هذا المقال يتعرض لتيار فكري قديم للغاية، حيث لا يُعرف بالضبط تاريخ نشأته، وهو أشبه بإطار فكري عام تنبثق من داخله عشرات الأديان والمذاهب والفلسفات والتقليعات التي ما زالت تتوالد حتى اليوم، فهو ليس دينا أو فلسفة واحدة بل تيار يؤثر على أتباع أديان ومذاهب متنوعة فيعاد من خلاله تأويل تلك الأديان لتظهر في إطار جديد.
تيار عام
مصطلح الغنوصية (Gnosticism) مشتق من كلمة يونانية تعني المعرفة أو العرفان، ويُقصد بها المعرفة الكشفية الإشراقية (الحدسية) التي يكتشف صاحبها المعارف العليا مباشرة بالحدس دون استدلال وتفكير عقلي، ودون حاجة إلى الوحي [انظر مقال مصادر المعرفة]. لذا فهي فلسفة تضع نفسها موضع الدين من حيث اهتمامها بالإجابة على الأسئلة الثلاثة الأساسية للأديان، وهي: المبدأ (من أين جاء العالم؟)، الغاية (لماذا يوجد العالم؟)، والمصير (إلى أين نحن ذاهبون؟)، حيث يزعم أصحابها أنهم يتوصلون عبرها إلى معرفة الحقيقة واكتشاف غاية الحياة وطريق الخلاص، وذلك عبر الطرق السرية الباطنية.
يزعم الغنوصيون أن عقيدتهم هي أقدم العقائد البشرية، وأنها وصلت إليهم مباشرة من كائن خفي يسمونه “المطلق”، وهو ليس بالضرورة إلهاً خالقاً منزهاً كما يعتقد أتباع الديانات التوحيدية، بل هو كائن غامض قد تختلف تفسيراتهم وتسمياتهم له، فقد يسمونه “الكلي” أو “الطاو” أو “الطاقة الكونية” أو “القوة العظمى”.
أما مصطلح “الباطنية” فيعود لغويا إلى الباطن، أي إلى ما يخفى من الشيء، فهو الجانب المقابل للظاهر، ويقال في اللغة “بطنت الأمر” أي عرفت باطنه، أما كلمة “الباطني” فقد تطلق على ثلاثة أشخاص، الأول هو الشخص الذي يكتم اعتقاده ولا يظهره، والثاني هو المختص بمعرفة أسرار الأشياء، أما الثالث فهو الذي يعتقد أن لكل شيء ظاهر وباطن، أي أن لكل نص تأويل خفي، ولكل كلمة معنى سري.
وعندما نتحدث عن العقائد والفلسفة، فالباطنية هي تيار فكري يعتقد أصحابه أن هناك علوماً خفية تختص بها النخبة من علمائهم الذين يتلقون علمهم بالكشف والإشراق، أي بالحدس وليس الوحي، ونجد لهذا التيار انتشارا داخل معظم الأديان، فهو موجود منذ القدم لدى أتباع الأديان الشرقية كالهندوسية والبوذية والطاوية حيث نجد أثره واضحا في كتاب “الفيدا” المقدس، ويظهر أيضا في اليهودية تحت اسم القبالاه التي تزعم أن للتوراة معنى خفيا يُستخرج من أسرار الحروف والأرقام، حيث يعد كتاب “الزوهار” من أبرز الكتب الباطنية، كما تغلغلت الغنوصية في المسيحية المبكرة على يد مارقيون في أواخر القرن الميلادي الأول، أما في الإسلام فنشأت طوائف باطنية كثيرة داخل المذهب الشيعي على يد الإسماعيليين والدروز، وما زال الأثر الباطني واضحا لدى الشيعة في علم الجفر، بينما نجد بين ظهراني المسلمين السنة مذاهب متعددة من التصوف الفلسفي المتطرف التي تؤمن بأفكار مشابهة، ولا سيما لدى محيي الدين بن عربي وعبد الحق بن سبعين. [أصول الفلسفة الإشراقية، ص119]
يقول الإمام أبو حامد الغزالي (توفي عام 505هـ) في كتابه فضائح الباطنية “إن الباطنية إنما لقبوا بها لدعواهم أن لظواهر القرآن والأخبار بواطن تجري مجرى اللب من القشر، وأنها بصورها توهم عند الجهال الأغبياء صورا جلية، وهي عند العقلاء والأذكياء رموز وإشارات إلى حقائق معينة” [فضائح الباطنية، ص11].
