجئين وواجبات السلام ووضع القدس، جميعها قضايا واهتمامات مشتركة ومسؤولية جماعية». رفض وزير الخارجية المصري، إسماعيل فهمي، التنسيق مع الرفاعي قبل بدء المؤتمر، ولم يتبادل معه كلمة واحدة خلال المؤتمر. كما أشار خلال حديثه الافتتاحي إلى الضفة الغربية كأرض فلسطينية، الأمر الذي كان يعني ضمنيا نفي حق الاردن في تمثيل الفلسطينيين. اما أبا ايبان، فقد أكد خلال حديثه أمام المؤتمر ان إسرائيل لن تعود إلى أراضي ما قبل حرب يونيو (حزيران) 1967، مؤكدا ان القدس هي العاصمة الأبدية والموحدة لإسرائيل. واقترح كيسنجر تشكيل مجموعة عمل عسكرية مصرية ـ إسرائيلية لمناقشة الفصل بين القوات، إلا ان الرفاعي اعترض وقال، الغرض من عقد المؤتمر هو تطبيق قرارات مجلس الأمن والتوصل إلى تسوية شاملة. ورد كيسنجر من جانبه قائلا، ان السلام الشامل لا يمكن تحقيقه فورا وإنما فقط كنتيجة لسلسلة من الخطوات، الأمر الذي أتاح الفرصة أمام الرفاعي لاقتراح تشكيل مجموعة عمل أردنية ـ إسرائيلية لمناقشة الفصل بين القوات في الجبهتين. وعارض ابا ايبان ذلك المقترح، بحجة ان القوات ليست في حالة اشتباك وان انسحاب إسرائيل من الضفة الغربية قضية من الممكن مناقشتها فقط في إطار تسوية شاملة واتفاق سلام. بدأ الرفاعي يتشكك في أن الغرض الأساسي من وراء مؤتمر جنيف للسلام، هو توفير الغطاء الدبلوماسي اللازم للتوصل إلى اتفاق مصري ـ إسرائيلي. وأكد هذه الشكوك، بعد مضي حوالي 15 عاما، بيتر رودمان، وهو مسؤول أميركي رافق كيسنجر إلى المؤتمر. فقد قال رودمان ان الغرض من مؤتمر جنيف كان التوصل إلى اتفاق لفصل القوات بين إسرائيل ومصر، وأوضح أيضا ان الولايات المتحدة ومصر وإسرائيل توصلت إلى اتفاق سري قبل انعقاد المؤتمر. حتى قبل هذا الاعتراف كان الملك حسين قد توصل في ذلك الوقت، بناء إلى النتائج التي توصل إليها المؤتمر، إلى انه لم يكن سوى تمثيلية لإضفاء شرعية على اتفاق منفصل بين مصر وإسرائيل وتمهيد الطريق للتوصل إليه. ويمكن القول بصورة عامة ان مؤتمر جنيف للسلام لم يكن مؤتمرا دوليا كما ينبغي، بل خدعة. الجلسة الافتتاحية له كانت في واقع الأمر آخر جلساته. اما الاردن، فقد خرج منه خالي الوفاض. بدأ كيسنجر عقب إرجاء أعمال المؤتمر، ما بات يعرف بـ«دبلوماسيته المكوكية». وكانت أولى ثمرات هذه التحركات توقيع اتفاق بين مصر وإسرائيل في 18 يناير (كانون الثاني) 1974 للفصل بين القوات. وكان الهدف التالي لكيسنجر التوصل إلى اتفاق مماثل بين إسرائيل سورية، إلا انه في نفس الوقت كان عليه التوقف في الاردن. وبالفعل وجه الملك حسين الدعوة إلى كيسنجر لزيارته في العقبة. وكان في استقبال كيسنجر والوفد المرافق له كل من الملك حسين وولي العهد الأمير حسن، ورئيس الوزراء زيد الرفاعي، ورئيس هيئة الأركان الجنرال زيد بن شاكر. وعبّر الجانب الأردني عن ارتياحه إزاء التوصل إلى اتفاق الفصل بين القوات، الذي وصفه الملك حسين بأنه انجاز هائل. الجانب الأردني كان يعلم ان سورية هي الوجهة المقبلة لكيسنجر بعد مصر، بهدف التوصل إلى اتفاق مماثل للاتفاق الذي ابرم مع السادات حول الفصل بين القوات. إلا ان الاردن كان يرغب في ان تكون هناك مناقشات حول انسحاب مبدئي من الضفة الغربية على غرار الإجراءات التي رتبت في ما يتعلق بالوضع بين مصر وإسرائيل. وكان هاجس الاردن يتركز في احتمال ان تحرمها الدول العربية من حق استعادة الأراضي التي استولت عليها إسرائيل في حرب يونيو 1967. وفي واقع الأمر كان الاردن قد عبر عن معاناته من كابوسين في ما يتعلق بالضفة الغربية، هما احتمال استمرار الاحتلال الإسرائيلي إلى أجل غير مسمى، أو قيام دولة لمنظمة التحرير الفلسطينية يكون أول هدف لها المملكة الهاشمية، إلا كيسنجر زعم للجانب الأردني انه متعاطف معه وانه يوافق الملك حسين في تقييمه الاستراتيجي. وقال للملك حسين: «إما ان تتعامل إسرائيل مع ياسر عرفات، أو تتعامل مع جلالتكم. إذا كنت في محل رئيس الحكومة الإسرائيلية، سأسارع إلى التفاوض مع جلالتكم لأن ذلك يمثل أفضل ضمانة ضد عرفات».

إلا ان النظر في البدائل لم يحدث تقدما في الأمور، لأن إسرائيل ليست راغبة في أي من البديلين.

وهكذا، لم يكن لقاء العقبة سوى تكرار لما حدث في زيارة كيسنجر السابقة في نوفمبر (تشرين الثاني). فقد سبق ان عرض على القادة الإسرائيليين مقترح الرفاعي بانسحاب إسرائيلي من مدينة أريحا، التي تقطنها غالبية عربية وتقع على مقربة من نهر الاردن، فضلا عن كونها رمزا لمطالبة الملك حسين بالضفة الغربية، والتأكيد على وضعه كمحاور رئيسي لإسرائيل في مفاوضات الضفة الغربية. إلا ان المقترح رفض من الجانب الإسرائيلي، على أساس انه يتعارض مع «خطة آلون»، التي يعتبر وادي الاردن بموجبها حدودا أمنية لإسرائيل.

طرح الملك حسين في لقاء العقبة خطة أخرى للفصل بين القوات، تتراجع بموجبها القوات العسكرية الأردنية والإسرائيلية مسافة ثماني كيلومترات من نهر الاردن باتجاه سلسلة الجبال عند وادي الاردن، مع إقامة إدارة مدنية أردنية في المنطقة التي ستخليها إسرائيل، خصوصا في مدينة أريحا. وجاء ضمن مقترح الملك حسين أيضا تشكيل مجموعة عمل في أسرع فرصة ممكنة، لتثبيت مطلب الأردن بتمثيل الفلسطينيين. ورد كيسنجر على الملك حسين قائلا، انه سيطرح المقترح على الجانب الإسرائيلي خلال الأسابيع المقبلة. ووصف كيسنجر نهج الملك حسين بالاعتدال، لكنه لم تكن هناك جدوى من ورائه في ذلك الوقت الذي كان يتشكل خلاله ائتلاف حاكم جديد في إسرائيل، بمشاركة حزب يعارض أي تغيير في أراضي الضفة الغربية. على الرغم من ذلك واصل الملك حسين مساعيه للمشاركة في المساعي والجهود الدبلوماسية. إلا ان إحجام كيسنجر عن إشراك الملك حسين في دبلوماسيته التدريجية تلك، أجبرت الملك حسين على تجديد الاتصالات المباشرة بإسرائيل. ففي أوائل عام 1974 أجرى الملك حسين اجتماعين مع غولدا مائير، التي كانت في ذلك الوقت تواجه عاصفة من الانتقادات على الصعيد المحلي، بسبب فشلها في معرفة الهجوم العربي قبل وقوعه في 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1973. اكتسب الرفاعي من خلال تلك التطورات والأحداث تجربة كبيرة في الدبلوماسية الدولية والإقليمية. وكان هناك تقسيم للعمل بين العاهل الأردني ورئيس وزرائه، على أساس ان الملك حسين هو الذي يحدد الخطوط العريضة، فيما كان رئيس وزرائه الرفاعي، مسؤولا عن تنفيذها وعن التعامل مع التفاصيل وتبديد أي نوع من الالتباس والغموض. كما كان أيضا يدوّن الملاحظات خلال النقاش ويعد سجلا بما دار خلال اللقاء. كان الملك حسين يتسم باللطف والتهذيب والهدوء، مع براعة واضحة في إشاعة جو من اللطف في المفاوضات، فيما كان الرفاعي سياسيا براغماتيا ولاذعا ومفاوضا صارما ومدافعا بقوة عن مصالح الاردن. توجه الملك حسين وزيد الرفاعي في 26 يناير (كانون الثاني) 1974 إلى لقاء غولدا مائير ودايان وغازيت في صحراء أرافا، على الحدود بين الدولتين، داخل مقطورة مكيفة الهواء. بدا واضحا ان الطرفين كانا يريدان تحقيق تقدم للتوصل إلى اتفاق لفصل القوات، إلا ان آراءهما كانت متضاربة بشأن طبيعة ومستوى الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية. كان الطرف الإسرائيلي يفكر انطلاقا من فصل محدود للقوات، فيما طالب الجانب الأردني بفصل للقوات على كامل الجبهة. كانت غولدا مائير تفضل ان تكون العملية تدريجية، وعرضت إعادة مدينة أريحا للحكم الأردني، بالإضافة إلى المناطق المأهولة بالسكان العرب وسط الضفة الغربية. وعلى الرغم ان ذلك كان عرضا متواضعا، فقد أكدت غولدا مائير على ان تلك الخطوة بداية فقط وليس نهاية العملية. إلا ان الملك حسين طالب بأن تخلي إسرائيل شريطا من الأرض بمحاذاة نهر الأردن، وكان ذلك يتطلب تفكيك إسرائيل بعض المستوطنات. ونظر الملك حسين إلى عرض غولدا مائير كونه صورة جديدة لخطة قديمة (خطة آلون) سبق ان رفضها مكررا، ووصفها بأنها «غير مقبولة تماما». وجاء طلب الملك حسين انطلاقا من ان أي تراجع إسرائيلي على طول خط وقف إطلاق النار سيعطي الفلسطينيين أملا في المستقبل ويعيد ثقتهم في الاردن. وجرى الحوار التالي بين غولدا مائير والملك حسين ودايان والرفاعي: الملك حسين: اذا وافقتكم من حيث المبدأ على اقتراحي بانسحاب إسرائيلي من نهر الاردن إلى مسافة 15 كيلومترا، على نحو يسمح لي بإقامة إدارة مدنية أردنية، فإن ذلك سيمكننا من المضي على مراحل في التطبيق. سيساعدنا ذلك على إبعاد الفلسطينيين من منظمة التحرير الفلسطينية. غولدا مائير: من الممكن إيجاد سبل أخرى لفصل قواتنا من خلال ممر يربطكم بالسكان الفلسطينيين. الملك حسين: نرفض ان يتم حصرنا في ممر ضيق في الضفة الغربية، ولن يكون هناك تقدم من دون الانسحاب من وادي الاردن. دايان: هل يعني ذلك انه يجب على قوات الدفاع الإسرائيلية الانسحاب من كامل وادي الاردن؟