إذن فالباطنية والغنوصية يدلان على معتقد واحد، فالباطنيون يتشابهون في المعتقد الأساسي مهما كان دينهم الذي ينتمون إليه، ويؤمنون بأن المعرفة الباطنية “الغنوص” هي الغاية وأن الوصول إليها يتم بالإشراق (الحدس)، وذلك عبر التحرر من الماديات حتى تتجلى على العقل الحقيقة المطلقة. ويزعمون أن ذلك يحصل لكل من يسلك طريق العرفان، وأنه ليس بحاجة إلى الوحي الذي يأتي به الأنبياء، ويتم ذلك بالمجاهدات والرياضات الروحية، وبتعلم علوم خاصة لكشف أسرار الحروف والأرقام التي يتم بها كشف التأويل الباطني لنصوص الكتب المقدسة واكتشاف الحكمة السرية المخفية فيها، كما يتم ذلك بتوارث التعاليم والتقاليد التي توصل إليها الحكماء العارفين القدماء ممن توصلوا إلى بعض جوانب الحقيقة باجتهادهم وكشفهم وإشراقهم، فهم يقدسون ما يتركه هؤلاء الحكماء من تأويلات، ويعتبرون أنها تحتوي أيضا بذاتها أسرارا تحتاج إلى الكشف، وأن مؤلفيها لم يكشفوا ما فيها من أسرار لتبقى خفية عن عامة الناس.
تزعم المذاهب الغنوصية أن الوجود الإنساني هو نوع من الموت الروحي، فالشخص الذي يحقق الكشف والاستنارة ينتقل إلى عالم جديد. والأرواح تتناسخ من جسد إلى آخر بحثا عن رحلة خلاصها، فالموت بوابة قد تؤدي إلى القبر أو إلى دورة تناسخ جديدة، وليس هناك بعث للأجساد في القيامة كما تبشّر الأديان السماوية، بل تُبعث الأرواح فقط وتتخلص من الأجساد، فالبقاء في عالم المادة هو أكبر الخطايا، أما التوبة والخلاص والفلاح فلا تتحقق إلا بخلاص الروح من الجسد. [الغنوصية في الإسلام، ص7-11].
كما ترى الغنوصية أن مبدأ الأمر والنهي في القضايا الأخلاقية لدى الأديان السماوية لا يؤدي إلى نشوء أخلاق حقيقية، فالسارق يتوقف عن السرقة كي لا يتعرض بنفسه للسرقة من سارق آخر أو يتعرض للعقوبة، لذا يقترحون ربط الأخلاق بالخير الكامن في النفس الإنسانية بدلا من الخوف. وقد تأثر بهذا المفهوم بعض أتباع الأديان السماوية، ومنهم بعض المتصوفة في الإسلام الذين طرحوا مفهوم الحب الإلهي، بمعنى أن يعبد المسلم الله ويلتزم بأوامره لأنه يحب الله ويتعلق قلبه به، وليس طمعا في جنته أو خوفا من عذابه، لكن علماء مسلمين آخرين يرون أن هذه الدرجة المثالية من الحب ليست ممكنة عمليا.
الهرمسية
عصا هرمس كانت رمزا للهرمسية في روما ثم أصبحت رمزا للطب في العصر الحديث
تعرضنا في مقال “الوثنية” بالتفصيل إلى التداخل الذي حصل بين قصة النبي إدريس وشخصيات عدة تحمل اسم هرمس، حيث يبدو أن الكتب السماوية التي أنزلت على النبي قد تعرضت لتحريف وتحوير وإضافات كبيرة، ولعل أهم المؤلفات التي تُنسب إليه هي “متون هرمس” المؤلفة من 18 فصلا، وقد تُرجمت هذه المتون إلى الإنجليزية في العصر الحديث نقلا عن اليونانية، والتي ربما تكون قد تُرجمت بدورها عن المصرية القديمة، أو كُتبت على يد اليونان ما بين القرنين الثاني والثالث الميلادية.
صيغت المتون على هيئة حوار يجريه الحكيم المصري تحوت أو اليوناني هرمس مع تلاميذه. ومع أنها تتضمن عقيدة التوحيد وعبادة الإله الواحد ففيها أيضا أصول الفكر الغنوصي الذي انتقل من الهرمسية إلى عدد لا يحصى من الفلسفات والأديان لاحقا.