الرفاعي: نعم، بالتأكيد. لكننا لن نضع قوات من الجيش الأردني هناك. دايان: وماذا عن المستوطنات اليهودية في وادي الاردن؟ الرفاعي: يجب إزالتها تماما. دايان: إذا كان الأمر كذلك، أين ستكون حدودكم النهائية؟ الرفاعي: مطابقة لخطوط 1967. نحن على استعداد لتحقيق ذلك بصورة تدريجية.

تواصل الحوار، لكنه لم ينجح في تفادي التوصل إلى طريق مسدود. دايان كان مصرا بعناد على الإبقاء على المستوطنات اليهودية والقواعد العسكرية في وادي الأردن، وأضافت غولدا مائير من جانبها قائلة: ان الحصول من الكنيست حتى على مجرد الممر سيكون أمرا صعبا. ولم يكن الرفاعي أقل إصرارا إذ أكد على ان الانسحاب لا يمكن ان يبدأ بممر، كما أكد أيضا على ان «خطة آلون» اذا كانت هدف إسرائيل، فلن تكون هناك آفاق تسوية. انعقد لقاء آخر بين نفس المجموعة من الجانبين وفي نفس المكان في 7 مارس (آذار)، وطرح الملك حسين مجددا مطلبه بانسحاب إسرائيلي من على طول الجبهة بكاملها. وهنا أشارت غولدا مائير إلى ان اتفاق الفصل بين القوات مع مصر لم يكن في كامل قناة السويس وإنما على جزء منها فقط. وكشف رد الملك حسين على هذه النقطة عن إحباطه بصورة واضحة عندما قال: «هل كان يجب علي ان أحاربكم في أكتوبر كي أقنعكم بالفصل بين القوات على كامل الحدود؟ لم يحرز النقاش أي تقدم: الملك حسين: اذا اُمكن التوصل إلى سلام، فإننا سنستطيع منع الإرهاب، ولكن ما دمتم ترفضون مقترحاتنا، فإن الفلسطينيين سيصبحون أكثر قوة. غولدا مائير: ماذا اذا أراد الفلسطينيون في الضفة الغربية إقامة دولة فلسطينية مستقلة؟ الملك حسين: سيكون ذلك حسنا. هذه الدولة ستكون مثل الساندويتش بيننا وبينكم، وليس هناك ما يثير الخوف. دايان: هل يمكن ان تستمر المواقع المحصنة والمستوطنات تحت السيادة الإسرائيلية؟ الملك حسين: من الصعب علينا قبول ذلك. واصل دايان الضغط للإبقاء على الوجود الإسرائيلي في وادي الاردن، إلا ان الرفاعي رفض تلك الفكرة بصورة أكثر حدة من الملك حسين. وهدد دايان أيضا بسؤال القادة الفلسطينيين في الضفة الغربية حول ما اذا كانوا سيوافقون على الوجود الإسرائيلي لقاء مقابل مالي مناسب. ورفض الرفاعي الفكرة بتأكيده بثقة ان القادة الفلسطينيين لن يوافقوا على ذلك. قال دايان عند ذلك ان هناك خيارين، فإما ان تعمل إسرائيل جاهدة على التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين في الضفة الغربية، أو ان يوافق الاردن على إجراء تعديلات كبيرة على الحدود. هناك تدخل الرفاعي بسرعة قائلا: ان ترتيب اللقاء جرى أصلا لمناقشة الفصل بين القوات.

انتهى ذلك الاجتماع من دون التوصل إلى اتفاق، وعلى حد تعليق الملك حسين، عاد الجميع إلى المربع الأول. وفي 10 ابريل (نيسان) تقدمت غولدا مائير باستقالتها، غداة نشر تقرير لجنة أغرانات، واختار حزب العمل اسحاق رابين لخلاقة غولدا مائير، وبذلك يكون فصل طويل في العلاقات الأردنية ـ الإسرائيلية قد انتهى. الحكومة التي شكلها رابين وقدمها إلى الكنيست في 3 يونيو (حزيران) 1974 كانت تعاني من الضعف والانقسام. فقد أصبح آلون وزيرا للدفاع وشيمعون بيريس وزيرا للخارجية. وكان لدى ثلاثتهم أولويات مختلفة. رابين كان يفضل إجراء مفاوضات مع مصر، فيما آلون كان صاحب توجه مؤيد للمفاوضات مع للأردن، وكان بيريس يفضل التوصل إلى اتفاق مع القادة الفلسطينيين في الضفة الغربية. على الرغم من ان رابين في ذلك الوقت لم يكن على استعداد للتوصل إلى اتفاق حول الضفة الغربية، فإنه ثمّن الاتصال بالملك حسين. فخلال فترة ثلاث سنوات ترأس خلالها الحكومة الإسرائيلية، عقد رابين، برفقة آلون وبيريس، ستة اجتماعات مع الملك حسين جميعها في (أراض إسرائيلية)، واحد في تل أبيب والبقية في وادي عربة. وكان لدى الجانب الإسرائيلي أربعة أهداف محددة خلال تلك اللقاءات: استكشاف التوصل إلى اتفاق مع الاردن وحل المشاكل الصغيرة التي كانت تؤثر على العلاقات بين البلدين وترقية التعاون الاقتصادي بينهما وتنسيق السياسة تجاه الضفة الغربية والمنظمات الفلسطينية. الاردن تقدم من جانبه باقتراحين خلال المناقشات التي جرت في تلك اللقاءات: التوصل إلى اتفاق مؤقت يتضمن انسحابا إسرائيليا من على طول نهر الأردن والتوصل إلى اتفاق سلام شامل مقابل انسحاب إسرائيلي كامل. عقد الاجتماع الأول بين الجانبين في 28 أغسطس (آب) والثاني في 19 أكتوبر (تشرين الثاني) 1974، وكان قد تقرر مسبقا عقد قمة عربية في الرباط في نهاية نفس الشهر. خلال تلك الفترة شهد العالم العربي تأييدا متزايدا لإحلال منظمة التحرير الفلسطينية محل الاردن كممثل للشعب الفلسطيني، وبات الملك حسين في ذلك الوقت أكثر تلهفا من أي وقت مضى للتوصل إلى اتفاق لفصل القوات يساعده على تعزيز موقفه ومد نفوذه إلى الضفة الغربية. فبدون التوصل إلى اتفاق كان سيواجه خطر مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في القمة المرتقبة ممثلا للشعب الفلسطيني بدلا من الاردن، إلا ان رابين، الذي أتى بالحزب الوطني الديني في الحكومة الإسرائيلية، لم يكن على استعداد للتخلي عن أريحا، خشية انهيار ائتلافه الهش. لم يكن رابين راغبا في تحقيق أي تقدم مع الملك حسين في هذا الجانب، ذلك ان أي تنازل عن الأراضي لا يعني سوى انسحاب الحزب الوطني الديني من الائتلاف أو الدعوة لعقد انتخابات جديدة. وكان يعتقد بصورة عامة ان فرص التوصل إلى اتفاق ثان مع مصر أفضل بكثير من فرص التوصل إلى اتفاق مع الملك حسين حول الضفة الغربية. انعقدت قمة الرباط في 26 أكتوبر بحضور زعماء الدول العربية ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، وطغى النزاع بين الأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية على المناقشات. أكد الملك حسين في كلمته على المسؤولية التاريخية لبلده عن مصير الضفة الغربية وحدد مرحلتين للنضال المستقبلي، هما تحرير الأراضي المحتلة والتوصل إلى تسوية بشأن المشكلة الفلسطينية. وحث أيضا الدول المشاركة على دعم الأردن في مساعيه لاستعادة الضفة الغربية ووعد بمنح سكانها فرصة تقرير مستقبلهم بمجرد انسحاب إسرائيل. ياسر عرفات أكد من جانبه، خلال الكلمة التي ألقاها، على ضرورة ان تكون منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، سواء في استعادة الضفة الغربية أو تقرير مستقبلها. صوتت القمة لصالح المنظمة. وجاء قرار القمة مؤكدا ان المنظمة ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني مع التأكيد على حقه في إقامة سلطة وطنية مستقلة تقودها المنظمة. لم يكن أمام الملك حسين سوى الالتزام بقرار القمة حول التمثيل الفلسطيني، لكنه لم يكن يرغب في ان يدفع الثمن الشعب الفلسطيني، الذي يعاني اصلا من الاحتلال. لذا، أعلن أمام القمة ان الأردن سيواصل إدارته للضفة الغربية وسيواصل أيضا مساعدة ومساندة سكانها حتى التحرير، وقوبل حديثه ذاك بعاصفة من التصفيق من الزعماء العرب، لكنه على الرغم من ذلك اعتبر قمة الرباط هزيمة رئيسية له على الصعيدين السياسي والدبلوماسي، وشعر بالخذلان من جانب إسرائيل والتخلي من جانب العرب المعتدلين والخيانة من جانب هنري كيسنجر. غدا: * حادثة الملكة عالية تركت حزنا عميقا لدى الملك حسين
 
رد: أسد الاردن / قصة ملك

أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة التاسعة) .. الملك حسين أعطى ديان درسا عندما طرح اقتسام الضفة الغربية بين الأردن وإسرائيل

السادات قال لسكرتير بيغن: إذا وصل العاهل الأردني إلى كامب ديفيد فلن نتوصل الى شيء


الملك حسين والملكة علياء

لندن: «الشرق الأوسط»
أوردت بعض التقارير الإخبارية في الصحافة الأميركية ان الأردن رفض الدعوة للمشاركة في قمة كامب ديفيد التي دعا اليها الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر مصر وإسرائيل. لكن تلك التقارير لم تكن صحيحة، وربما تكون نابعة من موقف الملك حسين عشية القمة عندما بدا انه غير رافض للدعوة، لكنه مصر على جعل مسألة مشاركته أمرا صعبا. وبقي الملك حسين خلال تلك الفترة في لندن وهو يشعر بأنه استبعد منها، لكنه كان يتابع تطوراتها بقلق. وتصادف خلال تلك الفترة وجود رجل الأعمال المصري اشرف مروان، وطلب الملك حسين مقابلة أشرف وأبلغه في سرية تامة رغبته في المشاركة في قمة كامب ديفيد وطلب منه ان يبلغ السادات بذلك، وذهب مروان الى واشنطن لمقابلة احد كبار مستشاري السادات لكنه عاد برد سلبي.
وفي حلقة اليوم من كتاب أسد الأردن الذي تنفرد «الشرق الأوسط» بنشر حلقات منه بالاتفاق مع دار نشر «بنغوين» ومؤلفه المؤرخ والبروفسور في جامعة اكسفورد آفي شليم، قصة الطريق الى كامب ديفيد ومواقف الملك حسين منذ ان اعلن الرئيس المصري الراحل انور السادات مبادرته الشهيرة.

وقبلها كان عام 1977 مأساويا بالنسبة الى الملك حسين فقد توفيت الملكة عالية في تحطم مروحية وتركت لديه حزنا عميقا. كما أسفر وصول حزب الليكود إلى الحكم في إسرائيل عن تغيير رئيسي في السياسة الخارجية لإسرائيل. فعلى عكس حزب العمل البراغماتي المهتم بأمن إسرائيل كان الليكود حزبا آيدولوجيا قوميا متمسكا بمشروع «ارض إسرائيل» ويرفض تماما أي مطالب للأردن وأي حق للفلسطينيين في تقرير المصير. صادف العام 1977 اليوبيل الفضي لتولي الملك حسين عرش الأردن، لكنه كان عاما مأساويا على صعيد حياته الخاصة ومثار إحباط على الصعيد السياسي. ففي 9 فبراير (شباط) توفيت زوجته الثالثة عالية في حادث تحطم مروحية، وتركت تلك الحادثة حزنا عميقا لدى الملك حسين، وزاد من حزنه إحساس بالذنب لسماحه للملكة عالية بالسفر على متن المروحية الملكية في حالة جوية سيئة. وكانت أول زيارة خارجية للملك حسين بعد تلك الحادثة المأسوية في 24 ابريل (نيسان) إلى الولايات المتحدة، حيث التقى الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر ومستشاريه في البيت الأبيض. أبدى جميعهم إعجابا بالملك حسين ورأوا فيه حليفا قويا في مؤتمر الشرق الأوسط المزمع عقده في نهاية ذلك العام. وقال الملك حسين انه شعر لأول مرة منذ سنوات بإحساس من الأمل في التوصل إلى بعض الاتفاقيات. وفي وقت لاحق من مساء ذلك اليوم جلس كارتر وزوجته روزالين مع ضيفهم في شرفة ترومان يشاهدون هبوط وإقلاع الطائرات من مطار واشنطن الوطني، وتحدثوا حول شؤون دبلوماسية وشخصية. وبكى الملك حسين عندما تحدث مع روزالين كارتر حول مدى تقديره للخطاب المكتوب بخط اليد الذي أرسله له الرئيس. وسأل كارتر الملك حسين ما اذا كان يرغب في زيارة ساحل جورجيا لبضعة أيام بغرض الراحة والاستجمام، وقبل الملك حسين الدعوة. كان جيمي كارتر سادس رئيس أميركي يعمل معه الملك حسين. وعلى الرغم من البداية الواعدة بين الجانبين، إلا ان العلاقات لم تستمر بنفس الود بسبب الدور الثانوي الذي رسم للأردن في إطار خطط إدارة كارتر. ثمة مصدر آخر لتراجع العلاقات الأردنية ـ الأميركية تمثل في وصول حكومة يمينية إلى السلطة في إسرائيل برئاسة مناحيم بيغن في انتخابات مايو (أيار) 1977 لتضع نهاية لثلاثة عقود من سيطرة حزب العمل على الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. كما أسفر وصول حزب الليكود إلى الحكم في إسرائيل عن تغيير رئيسي في السياسة الخارجية لإسرائيل. حزب العمل كان حزبا براغماتيا يمثل أمن إسرائيل شغله الشاغل، فيما كان حزب الليكود حزبا آيدولوجيا قوميا متمسكا بمشروع «ارض إسرائيل». فقد رفض حزب الليكود تماما أي مطالب للأردن تتعلق بالسيادة الأردنية في المنطقة، كما رفض أي حق للفلسطينيين في تقرير المصير. أصاب القادة الأردنيين قلق بالغ، وكان خوفهم من ان الحكومة الإسرائيلية الجديدة لن تكتفي فقط بضم الضفة الغربية بل ستنفذ عمليات طرد جماعية واسعة للفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الضفة الشرقية. يضاف إلى ذلك ان سجل رئيس الوزراء الجديد، مناحيم بيغن، كزعيم لجماعة إرهابية يمينية في السابق وعضو في حكومة الوحدة الوطنية برئاسة ليفي اشكول، كان مصدرا آخر للقلق. الملك حسين كان ينظر إلى بيغن بنوع من النفور بسبب ماضيه الإرهابي ونهجه المتطرف في السياسة. وكان يشارك الملك حسين تلك الهواجس أعضاء آخرين في الأسرة الملكية مثل الأمير زيد بن شاكر، الذي قال ان الليكود يرى ان فلسطين تقع شرق نهر الأردن، وأن الشيء الوحيد الذي يحتاج إلى تغيير هو الحكم الملكي لأن غالبية سكان الأردن فلسطينيون. وأضاف الأمير زيد بن شاكر ان الأردن كانت لديه خطط طوارئ لمقابلة احتمالات الطرد الجماعي للفلسطينيين من الضفة الغربية. وأوضح أيضا ان الملك حسين كانت لديه اتصالات بكل حلفاء الأردن، وان تلك الفترة اتسمت بالقلق لدى الأردن. شعرت القيادة الأردنية بالخطر من برنامج الحكومة الإسرائيلية الجديدة وتشكيلتها. فقد جرى اختيار عزرا وايزمان، القائد السابق لسلاح الجو الإسرائيلي والمحسوب على جناح الصقور، وزيرا للدفاع، وزميله الجنرال السابق آرييل شارون وزيرا للزراعة. وكان شارون من أقوى المؤيدين لأطروحة اليمين الإسرائيلي التي تقول ان الأردن هو فلسطين، وأن هناك اصلا دولة فلسطينية في الضفة الشرقية لنهر الأردن وان الضفة الغربية يجب ان تصبح جزءا من «إسرائيل الكبرى» من خلال تسريع خطوات إقامة المستوطنات هناك. يضاف إلى ما سبق ان آرييل شارون كان واحدا من بضعة قيادات في قوات الدفاع الإسرائيلية عارضوا مساعدة الملك حسين في مواجهة التحدي الذي شكلته منظمة التحرير الفلسطينية لنظامه في أزمة سبتمبر (أيلول) 1970، فقد كان شارون يريد مساعدة منظمة التحرير الفلسطينية على إطاحة النظام الأردني وتحويله إلى دولة فلسطينية. ومن القرارات التي أثارت دهشة كثيرين تعيين بيغن موشي دايان وزيرا للخارجية. ويبدو ان واحدا من الأسباب التي دفعت بيغن إلى تعيين ديان في ذلك الموقع التأكيد على استمرار سياسة إسرائيل الخارجية. فقد يعلم بيغن جيدا انتشار المخاوف من احتمال ان يؤدي وصوله إلى الحكم في إسرائيل إلى إحداث توتر بين إسرائيل وجيرانها. وسعى بيغن إلى تبديد هذه المخاوف من خلال محاولة إعطاء انطباع بالمعقولية والمسؤولية. وبوجود الليكود ودايان في الحكومة الإسرائيلية الجديدة حلت مصر محل الأردن في سياسة إسرائيل الخارجية، فإن دايان قرر إجراء لقاء سري مع الملك حسين في لندن في 22 أغسطس (آب) 1977 بمنزل الدكتور ايمانويل هيربيرت، الذي بلغ من العمر آنذاك سبعين عاما ولم يكن في وضع صحي جيد. وكان ذلك آخر لقاء يستضيفه في منزله بين أصدقائه الأردنيين والإسرائيليين. كما انه كان آخر لقاء للملك حسين بقيادة الليكود لفترة عشر سنوات بعد ذلك. وطبقا لوصف موشي دايان لذلك اللقاء مع العاهل الأردني: «جاء الملك حسين متأخرا، وحياني مصافحا ومبتسما واعتذر عن تأخيره الذي قال انه كان بسبب ضيوف انتظرهم حتى غادروا. وجدت الملك حسين قد تغير كثيرا، ليس فقط في الشكل وإنما في الروح أيضا. لم يكن هو نفس الملك حسين الذي التقيته من قبل. لم يكن بنفس الروح والبريق السابق. حتى المواضيع السياسية التي طرحتها عليه لم يكن لها اثر عميق عليه في ما يبدو. كانت لغته مقتضبة وإجاباته قصيرة، وفي الغالب من كلمة واحدة، ونادرا ما كان يرد بأكثر من نعم أو لا، دون شرح واضح. ربما يكون اكتئابه ناجما عن الموت المأساوي لزوجته قبل شهور في حادثة سقوط هليكوبتر. وربما يكون ناجما أيضا عن قرار مؤتمر الرباط عام 1974 الخاص بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا وحيدا للشعب الفلسطيني وسحبه من ذلك الدور. قال الملك حسين انه منشغل بصورة رئيسية بإدارة الضفة الشرقية للنهر ـ مملكته الأردنية. لم يكن قادرا ولا متلهفا للاصطدام بالدول العربية أو منظمة التحرير الفلسطينية في تلك المسألة. اذا لم تكن لديهم رغبة فيه، فبوسعهم إدارة شؤون الفلسطينيين بدونه».