نجد في متون هرمس شرحا واضحا لعقيدة الهرمسية في حقيقة الإله والشيطان، حيث تزعم أن هناك إلها خالقا يتجسد في الشمس، وأن الشياطين مخلوقات شريرة إلا أنها هي التي تحكم البشر وكأنها واسطة بين الإله والبشر، لأنها تستوطن الأفلاك والكواكب. وفي أحد النصوص يسمي هرمس الشياطين بالملائكة الشريرة، فهي بالأصل ملائكة غضب عليها الإله وسقطت من السماء، وهي أشبه ما تكون بأنصاف آلهة، تتحكم بالقدر ولا تخضع له، ومع أن الإله (الشمس) هو الذي أوجدها إلا أنه غير قادر على دفع ضررها أو التحكم بالبشر دون المرور بالشياطين.
وفيما يلي نص مترجم من متون هرمس يوضح ذلك:
إن العالم المعقول برتبط بالله، والعالم المحسوس بالعالم المعقول، وتقود الشمس عبر هذين العالمين نفحة الله، أي الخلق. حولها الأفلاك الثمانية التي ترتبط بها، فلك النجوم الثابتة. والأفلاك الستة للكواكب والفلك الذي يحيط بالأرض. الشياطين مرتبطة بهذه الأفلاك والبشر بالشياطين، وهكذا كل الكائنات ترتبط بالله، الذي هو الأب الشمولي.
الخالق هو الشمس، والعالم هو أداة الخلق. الجوهر المعقول يوجه السماء، والسماء توجه الآلهة، وتحتها صنفت الشياطين التي تحكم البشر.
تلك هي تراتبية الآلهة والشياطين، وذلك هو العمل الذي يكمله الله بواسطتها ومن أجله ذاته.
[هرمس المثلث العظمة، ص254]
ومع توسع حجم الأساطير وتراكمها، يبدو أن الكثير من الكتب السحرية والغنوصية والعلمية صارت تُنسب إلى هرمس، حتى قال الفيلسوف الأفلاطوني إيامبليكوس إن هرمس ألّف عشرين ألف كتاب، أما المؤرخ المصري مانيثو الذي عاش في عصر البطالمة فقال إن هذا العدد وصل إلى أكثر من ستة وثلاثين ألف كتاب. وقد نسبوا إليه كتبا في الموسيقى والكيمياء والطب والفلسفة والجغرافيا والهندسة والسحر وفي مختلف مجالات المعرفة التي كانت متداولة.
أما كليمندس الإسكندري فينسب إلى هرمس 42 كتابا فقط، ويُعتقد أن معظمها فُقدت أثناء حريق مكتبة الإسكندرية الكبرى عام 30 قبل الميلاد وخلال حملة المسيحيين الأوائل على بقايا الوثنية، لكن هناك اعتقادا واسعا بأن ما بقي من كُتبه قد تم حفظه لدى الجمعيات السرية، وهي التي حافظت على وجودها عبر فرسان الهيكل وجمعية الصليب الوردي ثم الماسونية وجمعية الحكمة الإلهية و”المتنورون”.
ومن الكتب التي مازالت تُنسب إلى هرمس نص موجز يدعى اللوحة الزمردية، لكن المؤلف الماسوني
وعندما بدأ الأوروبيون بالاهتمام بالخيمياء اعتبروا هذا النص مرجعهم الأساسي، ومن أهم المبادئ الواردة فيه “الذي في الأرض يساوي ذاك الذي في السماء”، ما يعني تأليه الإنسان وحلول الإله فيه، وهو معتقد تقوم عليه فلسفة القبالاه اليهودية والجمعيات السرية.
[THE SECRET TEACHINGS OF ALL AGES, 114]
يسمى المتن الثاني من متون هرمس باسم بويماندريس Poimandres، ويطلق عليه أيضا اسم “سفر الرؤيا”، وقد تعرضنا له في مقال “الوثنية“، لكن ما يهمنا منه هنا هو أنه يعد من أوائل المراجع التي وضعت أصول الرؤية الغنوصية في خلق العالم، فالخالق عقل يفيض عنه النور، وعندما اندمجت الأرض مع السماء خرج منهما سبعة إنسيين تجتمع فيهم الذكورة والأنوثة، وبطريقة ما تم توالد البشر عن هؤلاء بعد فصل الجنسين، ويمكن للباحث أن يكتشف أصول القبالاه أيضا في هذه النظرية لخلق العالم والإنسان، كما نجد فيها فكرة التقمص وتناسخ الأرواح التي تبنتها البراهمية والهندوسية.في القرن التاسع عشر رسم الساحر الفرنسي إليفاس ليفي الشيطان بافوميت معبود الحركات السرية وهو يشير للأعلى والأسفل
في عام 2014 أنتجت هوليود فيلم رعب بعنوان “كما هو فوق كذلك هو تحت” وتجاوزت إيراداته 40 مليون دولار
“كما هو فوق، كذلك هو تحت”
هذه الجملة ترجمة حرفية للجملة المتداولة بكثافة في الغرب As Above, So Below، وقد أصبحت متداولة أيضا في مقررات التنمية البشرية وتطوير الذات بالدول العربية، حيث يتم من خلالها إقناع المتدرب بأن الإنسان مسؤول عن قدره، فكما تكون تصرفاته في الأرض يُكتب قدَره في السماء، وهذا منطق يتعارض مع الإسلام والأديان السماوية، فالقدَر ليس تابعا دائما لتصرفات الإنسان وقد يكون خارجا عن إرادته.