سأل دايان الملك حسين ما اذا كان يرغب في التوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل على أساس تقسيم الضفة الغربية بين الأردن وإسرائيل. على حد اعترافه بنفسه، لم يتلق دايان ردا واضحا وجليا فحسب، بل درسا مفيدا من الملك حسين. فقد رفض العاهل الأردني الفكرة بصورة قاطعة وقال ردا على دايان انه بوصفه ملكا عربيا لا يمكن ان يقترح على سكان قرية أن يستأصلوا أنفسهم من أشقائهم العرب ويصحبوا إسرائيليين. وقال له أيضا ان مثل هذا الاتفاق سيعتبر غدرا، وسيتهم بأنه «باع» أرضا عربية لليهود بغرض توسيع مملكته. يتساءل دايان في كتابه بعنوان Moshe Dayan، Breakthrough: A Personal Account of the Egypt-Israel Peace Negotiations: «هل كان الملك حسين لا يزال ملكا للأردن أم مجرد ظل لحاكم؟ هل كان حقا يرعى ويهتم ببلده أم انه كان يقضي غالبية وقته متجولا في الخارج؟ على أية حال، موقفه تجاه موضوع نقاشنا ـ محاولة التوصل إلى ترتيب معقول ومتفق عليه لمشكلة الضفة الغربية وقطاع غزة ـ اتسم باللامبالاة فيما يبدو». يبدو ان الشعور بخيبة الأمل كان مشتركا، فالملك حسين قال حول ذلك اللقاء مع موشي دايان: «التقيت صديقي موشي دايان. كان موقفه متشددا أكثر من قبل، وكانت تلك نهاية الأمر. لم يجر بيننا اتصال على مدى فترة طويلة». لم تكن في ذلك اللقاء أي مفاجآت. فموقف الملك حسين لم يتغير منذ ان التقى دايان عندما كان وزيرا للدفاع وعضوا في حزب العمل. دايان، من جانبه، تلقى الإجابات التي كان يتوقع، وهي الإجابات التي أكدت ببساطة وجهة نظر بيغن، وهي ان الملك حسين لن يوافق على التخلي عن أي أراض لإسرائيل في الضفة الغربية وسيرفض أي احتمال لاقتسام السلطة. وكان بيغن يكرر على دايان في مختلف المناسبات عبارة الملك حسين التي وصف بها مقترح اقتسام الأرض بأنه أمر «غير مقبول تماما». إذاً، المساومة بشأن الأراضي باتت خيارا مستبعدا من جانبي إسرائيل والأردن على حد سواء. «الخيار الأردني» دُفن، الأمر الذي أعطى دايان وبيغن الحرية في استكشاف «الخيار المصري»، وتبعا لذلك ضاعف كل منهما المساعي الدبلوماسية الرامية لإقناع الرئيس المصري أنور السادات بأن إسرائيل ترغب في الشروع في مفاوضات ثنائية. استحدث الرئيس كارتر النهج الشامل بديلا للنهج التدريجي لهنري كيسنغر، وهو نهج كان مناسبا مع إسرائيل، فيما لم يكن النهج الشامل يناسب إسرائيل البتة. كان كارتر ينظر الى المشكلة الفلسطينية كونها محور النزاع في الشرق الأوسط وكان يعتقد ان من مصلحة الولايات المتحدة التوصل إلى حل بشأنها. وكان يفضل على وجه التحديد إقامة وطن للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة يكون على ارتباط بالأردن. كما انه عمل على عقد مؤتمر جنيف مجددا بمشاركة الاتحاد السوفياتي وكل أطراف النزاع، بمن في ذلك الفلسطينيون. بيغن من جانبه نفى ان يكون للفلسطينيين أي حقوق وطنية، وكان يعارض عقد مؤتمر دولي بمشاركة الاتحاد السوفياتي، كما كان يعتبر ان قراري مجلس الأمن 242 لا ينطبق على الضفة الغربية وقطاع غزة. وكان ما يريده هو عقد مفاوضات ثنائية مباشرة بين مصر وإسرائيل دون مشاركة أي أطراف عربية أخرى، خصوصا منظمة التحرير الفلسطينية، التي كان يعتبرها منظمة إرهابية. وبتسبيبه مشاكل إجرائية مستمرة نجح بيغن في عرقلة خطط كارتر لعقد مؤتمر دولي. كانت هناك مشكلة في الجانب العربي أيضا. فالأسد وحسين كانا يفضلان تمثيل العرب بوفد موحد في حال انعقاد مؤتمر جنيف مجددا، فيما كان السادات يفضل ان تكون هناك وفود منفصلة. ووافق الملك حسين على المبادرة الأميركية لعقد مؤتمر لأنه كان قائما على أساس قرارات الأمم المتحدة ولأنه كان يتضمن وعدا بتسوية شاملة وأيضا لأنه خصص دورا رئيسيا للأردن. عارضت إسرائيل مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية في المؤتمر، إلا الملك حسين اقترح مشاركة فلسطينيين من غير أعضاء المنظمة كأعضاء في وفد الأردن سعيا للتأكيد على تمثيل الفلسطينيين. قام الملك حسين كذلك بجولة على عواصم الدول العربية سعيا لتشكيل جبهة موحدة. وفي القاهرة لم يكن السادات في مزاج للتشاور أو التناصح حول أي شيء. ومنذ البداية لم تكن هناك ثقة وصلات وثيقة أصلا بين الجانبين. الملك حسين عرض من جانبه على السادات الاستفادة من تجربته في التعامل مع الإسرائيليين وإطلاعه على الصعوبات التي من المحتمل ان تعترض طريقه، إلا انه لم يكن هناك رد فعل من جانب السادات. عند ذلك قال الملك حسين بصورة مباشرة للسادات إنه كان على اتصالات مع «الجيران» ودعا السادات لتوجيه أي أسئلة حول هذه الاتصالات، وهنا رد السادات قائلا انه سيباشر مسؤولياته بنفسه في هذا الجانب.

مساعي الملك حسين للتوصل إلى أرضية مشتركة مع السادات والأسد انتهت إلى لا شيء. فقد قرر السادات العمل بمفرده وفشل في إبلاغ أي من الأطراف الأخرى بشأن المبادرة السياسية الدراماتيكية التي يعتزم القيام بها. وفي 9 نوفمبر (تشرين الثاني) 1977 فجّر السادات مفاجأته أمام البرلمان المصري وقال: «أنا على استعداد للوصول إلى آخر الأرض من أجل السلام، وحتى إلى الكنيست نفسه». وبعد عشرة أيام قام السادات بزيارته التاريخية إلى القدس، وتخلى عن مؤتمر جنيف والنهج الرامي إلى تحقيق سلام شامل. أحدثت زيارة السادات إلى القدس فوضى وانقساما في العالم العربي. بعض القادة العرب أيد المبادرة، وعارضها آخرون، فيما آثر بعض آخر الانتظار ليرى ما يمكن ان تصبح عليه المواقف. الملك حسين كان ضمن الذين آثروا الانتظار كي يروا المواقف المترتبة على خطوة السادات. وعلى الرغم من انه فوجئ تماما بالخطوة التي أقدم عليها السادات في وقت كان يعمل فيه جاهدا لتوحيد الجهود من أجل موقف عربي موحد، فإن الملك حسين لم يقدم على إدانة خطوة السادات رغما عن الضغوط التي واجهها من الدول العربية الراديكالية ومنظمة التحرير الفلسطينية والرأي العام المحلي داخل الأردن. وفي خطاب تلفزيوني موجه إلى الشعب الأردني انتقد الملك حسين مبادرة السادات الأحادية الجانب، كما انتقد أيضا ردود الفعل العاطفية من بعض الدول العربية. وأشاد الملك حسين في كلمته بالسادات لشجاعته في التغلب على العادات والتقاليد والحواجز النفسية، لكنه أعرب عن تحفظاته تجاه شكل ومضمون المبادرة المصرية. وكانت كلمة الملك حسين الموجهة عبر التلفزيون بمثابة مناشدة للقادة العرب بضم الصفوف، وحذر قائلا ان العرب لن يستطيعوا استعادة حقوقهم اذا جاءت مساعي تحرير الأراضي العربية والتوصل إلى سلام عادل بمبادرة من جانب واحد أو جزئي أو غير ملتزمة بموقف مشترك. اللهجة المعتدلة للملك حسين تجاه مبادرة السادات عكست إلى حد ما النفوذ المتزايد للشريف عبد الحميد شرف، رئيس الديوان الملكي، في السياسة الخارجية للأردن. وهو من مواليد بغداد عام 1939 ويتحدر من الفرع العراقي للأسرة الهاشمية وعلى صلة قرابة بالملك حسين. إلا ان العلاقة بينه والملك حسين تراجعت بسبب انتماء شرف القومي العربي. وكان شرف قد انخرط في حركة القوميين العرب خلال دراسته بالجامعة الأميركية في بيروت. وفي وقت لاحق لعب الشريف زيد بن شاكر دورا رئيسيا في التوفيق بن الملك حسين وشرف وفي عودته إلى الأردن، حيث التحق بوزارة الشؤون الخارجية. وعقب حرب يونيو (حزيران) 1967 جرى تعيين شرف سفيرا للأردن لدى واشنطن، حيث بقي لفترة خمس سنوات انتقل بعدها إلى العمل في منظمة الأمم المتحدة بنيويورك. وعقب عودته إلى الأردن عام 1976 جرى تعيينه مديرا للديوان الملكي وأصبحت بعد ذلك العلاقة بينه والملك حسين وثيقة وبات يعتمد عليه في الاستشارات ويثق في حكمه على بعض الأمور. وكان شرف يعتقد في ضرورة ان تكون هناك علاقة متوازنة بين الأردن وبقية الدول العربية. وفيما كان رئيس الوزراء الأردني حينذاك، مضر بدران، يعارض بشدة المبادرة المصرية، كان يرى شرف ان رفض الأردن القاطع للمبادرة سيؤدي إلى عزل السادات وتركه عرضة للضغوط الإسرائيلية وان مصر ستعمل من جانبها على تسريع خطوات عملية تفتيت بقية الدول العربية. وغلبت نصيحة شرف في نهاية الأمر لأنها كانت منسجمة مع أسلوب الملك حسين واستراتيجيته. نجح السادات بزيارته إلى القدس في كسر الحاجز النفسي الذي كان يشكل، على حسب قوله، 90 فيد المائة من النزاع العربي ـ الإسرائيلي. وأقنع السادات غالبية الإسرائيليين بأن السلام مع العرب احتمال حقيقي ولكن يمكن تحقيقه فقط من خلال انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة. إلا ان السادات لم ينجح في اختراق الحاجز السياسي للسلام، وعلى وجه التحديد رفض حزب الليكود الانسحاب من الضفة الغربية. وفي هذا الجانب فشلت زيارة السادات، وهذا ما رفض مرارا الاعتراف به. وفي صيف عام 1978 تقدم الرئيس الأميركي جيمي كارتر بمبادرة من جانبه دعا على أساسها كلا من مصر وإسرائيل لمؤتمر سلام تحت رعاية الولايات المتحدة في منتجع كامب ديفيد الرئاسي في ميريلاند. لم يتلق الملك حسين دعوة، لكنه تسلم خطابا من الرئيس كارتر يتضمن الخطوط العريضة لخططه بشأن مبادرة السلام. ورد الملك حسين على كارتر بخطاب طويل تمنى له من خلاله النجاح وأشار فيه أيضا إلى العقبات المحتملة في هذا الطريق. بدأ الملك حسين خطابه إلى كارتر بالقول ان مبادرة السادات الشجاعة زادت من اعتقاد العرب بمعارضة اسرائيل للانسحاب من الأراضي التي احتلت بالقوة عام 1967 تحت أي ظرف من الظروف وانها لا تعتزم السماح بالوصول إلى حل معقول للمسألة الفلسطينية. وكتب الملك حسين أيضا ان الحكومة الإسرائيلية زادت من العقبات الموجودة اصلا في طريق السلام برفضها الاعتراف بأن الضفة الغربية أراض أردنية محتلة. وجاء في خطابه أيضا ان الأردن على استعداد للمشاركة بصورة ايجابية في مساعي التوصل إلى سلام، ولكن قبل الدخول في أي مفاوضات لا بد من مؤشرات واضحة ومباشرة إلى ان النتيجة ستكون انسحابا كاملا من كل الأراضي المحتلة، وتضمن الخطاب أيضا تحذيرا ضمنيا بأن أي تسوية منفردة لن تكون مقبولة من جنب الأردن وحلفائه العرب. أوردت بعض التقارير الإخبارية في الصحافة الأميركية ان الأردن رفض الدعوة للمشاركة في قمة كامب ديفيد. تلك التقارير لم تكن صحيحة، لكنها ربما تكون نابعة من تقلبات موقف الملك حسين عشية القمة عندما بدا انه غير رافض للدعوة، لكنه مصر على جعلت مسألة مشاركته أمرا صعبا. استمرت قمة كامب ديفيد 13 يوما ابتداء من 5 حتى 17 سبتمبر (أيلول)، وبقي الملك حسين خلال تلك الفترة في العاصمة البريطانية وهو يشعر بأنه استبعد منها، لكنه كان يتابع تطوراتها بقلق. وتصادف خلال تلك الفترة وجود اشرف مروان، وهو رجل أعمال مصري ثري، صهر جمال عبد الناصر وعلى علاقة وثيقة بالسادات. طلب الملك حسين مقابلة أشرف وأبلغه في سرية تامة رغبته في المشاركة في قمة كامب ديفيد وطلب منه ان يبلغ السادات بذلك. سافر مروان إلى واشنطن وتحث مع واحد من كبار مستشاري السادات ثم عاد إلى لندن ليبلغ الملك حسين برد سلبي. لم يكن السادات يرغب في وجود الملك حسين في القمة، لأنه لا يشعر تجاهه بالارتياح من ناحية، وكان لا يثق فيه من الناحية الأخرى. إلا ان الأمر الأكثر أهمية هو ان السادات كان يعتقد ان وجود الملك حسين في كامب ديفيد سيعقّد العملية ويقفل الطريق أمام أي تقدم. كان السادات يدرك أيضا ان الملك حسين سيطرح مسألة تقرير مصير الفلسطينيين ويصر على التوصل إلى تسوية شاملة للنزاع. وعندما سأل السكرتير الخاص لمناحيم بيغن السادات عن السبب وراء رفضه لحضور الملك حسين القمة، رد السادات ببساطة قائلا: «لأن الملك حسين اذا وصل إلى كامب ديفيد، فلن نتوصل إلى أي اتفاق».
 