هناك تداخل كبير بين الوثنية والهرمسية والجمعيات السرية، إلى درجة يصعب فيها التمييز بين هذه المشارب الثلاث، فالديانات الوثنية الأولى كانت تتضمن في قلب كهنوتها منظومات سرية وتفسيرات باطنية غامضة، وكانت تنشأ من داخلها باستمرار أديان جديدة تعمل على إعادة تأويل الأساطير الكبرى في روايات باطنية أخرى، ولا يشذ عن هذا التقليد أي دين وثني قديم سواء في بلاد الرافدين أو مصر أو اليونان أو الهند أو الصين، وحتى الأديان الأفريقية والأمريكية.
وما بقي اليوم من آثار الهرمسية لم تعد له صلة بالوحي والنبوة، حيث يرى مؤرخون أن “الحكمة الهرمسية” تتضمن ثلاثة فروع، أولها الخيمياء التي تخلط بين الجانب الروحي-الخرافي وبين الكيمياء التجريبية، فتهتم مثلا بتجارب مزعومة لتحويل المواد الرخيصة إلى الذهب، والفرع الثاني هو التنجيم الذي يخلط بدوره بين الشعوذة والسحر وبين علم الفلك، ويؤمن أصحابه بأن الكواكب كائنات مقدسة وأن حركتها تؤثر على الأرض والإنسان، أما الفرع الثالث فهو السيمياء الذي يعد ضربا من ضروب السحر للتواصل مع الشياطين، مع أن أصحابه يزعمون التواصل مع الآلهة. [THE SECRET TEACHINGS OF ALL AGES, 144]
ويُعتقد أن الهرمسية تقدس شكل المثلث بسبب هذا التقسيم الثلاثي، وهو الأمر الذي انتقل لاحقا إلى الجمعيات السرية المتأثرة بالهرمسية وصولا إلى الماسونية وجمعية المتنورين التي تتخذ المثلث شعارا لها.
نظرية الفيض
هناك تياران فلسفيان كبيران لمحاولة تفسير الصلة بين الإله والعالم (الكون)، أي بين الخالق والمخلوقات، ونتج عن كل منهما نظريات ومذاهب فرعية. وباختصار شديد يرى أصحاب التيار الأول أن هناك صلة سببية بين الإله والعالم مثل ارتباط المسبب بسببه والمعلول بعلته، أي أن العالم حادث (مخلوق) والإله هو الذي أحدثه (خلقه) من عدم، وهذا ما يعتقد به معظم المؤمنين بالأديان السماوية، مع بعض الاختلافات الصغيرة.
أما فلاسفة التيار الثاني فيعتقدون أن هناك مشكلة في الارتباط السببي بين الإله والعالم، لذا يفترضون أن الكون قديم (أزلي بلا بداية) مع أنه مخلوق، ويضعون لتبرير هذا التناقض افتراضات مختلفة، وقد تبنّى هذه النظرية بعض فلاسفة اليونان، وتبعهم في ذلك فلاسفة منتسبون للإسلام مثل الفارابي وابن سينا.