رد: أسد الاردن / قصة ملك

أسد الاردن / قصة ملك (الحلقة العاشرة) ـ الملك حسين غضب واعتبر أن السادات خدعه متعمدا

رد فعل واشنطن جاء شرسا على رفض الأردن لاتفاقيات كامب ديفيد.. وإدارة كارتر كثفت ضغوطها


الملك حسين يتوسط الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر وشاه إيران الراحل

لندن: «الشرق الاوسط»
في اليوم العاشر لمفاوضات كامب ديفيد المصرية ـ الاسرائيلية اتصل الملك حسين، بتشجيع من رجل الاعمال المصري اشرف مروان، بالرئيس الراحل انور السادات هاتفيا في المنتجع الرئاسي بكامب ديفيد. وأبلغ السادات الملك حسين خلال تلك المكالمة بأن المفاوضات تعثرت فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية وانه يشعر بالإحباط ومن المحتمل ان يحزم حقائبه عائدا إلى مصر. وهنا حيا الملك حسين السادات على محاولته وشجعه على التمسك بموقفه وتحميل مسؤولية الفشل للمتسببين فيه. أجرى الملك حسين كذلك ترتيبات بغرض التقاء السادات في المغرب في طريق عودته من الولايات المتحدة ووعده بمرافقته في جولة على عواصم الدول العربية لإطلاع زعمائها ومسؤوليها بما حدث.
وبعد ثلاثة أيام فقط علم الملك حسين من تقرير بثته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) ان اتفاقا تم التوصل إليه في كامب ديفيد. شعر الملك حسين بغضب بالغ، واعتقد ان السادات خدعه متعمدا، وبدلا من التوجه إلى المغرب عاد الملك حسين إلى الأردن. وفي حلقة اليوم من كتاب «اسد الاردن» الذي سينزل الى الاسواق قريبا باللغة الانجليزية، وتنفرد «الشرق الاوسط» بنشر حلقات منه بالاتفاق مع دار نشر «بنغوين» ومؤلفه آفي شليم المؤرخ والاستاذ في جامعة اكسفورد، تفاصيل المواقف الاردنية حول الاتفاق المصري ـ الاسرائيلي وضغوط ادارة الرئيس الاميركي الاسبق جيمي كارتر وقمة بغداد.

لم يكن السادات يرغب في حدوث خلاف بينه والملك حسين. فالسادات كان يرى ان تأييد العاهل الأردني من المحتمل ان تكون له قيمة في مواجهة المعارضة العربية المؤكدة للتوصل إلى سلام جزئي مع إسرائيل، فضلا عن ان السادات كان في حاجة إلى واجهة شرعية. بمعنى آخر، لم يكن السادات يرغب في ان يلعب الملك حسين دورا في محادثات السلام وإنما فقط كي يضفي بعض الشرعية على عملية ينظر إليها العرب كونها اتفاقيه مشبوهة. وكان السادات يعتمد في هذا الجانب على ان الضغوط المصرية ـ الأميركية لن تترك أمام الملك حسين من خيار سوى الانخراط وراءهما. بصورة عامة، كانت للسادات وجهة نظر سلبية تجاه الحكام العرب. وفي لقائه مع المسؤولين الأميركيين كثيرا ما قلل السادات من شأن الملك حسين، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى تجاهل تحذيراته بشأن إبرام أي اتفاق سلام منفصل. القدس، وحقوق الفلسطينيين، ومستقبل المستوطنات في الضفة الغربية، كانت من أكثر القضايا الشائكة في محادثات كامب ديفيد. وأوردت وسائل الإعلام ان التفاوض بشأن كل هذه القضايا وصل إلى طريق مسدود. وفي 14 سبتمبر، وعلى وجه التحديد في اليوم العاشر للمفاوضات، اتصل الملك حسين، وبتشجيع من اشرف مروان، بالسادات هاتفيا في المنتجع الرئاسي بكامب ديفيد. وأبلغ السادات الملك حسين خلال تلك المكالمة بأن المفاوضات تعثرت فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، انه يشعر بالإحباط وان من المحتمل ان يحزم حقائبه عائدا إلى مصر. وهنا حيا الملك حسين السادات على محاولته وشجعه على التمسك بموقفه وتحميل مسؤولية الفشل للمتسببين فيه. أجرى الملك حسين كذلك ترتيبات بغرض التقاء السادات في المغرب في طريق عودته من الولايات المتحدة ووعده بمرافقته في جولة على عواصم الدول العربية لإطلاع زعمائها ومسؤوليها بما حدث.

وفي واقع الأمر عرض الملك حسين على السادات مساعدته في معالجة الانقسام الذي حدث واستعادة موقعه في العالم العربي. وبعد ثلاثة أيام فقط علم الملك حسين من تقرير بثته هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) ان اتفاقا تم التوصل إليه في كامب ديفيد. شعر الملك حسين بغضب بالغ واعتقد ان السادات خدعه متعمدا، وبدلا من التوجه إلى المغرب عاد الملك حسين إلى الأردن. تضمن اتفاق كامب ديفيد جزءين، الأول عبارة عن إطار لاستكمال معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل، وترتكز المعاهدة على أربعة مبادئ، هي انسحاب إسرائيلي كامل من سيناء والاعتراف بسيادة مصر على أراضيها وجعل غالبية سيناء منطقة منزوعة السلاح وإرسال قوات تابعة لمنظمة الأمم المتحدة للإشراف على نزع السلاح وضمان حرية الملاحة في خليج وقناة السويس والتطبيع الكامل للعلاقات بين مصر وإسرائيل. ويشتمل الجزء الثاني من الاتفاق على إطار للسلام في الشرق الأوسط، وهو يتعلق بالقضية الفلسطينية. ويشتمل هذا الجزء على انتخاب ممثلين فلسطينيين للتفاوض مع إسرائيل حول تأسيس حكم ذاتي محلي محدود في الضفة الغربية وقطاع غزة. وعلى الرغم من ان هذا الاتفاق كان قائما على أساس قرار مجلس الأمن رقم 242، فإنه لم يحسم مسألة انسحاب إسرائيل وتركها لمفاوضات «الوضع النهائي» بعد فترة انتقالية للحكم الذاتي تكون السيطرة العسكرية خلالها لإسرائيل. لم يرد في ذلك الاتفاق أي ذكر لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولا تقرير المصير للفلسطينيين، ولا أي اتفاق على التزام بانسحاب إسرائيل فيما عدا سيناء، ونتيجة لذلك قوبل اتفاق كامب ديفيد برفض فوري من جانب منظمة التحرير الفلسطينية وسورية ودول عربية أخرى. كان الملك حسين في حالة صدمة عندما قرأ نص الاتفاق، خصوصا في ضوء التأكيدات التي تلقاها من السادات قبل ثلاثة أيام فقط. وبذلك أصبح واقعاً كابوسُ توصل مصر إلى اتفاق سلام منفصل مع إسرائيل. استبعد الفلسطينيون والأردنيون وأصبح العالم العربي في حالة من الفوضى والارتباك. كان الملك حسين يخشى من أن يؤدي اعترافه بالاتفاق الذي توصل إليه السادات إلى إفساد العلاقات مع الفلسطينيين وبقية العالم العربي. كان يشعر بالإهانة إزاء الطريقة الفجة التي حاولت الولايات المتحدة من خلالها جعله جزءا من العملية، ورفض إعطاء شرعية للاحتلال الإسرائيلي أو لعب دور الشرطي التابع لإسرائيل في الضفة الغربية. وشعر باستياء خاص تجاه افتراض أن الأردن يمكن ان يلعب الدور الذي رسم له في وثيقة كامب ديفيد. فقد ورد اسم الأردن ما لا يقل عن 14 مرة في جزء الاتفاقية تحت عنوان «إطار للسلام في الشرق الأوسط» من دون مشاورة الأردن بشأن الدور الذي حدده له الذين صاغوا الوثيقة. وأكد الملك حسين وحكومته مرارا أن الأردن غير ملتزم قانونيا أو أخلاقيا بأي اتفاق لم يشارك في صياغته، مشددين على ان الأردن سيتسمر في الإصرار على الانسحاب الإسرائيلي من كل الأراضي المحتلة وعلى حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. شعر الملك حسين بأن السادات خدعه، إلا ان تسلسل الأحداث باتجاه نهاية قمة كامب ديفيد يدل على ان بيغن هو الذي خدع جميع المشاركين الآخرين.

ففي صباح الجمعة 15 سبتمبر أبلغ السادات وزير الخارجية الأميركي سايروس فانس بأنه سيغادر القمة عائدا إلى بلده لأنه لا يرى أي أمل في التوصل إلى اتفاق، إلا ان كارتر نجح في إقناع السادات بالبقاء والاستمرار في المفاوضات. وفي مساء السبت التقى كارتر وسايروس فانس وبيغن وكبار مستشاريه لمدة ست ساعات وشعروا بأنهم حققوا تقدما رئيسيا، وبدأ بيغن في كتابة خطاب إلى كارتر بغرض إعلان مضمونه، وأكد في الخطاب وقف إسرائيل لبناء أي مستوطنات جديدة خلال الفترة الانتقالية المحددة بخمس سنوات للحكم الذاتي الفلسطيني. وكان هذا الالتزام من جانب بيغن كعامل رئيسي لإقناع السادات بالتوقيع على اتفاقيات كامب ديفيد في واشنطن يوم الأحد 17 سبتمبر 1977. وصل خطاب بيغن يوم الاثنين واكتشف ان ما جاء فيه حول المستوطنات يتضمن تحديد تأجيل بناء المستوطنات الجديدة لفترة ثلاثة أشهر، وهي فترة المفاوضات حول السلام بين مصر وإسرائيل. كانت ملاحظات كارتر واضحة ومحددة وتلخصت في تجميد بناء المستوطنات إلى حين استكمال كل المفاوضات، وأكد سايروس فانس على هذا التفسير. وهنا قال بيغن انه لا بد ان يكون قد حدث نوع من سوء الفهم. ولكن لم يكن هناك أي سوء فهم، فقد تصرف على نحو يفتقر إلى قواعد الأمانة والشرف. شعر كارتر بغضب بالغ تجاه بيغن ووصفه بأنه «معتوه». فتجميد بناء المستوطنات في الضفة الغربية كان بمثابة واحد من التنازلات التي ربما أقنعت العرب بجدية الولايات المتحدة في التوصل إلى سلام عادل. وبسحبه لهذا التنازل يكون بيغن قد ألحق ضررا بالغا بالموقف الأميركي في نظر العالم العربي، فحتى العرب الأكثر اعتدالا والمؤيدون للولايات المتحدة أحجموا عن الاعتراف بالاتفاق المنقوص الذي وقعته مصر. على الرغم من ذلك عملت الولايات المتحدة بجدية للحصول على تأييد السعودية والأردن. فقد أورد كارتر في مذكراته انه اتصل بالملك حسين في عمان وعلم انه يتعرض لضغوط من بعض الدول العربية كي يرفض لعب أي دور في المفاوضات المقبلة حول تطبيق اتفاقيات كامب ديفيد. وأورد كارتر أيضا انه شرح للفلسطينيين والملك حسين فوائد الاتفاق، ووعد الملك حسين، على مضض، بعدم اتخاذ أي قرار أو بقطع التزام رسمي إلى حين الإطلاع المفصل على وثائق الاتفاقيات، ولكن لم ترد في مذكرات كارتر أي معلومات حول الخطاب الذي أرسله له الملك حسين في 27 أغسطس (آب) محذرا إياه من النتائج التي يجري توصل إليها في نهاية الأمر. وبمجرد انتهاء المفاوضات أرسل كارتر سايروس فانس إلى الأردن والمملكة العربية السعودية بغرض الحصول على التأييد اللازم للاتفاقيات، غير ان زبيغنيو بريزينيسكي، مستشار الرئيس كارتر لشؤون الأمن القومي كان له رأي آخر. فقد تدخل عقب انتهاء المفاوضات وتبنى لهجة تهديد وتخويف، وقال إن صاحب الحاجة لا قرار له في اختيار ما يحتاج. وتجاهل بريزينيسكي تحذيرات وزارة الخارجية الأميركية من ان الأردن والسعودية سيحتاجان إلى بعض الوقت لقبول الوضع الجديد، كما انه ضلل الصحافة الأميركية بتصريحات زعم فيها ان الدولتين أبدتا معارضة اسمية قبل الانضمام في محادثات موسعة. لهجة الانتصار لدى وسائل الإعلام الأميركية جاءت في غير صالح سايروس فانس خلال زيارته إلى منطقة الشرق الأوسط. فقد كان كل من الملك حسين وولي العهد السعودي وقتها الأمير فهد بن عبد العزيز يشعران بالغضب تجاه السادات لأنه تعهد لهما بالتزام واضح بالتفاوض من أجل تسوية شاملة يشارك فيها بقية العرب، بمن في ذلك الفلسطينيون، أو يؤيدونها على الأقل. أبلغ كل من الملك حسين والأمير فهد سايروس فانس بأن غالبية الدول العربية هاجمت السادات وان القادة الفلسطينيين ليسوا على استعداد للمشاركة في المفاوضات الخاصة بالحكم الذاتي. وقالا له إن السادات قد خذلهما بإبرامه اتفاقا منفصلا مع إسرائيل مقابل إعادة سيناء إلى مصر. سايروس فانس رد من جانبه قائلا ان ترتيبات الحكم الذاتي ربما تقود في نهاية الأمر إلى حق تقرير المصير للفلسطينيين. يضاف إلى ذلك ان الملك حسين والأمير فهد شككا في ان تلتزم إسرائيل بشروط وروح الاتفاقية. وفي نهاية النقاش المطول ابلغ الملك الحسين سايروس فانس بأن لديه أسئلة إضافية يريد إجابات عليها قبل إعطاء رده الذي وعد بإرساله بعد وقت قصير. ساد التردد بين غالبية مستشاري الملك حسين إزاء الانخراط في مفاوضات كامب ديفيد. فمن ناحية، كانوا لا يريدون الإضرار بالعلاقات مع الولايات المتحدة، كما انهم كانوا يشعرون في نفس الوقت بان الانضمام إلى كامب ديفيد ربما يسفر عن مخاطر سياسية وشخصية غير مقبولة على الملك حسين، أكبرها الانضمام إلى جانب السادات والخروج في نهاية الأمر صفر اليدين، وكان الملك حسين ومستشاروه يدركون جيدا ان ما يحدث هو عملية تتألف من مراحل، لكنهم كانوا يريدون التأكد من النتائج النهائية قبل ابتداء الرحلة. على وجه التحديد كان مستشارو العاهل الأردني في حاجة إلى التأكد من ان النتيجة النهائية ستكون تسوية سلمية تنتهي بانسحاب إسرائيلي من الأراضي المحتلة. واصدر الملك حسين قرارا بتشكيل لجنة من خمسة مسؤولين، برئاسة الشريف عبد الحميد شرف، لصياغة الأسئلة التي تحتاج إلى رد من جانب الإدارة الأميركية، وأعدت اللجنة 14 سؤالا يتعلق معظمها بتفسير الإدارة الأميركية لاتفاقيات كامب ديفيد والدور الأميركي في تطبيقها. وقع الرئيس كارتر بنفسه على الإجابات وأرسلها إلى هارولد سوندرز، مساعد وزير الخارجية، لتوصيلها إلى الملك حسين في 16 أكتوبر (تشرين الأول). جاء في الإجابات ان تفسير الولايات المتحدة على قرار مجلس الأمن 242 لم يتغير منذ عام 1967، كما تضمنت الإجابات إيضاحات لوجهات نظر واشنطن تجاه قضايا محددة متضمنة في اتفاقيات كامب ديفيد، بيد ان الإجابات لم تشتمل على أي من الضمانات التي كان يسعى إليها الأردن. لم تكن هناك، على سبيل المثال، إشارة إلى ان إدارة الرئيس كارتر على استعداد لممارسة ضغوط على إسرائيل مثل الضغوط التي تمارسها على العرب. وجاء في الوثيقة ان كل القضايا الشائكة يجب ان يجري التوصل إلى حل بشأنها من خلال مفاوضات مباشرة بين الأطراف نفسها. يضاف إلى ما سبق ان الردود الأميركية لم تتضمن أي إشارة إلى عدم التوازن بين الأطراف المعنية. وأجمع مستشارو الملك حسين على أن إجابات واشنطن مبهمة وغير مقنعة وتفتقر إلى إبداء أي التزام من جانب الولايات المتحدة. قضى سوندرز ساعات مع مستشاري الملك حسين وعقد اجتماعين مع الملك نفسه، الذي ابلغ سوندرز بأن الأردن لا يستطيع المشاركة في المفاوضات الخاصة بتطبيق بنود اتفاقيات كامب ديفيد بدون تأييد من الجانبين الفلسطيني والسعودي. والتقى سوندرز أيضا قادة الضفة الغربية لكنه لم يستطع الحصول على تأييد لمشاركة أردنية. توجه سوندرز بعد ذلك إلى المملكة العربية السعودية لكنه لم يكن أفضل حظا من سايروس فانس. وجه سوندرز سؤالا مباشرا إلى ولي العهد الأمير فهد بن عبد العزيز مستفسرا إياه حول ما إذا كانت السعودية