وضمن هذا التيار ظهرت نظرية الفيض على يد الفيلسوف اليوناني أفلوطين الذي عاش في الإسكندرية بالقرن الثالث الميلادي ويُنسب إليه مذهب “الأفلاطونية الجديدة”، وقد استقى آراءه من خليط يوناني وبوذي ويهودي ومسيحي، ثم تأثر به الكثير من الباطنيين في أديان مختلفة. [من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، ص102]
اضطر أتباع هذا المذهب إلى القول بآراء غير منطقية وغير ضرورية لأنهم سلموا من البداية بأنه لا ينبغي أن يكون هناك ارتباط سببي بين الخالق والكون، فابتكروا أيضا مبادئ فلسفية يرى معظم الفلاسفة أنها باطلة، مثل اعتقادهم بأن الكثرة لا يمكن أن تصدر عن الواحد من جهة واحدة وإلا صار الواحد كثيراً، أي أنه لا يمكن للخالق الواحد أن يخلق مخلوقات متعددة، وأن الشيء لا يوجد من غير جنسه، وأن الشيء المتغير (الكون) لا يصدر مباشرة عن غير المتغير (الإله) بل لا بد من واسطة. وبالنتيجة اضطر هؤلاء إلى القول إن الإله الواحد يصدر عنه مباشرة شيء واحد سموه “العقل الأول”، ثم صدر عن العقل الأول عقل ثان، وصدر عن الثاني عقل ثالث، وهكذا إلى العقل العاشر (واهب الصور) والذي قالوا إنه صدر عنه العالم السفلي وهو الكون المادي الذي نعيش فيه. وبمقارنة بسيطة يمكن أن نرى أثر الهرمسية -التي تعبد الشمس وتقدس الكواكب- في هذه الفلسفة.
وضمن هذا التيار ظهرت نظرية الفيض على يد الفيلسوف اليوناني أفلوطين الذي عاش في الإسكندرية بالقرن الثالث الميلادي ويُنسب إليه مذهب “الأفلاطونية الجديدة”، وقد استقى آراءه من خليط يوناني وبوذي ويهودي ومسيحي، ثم تأثر به الكثير من الباطنيين في أديان مختلفة. [من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، ص102]
اضطر أتباع هذا المذهب إلى القول بآراء غير منطقية وغير ضرورية لأنهم سلموا من البداية بأنه لا ينبغي أن يكون هناك ارتباط سببي بين الخالق والكون، فابتكروا أيضا مبادئ فلسفية يرى معظم الفلاسفة أنها باطلة، مثل اعتقادهم بأن الكثرة لا يمكن أن تصدر عن الواحد من جهة واحدة وإلا صار الواحد كثيراً، أي أنه لا يمكن للخالق الواحد أن يخلق مخلوقات متعددة، وأن الشيء لا يوجد من غير جنسه، وأن الشيء المتغير (الكون) لا يصدر مباشرة عن غير المتغير (الإله) بل لا بد من واسطة. وبالنتيجة اضطر هؤلاء إلى القول إن الإله الواحد يصدر عنه مباشرة شيء واحد سموه “العقل الأول”، ثم صدر عن العقل الأول عقل ثان، وصدر عن الثاني عقل ثالث، وهكذا إلى العقل العاشر (واهب الصور) والذي قالوا إنه صدر عنه العالم السفلي وهو الكون المادي الذي نعيش فيه. وبمقارنة بسيطة يمكن أن نرى أثر الهرمسية -التي تعبد الشمس وتقدس الكواكب- في هذه الفلسفة.
انتقلت نظرية الفيض كما هي من أفلوطين إلى الفارابي وابن سينا بالرغم من كونهما مسلمين، حيث افترضا أنهما تمكنا بهذه النظرية من نفي النقص عن الله، وأنهما جعلا بين الإله والكون مسافة تتخللها عشرة “عقول” خيالية وهمية. وللمزيد من التنزيه -الذي تخيلاه دون ضرورة- قالوا إن الإله علِم بذاته وعلم أنه مبدأ الخير في الوجود ففاض عنه العقل الأول، وكأن أصحاب هذه النظرية يتخيلون أنه من النقص أن يقصد الله تعالى خلق العالم وأن يقول له كن فيكون، وهذا الافتراض لا داعي ولا مبرر له. وقد رد الإمام الغزالي في كتابه “تهافت الفلاسفة” على هذه الافتراضات الخيالية فلسفيا وأثبت أن المبادئ التي استندت إليها لم تكن ضرورية أصلا.
علاوة على ما سبق، تأثر أصحاب هذه النظرية بالغنوصية، وقالوا إنه لا يمكن الوصول إلى الألوهية بالعقل، لأنه قاصر عن ذلك، وإن معرفة الإله تتم عن طريق العرفان، وذلك بعد القضاء على الغرائز والأحاسيس المادية، ثم الوصول إلى ما أسموه حالة الفناء في الواحد (فقدان الإحساس بالذات)، وهي حالة من الوجد والنشوة والذهول، وتكاد تتطابق تماما مع حالتي “النيرفانا” لدى البوذية و”الموكشا” لدى الهندوسية.
المصدر