ستؤيد الأردن في حال إعلان الملك حسين تأييده لاتفاقيات كامب ديفيد، إلا أن الأمير فهد لم يرد على سوندرز بإجابة قاطعة، ثم غيّر موضوع الحديث. عاد سوندرز مرة أخرى إلى عمان للقاء الملك حسين واعترف بفشل مهمته. على الرغم من كل هذه الإحباطات لم يكن الملك حسين يرغب في استبعاد كل احتمالات المناقشة في المستقبل. وجاء في مذكرات كارتر انه لم يتلق إجابة قاطعة من الملك حسين، الذي ترك احتمالات مشاركة الأردنيين أو الفلسطينيين مفتوحة حسبما تم الاتفاق عليه في كامب ديفيد، لكنه لم يبد أي نوع من الالتزام. وفي مناقشات على الصعيد الشخصي والخاص استخدم كارتر لغة اقل دبلوماسية ووصف الملك حسين بأنه ملك ضعيف لدولة ضعيفة. كان الأردن يعتمد بصورة كبيرة على مساعدات دول الخليج العربي، لذا سيكون هناك ثمن اقتصادي لخروجه على الإجماع العربي. يضاف إلى ذلك ان الخطر العسكري من كل من العراق وسورية على الحكم الهاشمي في الأردن سيزداد في حالة الخروج على الإجماع العربي، فضلا عن الخطر الذي سيتهدد الاستقرار الداخلي للأردن في حال تحدي الأردن قرار قمة الرباط وإثارة غضب النازحين الفلسطينيين في الأردن. في ظل تلك الأوضاع آثر الملك حسين التقارب مع العرب الرافضين لاتفاقيات كامب ديفيد، وقبل الدعوة للمشاركة في قمة عربية في بغداد استبعدت مصر منها. لم تكن بغداد المكان الأنسب من بين كل العواصم العربية لزيارة الملك حسين، ذلك ان بغداد هي المدينة التي شهدت طرد الأسرة الهاشمية بصورة عنيفة قبل حوالي عشرين عاما من ذلك الوقت. وكانت تلك أول زيارة للملك حسين إلى بغداد منذ عام 1958. اتخذت السلطات العراقية كل الخطوات اللازمة كي يشعر الملك حسين بأنه محل ترحيب وحفاوة، وأرسل مسؤولو حزب البعث إلى المقابر الملكية لقطع الحشائش التي نمت بغزارة حول قبور أفراد الأسرة الهاشمية تحسبا لاحتمال زيارة الملك حسين لها خلال أيام مشاركته في القمة. تحدث الملك حسين في القمة ووضع الأردن في قلب الإجماع العربي الجديد، وتقدم بإطار لعمل عربي مشترك لحماية العالم العربي في مواجهة التوسع الإسرائيلي ولتأمين استعادة الأراضي العربي المحتلة. وأكد العاهل الأردني ضرورة حشد الدول العربية لكل مواردها وإمكانياتها لمواجهة الخطر المشترك. قررت قمة بغداد تعليق عضوية مصر ونقل المقر العام لجامعة الدول العربية من القاهرة إلى تونس. كما اعلنت القمة ان اتفاقيات كامب ديفيد مناقضة لقرارات قمة الرباط، وأكدت تأييدها لمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد للشعب الفلسطيني، فضلا عن تصويتها لصالح مواصلة الدعم المالي لمدة عشر سنوات لكل من سورية والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية، وخصص للأردن ثلث هذه المساعدات (1250 مليون دولار على مدى 10 سنوات). وكان ذلك الدعم من جانب الدول العربية المنتجة للنفط للجبهة الشرقية يهدف إلى إعادة توازن القوى الذي سببه خروج مصر. كانت قمة بغداد بمثابة بداية لعلاقة صداقة شخصية وثيقة وشراكة سياسية بين الملك حسين وصدام حسين، نائب الرئيس العراقي الشاب في ذلك الحين. وكان صدام حينها الرجل القوي في نظام حزب البعث، وتسلم الرئاسة بعد ذلك من أحمد حسن البكر. لعب صدام حسين دورا رئيسيا في إقناع الدول العربية الثرية في تقديم مساعدات مالية لبقية دولة المواجهة التي تجمعها حدود مشتركة مع إسرائيل. وأبدى الملك حسين إعجابا بالنائب الشاب النشط للرئيس العراقي وببلاغته في الحديث حول الحاجة إلى وحدة بين الدول العربية والتأكيد على مسؤوليتها الجماعية في التأكد من عدم وجود عربي جائع. صدام حسين من جانبه تعامل مع جاره الملك حسين بتهذيب ولطف بالغين، وأبدى تفهما كاملا وتعاطفا مع محنته. وشأن بقية أفراد الأسرة الهاشمية نظر الملك حسين إلى العراق بمزيج من الإعجاب والنفور. الإعجاب بثروة وقوة العراق، والنفور بسبب المذبحة البشعة لأقربائه عام 1958. وفي نهاية الأمر رجحت الصداقة الوليدة بين الملك حسين والزعيم العراقي الكفة في صالح الإعجاب وساعدته على تجاوز الذكريات المريرة للماضي. جاء رد فعل واشنطن شرسا على رفض الأردن لاتفاقيات كامب ديفيد، وكثفت إدارة كارتر الضغوط على الأردن بغرض إجباره على تغيير موقفه والانضمام إلى مفاوضات كامب ديفيد. قطعت واشنطن مساعداتها للأردن ونصحت حلفاءها في منطقة الخليج بعدم مساعدة الأردن. واجه الأردن أيضا صعوبات في الحصول على منح من البنك الدولي لدعم مشاريع التنمية، بل واجه الأردن خلال فترات عدم توفر السيولة لدفع رواتب الجيش. وفي مارس 1979 زار زبيغنيو بريزينيسكي عمان وهدد بفرض قيود على إمدادات السلاح للأردن إذا لم يغير موقفه تجاه عملية السلام التي دعمتها الولايات المتحدة. واعتقد المسؤولون الأردنيون ان الولايات المتحدة ربما لا توفر الحماية للأردن في وجه أي هجوم من إسرائيل مستقبلا. اتهم الملك حسين الولايات المتحدة بازدواجية المعايير في تشجيعها المقاومة الإسلامية ضد الغزو السوفيتي لأفغانستان، وتصويرها ـ في نفس الوقت ـ الفلسطينيين كمجرمين بسبب مقاومتهم لاحتلال أرضهم من جانب إسرائيل، ووصلت العلاقات بين واشنطن وعمان إلى أدنى مستوى لها لأول مرة. قرر كارتر خفض المساعدات الأميركية للأردن من 40 مليون دولار عام 1978 إلى 20 مليون دولار عام 1980، وتجاهلت الولايات المتحدة طلب الأردن طائرات F-16. علاوة على ذلك أجاز مجلس النواب الأميركي مشروع قرار مساعدات عسكرية بحرمان الأردن من أي مساعدات إلى ان يلعب الدور المحدد له في اتفاقيات كامب ديفيد، واعتبرت عمان مشروع القرار المذكور ابتزازا. فرضت الولايات المتحدة أيضا الكثير من الشروط على طلب الأردن شراء 300 دبابة M60A3، مما اضطر الملك حسين إلى شراء 274 دبابة بريطانية من طراز Chieftainبمساعدة من المملكة العربية السعودية. تراجعت العلاقات الشخصية بين الملك حسين وكارتر، ووصف الأخير الملك حسين بأنه «أضعف من ان يعتمد عليه» في عملية السلام. وفي 17 يونيو (حزيران) 1980 زار العاهل الأردني واشنطن لإجراء محادثات مع كارتر، وشرح له أهمية الأسلحة التي حرم منها الكونغرس الأردن على الرغم من كونه عرضة للمخاطر. وكرر الملك حسين مجددا خلال محادثاته مع كارتر اعتراضه على اتفاقيات كامب ديفيد، مؤكدا الحاجة إلى عقد مؤتمر دولي تحت رعاية الأمم المتحدة يؤكد تمثيل الفلسطينيين ويعالج مسألة تقرير المصير لهم. دارت عملية السلام برمتها حول التوتر بشأن التسوية النهائية والتسوية المنفصلة. الاتفاقيات التي جرى التوصل إليها في نهاية المطاف بكامب ديفيد تعارضت مع المبادئ الأساسية للأردن في مجال السياسة الخارجية. وكان الملك حسين يدرك ان مصر وإسرائيل تحتلان مرتبة أعلى من الأردن في قائمة حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. لكنه شعر بأن جيمي كارتي، في خضم سعيه جاهدا لتحقيق نجاح في مجال السياسة الخارجية، أجبر العرب على دفع ثمن تعصب إسرائيل.
 
عودة
أعلى